مقالات تناولت المجزرة التي ارتكبت في حق مجلة “شارلي إيبدو”
إرهاب فرنسا: خمسة هوامش على الدفتر الباطني/ صبحي حديدي
الأسهل ـ وهي أيضاً صيغة واجبة أخلاقياً، وقد تفلح في طرد بعض الالتباس المحتمل ـ أن يترحم المرء على ضحايا العملية الإرهابية البشعة التي استهدفت مقرّ أسبوعية «شارلي إبدو»، في باريس؛ وأن يتعاطف مع ذويهم وأصدقائهم، ويأسف لخسران مواقفهم النقدية الضرورية إزاء مختلف القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية، ويفتقد رسوماتهم اللاذعة بصفة خاصة؛ ثمّ يقصد «ساحة الجمهورية»، فيعتصم مع الآلاف، رافعاً لافتة «أنا شارلي إيبدو»، لكي يدين هذه العملية بوضوح أقصى، ومعها الإرهاب عامة، أياً كانت مسوغاته وأهدافه وطرائقه وأدواته؛ وأن يتابع حال التضامن هذه، حتى إذا أُسمع ـ بسبب من لونه الأسمر ربما، هنا أيضاً في باريس، كما في بيروت! ـ عبارة عنصرية ضدّ المسلمين هنا، وأخرى كارهة للعرب هناك…
هي الصيغة الأسهل، إذاً، ولكن تلك التي لا يتوجب أن تطمس واجبات أخرى أصعب وأعقد، ولا تقلّ ضرورة أخلاقية أيضاً: كأن يبدأ المرء، ذاته، كما فعلت شخصياً في الواقع، من استذكار بسيط مفاده أنّ أصابع فنان الكاريكاتور السوري علي فرزات كُسرت بأيدي أزلام بشار الأسد، في قلب دمشق؛ وأنّ المثقف المصري النقدي والتنويري فرج فودة اغتيل في القاهرة، حين كانت أجهزة حسني مبارك الأمنية في ذرة سطوتها؛ وأنّ النظامَين السوري والمصري حظيا برعاية، وحماية، من الغرب ذاته الذي يدفع مواطنوه، اليوم، أثمانا باهظة جراء سياسات حكومية وأمنية هوجاء، شعارها «الشيطان الذي تعرفه خير وأبقى».
هذا هامش أوّل للتذكير بأننا، نحن الشعوب «العربية/ المسلمة»، وفق التصنيف الأحدث المريح للضمير الغربي، ضحايا طرازَي الإرهاب، معاً وعلى قدم المساواة: إرهاب الدولة البربرية المستبدة، وإرهاب الجماعات الإسلامية الظلامية المتشددة. ولذلك فإننا لسنا أوّل المحتاجين إلى وعّاظ يلقنوننا دروساً «ثقافية» حول منابع الإرهاب، لا تكترث بأسبابه العميقة أو الأعمق، السياسية والسوسيولوجية والاقتصادية والحضارية والتاريخية… بل تبدأ من توصيف الإسلام، ثقافةً قبل أن يكون ديانة، في باب العقيدة التي تحتضن الإرهاب على نحو جنيني وتربوي، وِلادي وجبري ومطلق، يجعل المسلم مشروع أرهابي منذ أن يطلق صرخته الأولى في هذا العالم.
هامش ثانٍ، متفرّع عن الأوّل، يشير إلى أننا لا نكفّ عن تلقّي الدروس «الثقافية» إياها، سواء وقعت وتكاثرت، أو انحسرت وغابت، العمليات الإرهابية المختلفة، التي يحدث بالفعل أن ينتمي منفذوها إلى أنماط شتى من التطرّف الإسلامي؛ أو، إذا عزّت الأسباب في الحالتين، الاتكاء على المتخيَّل لاستيلاد واقع كابوسي. قبل الهجوم الوحشي على مقرّ «شارلي إيبدو»، بساعات قلائل، كانت وسائل الإعلام الفرنسية، في غالبيتها الساحقة، منشغلة بالعمل الجديد للروائي الفرنسي ميشيل ويلبيك، الذي يتخيّل أنّ سنة 2022 سوف تشهد اضطرار فرنسا إلى انتخاب رئيس مسلم اسمه محمد بن عباس (معتدل وليس متطرفاً البتة، ولكنه سيجعل السوربون جامعة قرآنية، ويمنع النساء من العمل، ويُلزم الطالبات بالحجاب…)؛ وذلك لأنّ الأحزاب الجمهورية، على اليمين واليسار والوسط، ستكون مرغمة على دعمه تفادياً لفوز خصمه مارين لوبين، زعيمة حزب «الجبهة الوطنية» اليميني المتطرف.
وللمرء أن يتخيّل ما أثارته الرواية، حتى قبل توزيعها، من أصناف الذعر والخواف والتطير، رغم أنّ النصّ عمل تخييلي في نهاية المطاف؛ وكيف تسابقت عشرات الأقنية على استضافة ويلبيك (لم يكن هذا، على أيّ نحو، حظّ باتريك موديانو، الفرنسي الفائز بنوبل الآداب لهذا العام)، فانشغل الإعلاميون، في أعمدة الصحف وشاشات التلفزة وأمواج الأثير، باحتمالات ـ ثمّ، بالطبع: عواقب! ـ تحقق هذا السيناريو على أرض الواقع. وحين كان صحافي حكيم، وجسور شجاع، مثل إدفي بلينيل، رئيس تحرير موقع «ميديابار» ومؤلف كتاب «من أجل المسلمين»؛ ينبّه صحافياً موتوراً وسطحياً، مثل باتريك كوهين، من مغبة تحويل رواية إلى حدث سياسي، خلال برنامج حواري في ستوديو القناة الخامسة، الحكومية؛ كانت رصاصات الإرهاب تنتظر الإطلاق ضدّ صحافيي «شارلي إيبدو»، كأنما توجّب على الإرهابييَن أن يرددا الأصداء الأخرى، عبر «الميكروفون» الوحيد الذي بحوزتهما: الكلاشنيكوف!
ثمة، في تلمّس هامش ثالث، تلك «البنية الشعورية»، لكي نستعير تعبير الناقد الإنكليزي الكبير رايموند وليامز، التي ولدت وتنامت واستقرت في نفوس شرائح واسعة من فرنسيي هذه الأيام، حتى صارت تراثاً مكيناً مفاده أنّ غالبية مشكلات فرنسا مردّها أقوام المهاجرين، ومَن يتحدّث عن هؤلاء فإنه يعني العرب والمسلمين في المقام الأوّل، أو الحصري ربما! وهكذا، لم تنتقل فرنسا إلى دراما ويلبيك وقصر الإليزيه المتأسلم المحجب، إلا بعد أن لاكت وعلكت واجترت حتى التخمة القصوى ـ عبر وسائل الإعلام ذاتها، ثمّ في الجوار البلحيكي والسويسري أيضاً، طيلة ثلاثة أشهرـ كتاب إريك زيمور» «الانتحار الفرنسي»؛ الذي ينتهي، عملياً، إلى أنّ طرد ملايين المهاجرين (العرب تحديداً، ثمّ السود، وفق تصنيفات سابقة وصريحة للمؤلف ذاته) هو أحد الحلول الواجبة لإنقاذ فرنسا من حافة انتحار معلَن!
كتاب زيمور شدّ بعض الأوتار الأخرى في قوس «البنية الشعورية» المضطربة إياها، فخاض في مسائل الذكورة والنسوية، وانحلال الجمهورية بسبب تساهلها مع «ثقافات» أخرى (والمقصود، دائماً هو الإسلام؛ ثمّ، استطراداً، ملايين المسلمين العاملين في الصناعة والبناء والبقالة…). ذاك هو الهامش الرابع، غير الجديد في الواقع، ولكن المتجدد على نحو أقرب إلى التفجر؛ ومضمونه القلق حول الهوية، والذعر من مستقبل غامض أو شبه غامض، والحذر من متغيرات عاتية تأخذ الفرنسي على حين غرّة، وتضعه بين مطرقة الليبرالية البربرية وسندان الليبرالية التكنوقراطية، على حدّ تعبير بيير بورديو، عالم الاجتماع الفرنسي الكبير الراحل. ومنذ أحداث عام 1968 الطلابية التي أسقطت شارل دوغول عن عرش مكين، تبحث فرنسا ـ بصمت مخدَّر تارة، وبصخب مؤلم طوراً ـ عن هوية فكرية وثقافية واجتماعية لا تتأرجح في مهبّ الرياح.
الهامش الخامس يخصّ حرّية التعبير، التي انتهُكت على النحو الأبشع حين سعى الإرهابيان إلى إخراس الرأي، وكسر الريشة، عن طريق إراقة الدماء؛ أياً كان اتفاق المرء أو اختلافه مع رأي هذا أو ذاك من الصحافيين القتلى، خاصة في البُعد النقدي الساخر من أبعاد التعبير عن الرأي. فإذا كان من حقّ رسّامي «شارلي إيبدو» أن ينتقدوا الأديان والعقائد والرموز، فإنّ هذا الحقّ لا يجوز أن يتجزأ؛ كأن يُفصل من الأسبوعية ذاتها رسام شهير، وكبير، هو موريس سينيه، لمجرد أنّ رئيس التحرير قرّر أنّ زميله معاد للسامية. الرسام نفسه كان ضحية واحدة من أبشع وقائع الرقابة في التاريخ الإنساني، أي إعدام الكتاب، عن طريق إحراق كامل النسخ المطبوعة. ففي سنة 1966، أحرقت دار نشر «بنغوين» البريطانية، بقرار فردي من مؤسسها ألن لين، 50 ألف نسخة من كتاب سينيه «مجزرة»، لأنه اعتُبر إهانة لمشاعر المسيحيين، رغم أنه كان ترجمة عن الأصل الفرنسي.
هذه، مع الاعتذار من الشاعر السوري الكبير الراحل نزار قباني، هوامش على الدفتر الباطني للإرهاب الإسلامي في فرنسا، إذا وضع المرء جانباً إرهاب الدولة كما مارسته أنظمة الاستبداد العربية. وثمة ما يستدعي تقليب المزيد من هوامش هذا الدفتر، لعلّ انكشاف ما خفي طيّ صفحاته، أو أُخفي عن سابق قصد، يفضي بالمرء من المهمة السهلة على المهامّ الاصعب، وينقل حقائق الاعتلال من العتمة إلى رابعة النهار.
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي
“شارلي إيبدو”: مرحلة جديدة/ وليد شقير
انقضى «11 أيلول الفرنسي»، لكن تداعياته ونتائجه بدأت وستتوالد في الأيام والأشهر، وربما السنوات المقبلة، تماماً مثلما حصل بعد 11 أيلول (سبتمبر) الأميركي عام 2001، حين دمّر تنظيم «القاعدة» برجي مركز التجارة العالمي، وقتل زهاء 3 آلاف مواطن أميركي بينهم ضحايا من جنسيات مختلفة، منهم عرب.
ولمجرد وصف الصحافة العالمية المجزرة التي ارتكبت في حق مجلة «شارلي إيبدو» والشرطة الفرنسية بأنها «11 أيلول فرنسي»، بات علينا توقع التداعيات السياسية والأمنية والنفسية لهذا العمل الإرهابي، بدءاً بعلاقة دول الغرب بالإسلام والمسلمين، في فرنسا وسائر الدول الأوروبية والغربية، وصولاً إلى انعكاساته على المنطقة في شتى المجالات والميادين والدول المشتعلة أو المهيأة لأن يدخلها الحريق الذي يشهده عدد كبير من الكيانات المعرضة للتفتيت والصراعات الأهلية المتداخلة مع الحروب الدولية والإقليمية الدائرة بالواسطة.
مهّد 11 أيلول الأميركي لانطلاق ما يسمى الحرب الأميركية والعالمية على الإرهاب ولصدور قوانين دولية، بدءاً بمجلس الأمن، مروراً بالقوانين الأميركية الوطنية التي منحت السلطات الأمنية صلاحيات استثنائية مسّت في بعض الممارسات بحرية المعتقد التي يفتخر بها الأميركيون في دستورهم وقوانينهم، بتغطية شعبية آنذاك، لإدارة الرئيس جورج دبليو بوش وإدارة المحافظين الجدد المتطرفين. لكن سابقة هذا الهجوم الإرهابي على نيويورك مهدت لتحولات كبرى في الشرق الأوسط: احتلال أميركا أفغانستان بعد أسابيع، ثم احتلالها العراق بعد نيف وسنتين، وبينهما أتاحت لليمين الإسرائيلي إلغاء اتفاق أوسلو مع السلطة الوطنية الفلسطينية، فأعاد الجيش الإسرائيلي احتلال الضفة الغربية لمحاولة إلغاء الشريك الفلسطيني في عملية السلام، وبدعم أميركي كامل.
قد تكون الظروف المحيطة بالجريمة التي ارتكبت ضد «شارلي إيبدو» والشرطة الفرنسية مختلفة عن تلك التي رافقت وتبعت 11 أيلول الأميركي، إلا أن توقع بداية مرحلة جديدة بعد الصدمة التي تعرضت لها فرنسا، ومعها العالم، يأتي في سياق طبيعي لتدحرج الأحداث في مقبل الأيام. وإذا كانت الاحترافية العالية التي نفذ بها إرهابيو «القاعدة» هجوم البرجين في نيويورك وتبني أسامة بن لادن حينذاك العملية، أدت إلى استبعاد نظرية المؤامرة الاستخبارية العالمية التي ساقها البعض في إطار دفن الرؤوس في الرمال، فإن الحكم على ما إذا كان هناك جهاز استخبارات ما يقف وراء هجوم «شارلي إيبدو»، يحتاج إلى بعض الوقت مع تقدم التحقيقات في هذا الشأن. فباريس معنية بأزمات دولية عدة، بتدخلها العسكري في مالي والساحل الأفريقي في مواجهة التكفيريين، وبمشاركة سلاحها الجوي في قصف «داعش» في العراق، وبتشددها في شأن الحرب السورية، حيث تعتبر أن لا حل مع استمرار رئاسة بشار الأسد، وكذلك في محادثات دول (5 + 1) مع إيران حول ملفها النووي، حيث تعتبر أن رفع العقوبات عنها يجب أن يقترن مع تراجع انفلاشها الإقليمي…
وأخيراً وليس آخراً، كانت باريس في الطليعة بقرار برلمانها الدعوة إلى الاعتراف بقيام الدولة الفلسطينية، وصوتت في مجلس الأمن قبل 10 أيام إلى جانب مشروع القرار الفلسطيني إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والذي فشل في الحصول على الأكثرية، فضلاً عن أن فرنسا دعمت رفع حركة «حماس» عن لائحة المنظمات الإرهابية.
