مقالات لكتاب سوريين تناولت الحرب على “داعش” والأوضاع في سورية
استراتيجية النظام والمعارضة/ فواز حداد
عمليات دحر الدولة الإسلامية عن العراق وسورية بدأت، طيران التحالف يقصف في البلدين مواقع “داعش”، بينما على الأرض يجري التصدي لها بالقوات المتوفرة من الجيش العراقي والأكراد، وفي سورية من قبل قوات النظام والمعارضة من دون إحداث متغيرات ملموسة على الأرض، فالاشتباكات ما زالت متواضعة، إن لم نقل هزيلة، بالأحرى لم تبدأ حتى في الحد الأدنى المرجو منها، بينما قوات “داعش” تتقدم بثبات على الأرض في طريقها الى احتلال عين العرب، أصبحت على مشارفها، توقعات المراقبين السيطرة عليها، وليس بالأمر السهل، الدفاع عنها مستميت، والجيش التركي على مقربة. هل يفعل شيئاً؟
ما بين صعود “داعش” والزمن القادم لانحسارها، جرى وسيجري الكثير. منذ ظهورها على خريطة الأحداث، وخلال صعودها، لا ينكر أحد أن الأطراف الذين استغلوا إبانها الحدث الداعشي، على أحسن وجه، قد كان على أسوا وجه بالنسبة لخصومهم. بالدرجة الأولى، النظام السوري الذي يصف نفسه بالعدو الأكبر للمنظمات الإرهابية. سابقاً لم يبخل بخدماته بمقابل وبلا مقابل قدمها للمخابرات الغربية. هذا النظام الذي تعيش على تطويع الإرهاب لاغراضه، ترك الدولة الاسلامية حديثة الظهور، تمارس ارهابها في الشمال ضد كتائب المعارضة المسلحة، ففخخت، وفجرت، وخطفت، وأعدمت، وقتلت، وقطعت الأيادي والرؤوس… واستولت على النفط. ما قامت به لا يشك في أنه الإرهاب بعينه. النظام لم يحرك ساكناً، كانت تخدم مصالحه، حتى أن بعض المحللين اعتقدوا أن هناك تنسيقاً بينهما. بالمقابل، عندما هاجمت “داعش” مطار الطبقة، واللواء 93، لم توفر فظاعة لم ترتكبها، المعارضة لم تحرك ساكناً، بصرف النظر إن كانت تستطيع أو لا تستطيع، جنود النظام، جنود سوريون، تركتهم لأقدارهم المميتة، سحق قوات النظام يخدمها، مع أنها عانت من إرهاب “داعش”.
هكذا هي الحرب لا ترحم، وهي في سورية، لم تتخلف عن وصفها هذا، سوى في تنويعاتها المحلية الطائفية الأشد مضاء، وهي خصيصة ببلاد الشام، تخفى وراءها صراع المصالح القذرة. قدمت أبشع مثال على الاخوة السوريين كيف بلغت بهم العداوة، ألا تتقاطع مصالحهم مؤقتا ضد عدو واحد، السبب معروف، الثقة معدومة بينهما، فبينما كانت “داعش” تقتل الناشطين السلميين، كان طيران النظام يلقي على الناشطين أنفسهم البراميل المتفجرة.
إذا أردنا أن نقلب صفحة مؤلمة، فصفحات مؤلمة أخرى بانتظارنا، فنحن موعودون بحرب طويلة الأمد، حسب محللين ومسؤولين دوليين، حرب تمتد إلى سنوات، وربما عقود. فجميع الأطراف لديهم أجندات وحسابات ومآرب، سيسعون إلى تصفيتها، لاسيما وان التكاليف الباهظة ستدفعها سورية والعراق، فالحرب واعدة بالتخلص من الإرهابيين، ومعهم الخلايا النائمة في العالم، والتي ستصحو وتنطلق إلى سورية أرض الجهاد المقدس.
إطالة الحرب ليس للقضاء على “داعش” بشكلها الحالي فقط، وبأشباهها، بل وبالأجيال التالية، هناك اليوم أطفال في العاشرة من أعمارهم في المخيمات، ينبغي قتلهم بعد ستة او سبع سنوات، إن لم يكن أقل، فهم سيحملون السلاح. استراتيجية مكافحة الإرهاب بعيدة المدى والنظر معاً. لذلك لا يستغرب أن دولاً من أقاصي الأرض ستنضم إلى التحالف، وإن لم يكن لديها مصالح آنية، فمصالحها المستقبلية تملي عليها المشاركة في قتال دولة الإسلام العظمى، ربما هددتها في العقود القادمة، عدا أن الإسلام نفسه لا يروق لها.
يضم تنظيم “داعش” عدة آلاف من المقاتلين، مهما تضاعفت أعدادهم، لا يبلغون تعداد جيش عربي واحد، لذلك يساهم الاعلام في تضخيم حجمهم، حتى تبدو الحرب الجارية والقادمة معقولة من حيث الجهد والتوازن، فالأمريكان الذين استدرجوا إلى الحرب، وأصبحوا وسطها، لا يكفون عن طلب المساندة. ما يشير إلى أن الأجندة الأمريكية، باتت تتجاوز قصة الارهاب إلى ترتيب المنطقة على نحو يضمن أمن إسرائيل من ارهاب العرب، الأمان الاسرائيلي سيشمل ليس المنطقة فقط، بل أبعد بكثير. وبالتالي نستطيع أن نفهم لماذا هذه الحرب مطاطة، فطولها أو قصرها متعلق بما يتحقق من الاستراتيجية الأمريكية. صحيح انها بدأت، لكن لا أحد يعرف متى ستنتهي، إذ أنها لم تتبلور بعد، لكي توضع نهاياتها في مجال التخمين.
المستغرب أن لدى الجميع أجنداتهم، أو ما يريدونه من هذه الحرب، عدا النظام والمعارضة، فالنظام ترك نفسه أسيراً لإيران وروسيا، لا يريد شيئاً سوى البقاء بأية وسيلة، ولو كان في عدم رحيله القضاء على الشعب السوري كله بالموت السريع أو البطيء. أما المعارضة، فأسيرة الأمريكان، هي أيضاً تريد البقاء بأي ثمن، لن تتوحد، ولو كانت خلافاتها المزمنة، ستؤدي إلى القضاء على الشعب السوري برمته.
كلاهما يراهن على المجهول، الجانب الواضح منه والجلي هو الدمار.
المدن
البر السوري في مواجهة الجيش التركي…/ لؤي حسين
لم تنتظر طهران إلى اليوم التالي ليتصل وزير خارجيتها بنظيره التركي محذراً أنقرة من أن قرار البرلمان التركي، الذي صدر بعد ظهر الخميس الماضي، والذي يجيز للجيش المشاركة بعمليات التحالف الأميركي العسكرية ضد «داعش» في العراق وسورية، يمكن أن يساهم في زيادة تفاقم الوضع في المنطقة، منوّهاً بأن على دول المنطقة أن تتعامل بمسؤولية تجاه ما يجري فيها من أحداث وألا تساهم في تعقيد الأوضاع.
لا شك في أن القرار التركي استحوذ على اهتمام وانتباه أكثر من طرف دولي، وأولهم النظام السوري. وعلى الأرجح ستكشف الأيام المقبلة عن ردود أفعال عدة. فقد تلقفته وسائل الإعلام باهتمام وتحليل، بخاصة بعد التردد التركي في المشاركة بعمليات التحالف الأميركي، وعدم الحماسة لأهداف هذا التحالف أساساً التي تقتصر على مواجهة «داعش» من دون المساس بالنظام السوري. ومع ذلك ميّز الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، مشاركة بلاده في التحالف عن بقية الدول الشريكة بأن تركيا ستحارب «داعش» و «الجماعات الإرهابية الأخرى في المنطقة» و «ستلتزم بهدفها وهو الإطاحة بنظام بشار الأسد».
غالبية التحليلات والقراءات اعتمدت على إمكانية، أو نية، التدخل البري العسكري التركي في سورية، مفسرة ذلك بافتقاد هذه الساحات قوات برية يمكنها أن تواجه قوات «داعش» كما العراق. أو لنيات تركية باحتلال قسم من الأراضي السورية بهدف عزل أكراد سورية عن أكراد تركيا والحيلولة دون أي إمكانية قيام دولة كردية شمال سورية.
هذه التحليلات تجد ما يدعمها في تصريحات أردوغان في الأيام الماضية عن مساعيه لإقامة منطقة عازلة في شمال سورية وإعادة مليون ونصف مليون لاجئ سوري إلى بلادهم. وبالتأكيد مثل هذا الأمر يتطلب حظراً جوياً لقوات النظام السوري في شمال البلاد. كما أن صيغة القرار التركي العامة والفضفاضة والتي لا تحدد شكل المعارك التي يمكن أن يخوضها الجيش التركي في العراق وسورية إن كانت برية أو جوية، ولا حجم هذه المشاركة، تفسح في المجال لتفسيرات من هذا النوع.
التدخل البري التركي المحتمل نظرياً مستبعد عملياً. فهذا الأمر ليس بمشيئة السلطات التركية، مهما كانت نياتها والفائدة التي ستجنيها منه. فقد اختارت أنقرة أن تكون مشاركتها في المعارك الآن، إن حصلت، ضمن عمليات قوات التحالف التي تستهدف «داعش» تحديداً، والتي تقودها واشنطن وتتحمل كامل مسؤولياتها، بل تحتكر كل مكاسبها إلا ما تشاء أن تتركه منها لحلفائها. وبالتالي، فأنقرة مقيّدة تماماً بالإرادة الأميركية في هذا الموضوع.
وكذلك الأمر لو أرادت أنقرة خوض معاركها الخاصة تحت مظلة التحالف الأميركي، فسيكون تدخلها حينذاك حرباً على سورية حتى لو لم تشتبك مع القوات النظامية السورية. وهذا الأمر سيشوش كثيراً على «شرعية» العمليات الأميركية في سورية، ولن يعود بأدنى فائدة على واشنطن التي تجد مكسبها الرئيس في سورية إلحاق الهزيمة بموسكو، وهذه الأخيرة ليست موجودة في شمال سورية بل في عاصمتها دمشق، وتحديداً في القصر الرئاسي، وبالتالي فعلى الأرجح ألا تسمح واشنطن بذلك.
الدول الكبرى في المنطقة، إضافة الى روسيا والصين، لن تسمح لتركيا بمثل هذه الإجراءات المتفردة. فلا إيران، التي أعلنت عن تحذيرها، ولا السعودية ستقبل بازدياد نفوذ تركيا أكثر، وبالتــــأكيد ستكون مصر في واجهة المواجـــهين لأنقرة في أي تدخل بري فـــي الأراضي السورية. لكن يبـــقى الأهم موقف ضابط أمن المنطقة، إسرائيل، التي لا يوجد ما يبرر قبولها بمثل هذا التوسع التـــركي الــذي ســيؤدي إلى الإخلال بموازين القـــوى الرئيسة في المنطقة وربما بتغييرات في الحدود الجغرافية بين تركيا وسورية. فإسرائيل لم تجد حتى اللحظة ما يضيرها في واقع حال الأمور في سورية، بخاصة في شمالها.
صحيح أن لكل واحدة من هذه الدول رؤيتها ومصالحها، أو مضارها، الخاصة من التوسع البري التركي، وعلى رغم تضارب مصالحها (كحال السعودية وإيران مثلاً) الذي سيحول دون وجود أي تنسيق أو تحالف بينها، سيكون من الصعب جداً على أنقرة أن تستفيد من هذا التعارض في المصالح.
لكن أنقرة ليست في وضع تحسد عليه. فمواجهتها «داعش» ستجعلها عرضة لعدائها. ولن يكون من الصعب على مقاتلي «داعش» الذين يأتون في غالبيتهم عبر الأراضي التركية، وينقلون أسلحتهم عبرها، ويبيعون نفطهم فيها، أن ينقلوا بعضاً من عملياتهم إلى مدنها وبلداتها. وفي المقابل، فعدم تصدي أنقرة لـ «داعش» سيجعلها عرضة للاتهامات بدعمها لها. وكذلك فترك أنقرة لقوات «داعش» الاستمرار في اعتدائها على أكراد سورية بدأ يستفز مواطنيها الأكراد ويهدد مفاوضاتها مع حزب العمال الكردستاني بالانهيار، كما هدد عبدالله أوجلان. وفي المقابل من كل هذا، فإنها تتلقى ضغوطاً أميركية وأوروبية شديدة لحضّها على التوقف عن ترددها ومشاركتها الفعلية في الحرب على «داعش».
ربما أمام كل هذا ستضطر أنقرة الى الاكتفاء بالسماح لقوات التحالف باستخدام قواعدها العسكرية، وبضبط حدودها أمام تنقل المقاتلين الأجانب، وبالتعاون الاستخباراتي «الصادق» مع الدول الغربية في ما يخص مواطنيهم المجاهدين في سورية، إضافة الى استمرار رئيسها، أردوغان، بإطلاق العبارات النارية، التي تحولت إلى دخانية مع مضي الوقت، في مواجهة بشار الأسد، على رغم أن هـــذا الموقـــف من الأســد بات يجيّره الرئيس التركي ليجعله ذريعة لعدم الانخراط الفعلي في عمليات التحالف، لإدراكه التام بأنه يستحيل على التحالف أن يستهدف نظام الأسد الآن في ظل الخطر الداعشي.
لا أهمية هنا لموقف النظام السوري الذي سيقبل بالمشاركة التركية في عمليات التحالف إن بقيت بحجم المشاركات العربية وشكلها، وسيندد بها إن تجاوزته. هذا على رغم أنه يعتبر أن أنقرة راعية الإرهاب في بلادها مثلها مثل الدول العربية الأخرى المشاركة في عمليات التحالف.
المعارضة السورية ستعلق الآمال العظيمة وتعيش على حلم كاذب بأن تقوم تركيا بما خذلتها به الولايات المتحدة من حظر جوي واحتلال لأراض سورية، على أمل أن يؤدي ذلك إلى صدام مع الجيش السوري يتسبب بتحطيمه وسقوط النظام وتسلّمها السلطة على طبق من فضة. وإلى أن تستجد ظروف لا نعرفها الآن، سيستمر المواطنون السوريون في التشرد واللجوء إلى كل البلاد المجاورة والبعيدة، ومن يبقى منهم داخل البلاد سيعيش ويلات السيارات المفخخة تستهدف مدارس الأطفال، أو البراميل المتفجرة تستهدف كل ذي روح وحياة.
وسيبقى رجال سورية المفترضون (ذكوراً أو إناثاً)، الذين يمكنهم أن يملأوا مقعد اللاعب السوري بين جميع هذه الأطراف الدولية، غائبين إلى ما شاء الله. أما «داعش» فستبقى، في المدى المنظور، الوحيدة ذات الأثر الفاعل في الساحة السورية، تتحرك على وقع خطاها بقية الأطراف الأخرى، الدولية والمحلية.
* رئيس تيار بناء الدولة السورية
الحياة
موقع أكراد سوريا في التحالف ضد داعش/ خورشيد دلي
سيناريو أكراد العراق
محاذير غربية
الاختبار على الأرض
مع تواصل الجهود الأميركية لاستكمال إستراتيجية الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) تتجه الأنظار إلى القوى الموجودة على الأرض لمحاربته في إطار الإستراتيجية الأميركية.
في سوريا تبدو قوات وحدات حماية الشعب الكردية المعروفة بـ”ي ب ك” هي القوة الوحيدة التي لها سجل موثوق في الحرب ضد هذا التنظيم، إذ خاضت هذه القوات خلال السنتين الماضيتين مواجهات شرسة مع مقاتلي داعش في مناطق متفرقة في ما يعرف بكردستان الغربية أي المناطق الكردية في سوريا.
ولعل من أهم هذه المواجهات تلك التي جرت في رأس العين (سري كانيه) وجزعة وتل حميس وتل معروف ومعبر ربيعة المعروف بـ”تل كوجر” على الحدود السورية-العراقية، حيث يكتسب التنظيم يوما بعد آخر المزيد من القدرات والنفوذ والقوة والشعبية في المناطق الكردية السورية.
سيناريو أكراد العراق
في العمق يشعر أكراد سوريا -وتحديدا حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي والقوات العسكرية المنضوية تحت رايته (ي ب ك، والأساييش)- بازدواجية المعايير الغربية في التعامل معهم، ولعلهم يتساءلون لماذا يندفع الغرب لدعم ومساندة إخوانهم من أكراد العراق في مواجهة داعش، في حين لا يتوافر مثل هذا الدعم لهم رغم أنهم أثبتوا جدارتهم في مواجهة التنظيم؟
وعليه، ربما يطمح هؤلاء إلى تكرار سيناريو الدعم الغربي لأكراد العراق من خلال إثبات جدارتهم في المعارك الجارية وإبداء الاستعداد للتعامل مع التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن والانفتاح على قوى المعارضة السورية، أملا في الحصول على سلاح متطور يقوي من دورهم في التطورات الجارية ويجلب لهم المزيد من الاعتراف المحلي والإقليمي والدولي.
ترى قوات وحدات الحماية الشعبية الكردية أن ما جرى في سنجار ضد الإيزيديين، والدور الذي لعبه التنظيم في إجلاء آلاف الإيزيديين فتحا صفحة جديدة في العلاقة مع القوى الغربية ولا سيما الولايات المتحدة، حيث للمرة الأولى جرى لقاء علني بين الجانبين في سنجار خلال عمليات إجلاء الإيزيديين رغم أن التنظيم يعد الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني المصنف في لائحة الإرهاب.
ويبدو أن تأكيد وزير الخارجية الأميركية جون كيري على ضرورة دعم القوى المحلية على الأرض المستعدة للعمل ضد داعش زاد من آمال أكراد سوريا بالمزيد من الانفتاح الغربي عليهم والحصول على المساعدات التي يتمنونها.
وأبعد من خطوة الحصول على الدعم الغربي فإن أكراد سوريا وتحديدا حزب الاتحاد الديمقراطي يأملون من مثل هذا الانفتاح بتحقيق جملة من الأهداف، لعل أهمها:
1- تحسين حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي لصورته في الداخل والخارج في ظل الاتهامات الكثيرة الموجهة له، مما يعزز من نفوذه ويكرسه قوة مهيمنة بالمناطق الكردية في سوريا.
2 – جلب اعتراف دولي بالحقوق القومية الكردية في سوريا، خاصة أن الحزب أعلن منذ أكثر من سنة عن مشروع الإدارة الذاتية الذي قام على إقامة ثلاثة كانتوتات في الجزيرة وعفرين وكوباني (عين العرب) كشكل من أشكال الحكم المحلي، حيث تواجه هذه الإدارة صعوبات وتحديات كثيرة بسبب الحصار والظروف الحياتية الصعبة، فضلا عن الوضع الأمني المتفجر.
3- من شأن هذا الدعم جعل القضية الكردية في سوريا على طاولة المشهد السياسي السوري المستقبلي وضرورة إقرارها في أي حل للأزمة مستقبلا. ومن دون شك يدرك أكراد سوريا أن آمالهم هذه لا يمكن أن تتحقق من دون ثمن، ورغم أن الثمن معروف، وهو القيام بدور أساسي في الحرب ضد داعش على الأرض، ورغم أن هذا الأمر متحقق من قبل فإن تقديم الغرب الدعم لهم يواجه عقبات كثيرة.
محاذير غربية
ثمة شكوك غربية كثيرة بشأن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي يسيطر على المناطق الكردية، وتنبثق هذه الشكوك من جملة محاذير وأسباب، لعل أهمها:
1- الحديث عن علاقة سرية بين الحزب والنظام السوري، ووجود تنسيق بين الجانبين تجلى في إخلاء النظام العديد من مواقعه ومقاره في المناطق الكردية وسيطرة الحزب عليها دون صدام أو مواجهة.
2- يعد الحزب في الأساس الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني بقيادة عبد الله أوجلان المعتقل في تركيا منذ 15 عاما، وهو المصنف في قائمة الإرهاب.
وعليه، فإن أي دعم غربي لأكراد سوريا يواجه برفض تركي لأسباب تتجاوز الأزمة السورية إلى السياسة التركية تجاه القضية الكردية في عموم المنطقة والصراع الجاري مع حزب العمال الكردستاني، وخوف تركيا الدفين من ولادة إقليم كردي ثان على حدودها الجنوبية، مما يلهب حماس أكراد تركيا برفع سقف مطالبهم في تركيا، حيث تتقدم عملية السلام بين الجانبين ببطء وحذر شديدين.
3 – العلاقة المتوترة بين حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وباقي فصائل المعارضة السورية السياسية والعسكرية بما في ذلك الائتلاف الوطني والجيش الحر، حيث جرت مواجهات بين الجانبين في أكثر من ساحة ومكان خلال الفترة الماضية.
4- العلاقة المتوترة بين مجلس غرب كردستان الذي ينضوي فيه حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وبين أحزاب المجلس الوطني الكردي الذي يتخذ من أربيل مقرا ومرجعية له، حيث يشكو الأخير من احتكار مجلس غرب كردستان ساحة أكراد سوريا وفرض نفوذه بالقوة، فيما يقول الأخير إن النضال لا يكون من خلال فنادق أربيل وعن بعد، وإنما بالعمل المضني على الأرض وتقديم التضحيات.
هذا فضلا عن أنه يشكو من محاولة فرض أربيل الوصاية على أكراد سوريا في إطار التنافس التاريخي بين الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني وحزب العمال الكردستاني بزعامة أوجلان.
دون شك، هذه الأسباب تشكل محاذير غربية في التعامل مع قوات وحدات الحماية الشعب الكردية، وعليه تنظر واشنطن بعين الريبة والشك في التعامل مع هذه القوات رغم خبرتها القتالية الناجحة نسبيا في مواجهة داعش والتي نجحت حتى الآن في حماية المناطق الكردية السورية من الوقوع تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية.
لكن رغم المحاذير والريبة الأميركية فإنه من الواضح أن واشنطن -خاصة بعد إشارتها إلى دعم القوى المحلية على الأرض- باتت تنظر إلى أكراد سوريا كحليف جيوسياسي يمكن لهم أن يلعبوا دورا فاعلا على غرار أكراد العراق في إطار إستراتيجيتها لمحاربة داعش، خاصة أن التطورات الجارية أفرزت شكلا من أشكال التعاون أو التحالف بينهم وبين قوى المعارضة السورية التي تصفها واشنطن بالمعتدلة وتسعى إلى تشكيلها في جبهة واسعة، سواء لمحاربة داعش أو النظام.
الاختبار على الأرض
بانتظار استكمال الإستراتيجية الأميركية ضد داعش في سوريا وشكل التحرك العسكري ضده وتهيئة القوى التي ستقوم بتنفيذ هذه الإستراتيجية على الأرض، من الواضح أن قطار التحالفات بين القوى المقاتلة على الأرض السورية تحرك باتجاه تشكيل جبهة مقبولة غربيا لتكون مصدر ثقة يمكن الاعتماد عليها.
ولعل التطور الأسرع والأبرز هنا هو الإعلان عن تشكيل أوسع تحالف بين الأكراد والعديد من الفصائل المقاتلة في شمال سوريا باسم “غرفة عمليات بركان الفرات”، وهو تحالف ضم قوات وحدات حماية الشعب الكردية والعديد من الكتائب التابعة للجيش الحر وغيره من الفصائل المسلحة لمحاربة داعش في الريف الشمالي لحلب ومحافظة الرقة.
وإذا كان هذا الإعلان يشكل تحولا لافتا في علاقة الأكراد بالفصائل المسلحة فإن التوقيت يحمل رسائل سياسية غير بعيدة عن الجهود التي تبذلها واشنطن في تشكيل التحالف الجاري ضد داعش والقوى التي ستتحرك ضده على الأرض.
وإذا كانت رسالة التحالف الجديد لواشنطن هي أنه يمكن الرهان عليه في تنفيذ الإستراتيجية الأميركية فإن الأمر بالنسبة للأكراد يحمل رسائل كثيرة، أولاها: تأكيد عدم صحة الحديث عن أنهم في تحالف غير معلن مع النظام ضد القوى المطالبة بإسقاطه.
وثانيتها: أن أكراد سوريا ينطلقون في كفاحهم من أجل نيل حقوقهم القومية من معادلة وطنية سورية، وأنهم على استعداد للعمل المشترك مع باقي القوى السورية لبناء سوريا جديدة يكون فيها اعتراف بهذه الحقوق.
وثالثتها: رسالة إلى الغرب وحتى تركيا بضرورة تصحيح النظرة المسبقة وغير الدقيقة عن طبيعة الحركة الكردية وارتباطاتها، وبالتالي تطلعاتها وما يترتب على ذلك من نظرة جديدة. في النهاية، ربما يعتقد أكراد سوريا أنه رغم كل التحفظات الغربية على دعمهم عسكريا فإن موقعهم الجغرافي وخبرتهم القتالية ضد داعش واستعدادهم للمزيد وغياب قوى يمكن الاعتماد عليها كلها أسباب كفيلة بجعلهم شريكا موثوقا في التحالف الجاري، وبما تفضي الأحداث إلى نوع من الاعتراف الدولي والمحلي بقضيتهم.
الجزيرة نت
ليس للكردي إلا…؟/ عمر قدور
يكرر نشطاء ومثقفون أكراد عنوان قصيدة محمود درويش “ليس للكردي إلا الريح”، في مناسبة هجوم داعش على كوباني “عين العرب” ونزوح ما يقارب المئتي ألف منها عابرين الحدود إلى تركيا المجاورة. لكن عبارة درويش الشاعرية، والتي يبدو أنها تلائم جيداً المظلومية التاريخية الكردية، ليست قدراً كما يُراد اليوم من استذكارها، إذ لا يمكن القول بأن أكراد كردستان العراق ليس لهم إلا الريح بعد أن بات لهم ما يشبه الدولة المستقلة فعلاً. ولا يمكن إطلاق العبارة على أكراد تركيا، الذين يُرجح ألا يعرف معظمهم محمود درويش أو عبارته؛ أكراد تركيا الذين دخلوا في عملية سياسية داخلية مع الحكومة، صعبة بعض الشيء لكنها تسير بثبات ولا خط رجعة عنها من قبل الطرفين.
منذ عقد على الأقل، صار الافتراق الكردي واضحاً. أكراد العراق أصبح لهم واقع دستوري مكرّس، بعد إطاحة صدام بالتحالف الدولي الذي قادته إدارة جورج بوش، وقبل ذلك كانت حماية كردستان العراق بالحظر الجوي الدولي قد أوجدت على الأرض واقعاً سياسياً يتمثل بالسلطة الفعلية للأكراد. الفيتو التركي، بحسب ما أُشيع آنذاك، هو الذي منع قيام دولة كردية مستقلة، ما أبقى كردستان بمثابة إقليم يخضع للحكومة العراقية دستورياً، لكنه يتمتع بما هو أعلى من الفيدرالية عملياً. أيضاً، الفيتو التركي رُفع في ما بعد لصالح علاقات حسن جوار بين تركيا والحكومة الكردية، بخاصة عندما أثبتت الأخيرة حسن النوايا ولم تتدخل في شؤون أكراد تركيا، بل كانت على الدوام على جفاء مع حزب العمال الذي يقاتل في تركيا، بحيث تم تحييد مقاتليه في بقعة صغيرة في جبال قنديل. في الوقت ذاته، كان تطلّع الحكومة التركية إلى مقعد في الاتحاد الأوروبي يفرض عليها حلولاً ديمقراطية في الداخل، وفي مقدمها حل القضية الكردية في أكبر مواقعها ثقلاً من حيث الوجود الديموغرافي، فأتى إعلان عبد الله أوجلان إنهاء الكفاح المسلح، في عيد النيروز 2013، بالتوافق مع الحكومة التركية والرؤية التركية المستجدة لغالبية الأحزاب وللدولة العميقة متمثلة بقيادة الجيش. لكن إعلان أوجلان أتى أيضاً متوافقاً مع تيار عريض من أكراد تركيا أنفسهم، أي أولئك الذين لا يضعون الانفصال كحل وحيد للقضية الكردية في تركيا، بل يرى قسم لا بأس به منهم أن البقاء في تركيا أوروبية على قاعدة اللامركزية أهم من الانفصال عنها.
على المقلب السوري، قد يصحّ القول بأن الأكراد وقعوا ضحية التحاقهم بأكراد العراق ومن ثم أكراد تركيا. فالأحزاب الكردية التقليدية بقيت حتى منتصف ثمانينات القرن الماضي ترتبط عاطفياً بكردستان العراق، وكانت شخصية الملا مصطفى البارزاني مصدر إلهام قومي لها. يُشار هنا إلى أن نضال الملا خلال حياته توزع بين كردستان إيران وكردستان العراق، وكان رئيس أركان جمهورية مهاباد قصيرة العمر، قبل عودته لقيادة الحركة الكردية في العراق. إرث البارزاني العابر للحدود كان الملهم الأكبر قبل مجيء حزب العمال وانتشاره في الأوساط الكردية السورية. ومع أن الأيديولوجيا النظرية لحزب العمال عابرة للحدود أيضاً، إلا أن تطبيقها العملي اقتصر على الكفاح المسلح في تركيا فحسب. وطوال عقدين تقريباً كان آلاف المتطوعين من أكراد سوريا يذهبون إلى القتال في تركيا، من أجل القضية الكردية في تركيا، وعلى أمل أن يكون الانتصار هناك مقدمة لإنشاء دولة كردستان الكبرى. بالطبع ثمة مسببات داخلية للتطلع الكردي إلى الخارج، فالأيديولوجيا البعثية التي حكمت سوريا كان لا بد لها أن تنمّي شعوراً قومياً موازياً لدى الأكراد، والمعارضة السورية كانت لمدة عقود بعيدة تماماً عن الهم الكردي، أو بالأحرى متجاهلة له تماماً. الانفتاح البسيط بين الطرفين، الذي أعقب الانتفاضة الكردية عام 2004، لم يؤسس لتعاون وطيد، وعلاقة المعارضة الوثيقة بحكومة أردوغان بعد الثورة قوبلت بتحفظات كردية عميقة، وحتى بعداء تجاه المعارضة ككل.
ما هو مستغرب أنه في الوقت الذي كان فيه حزب العمال التركي يفاوض حكومة أردوغان، ويعلن نهاية حقبة الكفاح المسلح، بقي فرعه السوري وأنصاره شديدي العداء لتركيا. وأتت مناسبة حصار كوباني من قبل داعش لتظهر النقمة العارمة على الحكومة التركية باتهامها بالوقوف وراء الحصار ووراء تهجير الأكراد، مع أنها أكثر من تحمّل تبعات نزوحهم. الإشارة إلى النظام الذي تخلى عن كوباني غابت تماماً، على رغم أنه تخلى عنها طوعاً قبل سنتين لصالح الفرع السوري من حزب العمال، ولم يظهر أدنى اكتراث بمصيرها تحت حصار داعش. الأصوات الكردية التي خرجت بالعتاب تجاه الأشقاء في العراق وتركيا بقيت خجولة وقليلة قياساً إلى الأصوات المنددة بتركيا وبالتحالف الدولي وبالمعارضة السورية. المرارة التي ردّدها النشطاء في عبارة “ليس للكردي إلا الريح” ربما تعبّر عن واقع الإحساس بالمظلومية
الحالية، لكنها تخفي الأسباب المديدة التي أوصلت إلى العزلة الحالية، وفي طليعتها عدم الانتباه لتطورات الملفّين الكرديين في العراق وتركيا. ربما صار ملحاً لأكراد سوريا الاستقلال عن أشقائهم في الخارج، كشرط ضروري، إذا كانوا يسعون إلى تقرير مصيرهم بأنفسهم.
المدن
أميركا والأدوار المتغيّرة/ ميشيل كيلو
من المحال أن تدخل دولة، في قوة أميركا وتأثيرها، إلى صراع من دون أن تغيّر أدوار المشاركين فيه. وبالفعل، فقد بدأنا نلمس مظاهر تغيير الأدوار الذي أنتجه دخول واشنطن إلى الصراع، من باب الحرب ضد الإرهاب، وتبدّت أولى علاماته في انتقال بلدان عربية وإقليمية إلى تبني خيار الحرب ضد “داعش” أولوية سياسية وعسكرية ألزمت نفسها بها، وشرعت تسهم في تطبيقها بواسطة قواتها المسلحة.
لو أخذنا هذا التغيير على المستوى الدولي، لوجدنا أن الدور الروسي بدأ ينكمش، وينتقل من المجابهة غير المباشرة إلى النصح الحريص الذي يذكّر بالقانون الدولي، وينبّه إلى خطورة انفراد دولةٍ بإقامة تحالفٍ يسير على نهجها في موقفه من الإرهاب وقضايا المنطقة، كأن الدبلوماسية الروسية رأت مصلحتها في اتخاذ موقف ترقّب سلبي متخوّف، بعدما عزلتها أميركا عن التحالف الدولي، وضعف تأثيرها في الموقف الدولي، باستخدام حق النقض في مجلس الأمن، وجرى تحييدها، بعدما انتقلت واشنطن إلى التدخل العسكري المباشر، دونما حاجة إلى قرار دولي خاص، مستغلّةً، ربما، قرار مجلس الأمن حول منع انتقال الإرهابيين للقتال في بلدان أخرى.
أما تركيا، فقد وقع تغيير كبير في موقفها، نقلها من المساندة المتحفّظة إلى الانخراط المباشر والإيجابي في الصراع، تحقيقاً لاستراتيجيةٍ قد تعيد صياغة المنطقة دولاً وعلاقات، يمر تطبيقها بإسقاط الأسد، الذي ترى فيه أولوية ملزمة، بعكس أميركا التي وضعت القضية السورية في البراد إلى إشعار آخر، وكذلك إيران التي يريد أردوغان إخراجها من حدود بلاده الجنوبية. تركيا مستعجلة، وأميركا ترفض الاستعجال، وهنا مكمن المشكلة التي ستحلّ، بالتأكيد، عندما يكون هناك توافق حول الحل ونمطه وموعده.
في المقابل، اندفعت إيران إلى جنوب الجزيرة العربية، إلى اليمن، للتعويض عن خسارتها، اليوم، في العراق، وغداً في سورية ولبنان، في حال قرر الأميركيون إخراج الأسد من السلطة، وفرض حل جنيف السياسي على نظامه. لتغطية خسارتها في العراق، بدأت التنظيمات العسكرية الإيرانية تطلق تصريحاتٍ تظهر تصميمها على المواجهة، وأخذ ممثلوها يتحدثون، صراحة، عن مشاريعهم المستقبلية العدائية ضد بلدان الخليج، بينما انخرط كبار الملالي في التهديد والوعيد، لرفع روح أهل النظام المعنوية، التي يبدو أنها تضعضعت بعد فشل النظام الاسدي في كسر شوكة الثورة، على الرغم ممّا قدمته بلادهم له من دعمٍ وصل إلى حد غزو جيشها ومرتزقتها اللبنانيين سورية، وبعد دخول أميركا القوي إلى العراق، وأخذها زمام المبادرة في إقامة سلطةٍ ترفضها طهران، المتوجسة من عودة “الشيطان الأكبر” إلى حدودها البرية، بينما يجوب أسطوله البحري مياهها الإقليمية. في هذا السياق، صدرت تصريحات مضحكة عن مسؤولي طهران، تزعم أن قائد فيلق القدس الإيراني، قاسم سليماني، هو الذي حال دون سقوط بغداد بيد داعش، مع سبعين جندياً من الحرس الثوري، وأن أسطول إيران ينشط قباله نيويورك.. إلخ، بينما أعلن الحرس الثوري، لأول مرة، عن مشاركته المباشرة في القتال إلى جانب نظام الأسد، واعترف بتشييع خمسة جنود سقطوا قرب دمشق. هل يؤدي التهديد الكلامي إلى إنقاذ الأسد والدور الإيراني في سورية، بعدما يتطور الموقف الأميركي إلى حدّ الصدام مع الأسد وجيشه، في حال رفض التنحي وتمرير حل سياسي ينقذ ما سيكون باقياً من جماعة النظام؟
بدورها، بدأت أوروبا تشارك بفاعلية في صراع مسلح لطالما نأت بنفسها عنه، بالنأي عن دور خاص، أو مستقل، أو قتالي، في المسألة السورية.
ويشارك الخليج، بقواه العسكرية المباشرة، في مقاتلة الارهاب، في خطوة استثنائيةٍ بكل المعايير، سواء في ما يتصل بأثرها على أوضاعه الداخلية، أم على مسائل المنطقة وقضاياها عموماً، والمشرق خصوصاً. هذه المشاركة تقوم على رؤيةٍ تعتبر الحرب ضد الإرهاب مصيرية، والفرصة المتاحة دولياً لقهره حاسمة. وهي تعكس تغيّراً مفصليّاً في سياساتها ستكون له نتائج بعيدة المدى على مجمل أوضاع المنطقة العربية التي يبدو أن قيادات الخليج صمّمت على حمايتها من ألاعيب مذهبيين متطرفين، داخلها وخارجها، نبتوا على شجرة الثورة الإيرانية المسمومة الثمار.
سيعيد الأسد النظر في حساباته من الحرب ضد الإرهاب، من الآن فصاعداً، لأن أطرافاً في نظامه قد تعيد النظر في حساباتها، بينما يعتبر تدريب الجيش الحر وتسليحه رسالة تقول إن هزيمة الثورة ممنوعة، لأنها غدت شريك التحالف الدولي، وعضواً فيه. سيلتفت الأسد، أكثر من أي وقت مضى، إلى وضعه الداخلي، بما أن ضربات التحالف قد تنجح في رد القضية السورية إلى حقيقتها الأصلية، كنضال شعبٍ يريد إسقاط نظام مجرم سلبه حقوقه، حالف الأصولية والإرهاب، ليحرف ثورة عن غايتها، ويشوّه هويتها كثورة حرية سلمية.
باستعادة صورة الثورة الأولى، بعد قرابة أربعة أعوام من العمل المنظّم للقضاء عليها، وبتبدّل توازنات القوى على صعيد المنطقة، سيتغيّر وضع النظام، وسيجد نفسه مجبراً على قبول خيارٍ لطالما رفضه، هو الحل السياسي الذي يضمر إمكانية نقل سورية تدريجياً إلى الديمقراطية، أي إلى حقبة ما بعد الأسدية والبعث.
بقي طرفٌ تمسّ الحاجة بشدّة إلى تغيير دوره، هو المعارضة السورية عامة والائتلاف بصورة خاصة. لا بدّ أن يخرج الائتلاف من انقساماته، وخلافاته، وحسابات قياداته الشخصية والضيّقة، وأن يعيد النظر في أولوياته، ويرفض المال السياسي والعقليات الفردية والمطابخية، ويعطي مقاتلي ومناضلي الأرض حقهم من التمثيل والقرار، ويستعيد القرار الوطني السوري، لكي يتمكن من تلبية مطالب الشعب في أي حل سياسي، ولا مفرّ من أن يعمل كـ”جسديّة” واحدة، وكمؤسسة عمل وطني.
ليس ما نراه، إلى اليوم، هو كل سياسة أميركا والتحالف. إذا كنّا نريد أن يذهب التطوّر إلى ما بعد الأسد، يكون علينا القيام بالخطوات الضرورية في الاتجاه الذي طال انتظاره. ألم تثبت سنوات الثورة الماضية أن انتصارنا مستحيل، إذا لم يشمل التغيير أوضاعنا الكارثية؟
العربي الجديد
العجَلة الأميركية والمصلحة السورية/ حازم نهار
ظل الطموح الأكبر للنظام السوري، قبل الثورة وبعدها، يتلخص في أن تقبله الولايات المتحدة “جنديًا مخلصًا” في معركة “مكافحة الإرهاب”، لإدراكه أنها الجهة الوحيدة التي يمكنها، إن أرادت، أن تزعزع استقراره واستمراره، فيما بقية الدول لا يعول عليها في هذا الشأن، وهي للأمانة رؤية سياسية صائبة. لذلك، اعتمدت بوصلته السياسية، في أثناء الثورة، بشكل رئيسي على التقاط التوجهات الأميركية، ومعرفة سياسة الإدارة الأميركية الحالية ونياتها وخططها، وضمنًا المواقف والسياسات الإسرائيلية، إزاء ما يحدث في المنطقة، ومنها سورية.
بقية دول العالم ما تزال تلعب دورها بيادق متفاوتة القدرة، لها وظائف معينة، وحدود لا تستطيع تجاوزها، حتى وإن ظهر أنها تتمتع ببعض القوة، كإيران وروسيا وأوروبا والصين، فهي، في العموم، تلعب في الوقت الضائع، أي عندما تريد السياسة الأميركية لها أن تلعب في غيابها. فقد تغطت أميركا بالفيتو المزدوج، الروسي والصيني، مرات، ضد إدانة النظام السوري. لكنها، في الحقيقة، لم تكن تريد التدخل، وطمحت إلى وصول الوضع في سورية إلى حالةٍ من التفسخ على المستويات كافة. المهم، هنا، أن حماقة النظام السوري باستجلاب جميع أنواع التدخل، إن كان المليشيات الطائفية الموالية له في لبنان والعراق، أو الجماعات المتطرفة التي جاءت من جميع بقاع الأرض، هي التي أرغمت أميركا غير الراغبة في التدخل على العودة إلى المنطقة، من بوابة مكافحة الإرهاب.
لم يكن في نية الولايات المتحدة، لا قبل الثورة ولا بعدها، تغيير النظام السوري، فهي أدرى الناس به، وبخدماته الجليلة لها في السر، وبالتفاهمات المباشرة وغير المباشرة معه، خصوصاً ما يتعلق بحفظ أمن إسرائيل وحدودها. كذلك، لم تكن الدول الأخرى راغبة في تغيير النظام. بل على العكس، كانت، مثلًا، العلاقات السورية التركية، والعلاقات السورية القطرية في أوج ازدهارها، إنْ على صعيد التفاهمات السياسية، أو المصالح والشراكات الاقتصادية. وهنا نذكر كيف فشلت المحاولات القطرية والتركية في إقناع النظام بإجراء تغييرات سياسية واستيعاب الاحتجاجات الشعبية. أما السعودية، فإنها لم تعلن عن مواقف حادة تجاه النظام السوري، إلا في منتصف عام 2012. في حين كانت مواقفها، قبل ذلك، تتلخص في دعوة النظام السوري إلى الإصلاح. أما دولة الإمارات فكانت، ولا تزال، أقرب إلى النظام السوري. على العموم، كانت دول الخليج أحد مقومات استمرار النظام السوري. وثمة الكثير مما يمكن قوله، هنا، في مجال المساعدات المالية التي كانت تصب في جيوب الطبقة الحاكمة في سورية في المآل. هذا يعني أن حماقة النظام السوري، التي فاقت كل تصور، هي التي أجبرت الدول السابقة على السير في طريق لا تريدها، وكانت تأمل غيرها، انسجامًا مع استقرارها ومصالحها. لم تفهم المعارضة السورية المعادلة القائمة بين أميركا والنظام السوري، ولا تزال مصرة على عدم الفهم. فعندما لا تبدأ العجلة الأميركية بالدوران، لا شيء سيدور أو سيتغير، إلا بنسب طفيفة، لا تغير من المعادلات القائمة في الواقع، بما يبقي حصيلتها العامة صفرية. وسواء التي كانت تصرخ مطالبةً بالتدخل العسكري، أو التي رفعت صوتها بالوقوف ضد هذا التدخل، فإنهما معًا، كانتا تقرّان، ضمنيًا على الأقل، بأن التدخل العسكري الأميركي ضد النظام السوري أمر وارد. كما لم تدرك تلك المعارضة المطالبة بالتدخل أن أميركا عندما تريد التدخل، فإنها تتدخل لأسباب أميركية، لا سورية. في ما بعد، ظهر نفاق سياسي كبير عند جميع الجهات المعارضة فيما يتعلق بمسألة التدخل الخارجي، فكل جهةٍ كانت تريد تدخلًا محددًا دون غيره، لأسباب سياسية أو أيديولوجية أو دينية أو مذهبية.
كان يمكن، ببساطة، قراءة محددات السياسة الأميركية في عهد إدارة أوباما، منذ بدايات الثورة السورية. بشكل عام: هناك إدارة أميركية جديدة، يقوم برنامجها على الاهتمام بالاقتصاد الأميركي، وسحب القوات الأميركية من العراق وأفغانستان، والكف عن إرسال الجيش الأميركي إلى مناطق مختلفة في العالم. وبشكل خاص: تكاد تكون سورية خالية من أي تأثير اقتصادي على المصالح الأميركية، وهي بلد شبيه بالعراق، من حيث التركيبة السكانية والتكسرات المجتمعية والدينية والمذهبية، بما يمكن أن يسمح بتكرار الكارثة العراقية، وهناك بجانبه دولة هشة، اسمها لبنان، يمكن أن تنهار في لحظات، ودولة أخرى مصنّعة ضعيفة هي الأردن، وهناك العراق الذي دخل في دوامة العنف، بما يعني أن حدوث فوضى في المنطقة عند التدخل أمر محتمل بشكل كبير. فضلًا عن أن سورية ورقة جيدة لمساومة إيران على برنامجها النووي وسياساتها الأخرى. وأخيرًا، هناك المصلحة الإسرائيلية الدافعة باتجاه ترك سورية تسير باتجاه الاهتراء والتفسخ.
بعد ستة أشهر على انطلاق الثورة السورية، بدأت الأمور تخرج عن دائرة فعل السوريين، لتدخل في إطار إقليمي دولي. والسبب الرئيسي في ذلك هو النظام السوري. وهنا، في ظل هشاشة المعارضة السياسية، فكريًا وسياسيًا وتنظيميًا، من جهة، وفي ظل تحليل سياسي صائب يقوم على عدم توقع موقف أميركي جوهري للأسباب السابقة، كان من الطبيعي توقع أن أداء المعارضة، برمته، سيكون هامشيًا في الثورة وفي مسار الحوادث، وأنها سائرة لا محالة في اتجاه التفسخ والتشظي، وهذا كان أمرًا معلومًا ومؤكدًا لدى النظام السوري.
اليوم، بدأت العجلة الأميركية في الدوران بحذر، لأجل مصلحة أميركية محددة، هي مكافحة الإرهاب، فعلى الرغم من تحول مكافحة الإرهاب إلى ذريعة أميركية تبتز بها الدول، إلا أن ذلك لا ينفي حقيقة الخوف الأميركي من ظاهرة الإرهاب، الأمر الذي يفسر وضع مكافحته أحد مرتكزات السياسة الخارجية الأميركية.
لكن، لا أحد يستطيع بعد التكهن بالمدى الذي ستصل إليه السياسة الأميركية في معركتها الحالية، وإلى أي حد ومتى ستتقاطع المصلحة الأميركية مع مصلحة السوريين في بناء دولة وطنية موحدة، فالطريق ما تزال طويلة وملبدة بأنواع مختلفة من الحفر. بالطبع، ليست أميركا كلية القدرة، وهناك ما يمكن أن يحد من دورها وسياساتها. لكن، في الحقيقة ما يمكن أن يفرض نفسه عليها بشكل أساسي هو إرادة الشعوب، وطالما لا يوجد اليوم إرادة سورية شعبية عامة وواضحة، فإن الحلول المطروحة كافة ستكون إما لا قيمة لها، أو ليست في مصلحة الشعب السوري.
بالنسبة للسوريين، يمكن اختصار الطريق فعلًا، والشرط الأساسي هنا هو الوعي، وخصوصاً وعي النخب والقوى السياسية والثقافية: إدراك السوريين وقواهم السياسية والمدنية أن أبواب تقسيم سورية مقفلة في النهاية، وأن أي دولة عقائدية أو أيديولوجية أو دينية لن يكتب لها النجاح، وأن التطرف الديني والمذهبي وصفة سحرية لانهيار الدولة والمجتمع في آن معًا، وأنه من غير الممكن أخذ سورية بعيدًا من أدوارها المقرة تاريخيًا وجغرافيًا وسياسيًا، فضلًا عن اجتماع إرادة السوريين على أن رحيل الطغمة الحاكمة شرط أساسي للحل الذي يمكن أن يصب في مصلحتهم جميعًا، بالتلازم مع ذهابهم نحو بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة، الدولة الوحيدة الممكنة في سورية اليوم. جميع القناعات والممارسات التي تصب خارج ما سبق، تعني أننا سنظل نسير بخطى ثابتة باتجاه تفسخ الدولة والنظام والمجتمع والإنسان، وستفرض أميركا وبيادقها آنذاك الحل الذي يرونه في مصلحتهم، ويكون حصيلة مساوماتٍ لا حصر لها مع دول وجهاتٍ، لا تكترث، لحظةً، بمصلحة سورية والسوريين.