تعرضت فرنسا، ومعها الدول الأوروبية، لتهديدات من قادة دول، بأن الإرهاب المتنامي في سورية والعراق سيدق أبوابها، فهل أراد المنزعجون من موقفها في الأزمات المذكورة أو في إحداها، توجيه رسالة موجعة إليها؟
في انتظار الإجابة عن هذا السؤال، وسواء صحت الشكوك حول من يقف وراء الهجوم في باريس أم لم تصح، يبقى أن المرحلة الجديدة التي أطلقها «الجهاديون» الذين نفذوه ستشمل بالتأكيد مزيداً من مشاعر الكراهية والعنصرية ضد العرب والمسلمين في أوروبا، وسيستفيد منها اليمين الأوروبي بمواقفه الحادة ضد المهاجرين، لكسب المزيد من الناخبين، لا سيما إذا كان هجوم الأمس فاتحة هجمات جديدة سواء في فرنسا أم في غيرها، وسيسعى النظام السوري وحكام طهران لاستدراج تغيير في سياسة فرنسا حيالهما، باعتبار أن «محاربة الإرهاب» تتقدم على إصرارها على تغيير النظام في دمشق أو في الإقليم. وسيستغل اليمين الإسرائيلي المقبل على انتخابات مطلع الربيع، الموجة الجديدة من الخوف ضد الإرهاب من أجل ارتكاب المزيد من أعمال العنف ضد الفلسطينيين وتصعيد الاستيطان، في غياب أي رادع دولي، خصوصاً أميركياً. وفي أحسن الحالات، فإن جهات عدة ستعمل لتوظيف هجوم باريس لمصلحتها في المنطقة…
الحياة
إدانة بلا «ولكن»، ثم بعد…/ نهلة الشهال
المجزرة المروعة بحق صحيفة «شارلي ايبدو» الفرنسية يجب أن تدان بلا أي «ولكن» ولا أية استدراكات. هي من الناحية المبدئية والقيمية بشعة وإجرامية. كما لا يمكن أن يبررها أن الدول الغربية، وفرنسا، ارتكبت وما زالت ترتكب مجازر هنا وهناك، كما يجري التداول اليوم على شبكات التواصل الاجتماعي بكثافة. فلا يمكن «الانتقام» من سياسة سلطة في بلد بهذه الطريقة التي لا تفعل سوى دفع مواطنيه إلى الالتفاف حول تلك السلطة فتصبح حامية لهم في وجه الخوف من الاعتداء عليهم، ويصبحون هم جاهزين للقبول بأي إجراء بوليسي ومطالِبين بالمزيد منه، ومتبنين للشعار الفاشي الداعي إلى التشدد مع «الغرباء».
والغرباء مفهوم يشمل كل مُغاير، بسبب «أصوله» أو لون بشرته أو معتقده أو حتى ثقافته، ولو كان مولوداً في بلد هاجر إليه آباؤه أو أجداده، ويحمل جنسية البلد كما هي حال المشبوهَين في ذلك الاعتداء على الصحيفة. وما أسهل الانزلاق من التبعات الفردية للفعلة إلى الجماعة، فيجري كلام عن «المسلمين» أو «العرب» أو «الجزائريين» الخ… وكأنها تسميات تعيِّن كتلاً صماء، فتصنع كائنات جماعية خرافية. ويضطر من كان ينتمي إلى تلك الفئات إلى استبطان شعور بالذنب وبالحاجة إلى إعلان تبرّؤه من العمل الإجرامي وحتى إلى طلب المغفرة… كما رأينا في شكل متكرر، وكما هي الحال اليوم في فرنسا حيث تتوالى بيانات التنصل والاستنكار الصادرة من هيئات تمثل تلك الانتماءات المفترضة، وكذلك وفي شكل فردي، على شبكات التواصل الاجتماعي هي الأخرى، مزاحِمة رسائل الشماتة والتشفي.
مقابل ذلك تتكلم السلطة باسم الضحايا وتدعو إلى «اللُحمة الوطنية» المترجَمة اليوم شداً للصف بين كل مكونات فرنسا السياسية، بغض النظر عن مواقف هذا أو ذاك من الأطراف، وبلا تمييز بينها، فتحوز السيدة لوبن مكانها/مكانتها ضمن ضيوف الاليزيه الذين يجري التشاور معهم حول الوضع. وهي على أية حال سبق لها أن «قطعت المسافة» إلى ذلك الموقع، ليس فحسب بتحصيلها 25 في المئة من أصوات الناخبين، ولكن أيضاً لأن أفكارها أصبحت (بصيغ مختلفة) على أفواه سياسيين رسميين من جناحي السلطة، اليميني واليساري، والعديد من نقاط برنامجها موضوعة على أجنداتهم. ولذا، فهي محقة إذ تدعو بمناسبة مجزرة «شارلي ايبدو» إلى «مزيد من الإقدام» و«مغادرة الوجل»، كما سبق أن دعت إلى انتخاب الأصل (أي هي وأعضاء حزبها) بدلاً من المقلَّد، أي السيد ساركوزي وحزبه الذي استنسخ أطروحاتها. ولا يمكن اعتبار الحزب الاشتراكي الحالي بعيداً عن ذلك هو أيضاً.
تكريس الكتل الوهمية تلك، سواء منها المجَرَّمة أو المتضامِنة في وجه الجريمة (والإرهاب) يترافق مع التعمية على أصل وفصل الموضوع، فيصبح المنحى الإرهابي مثلا خاصية غرائبية مقطوعة الصلة بالواقع وبتطوراته، أي بما يجري في العالم وبكيفية تأثير المعيش والأحداث على عقول الناس واندفاعاتها. وليس المقصود بالفهم التبرير (وأجد حاجة لتوضيح ذلك بعد كل سطرين، لأنه غلب على الكلام الشائع المتداوَل الاختصارات التبسيطية، فتبدو كل محاولة لاستعادة تشابك معطيات الواقع مشبوهة!). أحد الشابين اللذين نفذا الهجوم على الصحيفة مرتبط منذ فترة طويلة بما جرى في العراق من حروب واحتلالات، وكان يجند شباناً للذهاب إلى هناك لـ»الجهاد». هل هذا تفصيل؟ هل يصعب الانزلاق من القتال ضد الأميركيين في العراق إلى القتال ضد الشيعة في العراق إلى الرغبة في الانتقام من الغرب الذي اعتدى على العراق أو على سواه الخ… هل يُستغرب كيف تَجتذب «القاعدة» أو «داعش» شباناً (وشابات) يبحثون عن أطر لمشاعرهم وعن تنظيمات يعتبرونها «فعّالة»؟ هل يصعب غسل الدماغ باتجاه الإقناع بأن لا شيء يؤثر سوى أفعال مؤلمة وجارحة تعيد الاعتبار إلى «توازن الرعب الرادع» وهلم جرا من الحجج، لا سيما حين تختفي سائر المقاربات الفكرية والسياسية والثقافية، إما بفعل سحقها بالقمع المتمادي من قبل السلطات في بلداننا، أو بسبب قصورها الذاتي وتفاهتها، أو للأمرين معاً، ولا يبقى في الساحة سوى تعبير مريض عن «الهوية» كآخر حصن من حصون الوجود؟.
وعلى صعيد آخر، لا شك أن لمثل هذه الجرائم آثاراً سياسية وفكرية وحتى نفسية، أبسطها تلك المستندة إلى الانفعال للإشادة بمطلقات لا يمكن نقاش مضمونها. اليوم وقعت شارلي ايبدو في نطاق التقديس بفعل الجريمة التي لحقت بها، فلم يعد ممكناً استنكار ما تقوله وذوق رساميها الذين يمارسون السخرية الاستفزازية من كل شيء (ليس تنظيماً ومنعاً باسم «العيب»، وإنما تقييماً ونقداً، فهما أيضاً جزء أساسي من صون «حرية التعبير»). الصفحات المتعلقة بالجنس مثلاً تصدم ليس فحسب العقول المحافظة خارج أوروبا، ولكن حتى تلك الأكثر تحرراً في أكثر الأماكن نفياً للضوابط. فبغض النظر عن موضوع الإسلام وعن الاسلاموفوبيا التي كانت الصحيفة تمارسها فعلاً، فهي انحطت و»لم تعد تثير الضحك» كما قال بيان لجماعة فرنسية يسارية بعد المجزرة. ولكنها انتزعت التعاطف والتأثر، واستطراداً أيضاً، تحريم نقدها، والإعجاب بكل ما فعلت حتى لو اختص الأمر برسوم مبتذلة من شتى الأصناف، فكيف بنقد مقاربتها للإسلام؟
… في نقاشات قديمة مع ناشطين من الضواحي الفرنسية حول الامتناع عن المشاركة في التصويت العام، لفتني مستوى القطيعة القائمة مع البنية السياسية/الاجتماعية، إذ ذكر هؤلاء أنهم لا يميزون بين التيارات والأشخاص المطروحين للاختيار، فكلهم، في العمق، سواء… في السوء. وحين افترضتُ أمامهم أن قطع الطريق مثلاً على «الجبهة الوطنية» اليمينية شبه الفاشية وزعيمها لوبن هدف جدير، قاطعوني بأنهم يتمنون أن يصل هؤلاء إلى السلطة حتى تُدفع التناقضات الاجتماعية والسياسية إلى أقصاها وتنفجر. وخيار «إذا ما خربت ما بتعمر» ذاك ليس فريداً هنا بل له تجسيدات في كل مكان. وقد وصل الأمر مؤخراً إلى تجاوز تكتيك المقاطعة وعدم الاكتراث، باتجاه… التصويت لـ»الجبهة الوطنية» نفسها التي حصلت في الضواحي على نسب عالية من أصوات المقترعين.
ثمة أزمة عميقة في فرنسا، لا يمكن حلها بالتدابير البوليــسية المشفوعة بخطاب «وحدة وطنية» ديماغوجي، يحمل أصداء قسرية ومتعالية لعنصرية/شوفينية. الله يستر!
الحياة
خواطر مبدئية عن هجوم باريس الإرهابي/ بكر صدقي
يــعيـــدنـــا الاعــــتــــــداء الإرهابي على مقر مجلة «شارلي إبدو» الفرنسية الساخرة في باريس، صباح الأربعاء الماضي، إلى مناخات ما بعد غزوة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 في نيويورك وواشنطن. ذلك الهجوم الذي تبنته منظمة القاعدة حينذاك، وما زال عالم المسلمين يدفع فاتورته إلى اليوم.
قد يكون من الحصافة عدم التسرع في الاستنتاجات قبل انجلاء غوامض الحادث الجديد ومعرفة الجهات التي تقف وراءه. لكننا تعلمنا من التجارب السابقة أن الصورة الإعلامية للحدث في اللحظات الأولى لوقوعه هي التي تبقى ملتصقة بالوعي العام، وتترك آثاراً بعيدة المدى، وتترتب عليها أعمال وترتيبات تصبح جزءاً من الوقائع التالية فتصوغ التاريخ الراهن. على سبيل المثال، لم يؤد انكشاف كذب الادعاءات الأميركية حول علاقة نظام صدام حسين بمنظمة القاعدة، وكذلك حول وجود مخزون من أسلحة الدمار الشامل لديه، إلى تغيير ما جرى من احتلال العراق وإسقاط النظام بهذه الذرائع.
واليوم نحن أمام حدث مشابه لهجمات 11 أيلول، هذه المرة في فرنسا. ضخ الإعلام طوال يوم الحادث واليوم التالي صورةً عنه ترسخت في أذهان الوعي العام كما يلي: عملية إرهابية منظمة ضد مجلة نشرت، قبل سنوات، صوراً كاريكاتورية مسيئة لرموز المسلمين (الرسول محمد تحديداً)، قام بها شخصان مقنعان يحملان رشاشي كلاشنكوف، أطلق أحدهما، بعد إتمام الجريمة، هتاف «الله أكبر» باللغة العربية، وقال إنه انتقم لرسول الله من الإساءة التي لحقت به.
التطورات اللاحقة ساهمت في توكيد صورة الوهلة الأولى: شخص ثالث سلم نفسه للشرطة الفرنسية، قيل إنه متعاون مع منفذي الهجوم الإرهابي الذي ذهب ضحيته 12 شخصاً من كادر المجلة، بينهم 4 رسامي كاريكاتور. كما عرفت الشرطة هوية منفذي الهجوم (شقيقين فرنسيين من أصل مغاربي) بدلالة عثورها على بطاقة هوية أحدهما داخل سيارة استخدماها في العملية.
في مساء اليوم نفسه نزل الفرنسيون إلى شوارع العاصمة بكثافة في مظاهرة تنديد بالجريمة ولإعلان التضامن مع المجلة ودفاعاً عن حرية التعبير.
هذه هي الصورة التي ستترسخ في الأذهان وتشكل أساساً لرسم سياسات الدول في الفترة المقبلة، بصرف النظر عن مدى دقتها: مسلمون متعصبون يرفضون حرية التعبير ويردون على الكلمة والصورة بالرصاص. ولا يتطلب الأمر عناءً كبيراً لإلحاق ال التعريف بأول الكلمة لتصبح «المسلمون» بدلاً من «مسلمون»، نظراً للمناخ المعادي للإسلام، أو فوبيا الإسلام، الذي صدرت عنه أصلاً الرسوم الكاريكاتورية الفرنسية، وقبلها الدانماركية، ونظراً للشروط الدولية القائمة اليوم المتمحورة حول الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). كما لا يتطلب الأمر كبير عناء لإجراء نقلة إضافية من «المسلمين» إلى الإسلام كعقائد «تحض على العنف أصلاً» كما يزعم الواقفون وراء «الحرب على الإرهاب» قديمتها وجديدتها.