العربي الجديد
الشرق الأوسط.. خطأ أميركي جديد/ غازي دحمان
يثير كلام الرئيس الأميركي، باراك أوباما، عن خطأ تقدير الاستخبارات الأميركية مخاطر “داعش”، القلق، أكثر ما يبعث على الطمأنينة، كما أنه ينثر مزيداً من الغبار على استراتيجية الإدارة الأميركية التي تطبقها في الحرب الحالية، سواء لجهة الحذر من استمرار البناء على الأخطاء نفسها في تقدير الموقف الأميركي، أو لجهة تأكد البعد التجريبي في السياسة الأميركية تجاه المنطقة.
وإذ يبدو الخطأ في التقدير أمراً غير مفهوم، على اعتبار أن وكالة الاستخبارات الأميركية تملك كل الإمكانات التي تبعدها عن مثل هذا الاحتمال، إن لجهة المعلومة الصحيحة التي يجري البناء عليها، لما للوكالة من مصادر موثقة ومعلومة عبر منظومة من العناصر البشرية والأقمار الصناعية، أو لجهة تحليل المعلومات وتقييمها، لامتلاك الوكالة كادراً احترافياً وخبيراً، ومن كل التخصصات، فضلاً عن ذلك، فإن الحالة وعلى الرغم من التعقيد الظاهري ودرجة التشابك الموجودة فيها، غير أن خطوطها واضحة، ولم يكن فيها أي عنصر مخفي، قد يتسبب بعملية التضليل.
وفي الواقع، تفيد مراجعة تصريحات الساسة الأميركيين، وسلوكهم السياسي، طوال الفترة الماضية، من ظهور تنظيم داعش حتى إعلان الحرب عليه، أن الخطر الذي تم تقديره جرى حصر تعريفه في أضيق الأطر، وهو التهديد الداخلي للولايات المتحدة، وهذا يتفق تماماً مع السياسة الانسحابية التي كان يمارسها باراك أوباما، ما يعني أن نتائج التقديرات جرى تحريفها للتوافق مع المزاج الأميركي السائد حينها، بعد أن صار إلى تقييم أوزان متغيّراتها، انطلاقاً من درجة توافقها مع ذلك المزاج، واتخذت طابعاً رغبوياً أكثر منه عملياً، والدليل أن أوباما أبعد من دائرة صنع القرار سياسيين كثيرين، وجهوا له تنبيهات مختلفة، بشأن الوضع في سورية، والمخاطر التي ينطوي عليها، ما يعني، أيضاً، أن صانع القرار، ممثلاً بباراك أوباما، وربما دائرة ضيقة لديه، كانت بصدد صنع سياق سياسي، يتطابق مع توجهات الرئيس، حتى لو تعارض مع الوقائع. وفي هذه الحالة، نحن أمام فشل لصانعي السياسات، ومن تقع عليهم مسؤولية اتخاذ القررات الحاسمة، واختيار البدائل، وصناعة السياقات المناسبة لها، وفشل قدرتهم على الاستشراف، ورؤية الاحتمالات المستقبلية للمخاطر والفرص، ومسارات تطور الأحداث.
ثمة تفسيرات عدة، حملتها الردود على تصريحات أوباما، منها أنه يحاول تبرئة نفسه من هذا الخطأ الفادح، ومنها أنه يحاول إحراج وكالة الاستخبارات الأميركية لرغبته في تغيير مسارها والتدخل بعملها. ولكن، أياً تكن أسباب الرئيس، فإن اعترافه يطرح في الفضاء العربي سؤالين غاية في الخطورة: الأول، ما البدائل التي عملت عليها الإدارة الأميركية في الفترة ما بين تقييمها تدني الخطر وتصحيحها؟ وأين صبّت مخرجاتها؟ وما آلياتها؟ أما الثاني: ما هو التقدير الأميركي لإدارة الأزمة الحالية، أليس من الممكن انطواؤه على أخطاء محددة؟
تفتح الإجابة على هذه الأسئلة الباب على مصراعيه أمام سيل من الاحتمالات. لكن، قد يكون أكثرها قرباً لتفسير الحالة أن واشنطن كانت مشغولة بتصميم الواقع شرق الأوسطي، ليتحول إلى ساحة استنزاف لخصومها، وبالتالي، فإن جميع جهودها ومواردها الاستراتيجية كانت تعمل ضمن هذا السياق، وثمة ظاهرة محدّدة، كافية لتفسير ما سبق ذكره، وتتمثل بالإصرار العنيد والشخصي من باراك أوباما نفسه على منع دعم الجيش الحر في سورية. لا شك في أن هذا الأمر كان سيعمل على تعديل المعطيات، وتغيير نتائجها، وتالياً، سيؤسس لسياق مختلف عن المسارات التي تطور في قلبها داعش. لكنها، في إطار تفضيلات أوباما، لم تكن قضية مهمة لعدم تأثيرها سلباً أو إيجاباً، في رؤيته المخاطر على الأمن القومي الأميركي، بمفهومه الضيق.
ولا يبدو أن تقديرات إدارة الأزمة، ومساراتها العملانية، تحمل فوارق كبيرة، إذ كل المؤشرات تشير إلى بقائها ضمن إطار التعريف الضيق، وإن جرى فتح البيكار قليلاً تحت الضغوط، وتوسيع التعريف ليشمل نقاطاً بعينها (شمال العراق وجنوبه)، إضافة إلى أن الإجراءات تقتصر على إيجاد حلول جزئية للمشكلة، فهي، مثلاً، لا تهتم كثيراً بعملية غلق دائرة تغذية داعش، وتتركها مفتوحةً، طالما هي تدع إيران ونظام الأسد يقومان بحربٍ على المكون السني في المنطقة. لذلك، لن يفيد كثيراً استصدار قرارين من مجلس الأمن، لضمان وقف عمليات التمويل والتجنيد لداعش، إذ ثمة وسائل يمكن، من خلالها، الالتفاف على مثل هذه القرارات، منها العودة إلى الوسائل البدائية في التمويل والتنقل، وهي طرق لا تلمحها التقنيات الحديثة، وبعيدة عن أعين المراقبة.
إضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من أن استراتيجية أوباما تسعى إلى تحقيق أهداف جزئية، فإن النهج الذي تستخدمه يقوم على تدمير واسع في مختلف البنى، من أجل تدمير الجزئية الخاصة بعمل داعش، والتي قد تستخدم مواردها لضرب مصالح أميركا المحددة سلفاً؟ تماماً مثل الطبيب الذي يستأصل الزائدة الدودية، ولكن من الخاصرة المقابلة، بما يؤدي إلى تدمير كامل الأجهزة، وموت المريض الحتمي.
أسوأ ما في الخطة الأميركية أنها تعرّض مناطق كثيرة للخطر، وتضعها في عين الاستهداف، الأردن ولبنان، من دون الاهتمام بمصائرها، أو وجود خطة واضحة لتجنيبها المخاطر، ذلك أن انعدام المعالجات الشاملة مؤشر لنقص الرؤية الاستراتيجية، واعتمادها على زاوية نظر محددة، تناسب صانعيها، ولا تأخذ في الاعتبار واقع المنطقة وظروفها، في حين أن المنطقة، وبعد كل الكوارث التي عاينتها جراء السياسات التجريبية والخاطئة، لم تعد تملك فائضاً من الوقت والثروات، يعينها على احتمال تجريبيات جديدة، المؤكد أن الخطأ سيكون قاتلاً هذه المرة.
العربي الجديد
أمريكا التي لا تتعلم من أخطائها/ بكر صدقي
في العام 1991 شنت قوات تحالف دولي، بقيادة الولايات المتحدة الامريكية، ما سمي حينها بـ»حرب تحرير الكويت» على قوات صدام حسين التي كانت احتلت الكويت في شهر آب/اغسطس من عام 1990. نجح التحالف في طرد المحتل العراقي، خلال فترة قصيرة، وتابع تقدمه شمالاً داخل الأراضي العراقية. بتشجيع من الولايات المتحدة، كانت المعارضة الشيعية في الجنوب قد أطلقت انتفاضتها على نظام صدام حسين، فجاء توغل القوات الامريكية في مناطق الانتفاضة بمثابة الدعم المباشر لتلك المعارضة للمضي قدماً إلى هدفها المتمثل بإسقاط النظام.
لكن الرئيس الامريكي جورج بوش (الأب) أمر بإيقاف تقدم قواته، فجأةً، بعدما باتت قريبة من العاصمة بغداد. فقد كان الهدف من الحرب الامريكية، في إطار التحالف الذي تقوده، هو تحرير الكويت. وقد تحقق. أما إسقاط نظام صدام، الذي بدا داني القطاف، فلم يكن ضمن سلة الأهداف. وهكذا انسحبت القوات الغازية من جنوب العراق تاركةً سكان الجنوب لقمة سائغة لوحشية صدام حسين الذي قتل ودمر كما يفعل بشار الأسد بالسوريين اليوم منذ أربع سنوات.
في ردها على رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو الذي تشترط حكومته استهداف نظام بشار الكيماوي شرطاً للمشاركة التركية في التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، قالت الناطقة باسم الخارجية الامريكية جين بساكي: هدفنا هو تنظيم داعش، لا نظام الأسد!
كذلك اتضح الأمر بعد ضرب نظام بشار لغوطة دمشق بالسلاح الكيماوي. فبعدما بذل الرئيس أوباما ووزير الخارجية كيري جهوداً مضنية لإقناع الكونغرس بضربة محدودة لنظام الأسد عقاباً له على استخدامه السلاح الكيماوي ضد الشعب، من غير الشعور بالحاجة إلى استئذان مجلس الأمن الذي أغلقه الروس والصينيون في وجه أي قرار دولي بمجرد إدانة الأسد على فظائعه، ومع إعلان موسكو، برغم ذلك، أنها لن تقاتل دفاعاً عن نظام الأسد.. أوقف أوباما العملية برمتها حين جاءه العرض الروسي بتسليم الأسد لسلاحه الكيماوي. كم يشبه هذا القرار قرار جورج بوش بوقف زحف قواته نحو بغداد لإسقاط الطاغية العراقي.
وكما فهم صدام، حينذاك، القرار الامريكي على أنه تفويض له بارتكاب المجازر بحق سكان الجنوب، كما لو كان ذلك جائزة ترضية له على إخراجه الذليل من الكويت، فهم الجزار السوري إلغاء الضربة الامريكية ضده مقابل تسليمه سلاحه الكيماوي، تفويضاً أميركياً له بقتل ما تبقى من السوريين بجميع الأسلحة ما عدا الكيماوي، فانهالت على حلب وحدها آلاف البراميل المتفجرة التي أفرغت شرقي حلب الخارج عن سيطرته من سكانه.
وها هي الولايات المتحدة تعاود الكرة للمرة الثالثة اليوم بالقول إن هدفها من الحرب الراهنة هي داعش وحدها، وإنها غير مهتمة بإسقاط النظام المتهالك.
النظام الذي أخذ على حين غرة حين بدأ القصف الجوي داخل الأراضي السورية بواسطة طائرات أميركية وعربية، بعدما اقتصر قبل ذلك على مواقع داعش في العراق، رحب بهذا الاختراق لـ»سيادته» العزيزة عليه، وقال على لسان وزير خارجيته وليد المعلم: «إن أي عدوان على سوريا يجب أن يتم التنسيق بشأنه مع السلطات السورية»! في إقرار منه بأن النظام يمارس «العدوان» على سوريا ويطالب تلك الدول التي طالما اتهمها بدعم الإرهابيين بـ»التنسيق» معه في هذا العدوان!
كان لداعمي النظام الإيرانيين واللبنانيين رأي آخر، فوقفوا ضد التحالف ما إن بدأت غاراته على الأراضي السورية، بسبب استبعاد نظام الأسد، بعد إيران، من صفوف التحالف. وهكذا اضطر الإيرانيون لإرسال مبعوثهم شمخاني إلى دمشق لمعاتبة واليهم على الشام على ترحيبه بضربات التحالف على مواقع داعش داخل الأراضي السورية. فتغيرت، منذئذٍ، لغة الأسد وإعلامه المقاوم بصدد التحالف، فقالوا إن داعمي الإرهاب لا يمكن أن يكافحوه، وإن للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة أهدافاً أخرى خبيثة، بدلالة أن دول التحالف أعلنت عن نيتها في تدريب 5000 مقاتل من «المعارضة المعتدلة» (وهؤلاء إرهابيون في عرف نظام دمشق) لملء الفراغ الذي سينجم عن تحجيم داعش والقضاء عليه في المناطق التي يسيطر عليها حالياً.
الواقع أن الانخراط العسكري الامريكي المفاجئ في المنطقة، وباستراتيجية غامضة أو مرتبكة لا تحدد أهدافاً واضحة وقابلة للتحقيق ولا مدىً زمنياً محدداً، قد أربك جميع القوى الفاعلة في المنطقة. فمصر السيسي تريد من التحالف محاربة جماعة الإخوان المسلمين أيضاً كما يفهم من تصريحات مسؤولي النظام. فيما تريد تركيا محاربة الفصائل المسلحة الكردية الدائرة في فلك حزب العمال الكردستاني، وإسقاط نظام الأسد، فيما تطالب المعارضة الكردية في تركيا حكومة داوود أوغلو بالتدخل العسكري في بلدة كوباني لمصلحة قوات حماية الشعب الكردية المدافعة عن البلدة، وترفض المعارضة العلمانية أي مشاركة تركية في الحرب بدعوى أن هدف الحكومة الإسلامية من مشاركة مماثلة هو إسقاط نظام الأسد. أما المعارضة السورية الممثلة في «الائتلاف» وقيادة هيئة أركان الجيش الحر، فهي تشكو من عدم استشارة الامريكيين لها بشأن حرب التحالف على تنظيم داعش.
في غضون ذلك يستمر التفارق بين المحورين السعودي – الفرنسي ـ المصري والقطري ـ التركي بشأن سوريا وغيرها من مشكلات الإقليم، بموازاة صراع شيعي ـ سني يمتد من بغداد إلى بيروت إلى صنعاء، في إطار التناقضات التي تعتمل صفوف التحالف الدولي العريض الذي أطلقته واشنطن لمحاربة داعش، فيما تواصل طمأنة جزار دمشق على أنه لن يكون هدفاً لعمليات التحالف داخل سوريا. وهكذا تكرر الولايات المتحدة الخطأ الذي ارتكبته إدارة بوش في العراق في 1991، وخطأ إدارة أوباما نفسها حين ألغت الضربة العقابية لنظام الأسد الكيماوي العام الماضي.
لكن التاريخ لن يكرر نفسه. فلا الحرب على داعش يمكن أن تحقق هدفها المعلن بالقضاء على دولة البغدادي، ولا نظام دمشق الكيماوي يملك من القوة والامكانات ما يمكن أن يساعده على الصمود سنوات إضافية هي العمر الافتراضي للحرب الامريكية كما يقول أركان الإدارة.
٭ كاتب سوري
القدس العربي
تركيا: مفترقات جديدة في طريق الثورة السورية/ عبد الغني محمد المصري
لم تطلب امريكا والمجتمع الغربي من تركيا التدخل قبل الان، بل ولم يصغوا لنداءاتها المتعددة، حول وجوب دعم الثورة، والتخلي عن العديد من الخطوط الحمراء، بل ولقد طالبت تركيا بمناطق عازلة منذ بدايات الثورة، ولم تجد اذانا صاغية، بل كان كل ما يجري هو غض البصر عن تدخل كل محاور إيران، والتلطي بالفيتو الروسي، ثم، وعندما تهدد النظام السياسي في العراق بشكل حقيقي، ثم بدأ نظام بشار يتلقى الضربات المؤلمة، وثبت قصور، وعدم قدرة المحور الإيراني في الانتصار على شتات اهل السنة في الشام والعراق، هنا تذكر العالم المناطق العازلة، وعرف مجددا انه لا يفل الحديد إلا الحديد، فأراد ان تكون تركيا هي اليد السنية التي تضرب وتدير عملية افشال الحراك السني في اسقاط النظام السوري.
لكن تركيا «دولة»، وليست دولة القائد الخالد، كما انها ليست مزرعة الاجهزة الامنية التي لا يرى الرئيس إلا ما ترى. ومن هنا فقد يكون قرارها الاشتراك مع قوات التحالف يكون ضمن الدائرة الاتية وقد لا يكون:
يهم تركيا بالدرجة الاولى هو استقرارها الداخلي، ومشكلتها الكردية، لذا فهي لا تحبذ ميليشيات كردية مسلحة على حدودها، بغض النظر عن اية تعليلات او وصف لأهداف او مبررات لعمل او ضرورات وجود تلك المليشيات، لذا فهي لا تمانع في خسارة تلك الميليشيات لمعركتها وسلاحها، بل وقد تكون تفضل ان يكون ذلك بيد غيرها تنظيم الدولة-، كي لا ينسب إليها قتال الكرد.
تفضل تركيا ان تكون هزيمة الاحزاب الكردية بأقل قدر من المذابح، او الدماء، كي لا تثير الوجود الكردي على ارضها، وكي لا تنتشر فيديوهات قد تنشر ذلك على انه ذبح او قتل للمدنيين. ومن هنا فقد يكون هناك نوع من التنسيق مع تنظيم الدولة، على ان تكون سيطرة تنظيم الدولة هي سيطرة بلا دماء، كي لا يحرج ذلك تركيا.
لا يمكن لتركيا ان تدخل الان في اي معركة ضمن الشريط الكردي الجنوبي لحدودها، كونها ستصبح في حالة استنزاف بين سندان قوات الدولة الاسلامية، ومطرقة الاحزاب الكردية، التي ستنقلب لا محالة ضد القوات التركية، اذا تأكدت ان هناك هزيمة لقوات الدولة الاسلامية.
الحديث التركي يتم الآن عن فرض منطقة عازلة، وبدعم من قواتها على الارض، وهذا لن يتم قبل ان تسيطر الدولة الاسلامية، ويتم هزيمة المليشيات الكردية، وهروبها الى الداخل الكردي معزولة السلاح، ثم بعدها يمكن ان يحدث ذلك التدخل.
معنى المنطقة العازلة بقوات تركيا، انه سيطرة عسكرية وامنية على حدود بامتداد حوالي 200 كيلو متر، وبعمق 10 الى 15 كيلو مترا على الاقل، بل وتتحدث تسريبات ان هناك اتفاقا ان تنتشر القوات التركية لتسيطر على المنطقة الممتدة من الرقة الى دير الزور.
المنطقة العازلة، وحاجة قوات التحالف لقوات محترفة برية، بقيادة مأمونة الجانب، وليس قيادة تكتلات ثورية، قد يغري القوات التركية بالسيطرة على المزيد، ولن تلقى تلك القوات مقاومة من البيئة الشعبية، بل ستنظر إليها كقوات محترفة قادرة فيما بعد ـ على التخلص من بشار.
الغرب والاستخبارات يريدون التخلص من التكتلات الثورية، وخطورة خروج العراق والشام عن السياسة الدولية، وفي المقابل تركيا دولة قادرة، بقيادة علمية وليست دولة اجهزة امنية فاشلة، لذلك فقد ترى في الشام عمقا استراتيجيا لها، ومعززا لنفوذها في المنطقة، وقد لا تخرج قبل ضمان على الاقل ـ رئيس موال تماما لها.
ايران، وعندما ترى نتائج التدخل التركي على الارض، حقيقة واقعة، ستفكر مليا، وستضع كل ثقلها في العراق، لانها لن تدخل معركة مع تركيا، ستدمر كل من ايران وتركيا معا، فلكل بلد منهما تركيبة مذهبية وإثنية اكثر هشاشة كثيرا من سوريا.
لذلك فقد يكون متوقعا ان يتم ارضاء كل من ايران وتركيا، وذلك بمحاولة عزل تنظيم الدولة في العراق، عنه في الشام، لتصبح ايران تقاتل بشكل عسكري فعلي في العراق، حيث يتم اقتطاع اجزاء منه وضمها لايران، كما سيتم اقتطاع اجزاء من سوريا وضمها الى تركيا كإرضاء لها، ومكافأة لتدخلها في محاربة تشكل الكيانات الجديدة في الشام والعراق.
سيتم ابقاء حكومة شيعية ضعيفة موالية لايران في بغداد، مقابل حكومة سنية ضعيفة موالية لتركيا في سوريا.
سيكون الجيش السوري القادم، كحال الجيش العراقي الحالي، جيش بلا قوة جوية مؤثرة، جيش مشاة، وقوات امنية، وكذلك قوات شرطة محلية فقط. مما يضمن ابقاء الشام والعراق في حالة ضعف، وتبعية كاملة لدول تبحث عن مصالحها فقط ضمن النظام الدولي.
سيكون رهان القوى الدولية، هو على انعاش حالة صراع بين المحورين التركي السني من جانب، والايراني من جانب آخر، في حالة تؤدي الى استنزاف كلا المحورين تماما، مع ابقاء لبنان كما هو، ليكون فتيلا نائما يمكن تحريكه كلما اقتضت الحاجة ذلك.
قد يكون ما تم ذكره، هو مآلات يتم النظر إليها من جانب قوات التحالف، وتركيا، وايران، لكن كل ذلك مرهون بقدرة تنظيمات الدولة والنصرة، على دخول اي من العاصمتين سواء بغداد او دمشق، او خروج الوضع في لبنان عن السيطرة، حيث عندها تكون قد تعقدت، وتشابكت الخيوط بشكل كبير.
القدس العربي
إرهاب أعمى، ومحاربة إرهاب حَولاء!/ ياسين الحاج صالح
في الشهور الباكرة للثورة السورية، كان متواتراً أن يأخذ معارضون ومستقلّون على النظام اعتماده «الحل الأمني» في مواجهة الاحتجاجات الشعبية السلمية المتّسعة. يتضمّن هذا النقد الصائب أنه لا يمكن لحلّ مُثمِر للمشكلات السورية إلا أن يكون سياسياً، مبنيّاً على إعادة نظر واسعة في بُنية النظام السياسي وصِيَغ توزيع السلطة والثروة في البلد. مثل ذلك يمكن قوله اليوم عن حملة الأميركيين وحلفاء لهم على داعش. يستثمر الأميركيون في فائض قوّتهم، فلا يشعرون بضرورة معالجة الجذور السياسية والاجتماعية التي تولّدت عنها داعش، ولا يعملون على إدراج هذه المواجهة في إطار استراتيجية أوسع، تساعد في فتح أفق مغاير للسوريين بعد أكثر من ثلاث سنوات ونصف من الصراع.
السيّد أوباما يساعد نفسه في عدم الفهم والفشل في بلورة سياسة ملائمة حين يُسهب في الكلام عن صراع سنّي-شيعي، يبدو له من طبائع الأمور، بدل الكلام عن صراع اجتماعي وسياسي في سوريا، وعن أوضاع استثنائية في لاعدالتها في البلد وفي الإقليم ككلّ، وعلى نظام إرهابي دعا حلفاءه الطائفيين لمشاركته قتل محكوميه.
يجرّدنا هذا الرجل القوي من قضية عادلة، من كل ما يتّصل بالعدالة والحرية والمساواة والكرامة الإنسانية، حين يَنسب صراعنا إلى تخاصم مذهبي قديم لا معنى له. الواقع أن ما هو قديم ولا معنى له هو مناهج تفكير المؤسّسة الأميركية، ومنها منهج «إدارة الأزمات» الذي يفترض أننا، في «الشرق الأوسط»، أولاد أشقياء وغير عقلانيين، نتقاتل لأسباب تافهة وغير عقلانية، تخلو من أبعاد قِيَمية وأخلاقية، وغاية ما يُطلَب، تالياً، هو وقف القتال واستعادة الاستقرار على يد جهة قوية ما، حاكم عسكري أو عصبية نافذة، تنالان دعم «الغرب».