ولا يقل تضليلاً عن هذه المزاعم، مزاعم مقابلة تبرئ الإسلام والمسلمين مما يقترفه، باسمه وباسمهم، «بعض المارقين» منهم. هذا هو موقف مشيخة الأزهر وبعض الدول المسلمة ومن لف لفهم من «العلماء». يمكن الإشارة، من حيث المبدأ، إلى النقاط التالية:
– بالنظر إلى بعض الملابسات التي عرفناها فور وقوع الحادث، لا يمكننا استبعاد وقوف أجهزة استخبارات دول وراءه، أرادت منه تشكيل مناخ ملائم لقرارات سياسية كبيرة (كالحرب مثلاً) بهدف تحقيق أهداف معينة لا يمكن تحقيقها بالوسائل العادية أو بلا ذرائع قوية أمام الرأي العام.
– حتى لو كانت شكوكنا هذه في محلها، فهذا لا يعفينا، كمجتمعات إسلامية، من مساءلة النفس وإجراء مراجعة عميقة في علاقتنا بدين الإسلام في شروط القرن الحادي والعشرين. فهناك شيء لدينا جعل حدوث 11 أيلول 2001، و7 كانون الثاني (يناير) 2015 وإعلان دولة الخلافة في حزيران (يونيو) 2014 ممكناً. لا مفر أمامنا من مواجهة هذه الحقيقة، بصرف النظر عن وجود مؤامرات دولية ضد الإسلام والمسلمين أو عدم وجودها.
– حرية التعبير قيمة إيجابية يجب الدفاع عنها في كل الشروط. لكن إساءة استخدام هذا الحق لاستفزاز مشاعر جماعات بشرية دينية أو عرقية أو غيرها، هي جريمة يعاقب عليها القانون، أو يفترض أن يعاقب عليها. ولو أن القضاء قام بعمله، حين تم نشر الرسوم المسيئة، لربما كان يمكن تجنب «أخذ الثأر باليد» كما حدث، إذا صحت الرواية التي تتبناها اليوم وسائل الإعلام.
الأيام والأسابيع القليلة القادمة حبلى بالمزيد من الويلات في منطقتنا، وربما في سورية بالذات.
“لقد حذرناكم”/ فواز حداد
حصدت مجزرة “شارلي ابيدو” صدى اعلامياً واسعاً. من طرف آخر، أكدت على العقاب؛ السخرية من الإسلام جزاؤها الموت، الحكم صدر على رسامي الكاريكاتير بالإعدام، نفذه المهاجمون وأعلنوا انتهاء مهمتهم بصرخة: “تم الثأر للنبي”. بعض المحللين شبهوا العملية بـ 11 أيلول فرنسية، بينما ارتفعت أصوات اليمين: فرنسا في حالة حرب، وذكروا الفرنسيين: “لقد حذرناكم”، طبعاً التحذير كان من المهاجرين المسلمين العرب.
بجميع المقاييس، الجريمة مروعة ضد الإنسانية وحرية الرأي، مهما كان هذا الرأي، جنونياً، أحمق، أرعن، عدائياً، ملتاثاً، طائشاً… ردود الفعل تتالت، الجريمة أدانتها مختلف المراجع الدينية الإسلامية، الرسمية وغير الرسمية، كبيرها وصغيرها، وفي مقدمتها “الأزهر” في القاهرة. لولا هذا الاحتقان، أو لو كانت الظروف مناسبة، أي توفر فضاء من الحرية، لخرجت مظاهرات في البلاد العربية تنديداً بهذا العمل. صبر الناس نفد على هذه الأعمال الوحشية، لم تعد بعيدة عنهم، قد تطالهم؛ الاعدامات وقطع الرقاب والأيدي والجلد، ليست مزاحاً، ولا أمراً عارضاً. أصبح في المنطقة دولة وخليفة وشريعة يُحتكم إليها، وجيش وخلايا عاملة ونائمة في ارجاء العالم، تعمل على تطبيق أحكام أولي الأمر بالسيف. هذا ما يخشاه أناس كثيرون، وليس بعيداً عن الحقيقة. العنف لم يعد عملاً استثنائياً، بات منتشراً، الارهابيون المتأسلمون ليسوا أشد وحشية من الأنظمة، إذا كانوا يقتلون بالمفرق، فالأنظمة تقتل بالجملة، وبشكل يومي، تحت أنظار العالم كله.
المقارنة السابقة لا تعني الغرب، وإن كانت ضرورية للتذكير بالإرهاب في بلادنا. الضحايا لا يغفرون، والدماء تتساوى. حسبما تدعي السلطة أنها مقتلة علمانية ضد التخلف الأصولي. المشكلة الراهنة اليوم، غربية أخذت طابعاً متأسلماً. وتتنبأ بسلسلة جرائم، كرد فعل ضد المهاجرين المسلمين ذوي الأصول العربية. فالحرب التي بدأت، وليس مهماً، متى أو من بدأها، فهي تبدأ وتنتهي، ثم تتجدد من حين لآخر.
فعل الجريدة الفرنسية الحضاري أو الاستفزازي كان جلياً، قبل سنوات أعلن المسؤولون عن إدارة تحرير المجلة “تصميمهم على مواصلة التهكم على الاسلام حتى تصبح السخرية منه أمراً شائعاً مثل المسيحية”. بصرف النظر أن استباحة المسيحية لم تحصل إلا بعد معاناة قرون من الحروب الدينية، أدت إلى ما يدعى بالإصلاح الديني. أحرزت نجاحاً لأنها تمت بأيدي المسيحيين أنفسهم. هذا الإنجاز غير مدين للسخرية، بل للأفكار المتصارعة والدماء التي أهدرت. السخرية لا تسهم بإيجابية في مجال الإصلاح الديني، ولا تورث سوى الأحقاد. المفارقة، سماح الغرب بانتقاد أي دين والسخرية منه، بينما يعاقب بالسجن كل من ينكر “الهولوكوست”، أو يشكك في عدد ضحاياه، من دون اعتبار ذلك انتهاكا لحرية الرأي او البحث العلمي.
مجزرة “شارلي ابيدو” ستستغلها أحزاب اليمين واليسار، طبعاً سوف تستفز الحركات العنصرية، المطالبة أصلاً بطرد المسلمين، لديها سوابق في التحريض ضدهم وافتعال حوادث تحرش تصل إلى القتل، تعاملهم مع المسلمين المهاجرين يمر عبر العنف، ولا يزيد عن مرتكبي المجزرة، وإن اختلفت الوسائل. ولا مبالغة في توقع أن يشن العنصريون حرب عصابات على تجمعات المسلمين الأهلية. استبقها “أبو مصعب” المقاتل في صفوف “الدولة الإسلامية” بإعلان الحرب بمناسبة العملية ، فهنأ المسلمين عبر الإنترنت من سوريا: “لقد ثأر أسود الإسلام لنبيّنا” وحيا المقاتلين الثلاثة: “هؤلاء هم أسودنا. هذا هو أول الغيث… والقادم أسوأ”. وبهذا يتساوى اليمين المتطرف مع الإسلام المتطرف.
في عام 2012 حذر الناطق باسم البيت الأبيض من نشر الصور التي تسخر بالنبي، وانتقدها لأنها تعبر عن احتقار واضح بالإسلام، وتساءل عن الحكمة من نشرها، باعتبار أنها ستلهب مشاعر الكراهية. بعد أكثر من عامين، يظهر ألا حكمة من قبل ولا من بعد. لم ينفع تحذير البيت الأبيض، الكراهية انتشرت، لكن تحذير اليمين المتطرف كان مجدياً، الخوف انتشر، ولن يستغرب انقلاب الاوربيين العاديين إلى كارهين للمسلمين.
هذه الأزمة، لن تنتهي بقتل منفذي العملية، سيكون لها امتداداتها وارتداداتها، أحد الضحايا حرية التعبير. وتنعكس أيضاً على المنطقة العربية، بما يشجع الدكتاتوريات العربية على قمع المعارضين بحجة الإرهاب، وإعادة النظر في الإسلام طبقاً لاشتراطات غربية. القادم: مزيد من السحق والقمع بحجة حرية الرأي، في بلاد لا تعبأ بالحرية ولا بالرأي، ما يوقع المنطقة في المعاناة على مستوى أشد مما سبق، فالشتاء طويل.
المدن
أنا شارلي… أنا لست شارلي/ بيسان الشيخ
ثمة حيرة كبيرة تتجلى بعد تجاوز الصدمة الأولى لاغتيال صحافيين من مجلة «شارلي ايبدو» الفرنسية، بذاك الدم البارد والتخطيط المحكم. مرد الحيرة ليس طبعاً إلى البحث في صواب فعل القتل أو عدمه، فتلك مسألة محسومة، وإن كانت للأسف مثار نقاش واسع في الشارع العربي (وللمفارقة التركي، على ما نقلت وسائل إعلام تركية). فالمذهل أن يكون البعض مقتنعاً بأن الرسامين «نالوا ما يستحقونه» لإهانتهم مقدسات الإسلام، أو أنهم «جلبوها لأنفسهم» إذ لم يتورعوا ويتعظوا من «إشارات» سابقة هي في الحقيقة تهديدات واضحة وصريحة آخرها عام 2011. وذهب البعض إلى أنه «آن لأوروبا أن تذوق ما نتجرعه يومياً من قمع واغتيالات»، وكأن الفرنسيين صوتوا في انتخاباتهم الأخيرة لبشار الأسد أو من شاكله… أما الهذيان التآمري المطلق فالقائل أن الأجهزة الأوروبية جندت الأخوين كواشي وشريكهما لتنفيذ العملية لتبرر لاحقاً تدخلاً عسكرياً غربياً في سورية، على غرار ما جرى بعد 11 أيلول.
ما عاد مجدياً الخوض في نقاش تلك المقولات البائسة، إذ بات واضحاً أن ثمة منطقاً تحليلياً واحداً يتحكم بتفسير الأحداث كلها.
لكن، وبالعودة إلى الحيرة، فمردها إلى تشابك المعطيات «الموضوعية» للحادثة وفق تقارير الشرطة، والنقاشات والمواقف التي نتجت عنها ومنها شعار «أنا لست شارلي»، رداً على شعار التضامن العفوي الأول «أنا شارلي».
بداية، أجمع أكثر من خبير أمن فرنسي على أن الحادثة ليست عملاً إرهابياً تقليدياً، بمعنى أنها ليست مجرد قتل عشوائي لجماعة مستهدفة، وإنما اغتيال مخطط له ومنفذ بحرفية كبيرة تشي بأن القتلة مدربون تدريباً عالياً وواثقون من قدرتهم على إتمام المهمة بهدوء وروية وبلا ذعر يرافق عادة هذه الأعمال. إنهم بلغتنا نحن «صناعة الأجهزة». فهم يعلمون موعد انعقاد اجتماع التحرير، ويعرفون مسبقاً من يحضره، كما يعرفون على ما يبدو أن إجراءات الحماية الأمنية لرئيس التحرير خفّت أخيراً بحيث وجدوا ثغرة يمكن النفاذ منها.
ثمة شعور ثقيل بـ «ديجا فو» (Deja vu) لدينا نحن اللبنانيين الذين واكبنا نعوش كتاب وصحافيين ورجال أمن وسياسيين في العقد الأخير، ونتابع اليوم عن بعد هذه المذبحة التي تعيدنا إلى ماض ليس ببعيد. يزيد في وسواسنا أن أحد الأخوين كواشي، سبق أن حكم في فرنسا بالسجن ثلاث سنوات بعد إدانته بتهمة إرسال مقاتلين متطرفين إلى العراق عبر سورية، وأفرج عنه لأن القوانين التي احترمته وكفّرها، منحته تلك الحرية التي تبين أنه لم يستحقها. أما من جانبنا، فمعلوم جيداً من كان ينظم تلك الرحلات في سورية، ومن يستفيد اليوم من وصول وحش «داعش» إلى عقر أوروبا. هذا مثلاً، منطق تحليلي آخر ينسج خيوط نظرية مؤامرة معكوسة.
إنها الحيرة، ولا شيء سواها.
وهي تتعمق أكثر لدى التفكير في الذين حسموا موقفهم وأعلنوا صراحة أنهم ليسوا شارلي وأنهم مختلفون معه جملة وتفصيلاً. فهؤلاء يرفضون السياسة التحريرية للمجلة الأكثر إضحاكاً واستفزازاً بين الإصدارات الأوروبية الساخرة، حتى اتهمها البعض بالصحيفة اللامسؤولة، لأنها لا تحسب نتائج ما تنشره وأخطاره سواء على فريق العمل أو الغير من مواطنين عاديين قد يدفعون حياتهم ثمن «التحريض» ضد مجموعة من المهاجرين، والإساءة إلى مقدساتهم. وتلك مبدئياً من الشروط المهنية الأولى. فأول ما يفترض أن يفعله المحرر الصحافي الموازنة بين الفائدة والضرر مما ينشر. لكن رئيس تحرير «شارلي ايبدو» كان يملك إجابة حاسمة عن السؤال، فسبق أن قال في مقابلة صحافية: «أنا فرنسي ومقدساتي ليســت مقدسات المسلمين، وهنا أخضع لقانون بلادي الذي لم أخرقه». وإذ يحتمل القول الصواب، يبقى أنه لا يمكن تطبيق معايير الصحافة التقليدية على نمط صحافي هدفه الأول السخرية وتحطيم الأصنام والهياكل، لا بقوة السيف وإنما بالقلم والضحك.
إلا أن ذلك التصريح نفسه أخذه بعض عتاة «الصواب السياسي»، على مقلب آخر واعتبروا أنه عوضاً عن الدفاع عن القيم الفرنسية ذهب إلى إعلاء صوت اليمين المتطرف الكاره للأجانب ومعتقداتهم والرافض لقبول مقدساتهم ولا يتوانى عن إهانتهم بذريعة حرية التعبير. فبمعزل عن الرسوم المعادية للإسلام، كشف كل من ليس «شارليّ» فيها لغة عنصرية، وكرهاً للأجانب ومعاداة للسامية، ومواقف ضد المرأة والمثليين وغير ذلك مما «يشكل جوهر» الثقافة الأوروبية والفرنسية تحديداً في العصر الحديث.
لكن، مهلاً، منذ متى كان «الصواب السياسي» مضحكاً؟ هل لنا أن نستعيد أعداد النكات التي نطلقها ونقهقه لها ولا تراعي الحد الأدنى من شروط الأدب واللياقة؟
وإلى ذلك يذهب كل من ليس شارلي خطوة أبعد، فيعتبرون أن سياسة التحرير في المجلة التي أطلقها مناخ اليسار الستيني، وحركات النضال والتحرر، ونشرت بدورها تلك القيم التقدمية، انقلبت اليوم يمينية محافظة، لا هم لها سوى تحقير المهاجرين.
… وهل لا نزال في الستينات؟ وهل اليسار لا يزال يساراً كما كان قبل نصف قرن أم أن البعض الكثير من خطابه بات أشياء أخرى؟
الواقع أن ما لم يتم الانتباه له وسط هذه الضوضاء أن شعار «أنا لست شارلي» يحمل أيضاً شيئاً من مخاطبة المسلمين بلغتهم. كأنما هناك من يريد أن يقول لهم: لستم كلكم «إرهابيين»، ولسنا كلنا «عنصريين»، وفي ذلك محاولة مد جسر يجب أن يعبره العرب والمسلمون الحريصون فعلاً على تمييز أنفسهم عن أصحاب الخطاب الأول.
ولا يتم ذلك بتبني الشعار نفسه، والقول «أنا أيضاً لست شارلي». نحن بالتأكيد لسنا شارلي وتفصلنا عنه سنوات ضوئية. فما يحق للفرنسي قوله في هذا الشأن، لا يحق لنا نحن وإن رغبنا ضمناً بتبني ذلك الموقف النقدي. وليس ذلك تقليلاً من شأننا، بل لأننا لم نحطم أصنامنا بعد، ولا فصلنا الدين عن الدولة ولا أنجزنا إصلاحات في المؤسسة الدينية والسياسية، ونقاشاتنا في العنصرية وحرية التعبير وغيرها لا تتعدى كونها عملاً مضاداً نرشق به الآخر، ولا نبني عليه.
الآن، كيف نحسم موقفنا سريعاً من أسئلة تتجاوز بساطة النقاش الدائر حول حرية التعبير والمس بالمقدسات وقبول القتل أو رفضه؟ إلى أن نبدد الحيرة، ربما يفيدنا الاكتفاء بأن نقول «أنا شارلي».
الحياة
القلم رمز للحرية وللعقل أيضاً / خالد الدخيل
سال خلال الأيام القليلة الماضية حبر كثير عن حادثة الهجوم في باريس على مجلة «شارلي إيبدو». كان لا بد أن أختار. اخترت مقالتين إحداهما لأستاذ في الفلسفة في جامعة ييل الأميركية. وهو أميركي يهودي. والأخرى لصحافي أميركي معروف، مسلم من أصول هندية. ظهرت المقالتان في يوم واحد، الجمعة الماضي. الأول نشر مقالته في الـ «نيويورك تايمز»، والثاني في الـ «واشنطن بوست». كل منهما نظر إلى الحادثة من زاوية مختلفة، لا تتناقض بالضرورة مع زاوية الآخر، وقد تتكامل معها في نهاية التحليل. الأول هو جيسون ستانلي، والثاني فريد زكريا. ينطلق ستانلي من كون فرنسا أحد الأمكنة التي ولدت فيها ثورة الديموقراطية الليبرالية، فإن التعبير بالسخرية لعب فيها دائماً دوراً خاصاً. فالسخرية، كما يقول، منهج أساسي يستطيع العقل من خلاله مخاطبة السلطة. في هذا الإطار استخدم رسامو الكاريكاتور في مجلة «شارلي إيبدو» أسلوب السخرية للاستهزاء من الشخصيات الدينية الرمزية للإسلام، لكنهم أخضعوا أيضاً البابا فرنسيس لاستهزاء مماثل. لم تكن أية شخصية ممثلة لسلطة بمأمن من نهج هذه الصحيفة. هنا سيبدو، كما يلاحظ ستانلي، أن «اعتبار شارلي إيبدو تستهدف الإسلام بالسخرية من دون غيره هو اعتبار ليس في محله». لكن يدرك جهاز التحرير في الصحيفة، كما يقول أستاذ الفلسفة، بأن في فرنسا «اختلافاً بين السخرية من البابا، والسخرية من النبي محمد. فالبابا يمثل الدين التقليدي المهيمن على غالبية الفرنسيين. في حين أن النبي محمد هو الرمز المبجل لأقلية مضطهدة. من هذه الزاوية، السخرية من البابا هي تحدّ لسلطة حقيقية، سلطة الغالبية. أما السخرية من النبي محمد فتضيف الإهانة إلى الظلم». صحيح، يقول ستانلي، إن سلطة الأغلبية في ديموقراطية ليبرالية ليست سلطة ملوك، لكنها مع ذلك تبقى سلطة.
ما يقوله ستانلي هنا إنه إذا كان الهدف من تحدي السلطة هو لإرغامها على التواضع، وتذكيرها دائماً أنها تحت عين المجتمع فكرياً وسياسياً، يجب أن نتذكر أن هذه السلطة في هذا المجتمع ليست واحدة، لا من حيث الحجم، وقوة التأثير، ولا من حيث مساحة الحرية المتاحة لها اجتماعياً وسياسياً. وبالتالي فإن التعامل مع جميع أشكال السلطة داخل المجتمع بالمنهج ذاته، وافتراض أنها متساوية في كل شيء، هو تعبير عن عدم المساواة، خصوصاً في مجتمع تأسس على فكرة تكامل «الحرية والمساواة والأخوة»، وهو شعار الثورة الفرنسية قبل أكثر من قرنين من الزمن.
من جانبه اختار فريد زكريا أن يتناول الموضوع من زاوية أخرى يتحدى من خلالها ليس فقط الإرهابيين الذين نفذوا مجزرة باريس، بل والدول الإسلامية التي تقول إنها تناهض الإرهاب وهؤلاء الإرهابيين. يذكر الصرخة التي أطلقها منفذو المجزرة وقولهم «ثأرنا لمحمد»، وذلك على أساس أن ما قاموا به هو تنفيذ لحكم القرآن ضد من يسخر أو يستهزئ بالنبي. هنا يشير زكريا إلى أنه لا يوجد في القرآن حكم ضد مثل هذا الاستهزاء. وذلك على عكس ما يرد في العهد القديم، أو التوراة، من حكم واضح بقتل من يسيء إلى أو يجدف blasphemes على اسم الله. ثم يقول إن كلمة blasphemy بمعنى التجديف لا ترد أصلاً في القرآن. وبحثت على عجل فوجدت أن كلمات مثل «جدف وتجديف، أو يهزأ ويستهزئ» لا ترد في القرآن. ترد كلمة «سخر» (بفتح السين وكسر الخاء) مرة واحدة في الآية 79 من سورة التوبة. والسخرية في هذه الآية موجهة، كما في الطبري والقرطبي، ليس إلى الله، ولا إلى النبي، وإنما إلى بعض الصحابة وآخرين تصدقوا استجابة لطلب النبي محمد. ما يريد أن يصل إليه الكاتب هو أن ما فعله إرهابيو باريس أنهم نفذوا شريعتهم، وليس شريعة القرآن.
في المقابل يشير الكاتب إلى أن بعض الدول الإسلامية التي شجبت حادثة باريس لديها قوانين ضد التجديف. وذكر في شكل خاص باكستان، وبنغلاديش، وماليزيا، ومصر، وتركيا والسودان. ثم ذكر أن السعودية تحرم ممارسة أي دين عدا رؤيتها الوهابية للإسلام. ثم يخلص من كل ذلك إلى أن التجديف لم يعد قضية محلية، وإنما يقع على تقاطع طريق دموي بين المتطرفين الإسلاميين من ناحية، والمجتمعات الغربية من ناحية أخرى. وبالتالي على الجميع، سياسيين غربيين، وقادة إسلاميين ومثقفين في كل مكان، التأكيد على أنه لا وجود للتجديف في القرآن، وبالتالي يجب ألا يكون له وجود في العالم الحديث. يبدو أن زكريا أساء التعبير هنا. فالتجديف كان ولا يزال، وسيظل موجوداً. السؤال: كيف ينبغي النظر إليه، والتعامل معه؟ هل هو بالعنف والسجن، والقتل، أم بالمجادلة بالتي هي أحسن؟ قد يأخذ التجديف أو السخرية صيغة الإساءة والإهانة، لمجرد الإهانة المتعمدة. وقد يكون موقفاً فكرياً في مقابل الموقف الديني. كيف ينبغي أن يكون الرد في هذه الحال؟ من الواضح أن الرد على الاثنين لا ينبغي أن يكون واحداً. وفي كل الأحوال يجب ألا يخلو الرد من مضمون فكري، يعزز مكانة الفكر، ويوسع من مساحته في ثقافة المجتمع وحضارته. وفي الإطار الذي تفرض القضية نفسها من خلاله بعد حادثة باريس، ما هو الفرق بين السخرية من الدين كمصدر للسلطة، ونقد هذه السلطة؟ مخاطبة السلطة، وإخضاعها للنقد هما لتخفيف هيمنتها على وعي المجتمع، تعزيزاً لمساحة الحرية، وإيجاد شيء من التوازن بين ضرورات هذه السلطة، ومتطلبات حق الحرية. وهذه عملية دقيقة وحساسة، تتطلب ما يتناسب مع طبيعتها هذه.
مهما يكن فالتجديف ليس قضية عالمية تماماً. الإرهاب هو القضية العالمية الآن. والتجديف بناء على ذلك ليس الأول، ولا أهم مسببات الإرهاب. المسؤول المباشر هو الإرهابي، والفكر الذي يعتاش منه. لكن المسؤولية لا تتوقف هنا. في يوم ما، لم يكن هناك إرهاب. كانت عناصر الفكر الإرهابي ثانوية في زاوية مظلمة. وفي يوم ما كان هذا الإرهابي أو ذاك طفلاً بريئاً. كيف ولماذا انقلب الأمر؟ إذا كان الإرهاب جريمة سياسية، فإن أهم العوامل التي تسببت في تفاقمه وانتشاره هي عوامل سياسية أيضاً. وهو ما يفرض إعادة الأمر إلى نصابه. حادثة باريس عملية إرهابية بامتياز. لكن إبادة أكثر من ربع مليون سوري من أجل أن يحتفظ حاكم سورية بمنصبه، عملية إرهابية أكبر حجماً وأكثر خطراً على الجميع. وهذا مجرد مثال واحد على أحدث وأخطر ما يعتمل في المنطقة. هل من الحكمة توقع نتيجة أقل سوءاً وخطراً من ذلك؟ هنا تبرز خطورة دور القلم في التعاطي مع القضية. القلم رمز للحرية، لكن يجب أن يحتفظ برمزيته للعقل وموازينه أيضاً.
* أكاديمي وكاتب سعودي
الحياة
جريمة باريس والحجج السقيمة/ حازم صاغية
لم يُنسب إلى منفذي جريمة باريس بحق مجلة «شارلي إيبدو» التهكمية إلا القول إنهم يثأرون للرسول وهتافهم «الله أكبر» بالعربية. لكن بعضنا، وفي هذا البعض كتّاب وناشطو تواصل اجتماعي وقراء معلقون على مقالات وعلى مقطوعات صحافية أو تلفزيونية، آثروا أن يتبرعوا للمجرمين بحجج لم يأتوا هم على ذكرها، حججٍ أغلبها غريب عن عالمهم الإرهابي البسيط.
وهذه أشكال مواربة في التغطية على الجريمة، إن لم يكن تجميلها، يتحكم بها شعور بالوحدة بين الكل والكل في ربوعنا. غير أن نظرة سريعة واحدة إلى الحروب الأهلية الدائرة في عوالم العرب والمسلمين تلون تلك الوحدة بلون مَرضي مستعص.
فإذا وضعنا جانباً اتهام الصهيونية واتهام فرنسا وأميركا، وطبعاً «الأجهزة»، تصدرت الحججَ السقيمةَ تلك التي تقول «إنهم» هم الذين جنوا على أنفسهم. وثمة من ذكر بحرب مالي، ومن ذهب أبعد فذكر باحتلال الجزائر، وطبعاً كان لفلسطين حصتها الراسخة في التذكر والتذكير. وحتى لو وافقنا على إعادة الأمور إلى استعمار مرت حقبته وانقضت علينا وعلى غيرنا في هذه المعمورة، فلماذا يُستهدف صحافيون، ولا يُستهدف عسكريون أو موظفون رسميون أو ديبلوماسيون يعملون لمصلحة الحكومة الشريرة؟
لا بأس بالقول إن الإرهابيين الذين اقتصر قولهم على التكبير والثأر للرسول أصدق من الذين يقدمون لهم الحجج، كما أنهم أقل عنصرية بدليل أن المُبررين أشد فصاحة وتماسكاً في وضعهم كل فرنسا، وفي المقدمة صحافيوها، في كفة الشر الذي لا يحول، مقابل وضعنا نحن، كلنا، في كفة الخير الذي لا يكف عن تصويب التاريخ.