لكن هذا المنهج اللاأخلاقي هو أحد جذور صعود العدمية في منطقتنا. يسحب الناس ثقتهم من العالم، ويتطلّعون إلى تدميره، حين يجدون مَن يتكلمون عن القانون والاعتدال والعدالة في العالم متطرّفين وأنانيّين ومتسلّطين. داعش نتاج لعالم غير عادل، بقدر ما هي نتاج اللاعدل المحلّي (ونتاج مرض في الإسلام فاقَمَته هذه الأوضاع المديدة غير العادلة). إنها وجه الجنون في مجتمعات معنّفة ومشوّشة المَدارك.
ولذلك فإنّ معالجة ناجعة توجب، فضلاً عن مواجهة العُصبة المجرمة بالقوة، طيّ صفحة الأوضاع الخارقة في لاعدالتها في البلد، متمثّلةً بالحكم الأسدي (ومعالجة مرض الإسلام).
أنحدر من مدينة الرقة التي تسيطر عليها المنظّمة الإرهابية، ولم أسمع أحداً يأسف على تعرّض مراكزها للقصف الأميركي، لكن لم أسمع أحداً أيضاً لا يتعجّب من مواجهة تنظيم إرهابي فاشي قتل الألوف ويعتقل الألوف ثم السكوت عن نظام إرهابي فاشي قَتَلَ أو تسبّب في قتل فوق 200 ألف من السوريين، وفي تهجير نصف محكوميه (فوق 10 ملايين) من ديارهم، منهم فوق 3 ملايين خارج البلد، وقصفهم بالسلاح الكيماوي مراراً، وقتل منهم 1,466 في ليلة واحدة، ولديه صناعة قتل منظّمة في «غولاغاته»، يُحتمل أن أكثر من 15 الفا كانوا ضحاياها حتى اليوم (11 ألفاً حتى آب 2013). يصدر التعجب عن «ازدواج المعايير»، لكنه يترافق مع الخشية من انتشار أوسع للمزاج العدمي الذي تتولد عنه داعش وأشباهها، وتالياً تعزيز الداعشية في البيئات السنّية السورية التي تعرّضت لعدوان مستمر خلال 42 شهراً، من وراء تقليم أغصان شجرة داعش بتكنولوجيا الحرب الأميركية المتفوقة.
عبر هذا النهج الذي يرى بعين واحدة، يحصد الأميركيون داعش بأسلحتهم، لكنهم يزرعون الداعشية بسياساتهم.
الحملة الأميركية، التي تستهدف حصراً المناطق التي لم يتوقّف النظام عن قصفها، تعزّز المزاج الطائفي السنّي أيضاً. لا يزال الأميركيون يعتبرون ’حزب الله‘ اللبناني منظّمة إرهابية، وهو متدخِّل علانية في سوريا منذ عام ونصف على الأقل، فكيف، باسم مواجهة الإرهاب، يواجَه تشكيل إرهابي ويُسكت عن آخر؟ هل يخوض الأميركيون حرباً أخرى لمصلحة إيران؟
ثم إن استهداف ’جبهة النصرة‘ في الحملة مناسب جداً لداعش وللنظام، ويُضعف التمايز النسبي الذي أظهرته ’النصرة‘ لمصلحة تشكيل داعش المُفرِط التطرّف.
ومنذ الآن أسكتت الحملة الأميركية الأصوات الإسلامية المعادية لداعش، وحتى أصواتاً علمانية، وأدانت مجموعات عسكرية كانت قبل قليل تواجه داعش عسكرياً. لا أحد يريد أن يكون في صفّ حملة تتجاهل الإرهابي الأساسي.
ما يفعله الأميركيون وأتباعهم في الحملة الراهنة هو إلحاق القضية السورية، وهي في الأصل صراع ضد الطغيان وتطلّع إلى الحرية، بـ«الحرب على الإرهاب»، ما يعني جعل تطلّع السوريين إلى التخلّص من نظام قاتل بنداً ثانوياً على أجندة يتحكم بها الأميركيون. فوق أن هذا غير عادل وغير إنساني، فإنه ليس في سجلّ «الحرب على الإرهاب» غير تحطيم بلدين أو ثلاثة حتى اليوم. لا شيء يشجّع على التقليد.
لا يغيّر من ذلك تدريب الأميركيين لمقاتلين سوريين «معتدلين» لمواجهة داعش. هذا ينزع من السوريين قضيتهم الأصلية، استعادة ملكية وطنهم من سلالة قاتلة دعت محتلّين أجانب لحماية حكمها، ويصنع أتباعاً لأميركا يتبعون أجندة متمركزة حول حاجاتها وليس بحال حول حاجاتنا السورية.
والأرجح أن بشار الذي يُجهد نفسه منذ نحو شهرين في قصف مناطق تسيطر عليها داعش، قاتِلاً كثيراً من المدنيين، بِأَمَل أن يُلحقه الأميركيون بحربهم، مزدوج المشاعر حيال هذه الحرب: فهو القاتل المتمرّس الذي يستهدف الأقوياءُ قاتلاً أقلَّ شأناً وأحدثَ ظهوراً منه، وهذا خبر طيّب له؛ لكنه ربما يخشى أن يُشفع الأميركيون حربهم، وقد صاروا اللاعب الأكبر في سوريا، بشيء سياسي يوماً، وأن يكون رأسه هو هذا الشيء السياسي. الرجل الذي جمع بين تفاهة لا تُحدّ وشرّ لا يُحدّ مستعدّ لكل شيء من أجل رضا الأقوياء. وليس في تاريخ الأقوياء المعاصر ما يشجّع المرء على الأمل بأنهم لن يُعيدوا تأهيل قاتل عامّ، أو يمنحوه الحصانة على طريقة علي عبدالله صالح في اليمن كي يكفّ عن قتل المزيد.
بعد هجمات 11 أيلول الإرهابية في أميركا، ميّز أسامة بن لادن بين إرهاب محمود تمارسه منظمته وإرهاب مذموم يرفضه. يبدو أن الأميركيين أيضا يميّزون بين إرهاب مذموم قَتَلَ موطنين أميركيين، وإرهاب ليس مذموماً كثيراً، إن لم يكن محموداً، قَتَلَ 200 ألف سوري! فإذا كان إرهاب داعش أعمى، فإن محاربة الأميركيين وأتباعهم للإرهاب حَولاء في أحسن تقدير.
طوال ثلاث سنوات ونصف ونحن في سوريا ننظر إلى سياسة الأميركيين حيال بلدنا بذهول، محتارين بأي الصفتين هي أجدر: غبيّة أم شرّيرة؟ أم كلاهما معاً؟
متهافتة في كلّ حال.
لقد أضعفت هذه السياسة على الدوام الثقة بمبادئ الديمقراطية والحرية والمساواة، والمجموعات المعتنقة لها، وذلك لمصلحة طُغَم إجرامية أو إسلاميّين متشدّدين.
تواجهنا ثلاث قوى باطشة، نظام الإرهاب الأسدي والإسلاميون المتشدّدون والأميركيون المتعجرفون، ونُسأل: لماذا أنتم ضعفاء؟!
نشرت صيغة مختصرة قليلاً من هذه المقالة في اللوموند الفرنسية يوم الثلاثاء 30 أيلول.
موقع الجمهورية
لماذا يتقدم “داعش”؟/ بشير البكر
يتقدم “داعش” لسبب وحيد، هو أنه بات يحظى بحاضنة شعبية واضحة، تتسع وتكبر في سورية والعراق حتى الآن، وهذه هي الحقيقة، والمعادلة التي يدركها كل المعنيين في الأمر، ولا يريدون مواجهتها مباشرة، بل يحاولون الالتفاف عليها بطرق ملتوية.
من نافل القول إن تعاظم قوة “داعش” هو حصيلة لاهتراء الوضعين السوري والعراقي، من جراء سياسات رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، وإجرام الرئيس السوري بشار الأسد، ومن خلفهما سياسة الأطماع والانتهازية الإيرانية التي تعمل، منذ انتصار الثورة، على تمرير مشاريعها وأجنداتها الخاصة، على حساب العرب بزعم دعم المقاومة بوجه إسرائيل.
جرّب الأميركيون، على مدى شهر، تكوين تحالف من الأطراف السنية في العراق وسورية لمحاربة “داعش”، لأنهم يعرفون، فعلياً، أن هذه هي بداية الطريق لقطع الحبل السري لهذا الوحش، لكنهم لم ينجحوا.
والسبب يعود إلى عدم تجاوب السنة مع هذا المسعى. ومن دون مواربةٍ، لا مصلحة، حتى الآن، للسني العراقي والسوري في محاربة “داعش”. العراقي يحس، اليوم، أن “داعش” هي القوة الوحيدة القادرة على مواجهة ميليشيات الموت الشيعية في العراق، ويعلم أن نهاية “داعش” تعني بقاء هذه الميليشيات على ما هي عليه، وطالما أن الأميركيين لم ينجحوا في تفكيك هذه الميليشيات السيئة الصيت، فلن يجدوا الوسط السني يقاتل إلى جانبهم بحماسة كبيرة، وهم جربوا قبل ذلك “الصحوات”، ونجحوا، لأنهم بنوها على قاعدة توازن المكونات العراقية، وما دام الميزان مختل لصالح الميليشيات الطائفية التي ترعاها إيران، فلن ينخرط السنة كجماعة في حرب ضد “داعش”.
وهذا ما يفسر اليوم تقدم “داعش” في مدينة الأنبار التي بات “داعش” يسيطر على 80 في المائة من مساحتها، ويستعد لاقتحام بغداد، والسبب الرئيسي لذلك عدم نجاح المساعي الأميركية في تفكيك التركة الطائفية التي خلفها نوري المالكي وراءه، وعلى أساس ذلك، يمكن إقناع السنة العراقيين بأن محاربة “داعش” مكسب وطني.
أما غالبية السوريين فهي غير معنية بمحاربة “داعش”، لأن مشكلتها الرئيسية هي نظام بشار الأسد الذي شردها ودمر البلد، ولا يزال يواصل عمليات القتل، ولا يجد من يحاسبه. ويمكن ملاحظة ذلك في مقدار الخيبة التي أصابت السوريين، عندما لم يضع التحالف الدولي إرهاب بشار الأسد و “داعش” في ميزان واحد. ولو حصلت هذه الالتفاتة، لكان السوريون في طليعة من يحارب “داعش” اليوم.
والقناعة السائدة لدى قطاعات واسعة من السوريين أن محاربة “داعش” سوف تصب في مصلحة بشار الأسد، وهذا الرأي يتبناه الأتراك إلى حد كبير، وهو المبرر الذي ساقوه لعدم مشاركتهم في التحالف الدولي بالفاعلية المرجوة، وقد تحدث المسؤولون الأتراك صراحة عن هذه المسألة، وترجموها في رفض نجدة الأكراد في عين العرب، عندما رفض زعيم حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي، صالح مسلم، فك تحالفه مع بشار الأسد، شرطاً لمساندة تركيا له بوجه “داعش”.
ومن ناحية ثانية، ثمة سؤال جوهري، يجري طرحه على الجانب السوري، هو لماذا يقاتل السوريون “داعش”، ويقفون إلى جانب قوات الحماية الكردية الحليفة لبشار الأسد من جهة، ومن جهة ثانية، فإن قوات الحماية لا تخفي مشروعها في إقامة كانتون كردي في سورية، فهل يعقل أن يقف عرب الحسكة ضد “داعش” التي ترفع لواء القتال لتفكيك هذا الكانتون؟
قد يبدو لبعضهم أن تقديم الوضع بهذه الصورة يحتمل مبالغةً، بالنظر إلى خطر “داعش” على الجميع. ولكن، من يتابع النقاشات في مراكز الأبحاث وأوساط الخبراء الغربيين، يقف عند استنتاج واحد، هو أن الأكراد هم الحليف المستقبلي للغرب.
العربي الجديد
لماذا تتمدد خلافة داعش؟/ علي العبدالله
حازت دولة الخلافة التي اعلنها تنظيم داعش على تعاطف شعبي سنّي كبير، وخاصة في دول الخليج العربي، وتوالت عملية مبايعتها من قبل حركات السلفية “الجهادية”، وقد امتدت العملية من اندونيسيا الى نيجيريا مرورا بأوزبكستان وباكستان واليمن والصومال والسودان ومصر وتونس والجزائر ومالي والمغرب، مع توّقع ان تتزايد اذا ما نجح التنظيم في الصمود في وجه هجمات دول التحالف وحافظ على تماسكه وعلى الارض التي سيطر عليها.
لماذا يتعاطف مواطنون سنّة كثر مع خلافة داعش وتبايعها حركات سلفية “جهادية” أخرى؟.
شكل هجوم داعش في العراق وإحداث هزة سياسية للنظام العراقي وراعيته ايران بالنسبة لجماهير السنّة ردا على مظلوميتهم وانتهاك حقوقهم في المشاركة في القرار السياسي والاقتصادي في دول كثيرة، وعلى تواطؤ الغرب بعامة والولايات المتحدة بخاصة مع مضطهديهم ومنتهكي حقوقهم وجلاديهم الذي لا تخطئه العين والذي تمثل بـ:
رد فعل الغرب الضعيف على المذبحة التي تعرضوا لها ومازالوا على ايدي النظام في سوريا، وتعايشه مع وتيرة القتل المتصاعدة طوال قرابة الاربع سنوات.
صمت الغرب على التدخل الايراني والشيعي في سوريا.
تواتر الحديث بين المسؤولين والمحللين السياسيين الغربيين عن الدعوة الى التعاون مع ايران والنظام السوري في مواجهة داعش والعمل على التفاهم مع النظام واعادة تأهيله.
موقف الغرب ضد التطرف السنّي وصمته على التطرف الشيعي.
اشادة الرئيس الامريكي بـ”عقلانية” الشيعة وحركتهم السياسية ما عنى احتقاره للعقل السنّي.
انفتاح واشنطن على ايران وسعيها للاتفاق معها ليس على ملفها النووي وحسب بل وعلى دورها ونفوذها الاقليمي، باعتبارها قوة استقرار، والذي سيأتي على حساب مصالحهم.
موقف الغرب بعامة والولايات المتحدة بخاصة من مظلومية القرن: فلسطين وتأييده الدائم لإسرائيل رغم عدوانيتها وعدم التزامها لا بالقانون الدولي ولا بالاتفاقات الثنائية مع الفلسطينيين، وصمته عن سرطان الاستيطان الذي سيجعل من قيام دولة فلسطين وفق خطة حل الدولتين بلا معنى ودون طائل.
موقف الغرب الفاتر من احتلال الحوثيين لصنعاء وعدم تحركه لوقف تمددهم باتجاه آبار النفط والموانئ اليمنية كما فعل في مواجهته لهجوم داعش في العراق.
واما مبايعة الحركات السلفية لخلافة داعش فمرتبطة بعوامل عقائدية وتنظيمية، اذ لايخفى على أحد وحدة المنطلق العقائدي لحركات السلفية “الجهادية” والذي ينطلق من اسس فقهية واحدة(الولاء والبراء، الحاكمية، وتطبيق الشريعة) وتبنيها لفكرة “الجهاد” العالمي، عمقها “الجهاد” المشترك في مواجهة عدو عقائدي وسياسي في افغانستان، والدول الاسلامية من بعدها. وما دفعها الى مبايعة خلافة داعش، رغم تشكّلها السابق عليه وارتباطها بتنظيم القاعدة، رغبتها في الانتماء الى قوة صاعدة بعد ان خبا وهج تنظيم القاعدة بعد قتل بن لادن، وتراجع قدراته المالية والعملانية وفتور شخصية قائده الجديد: ايمن الظواهري، وافتقاره الى الحيوية والكارزمية، وسعيها للاستفادة من امكانيات التنظيم المالية والعسكرية الضخمة وخبراته الاعلامية المتفوقة، وتوظيف ذلك في استقطاب عناصر جديدة وتفعيل دورها “الجهادي”، خاصة وان قراءتها للتحالف الدولي وحملته على داعش باعتبارها حربا صليبية وتحالفا مع الشيعة ضد السنّة على خلفية المناخ الطائفي المتوتر الذي ارتفعت سخونته في ضوء المواجهة الدامية في سوريا والاصطفاف السياسي والعسكري على الساحة السورية مع او ضد الثورة السورية ومكونها الرئيس السنّة. وتقديرها لمسار المواجهة بين داعش وقوات التحالف، حيث لمست تباين مواقف دول التحالف حول الوسائل والاهداف، وبينها والنظام العراقي الذي دفعته ايران لرفض مشاركة دول عربية في العمليات ضد داعش في العراق ورفض مشاركة قوات برية اجنبية، كي لا يكون لها سيطرة على الارض وتشارك في رسم مستقبل العراق وتأخذ من حصة ايران فيه، ما يطرح احتمال انهيار التحالف ونجاح داعش في احتواء الهجوم والتماسك والاحتفاظ بالأراضي التي احتلها في العراق وسوريا، تقديرها هذا شجعها على مبايعة داعش تعزيزا لموقفها ومشاركتها في جني ثمار النصر ما يمنحها فرص التحرك الواسع في دولها والعالم.
لا شك ان انتشار هذه الآراء والتقديرات سيحد من قدرة التحالف على تحقيق تقدم سريع على طريق ضرب داعش وانهاكه والقضاء عليه، ما يستدعي عملا سياسيا واسعا لامتصاص الغضب الشعبي السنّي وتغيير المواقف من التنظيم وتطمين الدول الحليفة عبر توضيح عناصر الاستراتيجية الامريكية التي تخوض واشنطن على اساسها المواجهة والهدف النهائي للعملية وترتيبات ما بعد القضاء على داعش في الاقليم، ووضع تصور شامل لمواجهة حركات “الجهاد” وتقاسم الادوار في اطار خطة شاملة كي يطمئن الشركاء على مستقبلهم وعلى حقوقهم ومصالحهم ويتعزز التحالف وينجز مهمته في ظروف مناسبة زمانية ومكانيا.
المدن
معركة كوباني.. التداعيات والمآلات/ خورشيد دلي
معركة المشروع الكردي
حسابات داعش
تركيا ومعركة كوباني
ليست معركة كوباني (عين العرب) معركة على رقعة جغرافية بقدر ما هي معركة إرادات على رسم المشاريع المتدفقة في الجغرافية السورية بالنار والدم، فهذه المعركة خطفت أنظار العالم طوال الأسابيع الثلاثة الماضية.
ولعل ما زاد من لفت الأنظار إليها هو الصمود الأسطوري للمقاتلين الكرد رغم الفارق الكبير بينهم وبين مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في العدد والعتاد، حيث حاصر التنظيم المدينة شرقا وجنوبا وغربا ووضعها في مرمى نيرانه الكثيفة، فيما بقيت شمالا تحت رحمة الجانب التركي الذي حشد قواته على الحدود لمواجهة تداعيات نزوح عشرات الآلاف من كوباني، فضلا عن التأهب لمعالجة أي طارئ أمني.
وعليه فإن المعركة بالنسبة للكرد كانت معركة وجود وهوية، استباقا للتداعيات التي ستترتب على المشروع الكردي في سوريا والمنطقة، ولعل هذا ما زاد من إصرار داعش على احتلال المدينة ولو تحت قصف غارات التحالف الدولي التي لم تؤثر على تقدمه.
معركة المشروع الكردي
تتوسط منطقة كوباني المنطقتين الكرديتين في سوريا، أي محافظة الحسكة بمدنها القامشلي ورأس العين وعاموده ودرباسيه في الشرق، ومنطقة عفرين في الغرب، وهي -كرديا- تشكل معقلا لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي بزعامة صالح مسلم حليف حزب العمال الكردستاني، كما أنها تشكل قيمة رمزية للحزب الأخير إذ أن زعيمه عبدالله أوجلان لجأ إليها عقب هروبه من تركيا عام 1979 وينتمي إليها العديد من قادة الحزب.
وعليه فإن كوباني تحتل مكانة معنوية كبيرة لدى الكرد خاصة وأنها تشكل إحدى المقاطعات الثلاث التي أعلنها حزب الاتحاد الديمقراطي في إطار ما عرف بمشروع الإدارة الذاتية.
الحصار الخانق الذي فرضه داعش على كوباني وموقعها الجغرافي المعزول -بسبب وقوعها بين المناطق العربية- حالا دون وصول مساعدات من المناطق الكردية الأخرى إليها، وكان المقاتلون الكرد منذ البداية أمام خيارين: إما القتال حتى النهاية أو تسليم المدينة إلى داعش من دون قتال ولو على طريقة ما جرى في الموصل العراقية.
لكن من الواضح أن الكرد فضلوا الخيار الأول، وعندما اختاروه ربما كانوا يراهنون على عدة عوامل من شأنها قلب المعادلة لصالحهم، منها ضربات التحالف الدولي ضد داعش، وإمكانية وصول مساعدات عسكرية لهم سواء من داخل المناطق الكردية في سوريا أو من أكراد تركيا، وربما كانوا يراهنون على تدخل تركي لصالحهم في لحظة ما، فضلا عن قدرتهم القتالية العالية.
لكن من الواضح أيضا أن العوامل الثلاثة الأولى لم تكن حسب توقعاتهم، فيما فقد عامل الصمود والمقاومة أهميته تدريجيا على أرض المعركة يوما بعد آخر بسبب كثافة هجوم داعش والأسلحة المتطورة التي بحوزته والتي جلبها من الموصل في العراق والفرقة 17 ومطار الطبقة في محافظة الرقة السورية. دون شك، ستكون لخسارة الكرد معركة كوباني تداعيات كبيرة على مشروعهم في سوريا، فوقوع كوباني بيد داعش يعني أولا فصل المناطق الكردية السورية عن بعضها جغرافيا بشكل نهائي، إذ إنه لن يعود بإمكان ابن القامشلي الانتقال إلى عفرين أو العكس. وثانيا يعني أن داعش نجح في عزل محافظة الحسكة نهائيا عن باقي المناطق السورية، وستكون المحافظة التي فيها كثافة كردية أكثر هي الهدف التالي للتنظيم، حيث آبار النفط والغاز التي تسيل لعاب التنظيم.
هذا فضلا عن أن العامل المعنوي سيكون له دور كبير في مجريات المعارك المتوقعة في المرحلة المقبلة، وعليه فإن مرحلة ما بعد كوباني ستكون مرحلة الخيارات الصعبة للكرد بعد أن اعتقد كثيرون أن الأزمة السورية وفرت لهم فرصة كبيرة لتحقيق تطلعاتهم القومية.
حسابات داعش
أهمية معركة كوباني بالنسبة لداعش لا تقل عن أهميتها بالنسبة للكرد، فإذا ما نجح التنظيم في احتلال المدينة فستصبح حدود الدولة الإسلامية للمرة الأولى على تماس مباشر مع تركيا، وهو ما يعني السيطرة على منطقة جغرافية كبيرة، تمتد من مدينة منبج في ريف حلب على الحدود السورية التركية شمالا إلى مشارف بغداد جنوبا، بما تعنيه هذه المساحة الجغرافية الكبيرة من إمكانية التوزع والانتشار والمناورة، وهذا أمر مهم في ظل غارات التحالف الدولي ضد مواقع التنظيم.
السيطرة على كوباني تعني أيضا بالنسبة للتنظيم ليس فقط إفشال المشروع القومي الكردي وإنما إبعاد خطر العامل الكردي الذي ظهر على الأرض كقوة فاعلة محتملة لمحاربة داعش إذا ما قرر التحالف الدولي التحرك على الأرض من خلال قوات محلية، وثمة من يرى أن هجوم داعش على كوباني كان لتحقيق هذا الهدف، بعد أن لاح للتنظيم إمكانية التحالف بين قوات وحدات حماية الشعب الكردية وفصائل من الجيش الحر في إطار ما عرف بغرفة بركان الفرات وإمكانية انتقال هذه التجربة إلى مناطق أخرى.
وفي الأساس فإن أيديولوجية التنظيم تقوم على توسيع حدود الدولة التي أعلنها كلما استطاع ذلك، وبالنسبة له فإن معركة كوباني هي معركة من معارك توسيع حدود دولته التي وعد بها، وامتلاك المزيد من عناصر القوة والنفوذ، خاصة إذا نجح في استثمار وصوله إلى الحدود التركية بضم المزيد من المقاتلين القادمين عبر الحدود أو حتى بناء حاضنة له داخل تركيا، فضلا عن العامل الاقتصادي المهم الذي سينتج عن تحكمه بطرق التجارة عبر الحدود من تركيا إلى العراق عبر سوريا أو حتى العكس في ظل التقارير التي تتحدث عن تهريب التنظيم للنفط من العراق وسوريا إلى الداخل التركي.