وهناك أيضاً ما يقال من أن الساخرين يسخرون من الإسلام ولا يسخرون من المحرقة المنزهة دوماً عن السخرية. والحال أن ثمة خلافاً عميقاً هنا في ما يخص «الأحاسيس» و»جَرحها». فالمعتقدات والمقدسات، في نظر رسامي المجلة الفرنسية وفي قانون بلدهم الذي يتقيدون به، أحاسيس قابلة لأن تُجرح. والقائل برأي كهذا يسعه أن يستشهد بالتجارب الكثيرة للرسل والأنبياء أنفسهم ممن جرحوا الأحاسيس والمشاعر التي كانت سائدة في زمنهم. وبعد كل حساب، هل كان لدعواتهم أن ترى النور لو تجنبت جرح تلك المشاعر والأحاسيس؟. أما السخرية من مرارات إنسانية لا تزال طرية العهد، ضحاياها يمتون بصلات قرابة أو صداقة مع الأحياء، فهذه مسألة أخرى. فموسى، بحسب هذه النظرة، يقبل السخرية، لا المحرقة، والقادة المتناحرون في حروبهم الأهلية تجوز عليهم سلاطة اللسان التي تجوز على الآراء التي ينشرونها، إلا أنها لا تجوز على ضحايا تلك الحروب.
ويقال أيضاً: فليذوقوا ما ذقناه ونذوقه من ألم. والحال أنهم ذاقوا أكثر من ذلك في تاريخهم على مدى مئات السنين. إلا أن أحداً هناك، بمن في ذلك العنصريون، لا يقول إن علينا أن نذوق ما ذاقوه في تاريخهم ذاك. ما من شك في أن ثمة إسلاموفوبيا في عالمنا الراهن، بما فيه بلدان الغرب ذاتها. لكن ما من شك أيضاً في أن هذه الأخيرة هي وحدها التي تناقش هذه الظاهرات وتحللها وتندد بها.
وأغلب الظن أن إحباطنا الراهن بالثورات، أي بطلب الحرية التي كانت ستتيح لنا، نحن أيضاً، أن نناقش تلك الظاهرات ونحللها ونندد بها، هو ما يديم هذا العفن الذي نتلذذ بمذاقه.
الحياة
كل الطرق الإرهابية تؤدي إلى الأسد/ طارق الحميد
في محاولة يائسة، ومفضوحة، للتذاكي أصدر النظام الأسدي بيانا أدان فيه الاعتداء الإرهابي الذي استهدف مجلة «شارلي إيبدو» الفرنسية، معتبرا أن تلك الجريمة إثبات على أن «الإرهاب في سوريا سوف يرتد على داعميه»، وأنه دليل على «قصر نظر السياسات الأوروبية»!
والحقيقة أن جريمة «شارلي إيبدو» الإرهابية هي دليل على إدانة نظام بشار الأسد نفسه، ليس الآن، بعد الثورة، بل وقبل ذلك بكثير، فهذه الجريمة الإرهابية التي هزت فرنسا قدمت دليلا واضحا على تورط نظام الأسد في تسهيل، وتذليل، كل العقبات أمام الإرهاب بالمنطقة، وتحديدا العراق، وذلك بعد إسقاط نظام صدام حسين، وبدعم وتنسيق إيراني، كما أنها؛ أي عملية «شارلي إيبدو»، دليل على تورط حزب الله بدعم الإرهاب بالمنطقة، وهذا ما كشفته جريمة فرنسا الإرهابية، ومن الواضح أن ما سيكشف لاحقا سيكون أكثر إثارة.
بالنسبة لجريمة «شارلي إيبدو» الفرنسية، فقد اتضح أن أحد الإرهابيين المشاركين فيها، شريف كواشي (32 سنة)، قد قرر السفر إلى سوريا عام 2005 للمشاركة في القتال بالعراق، وتم إيقافه من قبل السلطات الفرنسية، والجميع يعرف أن تسلل الإرهابيين من سوريا إلى العراق وقتها كان أمرا يتم بعلم النظام الأسدي، وتنسيقه، وذلك لخدمة الأجندة الإيرانية، وتعقيد المشهد بالعراق، وكان نظام الأسد يتاجر بهؤلاء الإرهابيين، ومنهم سعوديون، تارة للقول بأنه يدعم المقاومة، وتارة أخرى للقول بأن السعوديين إرهابيون، ومن أجل تركيع العراق للمصالح الأسدية الإيرانية بالطبع. وكل من يعرف طبيعة سوريا، قبل الثورة، يعلم أنها دولة بوليسية لا يمكن للإرهابيين التنقل فيها، وصولا ومغادرة إلى العراق، دون علم النظام الأسدي.
وعندما نتحدث عن تورط حزب الله، فإن الشقيق الأكبر بالعملية الإرهابية التي وقعت في فرنسا كان يتدرب في اليمن الذي درب ويدرب فيه حزب الله الحوثيين، وهو الحزب نفسه الذي يقاتل الآن بسوريا دفاعا عن الأسد، ودرب قبلها مقاتلين عراقيين شيعة، مما يعني أن الأسد، وحزب الله، وقبلهما إيران، مثلهم مثل «القاعدة» لا يتحركون إلا بمناطق الصراعات. والأمر لا يقف عند هذا الحد، بل إن هناك معلومات عن سفر أحد الإرهابيين الفرنسيين إلى سوريا مؤخرا للمشاركة في القتال هناك، وهو الأمر الذي سهله الأسد بتحويل الثورة السورية إلى ثورة مسلحة، فالكل يعي أن الثورة السورية كانت سلمية، إلا أن الأسد وإيران وحزب الله قرروا تحويلها إلى دموية للقول بأن الأسد يحارب الإرهاب.
وعليه، فإن المجتمع الدولي، الذي قرر غض النظر مطولا عن جرائم الأسد، ومن قبل الثورة، بات في موقف يتطلب التحرك ضد مجرم دمشق، خصوصا أن كل مؤشرات الجريمة الإرهابية في فرنسا تشير إلى الأسد، بالأمس واليوم. وعليه، فلا مناص من العودة إلى أرض الشام، لأن كل الطرق الإرهابية اليوم تؤدي إلى سوريا، وتحديدا إلى بشار الأسد.
إعلامي و كاتب سعودي ورئيس تحرير سابق لصحيفة “الشّرق الأوسط”
الشرق الأوسط
“الإرهاب الفرنسي”: تدويل الجهاد التكفيري!/ عادل مالك
مع إقلاع العام 2015 برزت المشاعر المختلطة من التجاذب والتدافع بين اليأس والرجاء وبين الآمال والآلام، والتساؤل الفضولي عما ستحمله السنة الجديدة من مفاجآت، وهل ستكون أفضل من التي رحلت غير مأسوف عليها عند كثيرين. وبينما كان أهل المنطقة يتسقطون المعلومات حول تمدد الإرهاب «الداعشي» وشبيهه في أرجاء المنطقة من العراق وسورية وما هو أبعد، جاء النبأ الصاعق من قلب العاصمة الفرنسية باريس، بوقوع الحادث الإرهابي المثير، والذي استهدف الأسبوعية الفرنسية الكاريكاتورية الساخرة «شارلي إيبدو»، وتمت إبادة جميع أفراد أسرة تحرير المطبوعة بسقوط اثنتي عشرة ضحية، إضافة إلى الكثير من الجرحى.
واهتزت فرنسا لهذه الكارثة التي لم تشهد لها مثيلاً منذ أكثر من أربعين سنة، كما اهتز العالم على وقع الإرهاب الذي أقدم على ارتكاب هذه المجزرة وتوجهت أصابع الاتهام إلى «جماعة من الإسلاميين المتطرفين».
وضجت فرنسا من عاصمتها باريس إلى سائر الأنحاء فيها بتظاهرات شعبية عارمة بدت فيها المشاعر الطائفية والمذهبية والعنصرية واضحة ومسيطرة على مشاعر الشعب الفرنسي من المقيمين على أرض فرنسا.
وسارع الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند إلى شاشة التلفزة، وبدت على وجهه ملامح الصدمة، مطلقاً الدعوة الأولى إلى الفرنسيين لضرورة المحافظة على الوحدة الوطنية، ومتعهداً بعدم الرضوخ للضغوط أياً كانت.
وفي سعي إلى احتواء الصدمة نتيجة الانفجار الباريسي، بعض الكلام الذي يجب أن يقال بكل شفافية ومصارحة مع الذات أولاً، ثم مع الآخرين. وأحاول أن أوجز هذا الكلام في نقاط رئيسية.
أولاً: تقول المصادر الأمنية الفرنسية «إن الإرهابيين الثلاثة الذين قَتلوا بالرصاص الشرطيين الحارسين للمبنى الذي تعرض للهجوم يتمتعون بقدرة قتالية حرفية عالية المستوى». وللتدليل على ذلك يورد المصدر الأمني الفرنسي بعض تفاصيل الهجوم الإرهابي، ويقول: «إن طريقة إمساكهم بالأسلحة الملتصقة بأجسادهم، وإطلاقهم الرصاص طلقة طلقة متجنبين الرشقات، وسير تحركهم الهادئ وغير المتسرع وتنفيذهم مخططاً موضوعاً» تعني «أنهم ليسوا أشخاصاً عاديين خطر في أذهانهم تنفيذ عمل من هذا النوع». ويقول أحد الخبراء الأمنيين أن المهاجمين «تدربوا في سورية والعراق أو في مكان آخر قد يكون فرنسا نفسها».
ثانياً: في السياق نفسه الذي يشدّد على المهنية القتـالية العالية للمهاجمين، نستعيد بعض ما أوردناه فـي هذه الصفحة بالذات ومنذ ما يقرب من خمسة شـــهور، حيث تفيد معلومات بأن تنظيم «داعش» أصبح كونـــياً وعابراً للحدود والقارات، إذ كشف النقاب عن وجود مقاتلين في صفوفه ممن ينتمون إلى جنسيات أجنبية مختلفة من الشرق والغرب، وأدركت دول غـــربية ولو في وقت متأخر مدى تورط عــدد مـــن رعاياها في النشاطات العملانية والميدانية لتنظيم ما بات يعرف بالدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام ومنها فرنسا وبريطانيا مثلاً لا حصراً.
وتابعنا: «ففي باريس كشف الرئيس فرنسوا هولاند عن مشاركة عدد من الشبان الفرنسيين في القتال في سورية وبعض دول الجوار وفي طليعتها العراق، ورصدت الدوائر الأمنية الفرنسية عودة عدد منهم إلى فرنسا في الآونة الأخيرة بعدما «استقالوا» من مهامهم القتالية لأسباب مختلفة منها ضيق ذات اليد وتوقف بعض التنظيمات عن الدفع للمقاتلين. ويشكل هؤلاء قنابل موقوتة في الدول الغربية التي أتوا منها وعادوا إليها» («الحياة» 19 تموز – يوليو 2014).
ثالثاً: أردنا من استحضار هذا الكلام التشديد على قرينة أساسية تتمثل بإدراك الدول الغربية أخطار الإرهابيين، وأن بعض رؤسائها أيقن ما ينطوي عليه التنبيه إلى الكوارث الإرهابية، حيث ساد شعور لدى دول الغرب الأميركي منه والأوروبي بأن الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط وتمدده مستمر أفقياً وعمودياً ولا يكتفي زعماء الغرب بمشاهدة الإرهاب التكفيري ومواجهته بعدم الوعي والإدراك لانتقال هذه الظاهرة من بلاد «المنشأ» في سورية والعراق واليمن ومناطق أخرى، إلى العالم الغربي الرحب.
هنا، تبرز المفارقة اللافتة، حيث إن بعض الدول الغربية أفسح في المجال عن قصد أو عن جهل لتنامي الحركات الإرهابية والقيام بالتدريبات اللازمة للأعمال القتالية، ثم يتوافد الكثير من الشبان (وبعض الشابات) إلى مواقع الجبهات في المنطقة العربية. وقد أظهر حادث باريس سواء بخلفياته أو تداعياته مدى التقصير الفادح من جانب الأجهزة الأمنية في كل الدول الغربية وعدم ممارسة الرقابة المشددة على مثل هذه العناصر التي تأخذ من الإرهاب فرصة أو مجالاً للانخراط في هذه المجموعات، ومن ثم العودة إلى «الوطن الأم – الجديد» الذي منح الجنسيات وجوازات السفر لهؤلاء الإرهابيين، وها هم يعودون لممارسة أدوار البطولات الزائفة، واستهداف بعض المؤسسات مرة تحت شعار الدين ومرة لممارسة العمل نظراً إلى البطالة المتفشية بكثافة في عدد من مجتمعات الدول الغربية.
وإذا كانت الأنظار كلها متجهة الآن إلى باريس موقع الحادث، فهذا يجب ألا يمنع تنبه باقي دول الغرب لحدوث أعمال مشابهة.
وفي هذا المجال تحركت بريطانيا، ولو متأخرة، عبر رئيس حكومتها ديفيد كامرون، حيث عبر بعض مساعديه عن ذهولهم وصدمتهم من المعلومات التي تحدثت عن عودة آلاف عدة من حملة الجنسية البريطانية، من الشرق الأوسط إلى لندن، والعمل على تأليف شبكات إرهابية التي من شأنها أن تزرع الرعب في سائر أرجاء المملكة المتحدة.
وحيال هذه «الصحوة» البريطانية لأخطار تنامي الحركات الإرهابية في عقر الدار البريطانية، تم توقيف عدد كبير من الشبان من الذين تأكدت إقامتهم وممارساتهم العملية في صفوف «إرهابيي الشرق الأوسط». كما عمدت السلطات البريطانية إلى مصادرة جوازات سفر كل من تأكد أنه قام بزيارة عمل إلى سورية أو العراق وعاد إلى بريطانيا.
لكن، على الدوائر البريطانية أن تدرك مدى خطورة الأخطاء التي ارتكبتها سلطاتها الأمنية بغض النظر عما يقوم به بعض الشبان من الالتحاق بتجمعات إرهابية سواء في الأوطان أو المهاجر. كذلك، لا يمكن السلطات البريطانية إلا أن توجه اللوم لنفسها والاعتراف بتقصير الأجهزة الأمنية في تعقب هؤلاء «الإرهابيين المقنعين» وذلك تحت شعار الحفاظ على الحريات الشخصية، في حين عمد كثيرون للإفادة مما تمنحهم إياه بريطانيا من تسهيلات لجهة الإقامة والتمتع بكامل مواصفات المواطنة، فيما التجارب أكدت وتؤكد استغلال هذه الجماعات القوانينَ «التسامحية» هناك، وضرورة استشعار السلطات المختصة بالأخطار القائمة سواء في عقر الدار البريطانية أو في مناطق أخرى، وضرورة مراقبة أعداد كبيرة من الرعايا الذين استغلوا تسهيلات الإقامة في بريطانيا لممارسة أقذر أنواع «المهن النضالية».
وبعد…
إن العبرة الأولى من حادث باريس هي أن الإرهاب التكفــيري أو أي نوع آخر من الإرهاب بات يقيم في قلب العالــم الغربي. وعلى الدول الغربية أن تتخذ تدابير أكثر حزماً وحسماً لمواجهته بغية تعطيل القنابل الموقوتة المقيمة في الداخل، ولم يعد يكفي زعماء هذه الدول أن يبقوا مكتوفي الأيدي وهم يتابعون ما يجري في المنطقة العربية من أعمال إرهابية مدمرة.
ولا بد من الاعتراف بأن ما أطلق عليه اسم «التحالف الدولي» لمواجهة مقاتلي «داعش» ليس ذلك التنظيم المحكم الذي يواجه أخطر التجمعات الإرهابية، ومن إعادة النظر بهذا الإجراء للتأكد من عدم جدواه وفاعليته ومن القناعة الآتية: أن الإرهاب لا وطن له وقد أصبح سلاحاً فتاكاً يجب التصدي له بكل الوسائل، لأنه بات ذلك الخطر المشترك على مختلف المجتمعات العربية والغربية على حد سواء. ولوحظ في الآونة الأخيرة صدور بعض الأحكام القضائية ضد بعض مرتكبي الأعمال الإرهابية، والتي قضت بسجن بعض الفاعلين.
ويعترف أحد القضاة في بريطانيا بأنه ليس في القوانين الوضعية ما يشير إلى العقوبة التي يجب أن تفرض على «من يمارس» الإرهاب خارج الحدود ويعود إلى البلاد.
تبقى الإشارة إلى ناحية مهمة، وهي تتمثل باقتحام الإرهابيين كل الحواجز والتدابير الأمنية، وكان هذا الأمر لافتاً في تفجير باريس حيث عبر كثيرون عن الاستغراب لكيفية اقتحامهم مبنى المجلة الفرنسية، على رغم وجود الحراسة المشددة عليها.
لقد بات الإرهاب «الحديث» مؤسسات أفراد وجماعات من النوع العابر للقارات، حيث تنشط حركات الاستيراد والتصدير في المجال الإرهابي، كأنما التعاطي مع الإرهاب والارهابيين يتم بصفتهم سلعة!
إن تفجير باريس والصدمة التي أحدثها، والاتهامات التي توجه إلى «الإسلام الأصولي» أو الإرهاب التكفيري، سمه ما شئت، يطرح مسألة في غاية الخطورة والأهمية يوجزها السؤال الآتي: ما مصير العلاقات بين الرعايا العرب والمسلمين مع الذين يعيشون ويقيمون بكثرة في العالم الغربي المترامي الأطراف. واستطراداً كيف يمكن أن يشعر المسلم بأنه يعيش مع عائلته في أجواء آمنة من دون استشعار الخوف من التيارات المتطرفة، والتي تربط بين الإسلام والإرهاب؟ وكيف يمكن التفريق بين مرتكبي الأعمال الإرهابية وسائر الرعايا، بخاصة عندما يظهر أن كثراً من ممتهني الإرهاب يحملون جنسيات البلاد التي يقيمون فيها!
إن انفجار باريس يؤكد من جديد اتجاه «الإرهاب الشرق أوسطي» نحو التدويل، وعلى الغرب أن يواجه الإرهاب ليس في عقر الدار فحسب، بل في كل مكان، وفي الطليعة الشرق الأوسط.
الحياة
جريمة باريس… أسباب الفشل/ بشير البكر
ليس مبالغة القول إن ما حصل في باريس صباح السابع من يناير/كانون الثاني زلزال سوف تظهر ارتداداته تباعاً، على غرار ما عاش العالم من تداعيات بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 في الولايات المتحدة. صحيح أن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند لا يشبه الرئيس الأميركي جورج بوش، لكن التربة والمناخ العام من نفس الطينة الفاسدة التي أنتجت حروباً وغزواً ومفاهيم عرجاء حول صراع الحضارات.
فرنسا تلخص اليوم في صورة فاقعة وضع أوروبا التي تعيش صدمة حيال الجريمة وما تبعها من مواجهات ومطاردات للإرهابين الذين نفذوا الاعتداء ضد صحيفة “شارلي إيبدو”، حيث هيمنت أجواء حرب على العاصمة الفرنسية، تابعها الأوروبيون أكثر من غيرهم، نظراً لتشابه الأوضاع والأعراض، وانعكاس النتائج. وبعيداً عن باريس التي تشهد استنفاراً سياسياً وأمنياً غير مسبوق، بدت عواصم أوروبا الأخرى من لندن إلى برلين وروما ومدريد تتحسب لأحداث مشابهة، وأخذت تعد العدة لإجراءات احتياطية، يعبر عنها اجتماع وزراء الداخلية الأوروبيين الذين قرروا أن يلتقوا اليوم في العاصمة الفرنسية، كأول رد على مستوى الاتحاد الأوروبي. وهو الأمر الذي يعني أن القارة العجوز مقدمة على اتخاذ جملة من الإجراءات لا تقل عن تلك التي لجأت إليها الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر/أيلول. وكما جرت العادة، فإن الرد يبدأ بالأمن؛ لأنه أمر لا نقاش فيه، ولكن ترجمته تذهب نحو كافة مناحي الحياة. وهذا ما يضع قرابة نحو 35 مليون مسلم يعيشون في أوروبا إزاء امتحان جديد طويل الأمد، وهنا يصح قول أحد المعلقين في برنامج تلفزيوني فرنسي ساخر في أن “ضحايا جريمة باريس 12 قتيلاً و5 ملايين جريح مسلم”.
الأمن سيكون شعار المرحلة إلى أمد بعيد، وهذا لا يعني أن أوروبا كانت فالتة من الناحية الأمنية، بل على العكس، هي لم تقصر في وضع ترسانة من القوانين المشددة بعد 11 سبتمبر/أيلول، لكنها في هذه المرة سوف تنتقل إلى نمط جديد من التعامل يطال مسألة الهجرة في الصميم. وهذه الهجرة ليست قضية ثانوية في التكوين الأوروبي، بل تقع في صلب بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وخصوصاً بالنسبة لفرنسا وألمانيا، إذ تم استقدام مئات آلاف العمال في البنى التحتية، وقد أصبح أبناء وأحفاد هؤلاء مواطنين أوروبيين، ولكنهم لم يندمجوا كلياً في المجال العام، وهنا يكمن أحد أسباب الفشل الفرنسي.
تعتبر فرنسا صاحبة سياسة خاصة في إدماج الأجانب، وقد خصصت لها حيزاً خاصاً من وزارات الشؤون الاجتماعية في حكومات متعاقبة منذ وصول الاشتراكيين للحكم في مطلع الثمانينيات. كما أنها تكاد تكون البلد الأوروبي الوحيد الذي يضع الأديان تحت ظل المؤسسة الحكومية، إذ ألحقت على الدوام بوزارة الداخلية، ولكن لا الاندماج حصل فعلياً بالنسبة للمهاجرين العرب والمسلمين، ولا أفاد المسلمين عناية الدولة بالأديان، أمام جهاز داخلية غير مستوعب لمفهوم المواطنة ومؤسسات إسلامية تمثل سياسات بلدان القائمين عليها أكثر من تمثيلها للجاليات المسلمة. وعلى سبيل المثال دليل أبوبكر إمام جامع باريس الكبير، الذي يشغل هذا المنصب منذ ربع قرن على الأقل، وخلال هذه الفترة تغير العالم كلياً، ولكن إدارة جامع باريس بقيت على حالها، أشبه بالصومعة العصية على الاقتحام من طرف أجيال جديدة تحمل نظرة مختلفة لوضعها ودينها في ظل تنامي العنصرية.
ولعل أبرز مظاهر فشل سياسة الاندماج ما تعيشه الضواحي الفرنسية التي تقطنها أغلبية من جاليات عربية وأفريقية، وهذه عرفت سنة 2005 حركة احتجاجية كبيرة فجرتها تصريحات لوزير الداخلية حينذاك نيكولا ساركوزي، ولكنها نتيجة للتمييز. ومنذ ذلك الحين، لم يتغير شيء في الجوهر، بل تنامت العنصرية حتى صار حزب “الجبهة الوطنية” اليميني المتطرف في المرتبة الثانية، وهناك مخاوف فعلية في الوسط السياسي الفرنسي من وصوله للرئاسة في الانتخابات القادمة عام 2017.
تكبر الهوة كل يوم بين الدولة ومواطنيها الذين ينحدرون من أصول عربية وإسلامية، ولدى كل حدث من نمط الاعتداء على “شارلي إيبدو” تلجأ الدولة إلى أسهل الحلول وهو الأمن، وحتى هذا السلاح لا يتم استخدامه على نحو ناجع. فالجريمة بحد ذاتها هي فشل أمني بالدرجة الأولى تتحمله حكومة مانويل فالس المكروه جداً في أوساط الجاليات العربية والإسلامية. فهذا الرجل الإسباني الأصل لم يصبح فرنسياً إلا في سنة 1982، ومع ذلك يستخدم خطاباً مشبعاً بالعنصرية ضد جاليات متجذرة في فرنسا. وقد اكتسب صيته السيئ حين كان وزيرا للداخلية، قبل أن يرفعه هولاند في الصيف الماضي كرئيس حكومة، متحدياً الأجنحة التقدمية في الحزب الاشتراكي، التي وصفت فالس باليميني والليبرالي.
الفشل الفرنسي ليس أمنياً وعلى صعيد سياسات الاندماج فقط، بل هو إعلامي أيضاً وثقافي، ولا يقف عند المظاهر العادية التي تجاوزتها بلدان أخرى مثل بريطانيا عندما أدخلت وجوها إعلامية من أبناء الجاليات في تقديم نشرات الاخبار التلفزيونية وإدارة البرامج، بل يتجاوزها إلى تنميط صورة المسلم. وقد يكون مصادفة صدور رواية الكاتب ميشيل ويلبيك في نفس يوم الجريمة، ولكنها ليست مفصولة عن سياق ثقافي يسيطر على الميديا الفرنسية. فالرواية التي أطلق عليها اسم “استسلام” كتحوير سطحي للإسلام تتحدث عن وصول مسلم محمد بن عباس إلى رئاسة فرنسا عام 2022، وهذا الكاتب الذي لا يكف عن تحقير المسلمين ووصفهم بـ”الأغبياء” و”الإسلام أسوأ الديانات التوحيدية”، ينزل هذه المرة إلى درك عميق في شتم الدين الإسلامي. وقد سبقه الصيف الماضي أريك زمور اليهودي المغربي الأصل، الذي طالب علانية بطرد المسلمين من فرنسا، وجاءت مضامين كتابه “الانتحار الفرنسي” حافلة بشيطنة الوجود الإسلامي في فرنسا، حيث وجه الدعوة إلى وقف هجرة المسلمين وأطلق على تلك العناصر القادمة من أصول غير فرنسية بأنها “تسونامى ديموغرافى”، مؤكداً أن 7 ملايين مسلم في فرنسا يهددون الصفاء العرقي، خصوصاً في ظل الإحصاءات التي أشارت إلى أن 30% من الزيجات في فرنسا مختلطة.
ليس في وسع الدولة الفرنسية أن تمنع “شارلي إيبدو” عن السخرية من الإسلام، ولا ميشيل ويلبيك واريك زمور من الكتابة، لأن هذا الأمر يمس حرية التعبير، ولكن من ناحية أخرى سنّت الدولة قوانين فيما يتعلق بتناول اليهود مثلاً، وبالتأكيد لا يجرؤ كاتب أن يطالب بإعادة اليهود الجزائريين أو المغاربة إلى بلدانهم الأصلية. ولو أن ويلبيك غير الشخصية الرئيسية في الرواية من مسلم إلى يهودي، لما كان رد الفعل الفرنسي الرسمي والشعبي والإعلامي في المستوى ذاته.
جريمة “شارلي إيبدو” الإرهابية ثمرة لأشجار جرداء نمت في حدائق فرنسا الخلفية، وهي ثمرة سامة لن يذهب مفعولها سريعاً.
العربي الجديد
رثاثة المتضامنين مع «شارلي إيبدو» لا مع حرية التعبير/ رستم محمود
قبل ربع قرن، كانت سردية شعبية سورية متداولة، تروي حكاية عن حيرة الرئيس السوري السابق حافظ الأسد تجاه الفتوى التي أصدرها الزعيم الإيراني آية الله الخميني ضد الروائي البريطاني من أصل هندي «سلمان رشدي». فحافظ الأسد كان يبتغي دوماً تقارباً مع الغرب، وإظهاراً للتماهي القيمي معه، لكنه في الوقت ذاته كان يخشى الدخول في شقاق مع حليفه الإيراني القوي، الذي كان خارجاً بلا هزيمة لتوه، من حربه الطاحنة ضد العراق. يروى أن الأسد استدعى الشيخ محمد سعيد البوطي، واستشاره في رأيه الفقهي، وأن الأخير أجاب: بأن «سلمان رشدي ليس ضمن ولاية بلادنا، لذا ليس لحاكم بلادنا أي سلطان أو ولاية عليه»، فرفع بذلك الحرج عن هذا الأخير. وحين أجرت مجلة «التايم« الأميركية مقابلة معه بعد ذلك بأيام قليلة، أجاب حين سُئل عن موضوع فتوى الخميني «أنا لست بفقيه ديني، بينما الخميني فقيه ورجل دين».
أركان الحكاية الثلاثة، كانت تخدم صورة حافظ الأسد المبتغاة، فهو الذي يستمع لآراء «العلماء» في ما خص الشؤون الدينية، وتحديداً العلماء السُنة من بينهم، إذ لا ينقاد مباشرة لفتاوى «العلماء» الشيعة. وكذلك هو الذي يميز نفسه لدى الرأي العام الغربي كزعيم «مدني» يحترم حرية التعبير والحريات العامة، وهو متباين عن الزعامة الثيوقراطية للخميني نفسه. وأخيراً كحليف حذر للنظام الإيراني، يخشى المصارحة بالاختلاف العقائدي.