دون شك، فإن مرحلة ما بعد معركة كوباني -إذا نجح التنظيم في السيطرة عليها- ستضع التنظيم أمام تحد جديد متمثل بالعامل التركي، إذ إنه سيصبح أمام جيش قوي مستنفر على الحدود ومتحسب لأي طارئ، مما يعني إمكانية الصدام مع الجانب التركي، خاصة إذا قررت تركيا الانخراط في ضربات التحالف الدولي ضد داعش أو حاول التنظيم نقل نشاطه إلى الداخل التركي.
تركيا ومعركة كوباني
تعاملت تركيا منذ البداية مع معركة كوباني وفق إستراتيجية دقيقة قامت على ثلاثة مستويات، يمكن وصفها بالحرب الذكية. الأول: مستوى إنساني يتمثل في استقبال آلاف النازحين من كوباني حيث بلغ عددهم قرابة 200 ألف شخص.
أما الثاني: فهو مستوى التأهب الأمني للتعامل مع أي طارئ يهدد أمنها. فيما يتعلق المستوى الثالث والأهم بإدارة المعركة عن بعد، وقد اعتمدت هنا إستراتيجية دع الأعداء يتقاتلون أي الكرد وداعش، فهي تصنف الطرفين في خانة الإرهاب والأعداء، فطوال المرحلة الماضية بقيت دباباتها وطائراتها شاهدة على ما جرى دون أن تتحرك حتى ولو من زاوية إنقاذ الكرد من مجازر محتملة.
في كل هذه المستويات حاولت تركيا الاستفادة مما جرى لدفع مشروع إقامة المنطقة العازلة إلى أرض الواقع والحرص على الظهور بمظهر الدولة المؤثرة القادرة على التدخل والتأثير في مجرى الأحداث إذا لزم الأمر.
في سياق إدارة تركيا لمعركة كوباني، كان لافتا تصريح رئيس الحكومة أحمد دواد أوغلو عندما أكد أن بلاده ستسعى بكل ما يمكن لعدم سقوط المدينة بيد داعش، وهو تصريح جاء على وقع تهديد زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان بأن سقوط كوباني يعني نهاية عملية السلام الكردية التركية.
التصريحان السابقان كانا كفيلين بأن يقوم رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي صالح مسلم بزيارة قصيرة وسريعة إلى أنقرة لطلب المساعدة التركية، وهي مساعدة حالت دونها الشروط التركية الثلاثة، وهي -حسب الصحافة التركية- فك العلاقة مع النظام السوري والعمل على إسقاطه، الانضمام إلى الجيش السوري الحر والائتلاف الوطني السوري، والتخلي عن مشروع الإدارة الذاتية التي أعلنها مسلم قبل أكثر من سنة.
وقد كان من الطبيعي أن يرفض مسلم هذه الشروط، نظرا لأن القبول بها يعني نهاية المشروع الكردي الذي عمل ويعمل لأجله، فضلا عن أن مثل هذا القرار لا يقرره صالح وحده، طالما أن حزبه ينضوي في الإطار العام لمنظومة حزب العمال الكردستاني.
ما سبق يعني أن الطريق أمام داعش إلى كوباني باتت مفتوحة حتى لو تأخر ذلك قليلا بسبب المقاومة الشرسة للمقاتلين الكرد، فيما الثابت أن حسم هذه المعارك لن يكون دون وقوع مجازر ستذكر العالم بما جرى في سنجار ضد الإيزيديين.
ودون شك أيضا، ستطرح سيطرة داعش على كوباني تحديات كثيرة وكبيرة أمام تركيا. أولا: لأن سقوط المدينة سيفجر موجة غاضبة عارمة من قبل الكرد في تركيا وقد يتطور الأمر إلى توتر العلاقة بين الجانبين. الثاني : أن حزب العمال الكردستاني سيتخلى عن عملية السلام مع الحكومة التركية كما أعلن سابقا، ما يعني احتمال العودة إلى العنف مجددا. ثالثا: كيف ستتعامل تركيا مع احتلال داعش لكوباني؟ هل يمكن أن تتدخل عسكريا؟ وكيف ستتصرف مع قضية عشرات الآلاف الذين نزحوا من كوباني؟
من الصعب الإجابة عن هذه الأسئلة طالما أن أجوبتها تدور في الغرف التركية المغلقة، إلا أنه من الواضح أن الحشد العسكري التركي على الحدود، وتفويض البرلمان للجيش التدخل عسكريا في سوريا والعراق، والإصرار التركي على ربط الحرب ضد داعش بإسقاط النظام السوري، وإقامة منطقة عازلة.. كلها مؤشرات توحي بأن الجواب التركي على كل ما سبق لن يكون إلا عبر التدخل العسكري ومن بوابة الحرب ضد داعش.
الجزيرة نت
غارات التحالف وعَدَميّتنا السياسية/ صادق عبد الرحمن
كما طالبت شرائح واسعة من الثوار السوريين بتدخّل دولي ضد نظام الأسد، كذلك فإن شرائح واسعة منهم كانت بانتظار تدخّل دولي ضد تنظيم ’الدولة الإسلامية‘ الذي يسيطر مساحات واسعة من الأراضي السورية، ويسوم كثيراً من السوريين سوء العذاب. على أن ثمانية وأربعين ساعة من بدء غارات التحالف (صباح 23 أيلول 2014) كانت كفيلةً بإظهار صورة جديدة يبدو فيها الثوار السوريون خصوماً لهذا التحالف وغاراته.
خلال أيام قليلة أخذت الأمور منحىً تصاعدياً سريعاً انتهى إلى خروج مظاهرات مناهضة للتحالف في مناطق سورية عِدّة. وإذا كانت شعاراتها تراوحت بين متضامن مع المجموعات المسلّحة التي تعرضت للغارات، ومن بينها ’جبهة النصرة‘، وبين رافض لهذه الضربات لأنها أودت بحياة مدنيين ولم تشمل مواقع وقوات نظام الأسد، فإن الأمر بات خلال بضعة أيام كما لو أن الثورة السورية برمّتها يمكن أن تصير في خندق واحد مع قوى السلفية الجهادية في مواجهة الطائرات الأممية.
في الوقت نفسه كان النظام السوري منشغلاً بإثبات شراكته للحلف الدولي أمام جمهوره وحلفائه وشعوب العالم، حتى وصل الأمر بجريدة الوطن السورية إلى القول بأن قوات التحالف في خندق واحد مع الجيش السوري ضد الإرهاب. ولم ينفع النفي المتكرّر من قبل ناطقين باسم التحالف في دحض شبهة التعاون مع نظام الأسد، فالأسد يبدو الآن المستفيد الأول من غارات التحالف في سوريا، خاصّةً بعد الجمعة التي رُفعت فيها شعارات من قبيل «لا للتدخل الصليبي في سوريا»، وبعد استمرار طائرات الأسد بقصف مواقع مختلفة شمال سوريا جنباً إلى جنب مع طائرات التحالف الغربي.
يستمر النظام السوري في تسجيل النقاط على حساب الثورة على الصعيد الدولي، ويساعده في ذلك الخطاب الجهادي الذي يعيش أفضل أيامه في سوريا اليوم دون مقاومة تُذكر من قبل القوى الثورية الأخرى. وإذا كان صحيحاً القول بأن عدم التدخّل الدولي لإيقاف مذابح قوات نظام الأسد هو أبرز أسباب اشتداد عود السلفية الجهادية في سوريا، فإن هذا القول بات فاقداً لكل قيمة على المستوى السياسي، ذلك لأن العالم غير مَعني في الحقيقة بحلّ مشكلاتنا، إلا بقدر ما تشكل مشكلاتنا خطراً عليه.
عن أهداف التحالف وتواطؤ العالم
واقع الحال أن التحالف الغربي لم يتحرّك لحماية شعوب المنطقة من خطر داعش، وهو لم يزعم ذلك أصلاً، بل كان متحدّثوه واضحين بالقول إن الهدف هو منع داعش وغيرها من تهديد المصالح الغربية. وواقع الحال أيضاً أن الغارات الأممية لم تستهدف أي فصيل مسلح لا يحمل مشاريع أممية تهدّد مصالح الغرب، بل اقتصرت هجماته على معاقل داعش و’النصرة‘ و’جيش المهاجرين والأنصار‘ و’حركة شام الإسلام‘. وهي مجموعات تحمل فكر السلفية الجهادية العابر للحدود، وتتوعّد العالم كله بالحرب، وكلّها لها صلات بتنظيم ’القاعدة‘ الذي قتل أميركيين في قلب الولايات المتحدة قبل 13 عاماً وما زال يُعتبر عدوّاً استراتيجياً لواشنطن. وقد ارتكب أقوى هذه التنظيمات الجهادية–وهو تنظيم داعش– فِعلاً أحمق على المستويين السياسي والعسكري بتقدّمه نحو مدينة أربيل في كردستان العراق، والتي تشكّل أهمّ مركز للمصالح الغربية في العراق والشام.
يشكّل المشروع الذي تحمله ’الدولة الإسلامية‘ خطراً جدّيّاً على مجمل المصالح الغربية في المنطقة، وقد يمثّل خطراً وجودياً على المملكة العربية السعودية ومنظومة دول التعاون الخليجي بأكملها، كما أنه مرشّح لأن يكون العدوّ الأخطر لمجمل منظومة الحداثة الغربية إذا ما قُدّر له أن يواصل العمل على مشروعه. وهو يختلف في ذلك عن الجمهورية الإسلامية في إيران مثلاً، وعن حلفائها الذين يشاكسون ويناورون لانتزاع المزيد من النفوذ والثروة لكنهم قابلون دائماً للانضباط والتفاوض والمساومة.
لهذا يرسل الغرب طائراته لضرب داعش وأخواتها، ولا يرسل طائراته لضرب ميليشيات إيران وحلفائها وعلى رأسهم نظام الأسد، ليبدو الأمر كما لو أن العالم برمّته متواطئ مع نظام الأسد أكثر من أيّ يوم مضى… لكن لهذا أسباب تتجاوز الخلاصات التبسيطية التي تتحدث عن العالم القذر الخالي من الأخلاق، وعن كراهية الغرب «لنا»، ورغبته في أن نخسر كل فرصة للتقدم نحو حياة أفضل.
ليس جديداً أن العالم بلا أخلاق عندما يكون النظام السياسي الدولي هو المقصود بكلمة «العالم»، بل إن تاريخ «العالم»كله ليس في هذا السياق سوى تاريخ صراعات وحروب لا شيء فيها إلا المصالح وتقاطعها أو تضاربها. على هذه القاعدة يُفترض أن تتمّ ممارسة السياسة التي أخفق ويخفق في ممارستها ممثّلو الثورة والمعارضة السورية، حتى وصل بنا الأمر إلى مرحلة قد يكون السوريون فيها على موعد مع العودة إلى الانضباط في«حظيرة النظام الدولي»دون مكاسب تُذكر بعد كل هذه التضحيات الكبيرة.
حقل الثقافة وحقل السياسة
ينبغي الانتباه عند مقاربة العلاقة مع التحالف الدولي، وعند مقاربة كل شأن سياسي،إلى ذلك الخيط الرفيع الفاصل بين العمل في حقل الثقافة وإنتاج الفكر والمعرفة، من جهة، وبين العمل في حقل السياسة من جهة أخرى. فإذا كان صحيحاً أن تخفيف آلام السوريين لا يندرج في قائمة أولويات النظام السياسي الدولي، فإن هذه حقيقة يمكن مناقشتها وتحليلها في حقل الثقافة، وبأدوات التاريخ وفلسفة العلاقات الدولية وموقع مبدأ التدخّل الإنساني فيها، حيث البحث دائماً عن الحقيقة وعن المزيد من الأسئلة والمقاربات، وحيث توجد ضوابط أخلاقية ومناهج أيديولوجية لهذا البحث كي يكون مُنتجاً على الصعيد المعرفي… أما في حقل السياسة فأدوات الشغل تختلف جذرياً، فهناك التكتيك والخطاب السياسي وآليات الضغط على صنّاع القرار، لدى الحلفاء كما الخصوم، وقد يصطدم الأمر بالعديد من الأسئلة الفلسفية والأخلاقية في خضمّ البحث عن المصالح والدفاع عنها. وقد يحتاج كل ذلك إلى إدانة التقصير الأخلاقي العالمي؛ لكن على أن تكون هذه الإدانة أداة سياسية في ممارسة الضغوط وانتزاع المكاسب، لا قاعدة ينطلق منها العمل السياسي بما يشوّش على إمكانية رؤية تشابك المصالح وتداخلها وتعقيداتها.
ليس ثمة سوابق في التاريخ عن دولة واحدة قادها نهجها السياسي إلى التضحية بمصالحها لأسباب أخلاقية، ولا يبدو أن الدفاع عن حقوق الإنسان في الحياة والحرية سيكون الناظم الأساسي للعلاقات الدولية في المدى المنظور. الحقيقة أن الكفاح من أجل الوصول إلى يوم كهذا حقّ وواجب على البشرية أن تنهض به، وهو واجب يفترض أن يتم العمل عليه على المستويين الثقافي والسياسي مع جميع شعوب العالم، ومع مختلف المنظّمات والمؤسّسات الثقافية والمدنية والإنسانية والحقوقية التي لا يزال أغلبها رهينة لمصالح الدول وليس العكس… ولا شك أن ما يجري في سوريا يمكن التأسيس عليه لخوض نضال أممي كهذا، لكن أولوية قوى الثورة والمعارضة يفترض أن تنصرف اليوم لتحقيق مصالح السوريين، والعمل على إنهاء مأساتهم والسير على طريق تحقيق تطلّعاتهم.
بهذا المعنى، فإن المصلحة من وجهة نظر من ينحاز للثورة السورية يفترض أن تكون في العمل على إيقاف الدولاب الدموي، مع تحقيق أكبر قدر ممكن مما خرجت شرائح من السوريين لأجله إلى ساحات الثورة والفضاء العام. ذلك لأنه بات مستحيلاً تحقيق جميع ما خرجت هذه الشرائح لأجله من جهة، ولأن إيقاف هذا الدولاب الدموي مستحيلٌ دون تحقيق مكاسب للثوار وحواضنهم الشعبية من جهة أخرى. ذلك فضلاً عن أن العمل على إيقاف سفك الدماء دون تحقيق مكاسب كهذه، سيعني العمل على عودة جميع السوريين للعيش تحت حكم النظام السياسي القديم نفسه، وهو ما يجعل أصحاب نهجٍ سياسيٍ كهذا غير منحازين للثورة أصلاً.
أما مصلحة الدول الغربية فتتمثل في صعود أنظمة سياسية جديدة أكثر تصالحاً مع الأنظمة السياسية الغربية ورؤيتها لمستقبل العالم، وفي تحقيق استقرار في العراق والشام دون إلحاق ضرر بحلفاء الغرب في المنطقة، ومنهم دول الخليج العربي وإسرائيل، وفي إعادة ضبط الأوضاع بما يتوافق مع التوازن الدولي بين القوى العظمى. ليس للدول الغربية مصلحة في صعود أنظمة سياسية تصارع الغرب وتنافسه على مصالحه، وليس لديها أية مصلحة في وصول قوى غير قادرة على ضبط الأوضاع، وهو بالضبط حال قوى الثورة والمعارضة السورية التي تبدو عاجزة حتى عن عزل نفسها عن قوى السلفية الجهادية المعادية للغرب والنظام السياسي الدولي، والمعادية لكل أشكال الانتظام السياسي التي أنتجتها الحداثة، بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة الذي أفرزته الحرب العالمية الثانية.
والحال هذه، فإن مطالبة الغرب بتدخل حاسم لصالح الثورة السورية اليوم تبدو كما لو أنها مطالبة للغرب بأن يتدخل خلافاً لمصالحه، وأقل ما يقال في مطالبة كهذه أنها تنمّ عن عدمية سياسية، وعن خلط بين ما هو كائن وما يفترض به أن يكون. إذ مما لا شك فيه أن الدفاع عن الإنسان وحقوقه يقتضي إزالة نظام الأسد وماكينته العسكرية والأمنية المرعبة، لكن هذا قد يصبّ في صالح السوريين وحدهم فقط، ولا يصبّ مطلقاً في صالح أي أحد آخر في ظل الظروف الراهنة. دعونا في هذا السياق نتخيل سيطرة قوات مشتركةٍ من ’جبهة النصرة‘ و’الجبهة الإسلامية‘ وكتائب ’الجيش الحر‘ على العاصمة دمشق اليوم: لا شك أن هذا من مصلحة الثوار السوريين وحاضنتهم الشعبية، لكنه ليس من مصلحة أي دولة في العالم بما فيها أكثر الدول عداءً لنظام الأسد، بل إنه ليس من مصلحة جميع السوريين حتى، وإنما قد يضادّ مصالح شرائح واسعة منهم، ولا أعني أنصار النظام فقط، بل عموم السوريين الذين لا تستقبلهم دولة واحدة في العالم (ربما باستثناء تركيا) بدون جوازات سفر صالحةٍ عليها أختام وزارة الخارجية السورية وإدارة الهجرة والجوازات.
سنوات طويلة
ستستمرّ الحرب على الإرهاب لسنوات طويلة كما يقول الناطقون باسم التحالف، وسيستمر تدريب قوات المعارضة السورية «المعتدلة» لسنوات أيضاً كما قال منسّق التحالف الدولي «جون آلن». ويرجع هذا في أبرز أسبابه إلى رغبة الغرب في استخدام الحرب على الإرهاب لإعادة ترتيب المنطقة، وإلى صراع المصالح الشرير الخالي من الأخلاق بين دول العالم، وإلى نفاق العالم وعدم حرصه على دماء السوريين ومستقبلهم، وكذلك إلى سوء الفهم العالمي –الذي يبدو متعمداً–لأسباب الصراع وعمقه، ولأسباب صعود قوى السلفية الجهادية في العراق والشام. إلا أنه يرجع فضلاً عن كل هذا، وربما قبله، إلى فشل قوى المعارضة والثورة السورية في السيطرة على الصراع، وفي إدارة المناطق المحرّرة، وفي تقديم خطاب سياسي واضح يضمن لدول الإقليم والعالم أن سقوط الأسد لن يلحق الضرر بمصالح أحد. دعوناً نتذكر هنا أيضاً أن ’الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة‘ فشل حتى في إدارة عمل فرق الدفاع المدني في حلب المنكوبة، وفشل في تنظيم حملات تلقيح أطفال ناجحة في ريف إدلب…
في ظروف كهذه يبدو الصيد في الماء العكر للعراق والشام نهج الجميع: نهج الغرب وحلفائه الذين تنتهي مواقفهم إلى القول: إما أن نتدخل بشروطنا ووفقاً لمصالحنا أو فلتذهبوا جميعاً إلى الجحيم؛ وأيضاً نهج نظام الأسد وحلفائه الذين يعملون على استغلال كل هذا لاستمرار هيمنتهم على أكبر قدر ممكن من النفوذ والسلطة والثروة؛ لكنه أيضاً نهج قوى الإسلام السياسي «السنّي» وفي مقدمتها قوى السلفية المقاتلة، التي تستغل كل هذا الصراع وتشويش الرؤية لتجذير خطابها، ولتأسيس خطاب ممانعة فارغ يؤمّن لها هيمنة طويلة الأمد على حياة جزء من السوريين والعراقيين ومصائرهم، وثرواتهم أيضاً؛ ذلك فضلاً عن قوى يسارية أو ذات منشأ يساري وجدت في ضربات التحالف الغربي مناسبة لإنعاش خطابها المعادي لإمبريالية ورأسمالية وعدوانية الغرب.
إنها سنوات الصيد في الماء العكر، السنوات التي ستكون حافلة بالصراعات والتحولات والدماء والآلام، والتي ينبغي فيها للقوى السياسية والعسكرية الثورية السورية، وللكتاب والصحفيين وقادة الرأي العام، أن يضعوا نصب أعينهم أولوية خلاص السوريين مما هم فيه من بؤس وتشرّد وإذلال. وهذا يكون من خلال المزيد من العمل الثقافي والسياسي على تفكيك بنى الطغيان والاستبداد، ومن خلال المواجهة الشجاعة والحازمة لكل خطاب يضع في رأس أولوياته شيئاً غير حقوق السوريين وحريتهم. كما يكون بالبحث في السياسة عن طريقة تتقاطع فيها بعض مصالح دول العالم «القوي» –إذا صحّت التسمية– مع بعض مصالح الثورة السورية، وفي مقدّمتها الخلاص بأسرع ما يمكن من نظام الأسد، ومن احتكاره التمثيل الدولي لجميع السوريين الذين لا يزالون بالنسبة للنظام العالمي رعايا للأسد، «مواطنين» في دولته المتهالكة.
موقع الجمهورية
أخلاق التشاؤم/ عدي الزعبي
تنتشر اليوم حالة إحباط بين السوريين. سيطرة داعش على مناطق واسعة، وعنف النظام المدعوم برضا قطاعات واسعة من الشعب، والتدخّل الأميركي وما سيتبعه من إلحاق الحرب السورية بملف مكافحة الإرهاب، تجعل الوضع السوري يبدو وكأنه دخل مرحلة جديدة ستطول لعقود، على غرار الحروب في أفغانستان والصومال والعراق. معملايين المهجّرين واللاجئين، ومئات آلاف الشهداء، ومثلهم من المعتقلين والمفقودين، تحوّلت سوريا إلى ثقب أسود يبتلع السوريين ومن يقترب منهم. في هكذا ظروف، من الطبيعي أن ينتشر التشاؤم واليأس.
نميّز هنا، في محاولتنا لتعريف أخلاق التشاؤم، بين المتشائم الخامل السلبي والمتشائم الفعّال الإيجابي. المتشائمون السلبيون هم الناس العاديون؛ أولئك اللذين يشعرون بتعب يومي، وبأعباء الحرب تثقل كاهلهم. يتأثر المتشائم الخامل بحجم الدمار والخراب الهائل، بخطف أصدقاء وأقارب، بالمقتلة السورية المفتوحة. معظم البشر يمرّون بحالات إحباط وتشاؤم مرحلي، يقوى أو يضعف تبعاً للظروف المختلفة؛ ويعودون للعمل المنتج بعد انقضاء فترة نقاهة ضرورية. التشاؤم المرحلي طبيعي في حياة البشر.
أما المتشائمون الفاعلون الإيجابيون فهم نوع آخر من البشر، إنهم أولئك اللذين يدعون علناً إلى الاستسلام. ينشر هؤلاء تطيّرهم وبؤسهم بشكل فعّال وحيوي ومقصود. يريدون من السوريين، ومن غير السوريين، أن يسقطوا في متاهة التساؤل الأبدية. يعيش هؤلاء بيننا كأنبياء كَذَبَة، يدعون إلى السكون والقبول بالكارثة بتسليم ورضا. هؤلاء يحملون ما أدعوه بأخلاق التشاؤم.
أخطر ما تتعرّض له سوريا اليوم هو انتشار هذه الأخلاق. في حربنا المفتوحة مع الفاشيّات الدينية والقومية والعلمانية، نحتاج إلى أخلاق منفتحة سمْحة تسمح لنا بالحفاظ على أملنا بمستقبل أفضل لأطفالنا، وعلى القدرة على التفكير العقلاني الهادئ. المعركة مع أخلاق التشاؤم توازي بأهميتها المعركة نفسها مع الفاشيات، إذ تنتصر الفاشيات إن سادت روح التشاؤم.
ما هي أخلاق التشاؤم؟ ومن يدعو إليها اليوم في سوريا؟ وما صلتها بالفاشيّات المتكاثرة؟
أخلاق التشاؤم
نستطيع التمييز بين نوعين من المتشائمين الإيجابيين اللذين يحملون أخلاق التشاؤم. النوع الأول أولئك اللذين شاركوا في الثورة في بدايتها ثم يئسوا مع تصاعد الخراب. أما النوع الثاني فأخطر وأبعد مدى، ويمثّله مثقفون سوريون شكّكوا بالحراك منذ اليوم الأول ولم يشاركوا من قريب أو بعيد بأية نشاطات.