بالمقابل، ليس في الحكاية أي شيء يؤكد بأن الأسد كان بشكل فعلي ومباشر مع حق رشدي وحريته في التعبير، مع أن كل تحركاته وتصريحاته كانت تبتغي الإيحاء بذلك.
استطاع الأسد أن يصنع لنفسه تمايزاً عن حليفه الإيراني، ويظهر كمدافع عن حرية التعبير، في الوقت عينه الذي كانت أقبية السجون السورية متخمة بعشرات الآلاف من المعتقلين السياسيين، حيث استشهد الكثير منهم تحت آلة التعذيب الرهيبة طوال الثمانينات، ومن دون أن توجه أي تهمة جنائية لأي منهم. وما كانوا إلا ضحايا آرائهم السياسية والعقائدية وربما الدينية. وفي الوقت الذي كانت سوريا كلها تمر بأفظع سنوات تطبيق قانون الطوارئ، إذ لا حريات عامة أو مدنية أو إعلامية أو حرية تعبير. على خطى الأسد وقتئذ، سار الكثير من الأنظمة السياسية الاستبدادية الستالينية؛ من بينها تحديداً تلك التي تحكم مجتمعات محافظة.
بعد أكثر من ربع قرن، يبدو أن تركيبة ثلاثية، ثقافية وسياسية وأهلية، شبيهة تماماً بتلك التي كانت تتحدد في نسق طيف من المتضامنين مع شهداء مجزرة مجلة «شارلي أيبدو» الفرنسية. تركيبة تظهر تضامناً مع الضحايا وحرية التعبير، لكنها في الوقت ذاته تبدو زائفة ومدعية ورثة بمقارنة بسيطة بسلوكيات ومواقف نظيرتها حيال حركة الربيع العربي، وبالذات منها في قاطرتها السورية؛ إذ يقفون هناك على النقيض تماما من منصة ضحايا حرية التعبير. بل ثمة منهم من هو مستعد ليقوم بفعل المجرمين الذين اعتدوا على صحافيي «شارلي أيبدو» أنفسهم، فيما لو مارس خصومهم السياسيون أو حتى الثقافيون أو المدنيون، الحرية الذاتية الخاصة التي مارسها صحافيو/شهداء المجلة الفرنسية.
ثقافياً، يبدو جلياً أن تيار «المعضلة في الشعوب وليس في الأنظمة» هو على رأس هؤلاء المتضامنين المزيفين. لأنه في الوقت الذي يتضامنون فيه، إنما يذهبون للقول للمؤسسات الثقافية والسياسية الغربية، بمعنى ما «أوليس هؤلاء هم من دافعتم عن حقهم بالتعبير وممارسة الحرية، أوليسوا هم من الشعب وليس من بنية الأنظمة العاقلة الراشدة المنضبطة المتصالحة مع قيم الغرب؟« هذه الفئة من المثقفين، التي ما انفكت تحذر من حرية التعبير، وأن هذا الحق يجب ان يكون حكراً على طيف ونٌخبة وصفوة من المجتمع، وأن هذه الحرية لا تناسب العوام، وأن منح العامة مستوى عالياً من الحرية، إنما يحولها إلى سيل خطر على هذه الصفوة والنُخبة وعلى قيم الحياة والثقافة، التي يرون أنفسهم فحسب مشتركين بها مع الضحايا الغربيين.
على أن ما يفوق رثاثة هذا الطيف الثقافي في تضامنه مع شهداء المجلة الفرنسية، هو تضامن «النُخب» السياسية الموالية للأنظمة الاستبدادية الراهنة، من بينهم بالتحديد من يدورون في فُلك النظام السوري وسياساته وممارساته في الدفاع عن الحريات كلها، منذ خلع أظفار أطفال حوران وحتى استخدام الأسلحة الكيماوية ضد أطفال الغوطة. هؤلاء ومعهم الكثير من التيارات السياسية و«العصاباتية«، التي ما انفكت تصطنع «أنبياء» سياسيين ملهمين جدداً في ظلال الحدث السوري. «أنبياء» على العامة حيث التسبيح باسمهم، أو مواجهة العنف الأرعن.
هؤلاء الذين من المستحيل أن يقبلوا بأي سخرية من أصنامهم العسكرية أو السياسية أو الإيديولوجية التي اصطنعوها، لا يجدون غضاضة في الإعلان عن تضامنهم مع شهداء المجلة الفرنسية، وهذا ليس من باب التواؤم مع الحرية كقيمة بذاتها، بل فقط من باب التماهي مع الغرب القوي، والإيحاء بمواجهة «الوحش» نفسه.
مدنياً، يصدر هذا التضامن الرث عن كثير من الجماعات الأهلية الطائفية والمذهبية والعرقية والجهوية، يصدر كتضامن مع «عدو» مشترك يجمعها مع المعتدى عليه، الغرب. هذا العدو الذي يتمثل في مخيلتهم ب»العربي المسلم السُني المحافظ». تضامن هذه الفئة بالذات منحط، لأنه بالذات موجه ضد تشكيل اجتماعي ثقافي بعينه، ولأنه متخم بالعدوانية وأبعد ما يكون عن الضمير المدافع عن حرية الرأي؛ حرية الضمير التي لا يمكن أن ترى الجريمة النكراء إلا بتعيّنها الفردي الشخصي، وبحالتها الموضوعية المباشرة، ولا يمكنها أن ترى لها أية إحالات يمكن عبرها توجيه الاتهام لجماعة أو تشكيل أهلي بعينه. وهو الأمر الذي كان قد فعله ضحايا المجلة أنفسهم من قبل، فلم تكن سخريتهم موجهة ضد دين أو عقيدة أو جماعة بعينها، بل ضد كل ما كانوا يعتقدونه مثيراً وجذاباً للتداول العام، أياً كانت مرجعيته أو بنيته الأهلية الثقافية والعرقية والدينية.
في ديوانه الشهير «دُكان التبغ» يقص الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا تفاصيل حياة ثلاث شخصيات، حارس القطيع والمؤمن الرومانسي والعدمي المنفصم، وكيف إنه في شخصية كل منهم ثمة التباس وشيء خفي من شخصيتي الفردين الآخرين، لا لأن ذلك جزء تكويني مركزي فيهم، بل لأن كل واحد من هؤلاء يستشعر الحاجة لشيء من شخصية الآخرين.
شيء كثير من ذلك يحدث في عوالم هذا الطيف الرث من المتضامنين مع «شهداء« المجلة الفرنسية، إذ يبتغون أي خيط يربطهم مع حرية الضمير والقيم الإنسانية العليا، لكن دوماً يظهرون كبخلاء وجبناء، لا يستطيعون التخلي عن شيء من فداحة ما هم منغمسون فيه فعلياً، من تناقض عميق مع حرية الضمير والقيم الإنسانية العليا هذه.
المستقبل
ليس الموضوع حرية التعبير بل القتل/ عزمي بشارة
يتعرض العرب كأمة، وكثيرٌ منهم كأفراد، إلى أفظع الجرائم حالياً في فلسطين والعراق وسورية وليبيا واليمن وغيرها. وفيما يفارق الحياة بصمت لاجئون سوريون بلا مأوى من البرد والصقيع، يجد العرب والمسلمون أنفسهم ملامين، لأن أفراداً قاموا بارتكاب جريمة الإغارة على مقر صحيفة ساخرة في باريس وقتل محرريها ورساميها. سمع العرب والمسلمون الخبر مثل الفرنسيين، أو شاهدوه مثلهم على شاشة التلفاز. ولا علاقة أخرى تربطهم به.
وفي كل مرة، تقع جريمة كهذه أتردد في نشر الموقف منها. فالمبادرة إلى نشر موقف انجرار وراء ابتزاز مفاده أن على كل عربي ومسلم أن يدافع عن نفسه كأنه مشبوه. وموقفي من مثل هذه الجرائم يفترض أن يكون معروفاً. وكلما تدفقت الإدانات، ازداد التأكيد على العلاقة بين العرب والمسلمين من جهة والمجرمين من جهة أخرى.
لكن الصمت يصبح مشكلة، حين يتكلّم من يبرّر الجريمة بخلفية مرتكبيها ومسؤولية “الغرب” عمّا يجري في العالم العربي، ومن يبررها بلزوم القصاص للمسيئين للإسلام ورسوله. مع أن الأخيرين أنفسهم قد يزعمون، في يوم آخر، أن الأمر برمته مؤامرة مدبرة، وأن المسارعة إلى الادعاء أن الفعلة مسلمون جزء من هذه المؤامرة الشيطانية، أو مجرد عنصرية. وثمّة دائماً من يجد في التوقيت تفسيراً لهذه المؤامرة (بالأسئلة الأبدية لماذا في هذا الوقت بالذات؟ ومن المستفيد؟)؛ أو يجد الإثبات في وجود الكاميرات أو في غيابها؛ ويعثر عليه في غياب اليهود من المشهد، أو في وجود اليهود في المشهد. فهو يدأب على إثبات “نظريته”، ودحضها حين يلزم، بالحجج التأويلية هذه ذاتها.
قتل المدنيين جريمة لا علاقة لها بأي جريمة أخرى ارتكبها غيرهم، حتى لو كان القاتل نفسه ضحية هذه الجرائم الأخرى. وغالباً ما لا تربطه بها سوى علاقة نفسية أو معنوية. القتل جريمة في الحالتين. هذا موقفي، لكنه لن يكون شافياً لبعضهم، فالفعل، هذه المرة، لم يكن قتلاً عشوائياً للمدنيين، كما سيردّ هؤلاء، بل عقاباً لمجرمين استُهدفوا لأنهم تطاولوا على مقدسات الإسلام والمسلمين.
ينسجم هذا الادعاء مع عناصر الخطاب الذي ساد بعد الجريمة في الغرب أنه اعتداء مدبر يستهدف حرية التعبير من أعداء الديمقراطية وحرية التعبير. ولا شك في أن نفاق بعض المثقفين والسياسيين الغربيين لا يساعد في دحض غيبيات مبرري هذه العمليات. لا، ليس الموضوع حرية تعبير واعتداء عليها. المشكلة هي القتل المدان، حتى لو لم تكن مسألة حرية تعبير.
فمبررو مثل هذه العمليات يجيبون أنه ما من حرية تعبير في فرنسا نفسها لمن يحرّض ضد
“قتل المدنيين جريمة لا علاقة لها بأي جريمة أخرى ارتكبها غيرهم، حتى لو كان القاتل نفسه ضحية هذه الجرائم الأخرى. وغالباً ما لا تربطه بها سوى علاقة نفسية أو معنوية”
اليهود، أو ينكر الهولوكوست. ضاع الفرق بين حرية التعبير في موضوع الدين والديانات والشعوب والقوميات ومقدساتها أيضاً، والتي يفترض أن تكفلها الديمقراطية، من جهة، والتحريض العنصري، من جهة أخرى. والخيط الفاصل بينهما ليس رفيعاً، ويمكن للعقل السليم أن يستدلَّ عليه.
حسناً، قد لا نتفق على أن الموضوع حرية تعبير، لكننا نتفق على أنه قتل.
ومن ناحية أخرى، عاش العرب، في العقود الأخيرة، في ظل أنظمة تغتال خصومها بسبب كلامهم، وتسجنهم في أفضل الحالات. وكانت تسمي ذلك خيانةً ومسّاً بذات الرئيس أو الملك، أو تثبيطاً للروح القومية. ومنذ صدرت تعليمات آية الله الخميني العلنية بقتل الكاتب البريطاني من أصل هندي، سلمان رشدي، على رواية “الآيات الشيطانية”، لم يعد بإمكاننا تجاهل نقاش جارٍ في الغرب بشأن قرارات دينية سياسية تأمر بالقتل، رداً على التعبير بالكلمة.
تكمن مشكلة حقيقية في الاعتقاد أن الرد على حرية التعبير بالنسبة للآخرين، والاستفزاز وحتى التحريض بالنسبة لك، يكون بالقتل. ولنفترض أن ما قامت به الصحيفة هو تجاوز لحرية التعبير إلى التحريض على المقدسات، فماذا يمس بالمقدسات، تلطيخها بسفيه الكلام أم تلطيخها بدم الضحايا وتلويثها بالجريمة؟ هذه مسألة سلّم قيم أخلاقية.
في بلداننا، ثمّة دول وحكومات تقتل وتسجن وتعذب الناس، لأنهم عبروا عن أنفسهم بالكلمة. وفي بلداننا وسياقنا الحضاري والثقافي، نشأ، من بين ضحايا هذه الأنظمة وغير ضحاياها، أفرادٌ يبررون قتل من يمس معتقداتهم بالكلمة. والمشكلة الأخرى أن كثيرين منهم لا يميزون، أصلاً، بين النقاش النقدي والتحريض، والبحث الأكاديمي والمسّ بالمقدسات.
وقد آن الأوان أن نسأل أنفسنا؟ هل بإمكان رسوم كاريكاتورية تسيء إلى أنبياء الديانات كافة، ولنبي الإسلام أيضاً، أن تسيء إلى مقامهم فعلا؟ هل بإمكان قسّ مجنون في أميركا يريد أن يحرق المصحف الشريف أن يسيء إلى القرآن نفسه؟ وهل يجب أن يحرّك هؤلاء ملايين البشر ويعبثوا بمصائرهم وخططهم وعلاقاتهم مع الدول والشعوب؟ لقد حرّك هؤلاء مظاهرات واقتحام سفارات أكثر من الاعتداء الإسرائيلي على الأقصى والاستيطان في القدس، وقصف بغداد وحلب.
أذكر أنه في “أزمة” رسام الكاريكاتير من الدنمارك، حرّك النظام السوري، وكان في فترة عزلة غربية، مظاهراتٍ ضد سفارة الدنمارك في دمشق. كانت هذه رسالة بأنه يمكنه العبث بمشاعر الجمهور المحشّد والمعبأ ضد رسوم الكاريكاتير، مثلما يمكنه ضبطها، تماماً مثل رسالته بالسماح للجهاديين بالتوجه إلى العراق المحتل بعد عام 2003.
الشعوب والحضارات الواثقة من نفسها لا يهزها رسم أو كلمة، ولا تعبث بمصير ناسها مجموعة أفراد قرّروا قتل صحافيين في باريس، ولا تبرمج مشاعرها أنظمة استبداد تحاول أن تجعل منها قطيعاً غاضباً، تتبلّد مشاعره بشأن عظائم الأمور.
العربي الجديد
اعتداء ضد حرية الصحافة… تهديد للمسلمين/ ألان غريش
صدم الاعتداء الذي وقع الأربعاء، 7 يناير/كانون ثاني في باريس، ضد المجلة الساخرة “شارلي إيبدو”، مع ارتفاع حصيلة ضحاياه إلى 12 قتيلاً على الأقل، الرأي العام الفرنسي والدولي. ما حصل ضربة لحرية الصحافة، وتهديد لكل من يجد نفسه، إن كان صحافيّاً أو ناشطاً ملتزماً، يقف ضد أي مجموعة من الرأي العام الوطني والدولي، بسبب مواقفه المختلفة. سيكون لأي حادث مماثل نتائج في فرنسا، ومن دون شك في أوروبا، عبر تعزيز خوف المواطنين الأوروبيين المسلمين، وتحويلهم كبش محرقة وأعداء.
لا نملك، حتى الساعة، معلومات عن خلفيات الاعتداء والمعتدين: هل يتعلق الأمر باعتداء غذّته مواقف المجلة التي سبق وتعرضت لتهديدات واعتداءات؟ هل هو اعتداء تقف وراءه مجموعات أجنبية، تنظيم الدولة الإسلامية أو القاعدة، من أجل “معاقبة” فرنسا على تورطها في العراق أو في مالي؟ ستحمل الأيام المقبلة توضيحات، ومن دون شك أجوبة، عن هذه التساؤلات. مهما يكن، لن يكون هناك أي تبرير لهذا العمل، مهما تكن الدوافع، أو المسؤولون أو المنفذون. لكن، ينبغي فهم السياق؛ لأن هذا الاعتداء قد يؤدي إلى ردود فعل خطرة داخل المجتمع الفرنسي.
منذ عقد على الأقل، لا تكف موجة الإسلاموفوبيا عن الازدياد والتجذّر داخل أوروبا. والدليل التظاهرات الأسبوعية في ألمانيا، والاعتداءات ضد المساجد في السويد، وضد الفتيات اللواتي يرتدين الحجاب الإسلامي في فرنسا. لقد أصبح الإسلام، بالنسبة لأغلبية من الفرنسيين، “تهديداً شاملاً” ضد “قيمنا” (أي القيم الغربية)، وضد السلام في الوقت عينه.
وبشكل متناقض، تعزز هذه الرؤية، في المقابل، تلك الخاصة بتنظيم الدولة الإسلامية أو المجموعات الأكثر تطرفاً التي تضع نفسها في سياق “صدام الحضارات” بين المسيحيين
“في خضم ما يسميه الغرب “الحرب ضد الإرهاب”، ينسى هذا الغرب أنّ ما يغذّي التطرف هو سياسة فعلية تمثلت في العقد الأخير في تدمير العراق، وسحق الشعب الفلسطيني، وهجمات الطائرات من دون طيار في اليمن والصومال التي أدت إلى عشرات الضحايا المدنيين”
واليهود من جهة، والمسلمين من جهة أخرى، حيث يتم تصوير هؤلاء باعتبارهم “موحدين” بسبب دينهم. تسمح هذه الرؤية بتجاهل الألف فارق الذي يفصل بين المسلمين أنفسهم، خصوصاً على المستوى السياسي: المواجهات بين السعودية والإخوان المسلمين مثل من بين أمثال عديدة. لا يؤسس الدين الإسلامي لخط سياسي واحد، حتى لو شكل الخلفية لخطاب ذي أساس سياسي. يمكننا، على سبيل المثال، قياس الفجوة التي تفصل بين حركة النهضة ومجموعة أنصار الشريعة في تونس لتبيان ذلك.
لكن، يعزز خطاب غربي معين، وخصوصاً السياسة الموجهة بشكل أساسي ضد الدول المسلمة- تركزت التدخلات الغربية، بشكل أساسي، في الدول المسلمة في العقد الأخير، يعزز الخيال القائل بإسلام سياسي تعود جذوره إلى القرآن، ويفسر العنف ضد “الكفار”. قال الرئيس الأميركي، جورج بوش الابن، بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، “يكرهوننا بسبب ما نحن عليه، وما نمثله من حرية وديمقراطية، وليس بسبب ما نفعله”. ورد عليه أسامة بن لادن بسخرية: “إذا كنا سنهاجم الدولة الأكثر ديمقراطية في العالم، سنهاجم السويد، وليس الولايات المتحدة الأميركية”.
في خضم ما يسميه الغرب “الحرب ضد الإرهاب”، ينسى هذا الغرب أنّ ما يغذّي التطرف هو سياسة فعلية تمثلت في العقد الأخير في تدمير العراق، وسحق الشعب الفلسطيني، وهجمات الطائرات من دون طيار في اليمن والصومال التي أدت إلى عشرات الضحايا المدنيين. اعترف وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، بهذا الأمر، حين قال، إنّ عدم حل القضية الفلسطينية تسبب في موت عشرات الأميركيين؛ لأنّ ذلك يغذي الحقد ضد القدر المكتوب لهذا الشعب.
ستكون هناك، دوماً، مجموعات متطرفة جاهزة للاعتداء على مدنيين. مواجهة هذه المجموعات تقع على عاتق الشرطة، وليس الجيش والتدخل العسكري. من أجل ضرب قوة هذه المجموعات، يجب على الدول الغربية أن تفرض بشكل أساسي على إسرائيل إنشاء دولة فلسطينية. كذلك عليها أن تسعى إلى مراجعة استراتيجيتها والدخول في نقاش حول أسس “الحرب ضد الإرهاب” التي أطلقتها الدول الغربية و”المجتمع الدولي”، بعد توسع تنظيم الدولة الإسلامية.
مع وضوح نتائج هذه الحملة (زيادة العنف حول العالم، تبرير الاعتداءات ضد الحريات، والتشريعات الجديدة المناهضة للإرهاب، وتفاقم التوترات المذهبية، والمزيد من التأييد للديكتاتوريات في الشرق الأوسط) ألم يحن الوقت للمراجعة؟ يجب التذكير، هنا، بأنّ موجة الربيع العربي في 2011-2012 أدت إلى تراجع نفوذ القاعدة وأفكارها المتطرفة؛ لأنّ الانتفاضات فتحت المجال أمام التحول السياسي والديمقراطي في الدول العربية. إذا أغلق هذا المجال الديمقراطي، لن يبقى سوى العنف.
إجرام لا دين له/ سلام الكواكبي
استهلّ الفرنسيون عامهم الجديد بمجزرة أودت بحياة 12 شخصاً، جلّهم من العاملين معلقين او رسامي كاريكاتور في صحيفة “شارلي إيبدو” الساخرة. وأقدم على ارتكاب الجريمة اثنان على الأقل من الفرنسيين من أصل مغاربي، كما أفادت تحقيقات أولية، لهما ارتباط بمجموعات إرهابية تنشط بمسميات دينية. وقد “تميّز” المجرمان ببرودة أعصاب تليق بالمحترفين، حيث تجلّى ذلك في عودة أحدهم، بعد بدء عملية الهروب من مسرح الجريمة، إلى الشرطي الجريح أحمد ليعالجه برصاصة في الرأس.
جريمة لا مثيل لدلالاتها في تاريخ فرنسا الحديث، ليس لعدد ضحاياها فحسب، بل لرمزية الهدف. فصميم بناء الجمهورية الحديثة في فرنسا قائم على مفهوم حرية الرأي والتعبير. ولم يسبق أن تعرّض العاملون في الحقل الإعلامي لعمل شبيه في بلدهم. وإن دفع صحافيون فرنسيون حياتهم في مواقع خارج الأرض الفرنسية في أثناء تغطياتهم أحداثاً دموية، أو نتيجة خطفهم من عصابات حاكمة أو ظلامية. كما أن غالب الملفات القضائية التي تُرفع في وجه بعض الإعلاميين من المستهدفين من تحقيقاتهم تنتهي في أروقة المحاكم ببراءة الإعلامي. وهذا ما حصل، فعلاً، مع إدارة تحرير هذه الأسبوعية الساخرة، عندما تقدمت جمعيات إسلامية فرنسية بدعاوى ضدها أمام القضاء سنة 2007، بعد أن أعادت نشر رسومٍ مسيئة لرموزٍ دينيةٍ. علماً بأن الصحيفة نفسها لم تتوان عن السخرية من كل المعتقدات السياسية والدينية، كما رموزها، ولم يسبق أن تعرضت لاحتجاج من أصحاب الديانات الأخرى. إلا أن بعض المسلمين، الذين نصّبوا أنفسهم “حماة” لدينٍ، إن هم اعتبروه كاملاً، فهو بالتأكيد، كما رموزه، ليسوا بحاجة إلى أفراد محمّلين بالضغينة والكبت، ليلوذوا عنه وعن ذاكرته وعن أفكاره.
على الرغم من أن الخطاب السياسي العام الذي ساد، في اليومين الماضيين في فرنسا، يدعو إلى التلاحم الوطني والتضامن مع الضحايا، ومع قضية حرية التعبير، مبتعداً عن الاستقطابات السياسوية التي يمكن لبعضهم أن يصطاد في مياهها العكرة، إلا أن أصواتاً متطرفة بدأت بإسماع صوتها، مع قليل من الوجل بداية، لكنها لم تلبث أن تحتّد وتتطرف أكثر في تعليقاتها. وكان أتفه ما عبّر عنها هو نائب الفرنسيين في الخارج الإسرائيلي/الفرنسي، مائير حبيب، الذي اعتبر ما حصل مرتبطاً باعتراف البرلمان الفرنسي بالدولة الفلسطينية، وبالتالي، تابع هذا النائب “الحاد الذكاء”، سيساهم هذا الموقف في “استيراد الصراع العربي/الاسرائيلي” إلى فرنسا، وهذه الجريمة بداياته. وفاجأت مارين لوبن، زعيمة اليمين المتطرف، الجميع بتصريح “معقول”، دعت فيه إلى الوقوف مع الحكومة في إجراءاتها الأمنية، وإلى عدم الوقوع في فخ المزج بين المسلمين في فرنسا ومن ارتكب هذه الجريمة. لكنها غمزت مع ذلك إلى موقفها من الهجرة ومن الأجانب بطريقة ناعمة للغاية.
ومقارنة بوقع أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 في المجتمع الأميركي، فإن العداء للأجانب وللمسلمين يمكن أن يتطور بطريقة مختلفة في الحالة الفرنسية. حيث إن تاريخ العنصرية
“تبعث متابعة كيفية معالجة عدد لا بأس به من وسائل الإعلام العربية للحدث على الاستغراب. فقد وصل الأمر بصحف، مثلاً، إلى أن وضعت في عناوينها كلمة الإرهاب بين معترضتين، للتنصل من تبني هذا التوصيف للعملية الإرهابية بامتياز”
الأميركية مرتبط بالسود أكثر منه ارتباطاً بأتباع دين ما، أو منطقة جغرافية محددة، وذلك نتيجة انعدام التراكمية الاستعمارية، بأبعادها الثقافية والأنثروبولوجية لدى الأميركيين. وقد تطور الأمر سلباً بعد أعمال القاعدة الإرهابية في ذلك العام. أما فرنسياً، فيبدو أن الوضع سيكون أصعب، نتيجة التركيب التاريخي الحديث للذاكرة الجمعية، لكن يقظة المجتمع المدني، كما قوة دولة القانون، يمكن لهما أن يُشكّلا سدّاً قوياً ضد الانحرافات المتوقعة كرد فعل ساذج بمختلف أنماطها.
في هذه الأثناء، تبعث متابعة كيفية معالجة عدد لا بأس به من وسائل الإعلام العربية للحدث على الاستغراب. فقد وصل الأمر بصحف، مثلاً، إلى أن وضعت في عناوينها كلمة الإرهاب بين معترضتين، للتنصل من تبني هذا التوصيف للعملية الإرهابية بامتياز. وكما أرفقت قنوات خبر بلازمة تبحث عن تبرير، بأن ذكّرت ورددت، بعبارات جوفاء، بأن هذه الصحيفة قد سبق وأن “أساءت لمعتقدات المسلمين”. وبالتالي، يكاد يقول المحرر إن ما وقع لها مبرر، ويكاد حتى أن يُثني عليه. وأسوأ من التعبيرات الإعلامية، نجد أن التعليقات التي خرجت بها وسائل التواصل الاجتماعية، وفيها مزيج من الشماتة والتشفي، تُشير لا ريب إلى مرض خطير يضرب أطنابه في مجتمعاتٍ، أوصلها الاستبداد السياسي والظلامية العقائدية إلى مستوى خطير من الانحدار الاخلاقي. فما من فارق يذكر بين من يبارك للدواعش قطع الأعناق ومن يرى في جريمة باريس “انتقاماً للنبي محمد”، كما ورد على لسان أحد القتلة في مسرح الجريمة.
حصلت المجزرة في أثناء اجتماع التحرير للعاملين في الصحيفة، للإعداد لعدد خاص عن العنصرية. ومن المعروف لمن يقرأ، ولا يتعلّق بالعواطف الكاذبة، أن الصحيفة نصيرة لقضايا كل المحرومين والمظلومين. فما أكثر الرسوم التي ساندت فيها القضية الفلسطينية ومقارعة الشعوب العربية المستبدين من مختلف النوعيات. وقد تصدر العدد الأخير، الذي كان معدّاً للتوزيع، رسم يسخر من كاتب فرنسي، صدرت له، في يوم المجزرة، رواية محمّلة بالرهاب من الإسلام اسمها “الخضوع”.
العربي الجديد