النوع الأول من المتشائمين الإيجابيين يتمثل بمجموعة ناشطين مدنيين وسلميين يتذمّرون باستمرار مما وصلت إليه الأمور في سوريا، ويردّدون مقولات من قبيل «هي الثورة مو ثورتي»، و«الثورة صارت بإيدين داعش والنصرة وعلّوش»، و«أنا عليي بحالي»، و«ما في شي نعمله»، و«أنتو يلي تحالفتو مع الإسلاميين ووصلتونا لهون»، و«الثورة انخطفت يا أخي» و«يا عدي هالحكي بيناتنا، البلد راحت، ما بقي محل للي متلنا». تضاف إلى ذلك تصريحات حقودة ونارية بحق معارضين آخرين، تتّسم بدرجة مخيفة من العنف اللفظي والتهجّم الشخصي واتّهامات بالخيانة والعمالة بحق كل من يخالفهم الرأي.
النوع الثاني من المتشائمين الإيجابيين أكثر أهمية وأبعد أثراً. إنهم أولئك المشكّكون بجدوى الحراك منذ اليوم الأول للثورة، والأمثلة الأشهر هي أدونيس 1 وجورج طرابيشي 2 ونزيه أبو عفش 3 ، وآخرون بالطبع ممن يُفترض أن يكونوا مثقّفي التنوير والعقلانية. ما يدعو إليه المتشائم الإيجابي المثقف، من وجهة نظر الأخلاق، هو الطريق المؤدي إلى الاستسلام للطغيان.
لفهم أخلاق المتشائمين، يجب أن نفصل بوضوح بينهم وبين دعاة الاستبداد. مماهاة أدونيس وطرابيشي بشبّيحة من مستوى إبراهيم الأمين ونبيل فيّاض ينمّ عن ضعف فكري وتجنٍّ غير مقبول، يشبه مماهاة ’القاعدة‘ بـ’الإخوان‘ بجمال البنّا 4 وجودت سعيد 5 . لم يدعم المتشائمون الإيجابيون نظام الأسد، بل وقفوا على الحياد. نلاحظ أيضاً أنّ لهؤلاء المثقفين صوتاً مسموعاً ودوراً ريادياً في الثقافة العربية، على مستويات متعدّدة فكرية ومعرفية وأدبية. من الخطأ أن يتم تقييم مساهماتهم المتعددة اليوم بناءً على موقفهم من الثورة، ولكن الموقف من الثورة هو المعيار لتقييم فلسفتهم الأخلاقية.
ما هو موقفهم من الثورة إذن؟
يعيش المتشائم الإيجابي على المعرفة والفنّ، ولكنه لا يملك روحاً معطاءة لتُلهم السوريين في محنتهم. أخلاق المتشائم الإيجابي لا تلهم إلا العبودية..
الموقف السياسي والأخلاقي للمثقف المتشائم يعلن عن نفسه في مجموعة مقالات حزينة يرثي فيها الوطن وما تبقّى منه. على سبيل المثال، يختم طرابيشي أحد مقالاته بأن «الألم يشلّ القلم»، وبأنه لم يبق له إلا أن يقول «وداعاً يا سوريا التي كنت أعرف». يلجأ رجل التنوير المفترض إذن إلى الصمت في اللحظة الأكثر كشفاً! بأسلوب مماثل، يُنذرنا أدونيس منذ بداية الربيع العربي بخراب أخير، ويوزّع نبوءاته شبه الدينية بسخاء، لا يجاريه فيها إلا أسى نزيه أبو عفش الأصيل ويأسه من الوجود البشري.
لم نسمع صوتاً لهؤلاء في حملات الإغاثة، في مؤسّسات العمل السياسي المختلفة، في الإنتاج الثقافي أو الفنّي الفاعل في الثورات؛ لا حملات تضامن ولا محاولات تواصل مع الداخل، مع المصابين، مع المفقودين، مع أسر الشهداء، مع اللاجئين في المخيمات. لا شيء من هذا كله، بل فقط صمت مطبق، يقطعه نواح متشائم بين حين وآخر. العلامة الفارقة لأخلاق التشاؤم تكمن في غياب أي مشروع عملي يتعلّق بحياة الناس العاديين.
الصمت ونشر روح التشاؤم واليأس يعبّر عن أخلاق مستعبدة، تعيش بين ظهراني الطغيان والفاشيات وتقتات بغياب الفعل وبالحزن وبالسلبية. تنتصر الفاشيات عندما نستسلم، وليس عندما تعرض مظاهرها الأكثر عنفاً. هذا الاستسلام يعكس روحاً مستعبدة في الأصل لكل أشكال العنف والطغيان.
يعيش المتشائم الإيجابي على المعرفة والفنّ، ولكنه لا يملك روحاً معطاءة لتُلهم السوريين في محنتهم.
أخلاق المتشائم الإيجابي لا تلهم إلا العبودية.
أخلاق التفاؤل
على العكس من هذا الإحباط الأليم، يبدو لي أن ما نحن بحاجة إليه اليوم هو بالضبط روح التفاؤل وأخلاق العمل.
صحيح أننا لا نملك رؤية مثالية للخروج من الكارثة التي حلّت بنا، فقد دخلت سوريا مرحلة متقدّمة من الصراعات المعقّدة على كافة المستويات، تغيب معها القدرة على طرح حلول وتصوّرات لما ستؤول إليه الأوضاع. كما أننا لا نتفق على أجوبة لأسئلة مصيرية، من قبيل إشكاليات التحالف مع دول الخليج والدول الغربية، وكيفية إدارة العلاقة مع المقاتلين الإسلاميين، والتعامل مع أطروحات الحوار مع النظام، وغيرها من الأسئلة المُلِحّة. ولكننا، بالرغم من غياب اليقين عن إجاباتنا، نملك الرغبة والعزيمة في مساعدة السوريين على تخطي محنتهم.
دعوات التشاؤم تصدر فيما ملايين السوريين يعانون اللجوء والاعتقال، بالإضافة إلى الحاجة الملحّة للتعليم والطبابة والمواصلات وتأمين الاحتياجات الأساسية للناس. في ظل هكذا ظروف، يخبرنا المتشائم الإيجابي بأن الصمت واعتزال الفتنة هو الحلّ. نرى أن العكس هو الصحيح، وأن المطلوب اليوم هو بالضبط النقيض من الاعتزال. في هذه الظروف القاسية، علينا أن نعمل بشكل مضاعف. غياث مطر والأب فرانسيس، ومقاتلون بالمليحة وجوبر وزملكا، وعاملون بالإغاثة في عرسال، ومهرّبو سلاح في أنطاكية، وأساتذة مدارس في حلب ودرعا وتلبيسة، وصحفيون ومترجمون، وآلاف غيرهم، لم ييئسوا… هؤلاء هم من يحملون اليوم أخلاق التفاؤل.تقضي هذه الأخلاق بأن العمل جوهر الوجود الإنساني، وبأنطبيعة الكائن البشري تتجلّى في الفعل.
المعركة مع الفاشية
تختلف منظومتا التشاؤم والتفاؤل في كيفية النظر للإنسان ولماهية وجوده القصير على سطح الكوكب. المتشائم يحتقر الإنسان وسعيَه للتغيير ويدعو إلى الاستكانة للظروف والكفّ عن العمل. المتفائل يُعلي من قيمة الإنسان ويؤمن دوماً بإمكانية التغيير.
معركتنا مع المتشائم الإيجابي تعادل في أهميتها معركتنا مع الاستبداد الديني والسياسي والاجتماعي. تعتاش أنواع الاستبداد المختلفة على أخلاق المتشائمين الإيجابيين. على السوريين اليوم أن يضعوا المشروع الأخلاقي لأدونيس وطرابيشي وأبو عفش وأمثالهم خلفهم مرة واحدة وإلى الأبد. على السوريين أيضاً أن يواجهوا حالة الإحباط المنتشرة بين الشباب السوري والناشطين السابقين ودعاة العزلة والحل الفردي، ممن ساهموا في البداية بقسط وافر في الحراك وتحولوا اليوم إلى قادة حملة تيئيس تنضح بأخلاق التشاؤم.
هذه الأخلاق الخانعة هي الدرب المؤدي لهزيمة الروح في معركتنا مع الفاشيات.
بالمقابل، نجد على الأرض السوريين اللذين يعملون بتفانٍ للخروج من المحنة. يتحلى هؤلاء بما أسميته أخلاق العمل والتفاؤل. الإيمان بحرية الإنسان، وبحقه في حياة كريمة، يتجلّى في الفعل والعمل وبالسعي الحثيث واليومي لحفظ كرامة السوريين ومساعدتهم بكل السبل الممكنة، مهما كانت المساهمة صغيرة وهامشية.
بهذه الأخلاق سننتصر على الفاشيات.
على كل منا أن يختار منظومة الأخلاق التي تناسبه.
من هنا تولد الحرية، من هذا الاختيار الأخلاقي المبدئي.
الجهاديون والنظام الإقليمي والدولي/ غسان المفلح
قرأت مادة «الإسلام، الإسلاميون، والعنف» لياسين الحاج صالح وأفادتني بقدر ما أمتعتني؛ هذه عادةً نصوص ياسين، المهموم حتى نقيّ العظم بأحوالنا كسوريين وكمنتمين للعالم الإسلامي وكمسلمين. في الحقيقة هذه المادّة، وغيرها مما كتبه عن الإسلام والمسلمين، تصلح لأن تُقرأ من عموم المسلمين، فما بالنا بمن يسيّسون الإسلام؟ ثمة نزعة أخلاقية في فكر ياسين، تنزع بتكوينها إلى إمكانية جعلها مبحثاً معاصراً لإسلاميي الراهن، إضافة لمبدأ حرية المعتقد والذي يؤسِّس لإسلام من نوع مختلف، فيما لو وجد إسلاميين يحملونه ويؤسّسون له… في مادّته البحثية تلك يؤكد ياسين على أن الإسلام السياسي بمختلف تياراته ما يزال عبارة عن محاكاة للسلطات القائمة، وكأنه صِنوُها ممارسةً وأسلوباً، علماً أنه يميز بين ’الإخوان المسلمين‘ والسلفيات الجهادية الاحترابية، إلا أنه تمييز لا يصمد أمام جرأة جماعة ’القاعدة‘ في تصدّرهم للمشهد الإسلامي كما يشير ياسين، خاصةً إعلان داعش عبر خليفتها إبراهيم البغدادي عن دولة خلافتها، والتي هي نسخة سلفية جهادية عن دولة الخلافة التي ما زال ’الإخوان‘ يشتغلون عليها أيضاً. هنا يصير البحث عن معتدلين إسلاميين هاجساً حقيقياً.
أتابع ياسين بشغف في الحقيقة، لكن هنالك نقطة أظنّها مفصلية تغيب عن المشهد التحليلي لياسين، ربما نتيجة أولوية الثقافي والمعرفي عنده أكثر مما نتيجة جهل بها. هذه النقطة في الحقيقة تتعلق بالنظام الدولي: أولوياته؛ توضّعاته، الإقليمية في مناطق العالم والمحلية في كل بلد على حِدة؛ آلياته في إنتاج التطرّف، سواء كان بشكل مباشر أو غير مباشر؛ لغة المصالح والسياسة؛ تمرّس سلطة الدولة الكبرى، وتوضّعاتها الإقليمية في سلطات توازيها خبرةً في إنتاج هذا التطرف لا بل وفي بناء مؤسسات عملاقة لهذا التطرف السياسي، إسلامي أم غير إسلامي.
سأضرب أمثلة من وحي اللحظة السلفية الوهابية 1 منذ انطلاقها، فقد حملتها القوة والعسكرة، ولم تنتشر سلمياً، ثم انتلقت لتنتشر لاحقاً في كامل أراضي المملكة العربية السعودية، وفيما بعد في خارجها، وكل ذلك عبر مسارب مالية وإعلامية خُصّصت لها أموال ضخمة جداً. ثم تأسّست ’القاعدة‘ أميركياً وإقليمياً في الشرق الأوسط لكن على أرض أفغانستان إبّان الغزو السوفييتي لها عام 1989، وبدأ عبد الله عزام 2 وبن لادن 3 بتأسيس ’القاعدة‘ عبر مكتب خدمات في أفغانستان، كان له فرع معروف في أميركا لتطويع الجهاديين عام 1984. ثم قامت داعش حالياً…
من يَعُدْ إلى عام 2009 للبحث عن الملف الذي، بتكليف من رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، حمله هوشيار زيباري 4 إلى الأمم المتحدة وواشنطن حول تحوّل نظام الأسد إلى أكبر مصدر للإرهاب في العراق، حيث شارك في تطويع الشبّان لقتال القوّات الأميركية، وفي إرسال متطوعين قادمين من بلدان أخرى وتقديم كافة التسهيلات لهم، مع قاعدة لوجستية لهم للانتقال للعراق قادمين من أفغانستان وبقية فروع ’القاعدة‘ إلى العراق لإفشال تجربتها الأميركية. ثم الأطرف هو أن إيران والولايات المتحدة الامريكية، بقيادة أوباما، طلبا من المالكي طيّ الملفّ، وعاد زيباري من واشنطن بخُفَّيْ حُنين… علماً أن أميركا قبل نهاية عهد جورج بوش كانت قد قصفت في تشرين الأول 2008 منطقة البوكمال بوصفها المعبر الاستخباراتي السوري ومركز تجمّع لهؤلاء.
ثم كانت تجربة الأسد في لبنان عبر إنشاء تنظيمات إرهابية والقيام بتفجيرات فيه واغتيالات. ومن الجدير بمكان قراءة ظاهرة الأفغان العرب 5 التي ظهرت طلائعها الأولى في أحداث الجزائر والسودان 1990، وذلك بعد إعلان ’الجيش الإسلامي للإنقاذ‘ عام 1997 عن هدنة بينه وبين قوات الأمن الجزائرية خفّت بموجبها أعمال العنف إلى حدّ كبير، ثم حاولت الجماعة تفعيل عملياتها المسلحة مرة أخرى عبر قيادة قمر الدين خربان، الحاصل على اللجوء السياسي من بريطانيا وصاحب العلاقة الوثيقة بأسامة بن لادن منذ كان مسؤولاً عن مراكز تدريب الأفغان العرب في أفغانستان… ثم لنلاحظ هذه المفارقة: «ظهر [فرع لـ] الأفغان العرب في بلاد الشام أوائل عام 1993، ويبدو أن هناك تداخلاً تنظيمياً بينهم وبين تنظيم ما يُعرف بـ«جيش محمد» [فقد صار لدينا نسخة منه في سوريا]. وفي سوريا 1993 أعلنت السلطات اعتقال مجموعة من الأفغان العرب الذين دخلوا البلاد بطريقة غير قانونية، وحكمت عليهم بالسجن مُدَداً مختلفة». لكن ماذا فعل بهم الأسد؟ وكيف استثمرهم في لبنان ومناطق أخرى لاحقاً؟
تشير المعطيات أيضاً أن أعمار من ذهبوا للقتال في أفغانستان كانت تتراوح بين 15-20 عاماً، فأيّ ثقافة سلفية جهادية تلقّاها هؤلاء قبل ذهابهم إلى تورا بورا قادمين من الدول العربية وأوربا وأميركا؟ وهل ترافقت مثلاً مع زيارات لأعضاء الكونغرس الأميركي إبّان تلك الفترة؟ تُقدّر أعدادهم بنحو 19 ألف، منهم 6 آلاف مقاتل والباقي متطوعون للعمل الإغاثي هناك، وقلة منهم من عادوا إلى بلادهم واندمجوا من جديد في مجتمعاتهم، فجلهم صاروا مطلوبين في بلدانهم وربما من بلدان أخرى، فتحولوا إلى محترفي سلفية جهادية تتوزع في بؤر التوتّر في العالم الاسلامي (ما عدا فلسطين ربما) وبالتالي تحولوا إلى مطية لأجهزة استخبارات تؤمّن لهم الملجأ والحماية وتستخدمهم –عند اللزوم إيران أو العراق أو سوريا أو الجزائر– نماذج حيّة، لذا نادراً ما تجد تنظيماً جهادياً يخلو من قيادي من هؤلاء، في كل فروع ’القاعدة‘ في العالم العربي، و’داعش‘ و’النصرة‘ أيضاً نموذجان راهنان، فكلٌّ من الناطقَين الإعلاميََّين باسميهما من الأفغان العرب. لذا تفيد دراسة ظاهرة الأفغان العرب في رصد الكيفيات والوسائل التي تم بها انتشار تنظيم ’القاعدة‘ 6 . ثم تلزم محاولة الدخول لمعرفة كيفية تشكل ’جماعة أنصار الشريعة‘ في تونس ومن ثم ليبيا.
من الجدير بالملاحظة الحديث عن العلاقة بين الأفغان العرب وأميركا، والمعتقلين السابقين في غوانتانامو، وكيف وزعت الولايات المتحدة أغلبهم على سلطات الشرق الاوسط وخاصةً سوريا، بعد أن قرّر أوباما إغلاق المعتقل. تحضرني هنا حادثة طريفة رغم أنها كانت قد تؤدي لحرب طائفية في لبنان، وهي أن مشغّل موقع «لواء أحرار السنّة-بعلبك» ينتمي إلى حزب الله، ويدعى حسين شامان الحسين، وهو من أصل إيراني ومجنّس في لبنان! وقد كان صاحب الموقع عضواً في حزب الله ويأتمر بأمره. هذا الموقع الذي كان يثير غرائز الشيعة ضد السنة 7 لدرجة أن المخابرات اللبنانية استنفرت لاعتقال اصحاب الموقع لاعتقادهم أن «لواء أحرار السنّة الحزباللهي» ينتمي إلى ’جبهة النصرة‘ أو داعش!
ما أردت قوله من هذا العرض السريع، إلى خلاصة ما يُهمله ياسين في مبحثه الهام، وهو أن الأيديولوجيا مهما كانت متطرفة، خاصة في زمننا وربما في أي زمن آخر، لا تستطيع بناء قوة مسلحة كـ’القاعدة‘ وداعش و’النصرة‘ و’أنصار الشريعة‘… والقائمة تطول…، خاصة إذا علمنا أن هذه الأيديولوجيا تنشط بشكل سرّي في البلدان الإسلامية أو تحت إشراف مباشر لأجهزة استخبارات، وتتدفق إليها أموال من كل حَدَب وصَوْب حسب المنطقة والبلد، وحسب مواقف النظام الدولي. يشير معظم المعنيّين بهذا الشأن إلى أن موقف إدارة اوباما المخزي من الشعب السوري هو ما كان وراء انتشار هذه الداعش وتلك النصرة.
لهذا أعتقد أن ما يجري من نقاش عن داعش أو ’القاعدة‘، حول أنهم إسلاميون أو الإسلام منهم براء، هو نقاش خارج الموضوع السوري، وداعش والأسد يريدانه أن يستمرّ، لأنه بالضبط يُبعد الأسد وجريمته عن المشهد أو يتركه في زاوية مهملة… إنهم مرتزقة بالمحصّلة.
أيامَ العمل السرّي لـ’حزب العمل الشيوعي‘ وأيام الأصدقاء في ’الحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي‘ (’حزب الشعب‘ حالياً) كان واضحاً لنا أن الأيديولوجيا لا تبني لوحدها تنظيمياً سرّيّاً، ولا يمكن أن يحوز أحد على هيمنة مجتمعية-أيديولوجية بدون حامل مادّي على الأقل أو دولي. لهذا قال لنا أحد ضباط المخابرات الذي حقّق معنا: البيض لا يُقلى بالماء! تقْلُون البيض بالماء نتيجة إفلاسكم وتريدون إسقاطنا! قالها ضاحكاً ومستغرباً طبعاً: كيف لنا تحمّل ظروف عيش كهذه من أجل العمل السياسي؟
خلاصة القول أن أيّ إصلاح ديني لا يمكن أن يمرّ دون حقل السياسة، بكل ما يحمله من شروط؛ وقوى؛ وأنظمة؛ ومصالح تتقاتل وتتصارع؛ وجرائم تُرتكب باسم الأيديولوجيا أحياناً… والأيديولوجيا بفعل هذا الزمن عبارة عن ملحق سياسي بالنظام الدولي وتوضّعاته الإقليمية والمحلية. لذا أية أيديولوجيا دون حمولة دولية لا يمكن أن تكون مشروعاً ناجحاً، ولا يمكنها حتى شراء السلاح أو دفع رواتب مقاتليها. هؤلاء لا يأتون ومعهم أموالهم، بل يأتون ويحصلون على رواتب شهرية تفوق غالباً مستوى الدخل في البلدان المعنيّة. هذا ما أثبته الربيع العربي عموماً، والثورة السورية خصوصاً: الجهاديون هم مرتزقة حرب!
في مادّة قبل أقلّ من عام كتبت أن الإسلاميين هم روح التضحية ورداءة السياسة؛ لكن مَن يضحّي بمَن هنا، عندما ننقل المشهد الاسلامي كله ونحاكيه انطلاقاً من داعش و’القاعدة‘؟ من يتابع محطات التفلزة الخليجية المختصة بالشريعة الاسلامية، أو القنوات الإيرانية المختصة، بتسويق الوليّ الفقيه والاحتراب الطائفي، يمكنه أن يعرف أن هؤلاء يُحاكون السلطة ويتماهون بها، لأنهم محترفو حرب، وليسوا حَمَلَة أيديولوجيا بالمعنى المعروف للعبارة.
أية أيديولوجيا يحملها مثلاً وثنيّو أو مسيحيّو إفريقيا التي تبرّر الذبح في دُوَلها؟ أية أيديولوجيا حملها مقاتلو شرق أوكرانيا؟ التخلص من هؤلاء لا يمكن أن يتم إلا عبر التخلص من الوضع الدولي الذي أنتجهم. لأن تجفيف منابعهم يحتاج طبعاً إلى ثقافة يدعو لها ياسين، لكن هذه الثقافة تحتاج إلى حامل سياسي مؤسَّسي ويمتلك إمكانيات مالية. لهذا، في لقاء لي مع المرحوم الدكتور نصر حامد أبي زيد، سألته عن هذه النقطة بالذات، كيف يمكننا الحديث عن الإصلاح الديني بمعزل عن الدخول إلى الحقل السياسي؟ فكانت إجابته: نعم هذا صحيح، وبدونه لا يمكن القيام بأي إصلاح ديني. السياسة بكل ما تعنيه هذه الكلمة هي مَن تصنعنا في النهاية. مهمّ في هذا الاطار العودة لتجارب تأسيس حزبَي ’العدالة والتنمية‘ في العالم الإسلامي في كلّ من تركيا المغرب، لنعرف بالضبط دور السياسة والنظام الدولي في هذه التجربة.
لا أدعو إلى عدمية ثقافية أو معرفية أو أيديولوجية، لكن أدعو إلى الانطلاق من الحقل السياسي إليها وليس العكس. أتمنى ان أكون قد وضّحت ملاحظتي الوحيدة على محاولة ياسين، الأغنى معرفياً في هذا المجال وفي هذه اللحظة من عمر سوريا التي «غطّاها الحزن وكثرت عليها المطاليب».
هوامش
1.
↑ السلفية الوهّابية أو الوهّابية مصطلح أُطلق على حركة إسلامية سياسية، قامت في منطقة نجد وسط شبه الجزيرة العربية في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي على يد محمد بن عبد الوهاب (1703 – 1792) ومحمد بن سعود (1710-1765)، حيث تحالفا لنشر الدعوة السلفية الحنبلية. وقد كانت بدايتهما في إمارة الدرعية حيث أعلن محمد بن عبد الوهاب «الجهاد» وشنّ سلسلة من الحروب (الغزوات) تمت فيها مصادرة أموال خصومهم من المسلمين في شبه الجزيرة (كانوا يسمّونها غنائم) وخسر العديد من المسلمين أرواحهم نتيجة هذه الحروب، واعتبرتهم مصادر عديدة أنهم بذلك خرجوا على الخلافة الإسلامية التي كانت تحت حكم العثمانيين.
2.
↑ عبد الله عزّام (1941-1989) شيخ فلسطيني-أردني من الجناح السلفي لـ’الإخوان المسلمين‘، ولد في جنين ودَرَسَ في دمشق والقاهرة ودرّس في عمّان وجدّة، يعتبر أهم شخصية قيادية في الجهاد الأفغاني-العربي، انشقّت عن قوّاته منظمة ’القاعدة‘ العربية بعد تحرير أفغانستان والاقتتال العشائري في البلاد وأعلن عن نفسه بعد حرب الخليج الثانية.
3.
↑ أسامة محمد عوّاد بن لادن (1958-2011) قيادي سلفي جهادي، كان طالب بزنس في الرياض قبل أن يغادر إلى باكستان ويؤمّن لـ’المجاهدين‘ الغطاء المالي والتنسيق الأمني والعسكري، عاد إلى بلاده وانشقّ عن النظام السعودي إثر التحالف السعودي-الأميركي ضد الغزو العراقي للخليج.
4.
↑ هوشيار زيباري (1953-) سياسي عراقي كردي ووزير خارجية العراق بين 2003 و2014.
5.
↑ «الظروف الدولية والإقليمية لقدوم العرب إلى أفغانستان»، مادة مهمة لمحمد عبد العاطي، الجزيرة.نت. «ساعدت عدة عوامل في وجود المقاتلين والإغاثيين العرب في أفغانستان وباكستان، وهو ما لم يتوفر لعمليات مقاومة مسلّحة أخرى سابقة للقضية الأفغانية مثل القضية الكشميرية والفلسطينية، أو لاحقة بها مثل القضية البوسنية أو الشيشانية. ويمكن تلخيص تلك العوامل في النقاط التالية: شجّعت الحرب الباردة الولايات المتحدة على تشجيع الشباب الإسلامي على التوجه إلى أفغانستان وباكستان للاشتراك في الحرب على السوفييت أو في العمليات الإغاثية هناك، خاصة أن واشنطن كانت تعيش التجربة الفيتنامية التي دعم فيها الاتحادُ السوفياتي الثوارَ الفيتناميين، فكانت الحرب الأفغانية فرصة للانتقام. سمحت الحكومات العربية الصديقة للولايات المتحدة والتي تخشى من المدّ الشيوعي لكثير من المتطوعين من مواطنيها بالسفر للاشتراك في تلك الحرب. وكانت أهم الدول التي قدّمت دعماً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً للمجاهدين الأفغان هي السعودية وباكستان ومصر والكويت»… ويُغفل هنا الباحث عن دور نظام الأسد الأب في ذلك أيضاً.
6.
↑ «ما المقصود بالأفغان العرب»، 2001، مادة بحثية للدكتور نشأت عبد الماجد، هنا رابط لها.
7.
↑ «لبنان: مشغّل موقع «لواء أحرار السنّة بعلبك» ينتمي إلى حزب الله، خبر في جريدة القدس العربي .
موقع الجمهورية
بين النصرة وكوباني/ سمير العيطة
ما يجري في سوريا ليس حرباً تقليديّة، بل حرب فوضويّةً عبثيّة. إنّ انتقال الصراع في صيف 2012 إلى حربٍ نوعاً ما منظّمة، لم يفـض في الواقع سوى إلى تدمير حلب التاريخيّة وغيرهـا من المـدن. كما أدّى إلى استعصاء جديد عسكريّ وسياسيّ في الوضع السوريّ العام. هذا الاستعـصاء كان وراء فشل مشروع «المجلس الوطني السوريّ» موضوعيّاً واستبداله «بالائتلاف»، الذي تزامن إنشاؤه مع إطلاق العنان للمتطرّفين كي تصبح سوريا أرض جهادهم. وتمّت تغطية الأمر حينها من قبل بعض الدول «الديموقراطيّة» بأنّ حرب سوريا قد أضحت بمثابة «حرب إسبانيا» هذا العصر، من دون أخذ العبرة ممّا أنتجته ذات السياسات في ليبيا.
هكذا وقعت الدول المناهضة للسلطة في سوريا في الفخّ التي نصبته هذه الأخيرة، ثمّ تعاظـمت كرة الثـلج المتطرّفة تنظيميّاً وفكريّاً حتّى أضحـت صاحـبة الكلمة الأولى بين القوى العسكريّة على الأرض. أكانت «داعش» أم «جبهة النصرة» أم غير ذلك. وانخرطت السلطة في مهادنة داعش كما انخرطت معارضة الائتلاف في مهادنة «النصرة». لتزيد من تضخّم كرة الثلج المتطرّفة. وبالنتيجة غدت «داعش» «دولة» وواقعاً قائماً يحتاج لتحالفٍ دوليّ يعدنا بسنوات طويلة من أجل القضاء عليه في سوريا والعراق.
فرح من فرح بانخراط الولايات المتحدة مباشرة في الصراع العسكريّ في سوريا. إلاّ انّ المبتهجين لم يسألوا أنفسهم عن هدف هذا الانخراط: أهو إعادة ترتيب خريطة المنطقة لما بعد سايكس – بيكو؟ أم على العكس، ضبط حلفائها الإقليميين الذين عاثوا في أرضي العراق وسوريا فساداً؟ أو ربّما الهدفان معاً؟ هذا في حين يستطيع أيّ متابع للتطوّرات في السنوات الثلاث المنصرمة أن يلحظ المرّات العديدة التي واجهت فيها الولايات المتحدة بالتحديد طموحات حلفائها قبل القوى التي توضع في خانة المناهضة لها. وقد أضحى واضحاً أنّ هذه الطموحات باتت تشكّل مخاطر على هؤلاء الحلفاء ذاتهم، عبر تطوّر «داعش» بالنسبة لدول الخليج، وتفجّر القضيّة الكرديّة بالنسبة لتركيا.
يبقى أنّ هناك جماهير سوريّة أمطرت السلطة القائمة مدنها وقراها بالبراميل، وجماهير عراقيّة تعامل معها جيـش العـراق لما بعـد الاحـتلال بمـا لا يليق والحـفاظ عـلى وحـدة شـعب العـراق. وكـلّ هذه الجماهير أضحت تشعر بالظلـم، بأنّ قادتـها المدنيين خذلوها وأنّ «داعش» وسـواها ثـأروا لظلمها. تلك الجماهير أضحـت تتعاطـف مع «داعش» أو على الأقلّ تحلم أنّ إحدى الدول الإقليميّة ستأتي بجيوشها البريّة في مرحلة ما لترفع عنها الظلم. ومن هنا أتت المناداة بالمناطق الآمنة وبالتدخّلات الخارجيّة.
لكنّ الولايات المتحدة، كما الدول الإقليميّة، تعرف جيّداً أنّ هذه المنطقة من الشرق في غاية التعقيد، وأنّ التحالفات فيها آنيّة بالضرورة، وأنّ من يضع إصبعه فيها من دون دراية يحرقها، فما بالك عندما يدخلها بأحذيته؟ المطلوب إذاً قبل كلّ شيء، وبعد كلّ شيء، هو تخليص هذه الجماهير من مشاعر الظلم التي تعاني منها.
وفي الحالة السوريّة أيضاً، هناك مفترق طرق حساس هو «جبهة النصرة» التي طالما غازلها «الائتلاف» وتنظيمات معارضة مقاتلة، خصوصاً أن أغلب عناصرها سوريّون وأنّها القوّة الضاربة الأكفأ والأشرس في مواجهة القوّات الحكوميّة. وكان للقصف الأميركي عليها، بحجّة ضرب تنظيم «خراسان» الذي ينضوي تحت لوائها، وقع كبير. أهمّ تداعياته كان خلق قطيعة بين الجماهير الشعبيّة المعارضة والائتلاف، وفقدان هذا الأخير آليّته الأساسيّة، أي المزايدة دوماً على الجماهير. في الوقت نفسه، برز التضامن بين «داعش» و«النصرة» واضحاً، خصوصاً في القلمون. أمّا مفترق الطرق الآخر الحسّاس فهو مدينة عين العرب، كوباني، التي تودّ «داعش» الهيمنة عليها اليوم في مواجهة حزب «الاتحاد الديموقراطي الكردي» وقوّاته العسكريّة. هذا الحزب الذي طالما تمّ اتهامه بالتحالف مع السلطة في سوريا.
ويكمن مفترق الطرق الحقيقي بأنّ الولايات المتحدة لن تساعد لا عسكريّاً ولا سياسيّاً تنظيمات تتحالف مع «النصرة»، وأنّ أكراد عين العرب، كوباني، سوريّون يجب أن يقف بقيّة السوريّين، وليس الأكراد وحدهم، للدفاع عنها.
السفير
إنها في عين العاصفة الداعشية…/ عبدالباسط سيدا
تصدّرت مدينة كوباني (عين العرب) الكردية التابعة لمحافظة حلب نشرات وكالات الأنباء، وهي التي لم تكن معروفة لكثيرين، وذلك في مشهد مماثل لما كان عليه الحال بالنسبة الى مدينة شنكال – سنجار في كردستان العراق قبل وقت ليس ببعيد. ومن الحدثين يمكننا أن نستنتج أمرين يلقيان الضوء على مسائل كثيرة.
الأول أن «داعش» يختار الأهداف المضمونة التي تحقق للتنظيم مزيداً من الدعاية بأنه القوة التي لا تقهر. ففي شنكال استغل التنظيم واقع ضعف الدفاعات العسكرية لدى البيشمركه في المنطقة. وحاول في الوقت ذاته أن يغطي حملته الإرهابية بيافطة نشر الإسلام، حتى أن بعضهم خرج على الشاشات ليقول: كل ما نطلبه من الإيزيديين هو أن يدخلوا في الإسلام. وسكت الداعشي عن كل حالات السبي والاغتصاب والذبح والنهب، وهي التي تثير القرف والتقزز لدى المسلمين قبل غيرهم، فما بالك بالإيزيدي الذي يُطالب عنوة بدخول ما يزعمونه اسلاماً، لا يُناسب حتى العصور الحجرية. ومن جانب آخر، من البيّن أن شنكال تحقّق لـ «داعش» تحكّماً أكيداً بالمنطقة الحدودية بين العراق وسورية.
أما بالنسبة إلى كوباني فأصحبت هي الأخرى هدفاً لحملة داعشية شرسة على رغم أن كردها جميعاً، ومن دون أي استثناء، من المسلمين السنّة. ويبدو هذه المرة أن «داعش» استهدف المنطقة بهدف التحكّم بالبوابة الحدودية بين تركيا وسورية وبالتالي تأمين نافذة على العالم الخارجي لعاصمته المنتظرة: الرقة.
وما يستنتج في هذا السياق أن «داعش» كان على علم بحجم القوة العسكرية المتواجدة في المنطقة عموماً، وفي مدينة كوباني على وجه التحديد. وهي قوة تابعة لحزب الاتحاد الديموقراطي، متواضعة قياساً إلى ما يمتلكه «داعش» من جهة الكم والكيف. فالنظام الذي ترك إدارة المناطق الكردية للحزب المذكور، لم يسمح له بامتلاك السلاح الثقيل النوعي والمتطوّر، وإنما أقرّ له فقط بامتلاك ما يمكّنه من ضبط المناطق المعنية المنزوعة السلاح أصلاً.
أما الأمر الثاني الأساسي الذي لا بد أن نتوقف عنده، فهو هذا التحوّل في الموقف الداعشي من الكرد، واستهدافه لهم، بصرف النظر عن العامل الديني، كما جرى ويجري في منطقة كوباني، المنطقة المسلمة السنية، المعروفة بطابعها المحافظ.
فمن الواضح أن القوى الفاعلة في المشروع الداعشي، والمستفيدة منه، ونعني هنا بصورة أساسية النظام السوري وإيران، وبعض الجهات العراقية، أرادت تفجير النسيج المجتمعي في المنطقة، رغبة منها في المصادرة على احتمال تفاهم واقعي بين المكّونين الكردي والعربي السني، بخاصة في العراق، وهو تفاهم لن يكون على حساب أحد، بل سيساهم في تهدئة الأوضاع واستقرارها لمصلحة الجميع.
فبعد الجهود الحثيثة التي بذلها النظام السوري في سعيه الى شيطنة البديل القادم في حال زواله، انطلق مع حلفائه لزعزعة ركائز الاستقرار في المنطقة التي يعلم جيداً أنه لن يتمكن من حكمها مجدداً. وقد تمكّن بفعل علاقاته مع البعثيين العراقيين القدامى، وتواصله مع بعض العشائر ذات البنية الهشة، من دغدغة المشاعر القوموية التي تفاعلت مع الظاهرة الداعشية المقنّعة. وهذه ظاهرة لها أسبابها الخاصة، منها ما يتصل بالإحباط والشعور بانسداد الآفاق، ومنها ما يتصل بالجهل، وعدم القدرة على تحليل المشهد، والوقوف على طبيعة خلفيته، والعوامل المكوّنة له.
واللافت في الصورة بمجملها، أن الهجمة الداعشية على الكرد جاءت بعد أن طرح الرئيس مسعود بارزاني على برلمان كردستان موضوع ضرورة اجراء استفتاء عام بخصوص تقرير المصير، الأمر الذي كان واضحاً منذ البداية أنه يتعارض مع المشروع الإيراني الرامي إلى السيطرة بصيغ ومستويات متفاوتة على العراق كل العراق، وسورية كل سورية.
ويـــبدو أن النظام السوري كان يراهن على سقـــوط كوبـاني بأيــدي «داعـــش»، وهذا ما يُفسر عدم تدخله لمصلحة حزب الإتحاد الديموقراطي، وقوات الحماية الشعبية التابعة لهذا الحزب الذي يفترض أنه حليفه، بل لم يحرّك ساكناً في مواجهة الهجمة الداعشية التي كان على اطلاع على حجمها ومآربها وانعكاساتها. ولعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا ان هذا السقوط المرغوب من جانب النظام، هو جزء من جهوده التفجيرية للنسيج المجتمعي السوري، بخاصة على صعيد العلاقة العربية – الكردية.
وما يُستشف من تصرفات النظام غير المتوازنة، أنه لم يكن يتوقع سرعة الضربة الدولية وحجمها، وهي التي شملت، وما زالت مستمرة، مقرات قيادة وقواعد التدريب والمرافق الحيوية التابعة لتنظيم «داعش». وهذا ما يفسر جانباً من حالة التخبط التي اتسمت بها تصريحات مسؤوليه، وتعلّقهم البائس بأية قشة تمكّنهم من اللحاق بالتحالف الدولي، أو على الأقل إيهام النفس، قبل الآخر، بأنهم جزء منه، أملاً بعملية إعادة تأهيل… بخاصة أنهم يعلمون أن الأمور باتت جدية، ولم يعد في وسع الحليف الروسي أن ينقذهم عبر تعطيل مجلس الأمن، أو مدّهم بأسلحة استخدمت على مدى أكثر من ثلاثة أعوام ونصف عام لقتل السوريين، وارتكاب المجازر التي بلغت ذروتها بجرائم الكيماوي.
الحملة الدولية على الإرهاب ما زالت في بدايتها، ويبدو أنها ستستغرق وقتاً لا بأس به. وهي لن تكون ناجحة ما لم تأخذ في حسابها المعالجة السببية من دون العرضية التخديرية. فـ «داعش» وملحقاته، وأشباهه، هم حصيلة لجهود نظام اتخذ من الإرهاب ركيزة أساسية لتثبيت أركان حكمه، وضمان استمراريته. نظام يمارس الإرهاب في الداخل السوري منذ عقود، وقد مارسه في لبنان والعراق، وهو خبير في ميدان التعامل مع المجموعات الإرهابية يستخدمها أدوات تنفيذ حين اللزوم، وأوراقاً تفاوضية حينما تكون هناك فرصة للصفقات.
وأية معالجة حقيقية للموضوع برمته، تستوجب تشخيص أصل الداء، بغية إبطال مفعوله، إن لم نقل استئصاله، والإ ستكون المعالجة وقتية هامشية، تُستخدم فيها المسكنات التي قد تعطي انطباعاً كاذباً بأن الأمور باتت على ما يرام.
أما العلاقة الكردية – العربية، فكانت، وستكون أخوية، أساسها الاحترام والوئام، وخلفيتها حقائق التاريخ والجغرافيا والثقافة والمصالح المشتركة، على رغم الذين يسبحون ضد التيار.
الحياة
حكاية الإرهاب ومكافحيه/ سعيد لحدو
في إحدى القرى المسيحية وفي صباح عيد الفصح تقدم جميع أطفال القرية من الخوري للاعتراف بخطاياهم وتناول القربان المقدس بحسب الطقس الكنسي. وهكذا تقدم الطفل تلو الآخر ليعترف للكاهن بأنه اعتدى على شمعون. وفي النهاية تقدم طفل بتباطؤٍ وانكسار وعندما سأله الكاهن عن خطيئته التي اقترفها قال الصبي: أنا هو شمعون!!!
قد لايجد هذا الشمعون مكاناً له في حكاية الإرهاب الحالي ومكافحية الكثر في سوريا والعراق في غياب ذلك الخوري، والسبب لأن لون الإرهاب وطعمه في أيامنا هذه، يختلفان من متذوق لآخر. أما رائحته فيشمها المكتوي بناره من بعد آلاف الكيلومترات بأنفه العاري وبدون الحاجة لأية أجهزة فائقة الدقة للتحسس والتصوير والمراقبة مثل تلك التي تحملها طائرات التحالف الدولي المستنفرة لمكافحة الإرهاب.
أربعون دولة اجتمعت يارجل!!! ما يشكل ثلاثة أضعاف عدد الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. هذا كله مقابل بضع عشرات الآلاف من المسلحين المتنقلين طولاً وعرضاً في صحراء مفتوحة؟؟؟ وإذا أضفنا إليها الحرب التي قال النظام السوري وحلفاؤه أنهم يشنونها على الإرهاب منذ خمسة وأربعين شهراً، وكانت نتائجها كمن يحرق البيت بكل مافيه ومن فيه ليقتل بعوضة دخلته، لخرجنا بنتيجة مفادها أن هذا الإرهاب الذي يستشري في المنطقة ماهو إلا أحجية كبيرة صنعتها جهات وهي مدركة تماماً لما ترمي إليه وللمدى الذي يمكن أن تصل إليه، وتريد إيهامنا الآن بأنها تحاول فك طلاسم هذه الأحجية، بعد أن أوهمتنا بأنها صدقت تلك الكذبة التي أطلقتها.
هذا أمر غريب بالطبع. لكن الأغرب أن هذا المارد الذي اجتمعت كامل الكرة الأرضية لمحاربته، مازال يتمدد ويتوسع ويزداد قوة وتسليحاً ويسيطر على المزيد من الأراضي والمدن في سوريا والعراق، ومازالت تهديداته تطال الجميع بلا استثناء!!! وكأننا أمام فيلم هوليوودي بطله هذه المرة ليس من فصيلة العيون الزرقاء بل من قوم (الأبوات) الذين باستثناء مخرج الفيلم لا أحد يعرف أسماءهم الحقيقية. وهم كلما ضُربوا من إحدى تلك الجهات التي تكافحهم كلما تزايدت أعدادهم أكثر مما قبل!!
الحكومات والشعوب والحركات والأديان والأحزاب والمنظمات جميعها تعلن وتؤكد رفضها ومحاربتها لهذه الوحوش المتنكرة بهيئات آدمية. وهذا أمر طبيعي ومنطقي بالنظر إلى مجاهرة هؤلاء بعدائهم لكل مايمت للإنسانية بصلة، وبالنظر إلى سلوكياتهم التي تتعفف أشرس الحيوانات عن فعلها. ومع ذلك نراهم يحصلون على كل الأسلحة والمركبات والوسائل اللازمة لحربهم الكونية هذه وهم محاطون من كل الجهات بأعداء مفترضين وليس لهم منفذ واحد على العالم الخارجي. ثم يتقدمون بهدوء وثبات ويوسعون في حدود دولة الخلافة التي أعلنوها دون أن يثنيهم عن مقصدهم عائق.
طائرات الحلفاء تقصف كما يقولون تجمعاتهم ومراكز القيادة والسيطرة وخطوط الإمداد، وفي الوقت ذاته ورغم كل هذا القصف نرى هؤلاء يوسعون مجال سيطرتهم في محافظة الأنبار العراقية وفي مدينة كوباني السورية رغم المقاومة الكردية المستميتة في الدفاع عن المدينة.
كوباني ليست المدينة الأولى التي جرى فيها مانشاهده الآن، كما لن تكون الأخيرة وإن كنا نأمل غير ذلك. فقد سبقتها الموصل من قبل وسنجار ومناطق السريان الآشوريين الكلدان في سهل نينوى. ومن قبلها كانت الرقة ومن ثم البوكمال ودير الزور والقرى المحيطة بها. وكأن مكافحي الإرهاب كانوا ينتظرون حتى يقوى ويستحكم هذا التنظيم الإرهابي ومن ثم يحاربوه. لأنه كما تقتضي شيم الرجولة والبسالة يكون الانتصار محل افتخار إذا تم على عدو قوي. أما غلبة عدو ضعيف فلا يعتد به وسيكون موضوع تندر لنساء الحي وحرائره في ليالي سمرهن وهن ينتظرن عودة رجالهن البواسل حاملين بشائر النصر الكبير.
الأهم من كل هذا أن المكونات الدينية والأثنية التي هُجِّرت من مواطنها التاريخية في الموصل وسهل نينوى وسنجار وغيرها، لم يتم بذل أي جهد لإعادة السكان إلى بيوتهم، لا بل أن موجة الهجرة مازالت مستمرة رغم أن التحالف الدولي والحكومة العراقية تعلن أنه تم دحر التنظيم من بعض المناطق؟؟ وهذا يعني إفراغ تلك المناطق من سكانها الأصليين وإفقاد المنطقة عموماً تنوعها الذي تميزت به عبر التاريخ.
تساؤلات عديدة تثيرها الوقائع على الأرض. منها مثلاً كيف يحارب النظام السوري الإرهاب وهو يمطر المدنيين السوريين ببراميل الموت في حلب وحماه ودرعا في الوقت الذي يناشد العالم وكأنه طرف خارجي لاعلاقة ولا مسؤولية له بما يحصل لتخليص كوباني من داعش متجاهلاً أنها مسؤوليته بالدرجة الأولى؟؟؟ كما إنه لم يقدم لسكان المدينة أي دعم من أي نوع كان.
وقائع أخرى تتعلق بسلوك التحالف الدولي والأهداف التي تقصفها طائراته، والأهداف الأبعد التي ينشدها كل طرف من خلال مشاركته في هذا التحالف. ففي موقع معين يكون الإرهابي هدفاً مشروعاً للقصف، أما في موقع آخر قد يبعد عدة كيلومترات فهو ليس كذلك!!
طوال أسبوعين وتنظيم داعش يستقدم التعزيزات وهو يطوق مدينة عين العرب-كوباني في أرض مكشوفة تماماً، لم يقم التحالف الدولي بأية خطوة جدية تعيق تقدم التنظيم حتى دخلوا المدينة وبات أمر القصف أصعب بكثير. ومن جهة أخرى نرى الدبابات التركية تتمركز على بعد مائتي متر من المدينة في استعراض لايخلو من المغزى تجاه الأكراد دون القيام بأي عمل يخفف من معاناة المدينة والمدافعين عنها.
من بديهيات مكافحة الإرهاب أن تعالج الأسباب التي ساعدت على نشوئه. والعالم كله يعرف وفي مقدمتهم الأمريكان أنفسهم وبتصريحات علنية من وزير خارجيتهم أن نظام الأسد هو الذي استقدم الإرهابيين وأطلق سراح قادتهم من السجون في سوريا والعراق بالتعاون مع شريكه المالكي ليقوموا بما قاموا به. ولهذا كان يجب البدء مع نظام الأسد ليكون لمكافحة الإرهاب معنى ملموس وتأثير حقيقي على أرض الواقع. لقد أعلن المسؤولون الأمريكان منذ بداية الثورة السورية وعلى رأسهم أوباما، أن بشار الأسد فاقد للشرعية وعليه التنحي، لكنهم لم يقوموا بأي جهد لتحقيق ذلك. لابل على العكس. فعندما كان الثوار (ولم يكن حينها متطرفون بعد) يتقدمون على الأرض عندما باتت أيام الأسد معدودة، تدخلت أمريكا لحجب الدعم عن الثوار وتفريق صفوفهم بمختلف الوسائل والحجج، لكي تتذرع بذلك لإبقاء نظام بشار الأسد قائماً ريثما تتمكن من ترتيب أوراق اللعبة بشكل أفضل خدمة لأمن إسرائيل وإمعاناً في إضعاف سوريا وإدخالها نفق الحرب الأهلية.
قال الرئيس أوباما بأن المعارضة السورية عبارة عن مجموعة من المزارعين وأطباء الأسنان ولا يمكنهم هزيمة نظام الأسد. وهو الآن يجيِّش 40 دولة إضافة إلى كل إمكانات أمريكا كدولة عظمى لهزيمة مجموعة من المراهقين والموتورين دينياً وثقافياً يمثلون العمود الفقري لمقاتلي داعش. فهل هؤلاء بهذه القوة الخارقة مقارنة مع نظام الأسد؟ والآن يأتي أوباما نفسه ليعتمد عملياً على تلك المجموعة من المزارعين وأطباء الأسنان لدحر إرهاب داعش. فهل غيَّر أوباما رأيه بالمعارضة السورية، أم أنه لكل مقام مقال؟
تساؤل آخر… ولن يكون الأخير في معرض التساؤلات المحيرة لدى السوريين. ذلك أن التقديرات الأولية لكلفة الحرب على الإرهاب تقدر ما بين 70 إلى 100 مليار دولار. وقد تطول هذه الحرب لسنوات عديدة. في حين أنه لو خصص 10% من هذا المبلغ لدعم المعارضة السورية قبل أن يجري تفتيتها وتمزيقها لصالح القوى المتطرفة،عن سابق تصور وتصميم، مع التأكيد على تحييد النظام ومنع تدخله، لو تم ذلك، لما احتاجت هذه المعارضة سوى لبضعة أشهر لدحر كل القوى المتطرفة آنذاك، وإحلال نظام معتدل ومتماسك في المناطق المحررة من الأرض السورية. وهنا تقع مسؤولية كبيرة على الدول الخليجية التي بادرت لدعم المعارضة السورية كل على طريقتها وهواها ومقاصدها، مما زاد من التفتت والشرذمة لقوى المعارضة، حيث باتت سياسة شراء الولاءات هي السائدة عوضاً عن تشجيع المعارضين على توحيد صفوفهم وجعل ذلك شرطاً موجباً لأي دعم يتم تقديمه.
نأمل ألا يكون حال سوريا وشعبها صورة أخرى من شمعون الذي اعتدى عليه رفاقه في هذه القرية العالمية.
3 تناقضات تعطي معركة كوباني أبعاداً تفوق طاقتها
حسين جمو
قصف مدفعي، هاون، تفجير انتحاري، دبابات، قصف طائرات، آباتشي. من كان يتصور أن تعيش كوباني كل هذا، ولأجل ماذا؟ الإجابة عن هذا التساؤل الذي طرحه الناشط الميداني وابن مدينة كوباني مصطفى عبدي، ليست سهلة، لكن المحاولة تعني فتح باب على مكان لا يعرف قصته غير أهله، مكان أقرب لأن يكون نموذجاً للتسيير الذاتي اجتماعياً، حيث وجود الدولة في حده الأدنى في النواحي كافة، ما عدا الناحية الأمنية.
كان من النادر أن يكون بين ركاب وسائل النقل العامة والخاصة التي تحمل الوجهة التعريفية (حلب – عين العرب) من جاء إليها ليقضي وقتاً أو يتعرف إلى المكان الواقع في أقصى شمال شرقي حلب بقراها الـ300 وسكانها الـ350 ألفاً، إذ ليست بيئة سياحية ولا تتوافر فيها مرافق ترفيهية كما هي حال شقيقتها الكردية عفرين في أقصى شمال غربي حلب. تتبع المنطقة لحلب رغم عدم اتصالها بها برياً حيث يفصلها نهر الفرات، وهي أقرب إلى الرقة منها إلى الأولى. أكثر فئة عرفتها من السوريين طبقة من المعلّمين، حيث كان من يؤدي منهم الخدمة العسكرية يتم فرزه للتعليم في مدارس بعيدة من المراكز الحضرية، مثل تدمر وكوباني. كان هؤلاء يعودون إلى مناطقهم بذكريات عن بساطة المنطقة، وكيف أن أهالي القرية يتكفلون بكل وجبات الطعام بالتناوب، وحيث ما زالت مهنة التعليم في الهوامش الريفية ذات مرتبة عالية. كان هذا قبل انهيار معاني المسافات المكانية مع المركز الحضري الكبير (حلب) مع نهاية التسعينات على غرار مسار عام للاتصال الاجتماعي على مستوى البلاد ككل. لكن بقيت مسألة فرز معلم أو شرطي إلى كوباني وقراها ينظر إليه كنوع من النفي، غالباً يكون هؤلاء من محافظات الوسط والساحل والجنوب.
على رغم تعدد أنماط الإنتاج في العقدين الأخيرين بقي الطابع الزراعي وما يتفرع منه هو السائد، وعزز ذلك طبيعة المجتمع العشائرية، بل إنها كردياً بقيت المنطقة الوحيدة التي حافظت على خصائص عشائرية نشطة أفقياً بعد تراجع مكانة شيوخ العشائر. فالواجبات العشائرية لم تندثر، وكثيرة هي القصص التي يرويها أكراد وعرب في حلب عندما يشهدون مشاجرة أحد أطرافها من كوباني، ولا تمر ساعات حتى تأتي النجدة بسيارات محملة بالشباب المتأهبين للقتال. هذا المظهر التضامني انتقل معهم أين ما حلّوا في المدن، وهذا يقودنا إلى ملاحظة أخرى عن دور هذا النمط من الترابط المعزز بأنماط الإنتاج إلى نتيجة سياسية فريدة من نوعها، فكوباني أو عين العرب نجت من مشاريع التعريب السياسية، ولم تستطع أي مجموعة اجتماعية غير كردية الإقامة هناك، سوى بعض القرى الواقعة على الأطراف جنوباً وغرباً. ومما يروي أهلها أن نظام البعث استقدم مجموعة من الذين غمرت أرضهم في مياه سد الفرات وأسكنها في كوباني، فحدث ما دفع من نجا منهم إلى الفرار بجلده بعد أن قضى من قضى في «ظروف غامضة»، ولم تعد السلطة إلى إعادة الكرّة مجدداً. وإثنياً، فإن كوباني هي المنطقة الكردية الأكثر قدماً من ناحية الوجود الكردي بتركيبته الحالية من دون تغيير، والأقل وجوداً للعنصر العربي. والمنطقة ذاتها امتداد عشائري وزراعي ورعوي لسهل سروج الواقع حالياً في أورفا التركية، ويشكلان معاً المعقل التاريخي لحلف عشائر البرازية. وللتسمية دلالة مزدوجة حتى اليوم، من خارج كوباني فإن كل العشائر برازية، لكن داخل كوباني يكون هناك تقسيم محلي خاص بأهلها، حيث هناك ثلاث كتل رئيسية: البرازية في الناحية الشرقية ومركز المدينة في شكل أساسي، وفي الغرب كيتكان، والجنوب شيخان.
هناك مهنة عرف بها عامة أهل كوباني وبها باتوا رحّالة في أنحاء سورية كافة، حيث خرّجت هذه المنطقة عبر السنين الآلاف من حفّاري الآبار. انتشروا من شمال سورية إلى جنوبها متنقلين على الحفارات، ووصلوا إلى بلاد المغرب العربي، تحديداً الجزائر. واستقطبت المدن الصناعية في حلب عدداً كبيراً من شباب كوباني عمالاً في مهن شاقّة لا يختارها شباب حلب إلا إذا لم يكن لهم من خيار غيرها، مثل صناعة البلوك (القرميد) وغيرها من الصناعات التي تدخل في البناء.
هذه هي المنطقة التي اجتمعت فيها تناقضات الشرق والغرب وتكاد تكسر ظهرها، وما «داعش» سوى حلقة أخيرة من المركب الضخم للتناقضات المحلية والإقليمية والدولية، لدرجة أنه يتبادر للبعض أحياناً أن الصراع في مضمونه بين عبدالفتاح السيسي ومحمد مرسي، وقد انتقل إلى كوباني، محمولاً بنضوج طبقات من التوتر تتقاطع مع المعركة الميدانية.
سلسلة التناقضات
حين كان مقاتلو «الدولة الإسلامية» ينصبون رايتهم على تلة في كوباني، كان الجنود الأتراك على الحدود يديرون ظهورهم لتلك الراية تحت ظل عربة عسكرية على الحدود.
يجسد المشهد السابق الموقف التركي الذي عبر عنه رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو في لقاء مع قناة «سي أن أن» الأميركية بالتزامن مع ذلك الحدث الرمزي: «لن نتدخل برياً طالما أن الاستراتيجية الأميركية لا تشمل التدخل ضد الرئيس السوري بشار الأسد».
هذا الموقف يأخذنا مباشرة إلى قصور في الضربات الجوية عن دحر التنظيم في محيط كوباني، ويجعل الحاجة إلى تركيا أمراً لا مفر منه. لكن هذا يعني أيضاً أن التناقض بين رؤية التحالف والرؤية التركية ليس مقتصراً على التفاصيل، بل في صلب الاستراتيجية الأميركية التجريبية التي تريد أولاً القضاء على العدو الذي يذبح الرهائن الغربيين من دون أن تحدد حلفاءها على الأرض. لا يقتصر الأمر على هذا، فالتناقض السابق ليس جدياً، وليست كوباني، المدينة الصغيرة، هي التي يمكن أن تكون المعادل المطلوب للأسد، في بقائه من عدمه.
التناقض المحلي
على رغم وحدة الموقف الكردي العام شعورياً، كما ظهر خلال مجريات المعركة، غير أن الانقسام السياسي كان عميقاً ويمتد بجذوره إلى ما قبل سنتين خلت حين تعثر تطبيق اتفاق رعاه إقليم كردستان العراق (اتفاق هولير) يقضي بتقاسم الإدارة بين الأحزاب الكردية السورية، الأمر الذي أدى في النهاية إلى استمرار تفرد حزب الاتحاد الديموقراطي والمؤسسات التابعة له بالقرار، عسكرياً وإدارياً. وباعتبار أن الحزب على صلة أيديولوجية وثيقة بالعمال الكردستاني، فإن الطرف الذي خرج من المعادلة كان الأحزاب التي تدور في فلك إقليم كردستان العراق.
انعكس توتر العلاقات بين الجانبين على منحى اقتصادي اجتماعي أيضاً، وظهرت مشكلة المنفذ الحدودي الوحيد الذي يربط الإقليم بالمنطقة الكردية في سورية (سيمالكا). وتعمّق الشرخ لدرجة أن حزب العمال الكردستاني لم يسمح لمنافسيه الموالين لمسعود بارزاني باستقدام قوة عسكرية تم تدريبها في الإقليم للمشاركة في المعارك إذا لم تكن تحت قيادته. اليوم، في ظل المحنة التي تواجهها القوات الكردية المقاتلة تحت راية حزب العمال الكردستاني، فإن القوة الأخرى الموالية لبارزاني والتي يبلغ قوامها بضعة آلاف، تبدو متأهبة لتأخذ دورها على مسرح الأحداث من بوابة «تحرير كوباني»، وبحكم علاقات إقليم كردستان الجيدة بأنقرة، فإن من شبه المؤكد أن تحظى هذه القوة التي يطلق عليها «بيشمركة روجآفا» بتفهم من الجانب التركي في أي عمل قد يستهدف طرد تنظيم أبو بكر البغدادي من كوباني في حال سقطت المدينة، وهذه القوة ملزمة بالعمل مع جناح المعارضة السورية الواقع تحت هيمنة ممثلي جماعة «الإخوان المسلمين». هذا التناقض المسكوت عنه كردياً تغطي عليه دعوة رئيس الإقليم مسعود بارزاني تركيا إلى السماح لقواته بدخول كوباني من الأراضي التركية، وهي دعوة لن تلبيها تركيا وهي التي لم تحرك ساكناً حين كانت أربيل على وشك اجتياحها من مقاتلي البغدادي.
«الكردستاني» وتركيا
لم تشفع عملية السلام الجارية بين تركيا والعمال الكردستاني بقيادة زعيم الحزب عبدالله أوجلان، بتخفيف حدة الحساسية التركية تجاه مناطق نفوذ الحزب في المناطق الكردية بمحاذاة حدودها، فكما صرح الرئيس أردوغان، ما زالت أنقرة تعتبر الحزب منظمة إرهابية، وتعتبر الإدارة الذاتية التي أعلنها حزب الاتحاد الديموقراطي مشروع له امتدادات مستقبلية داخل أراضيها.
ولإضعاف الجناح العسكري للكردستاني، تغاضت عن تمدد «داعش»، وفي بعض الحالات وفرت له الدعم غير المباشر إما عبر السماح لمنظمات خيرية داعمة للتنظيم بالعمل بحرية على أراضيها، مثل منظمة الشباب المسلمين وجمعية الفرقان، إضافة إلى تيسير انتشاره على الحدود بعدم التعرض له حتى وهو يرفع الراية على حدودها، ليكون مقاتلو البغدادي أداة لتقليص قوة الكردستاني في تركيا وإضعاف موقعه التفاوضي في عملية السلام تمهيداً لإنهائها (السلام) في حال لم يبق للكردستاني ما يهدد به، حتى لو أدى ذلك إلى كارثة إنسانية كالتي تعرضت لها كوباني، أو إلى احتجاجات تخرج عن السيطرة في المدن والأحياء الكردية داخل تركيا. ولتحرم تركيا الكردستاني من مكاسب إضافية، فإنها أبرمت صفقة فاوستية (مع الشيطان) على حد تعبير هنري باركي، العضو السابق بفريق تخطيط السياسات في وزارة الخارجية، وتتمثل الصفقة في أنها على استعداد لاستقبال لاجئين كثيرين، على رغم أن ذلك يكلفها كثيراً إذا كان هذا سيعني أن يواجه أكراد سورية الهزيمة.
إذا ما راجعنا تفاصيل التظاهرات التي تخرج في مدن كردية داخل تركيا، فإن جماعة دينية شاركت في قمع الاحتجاجات، وهذه القوة من قواعد حزب «هدى بار» الذي تشكل من بقايا «حزب الله التركي» المتورط في عمليات تصفية مئات الكوادر الكردية في التسعينات.
ووفق برنامج الحزب الذي شارك في الانتخابات البلدية السابقة في المناطق الكردية، فإنه أيديولوجياً يقع ضمن التيارات المتقاطعة مع جماعة «الإخوان»، وهو ما لم ينكره مسؤول الحزب في دياربكر وداد تورغوت (بخصوص التقاطع مع الإخوان). ويأمل أردوغان في أن يزاحم هذا الحزب الإسلامي نفوذ العمال الكردستاني على أصوات أكراد تركيا.
التناقض الدولي
منذ اليوم الأول لشن الضربات على مواقع التنظيم في سورية، تبين مدى هشاشة وارتجالية الاستراتيجية الأميركية التي لا حليف لها على الأرض. والجهة الوحيدة التي تنطبق عليها المواصفات (قوة مسلحة غير دينية تسيطر على مساحات واسعة) هم الأكراد. لكن، لم تظهر واشنطن أي نية للاستفادة منهم، تفادياً للغضب التركي بالدرجة الأولى. وهي من الأخطاء التي تضاف إلى رصيد الرئيس باراك أوباما ضمن حصيلة الأخطاء التي تسببت بتفاقم الأزمة السورية. وبما أن تركيا حليف وثيق لـ «الإخوان المسلمين» في الدول العربية، خصوصاً في مصر، فإنها حريصة على أن تفعل كل ما في وسعها لإفشال التحالف الذي يضم دولاً عربية لا تقبل بسياسات «الإخوان». لتصبح معها المعركة في كوباني معركة تركيا لمصلحة «الإخوان» في المنطقة عبر تقليص دور خصومها العرب في التحالف، وهذا يتطلب شل فاعلية الضربات، أي أن لا تفيد في إنقاذ كوباني. ليخرج أحمد داود أوغلو ويتحدث بأن لا قيمة للتحالف من دون مشاركة برية من تركيا، وهذه المشاركة مشروطة بمحاربة التحالف لـ «السلة التركية» من الكيانات الإرهابية، وهي «داعش» ونظام الأسد وحزب العمال الكردستاني في وقت واحد، وفي حال باتت تركيا عماد هذا التحالف، فإنها ستحاول إسقاط «الإخوان» من «السلة العربية» للمنظمات الإرهابية.
الاهتمام العالمي بمعركة كوباني ليس توجيهاً إعلامياً مصنوعاً للتغطية على محنة مدن سورية أخرى، ولا تمييزاً دولياً إيجابياً للأكراد، حيث إن صواريخ توماهوك لا تنطلق وفق درجة «الحب»، بل هي تناقضات ابتليت بها المدينة وباتت في دائرة عسكرية من الحصار تركياً و«داعشياً»، وسماء مفتوحة على آخر ما أنتجته شركات السلاح.
الحياة
التحالف الدولي من دون أهله/ عمر قدور
ثلاثة أسابيع فقط مرت على بدء عمليات التحالف الدولي، وهي مدة إن لم تكن كافية لتقويم نهائي لفعاليته فهي كافية لكشف عيوبه، سواء على مستوى التكتيكات القتالية التي لم تحدِث صدمة أو فرقاً كبيراً على الأرض، أو على صعيد استراتيجية التحالف التي لا تبدو موضع اتفاق بين أهله. مدينة صغيرة، هي كوباني كما يسميها سكانها الأكراد أو عين العرب بتسميتها الرسمية، كانت كفيلة بإظهار تهافت التحالف، كما لو أنه اجتمع على عَجَل ومن دون اكتراث بمسرح عملياته المفترض. في كوباني، يمكن القول إن «داعش» انتصر على التحالف، لا لامتلاك المدينة ميزات لوجستية مميزة، وإنما بسبب كشف المعركة تناقضات التحالف، وأيضاً التفاهمات الضمنية بين بعض أركانه، وإلى حد كبير الاستفراد الأميركي بالملف السوري واعتباره خارج نطاق المساومة مع الحلفاء.
خلال ما يقرب من أسبوعين، اتجهت الملامة إلى الحكومة التركية بوصفها المسؤول عن محنة كوباني، هذا يعني (إذا صح) عدم وجود تنسيق مع الجانب التركي القادر على إكمال المهمة على الأرض. وأن يضع أردوغان شروطه على التحالف، فذلك يعني عدم عضوية تركيا فيه إلا شكلياً، ويعني من جهة أخرى أن الدول الأخرى المنضوية فيه لا تشاطر الحكومة التركية اشتراطاتها، بل تشارك الإدارة الأميركية رؤيتها للموضوع السوري، وهو بدوره افتراض شائك مع وجود دول خليجية لا تخفي توقها إلى إسقاط الأسد. تبقى «مفاجأة» الأطرف وهي اكتشاف وجود حساسيات تركية-كردية تعيق التعاون بين الطرفين على الأرض، أو تمنع الحكومة التركية من مساندة الأكراد بلا ثمن، إن من حزب العمال أو من قيادة التحالف.
معركة كوباني أظهرت سريعاً صعوبة المهمة في غياب شريك قوي على الأرض. وبخلاف المثال العراقي الذي يلعب فيه البيشمركة دوراً واضحاً من حيث التنسيق المباشر مع الضربات الجوية، لا شريك كردياً يؤدي المهمة هنا، ومن الضروري التذكير بفشل جولات إقناع قامت بها جهات دولية لفك الارتباط بين صالح مسلم زعيم الفرع السوري لحزب العمال ونظام الأسد. سيكون ضرورياً أيضاً التذكير بأن المفاوضات مع صالح مسلم لم تقدّم له سلة حوافز مغرية في مقابل فك ارتباطه مع النظام الذي تخلى له طوعاً عن السلطة في المناطق الكردية، وعلى نحو خاص لم يخبر أحد صالح مسلم بوجود قرار دولي بتنحية الأسد وبوجوب التلاؤم مع مرحلة جديدة في سورية. ثم إن استهداف كوباني على هذا النحو، وحتى سقوطها، لا يضير حزب الـ «ب ي د» في شيء على الصعيد السياسي، طالما لن توجه الملامة إليه أو إلى سياساته خلال السنوات الثلاث ونصف الأخيرة.
سيصرّح مسؤول أميركي بأن حماية المدن السورية من السقوط ليست من مهمات التحالف، وسيصرح آخر بأن إنشاء منطقة عازلة غير موضوع على طاولة البحث، بينما يعلن ثالث أن إسقاط الأسد ليس ضمن خطة التحالف. هي رسائل متعددة الاتجاهات، أولاها موجهة للضغط على القيادة الكردية في سورية، وثانيتها للضغط على الحكومة التركية، وثالثتها كأنها لإفهام من لم يستوعب فكرة التحالف على حقيقتها، سواء كان من الحلفاء أو الأعداء. إلا أن فظاظة الرسائل السابقة لا تتوقف عند عدم أخلاقية ترك المدن المحاصرة لمصيرها، أو تهديد أحد الحلفاء بتحميله مسؤولية النازحين الجدد مع عدم وجود أفق لحمايتهم في بلدهم. أهم ما فيها هو استمرار السياسة الأميركية القائمة على تجاهل متطلبات الشركاء المحليين. ولئلا يبدو الأمر مقتصراً على الساحة السورية، تنبغي الإشارة إلى أن الإدارة الأميركية لم تبذل جهوداً ملحوظة لإيجاد شريك في مناطق سيطرة «داعش»، ولم تضغط بثقلها لإيجاد تسوية عراقية تزيل أسباب تمدد «داعش»، بل تراجعت عن استعجالها الأول في ما خص معالجة الملف العراقي، مجمّدة إياه كورقة تفاوض أسوة بنظيره السوري.
أتت انتقادات نائب الرئيس الأميركي جو بايدن لدول إقليمية، في معسكر الحلفاء، لتكشف فقداناً كبيراً للثقة بينهم، لا يقلل منه اعتذار بايدن عن تصريحاته، ويزيد من ثقله عدم انتقاده دولاً أخرى (خارج التحالف) ساهمت في شكل مباشر أو غير مباشر في بروز «داعش» وتقويته. ولو كانت الانتقادات تعبر عن تباين اعتيادي في الصف الواحد لجرى إبلاغها للمعنيين عبر الطرق الديبلوماسية، ولم تخرج إلى التداول الإعلامي العام.
وضع الشركاء الدوليين ليس أفضل حالاً. التفاهم الأميركي-البريطاني يتأرجح مع تأرجح الحكومة البريطانية بين الحدود الصارمة للسياسة الأميركية والتطلع الفرنسي إلى ما هو أبعد منها. الفرنسيون الذين استنكفوا عن المشاركة في الحرب على «داعش» السوري، لا يخفون امتعاضهم من الحرب «الناقصة» في سورية، وهم أقرب إلى وجهة النظر التركية حيال النظام. الفرنسيون اليوم، بمعارضتهم رؤية الإدارة الأميركية، لا يكررون موقعهم عندما عارضوا حرب جورج بوش على نظام صدام، فهم يُبدون مبدئية أخلاقية وسياسية أعلى من ذي قبل، إذ ليست لديهم مصالح اقتصادية ذات وزن في سورية تتحكم بتوجهاتهم. هم أيضاً أكثر من تُخلخِل تحفظاتُهم الثقة بالتحالف، لأنهم شاركوا من قبل في التحالف ضد القذافي وقادوا الحرب على الإرهاب في مالي، وأي مسؤول أميركي لا يمكنه الانتقاص من صدقيتهم على هذا الصعيد.
أغلب الظن أننا أمام تحالف فريد من نوعه. فهو غير ناجز، لا بمعنى فتح الباب أمام انضمام أعضاء جدد، وإنما بمعنى عدم اتفاق أهله على بنود أساسية وحيوية في المعركة. القول إن الإدارة الأميركية غافلة عن ذلك، أو أنها استهانت بخلافاتها مع الحلفاء، ربما فيه كثير من الاستسهال. فمع المدة الزمنية الفضفاضة الموضوعة للحرب لا يُستبعد أن يمضي التحالف من دون بعض أهله الأولين، وأن تعتمد الإدارة أسلوب التطويع مع الحلفاء المشاغبين، وحتى أن تلجأ إلى سياسة الباب الدوار واستبدالهم بخصوم لهم. أغلب الظن أننا عندما نكون أمام تحالف مفتوح زمنياً، وذي هدف محدود نظرياً، فذلك يضمر عملية سياسية شاقة في داخله، تزداد صعوبتها مع كل سؤال تتركه الإدارة الأميركية بلا جواب.
الحياة
الحصاد التركي من حروب “داعش”/ أكرم البني
يجمع المراقبون على أن حكومة أنقرة المستفيد الأكبر من تداعيات حروب «داعش» في المنطقة عموماً وفي المشهد السوري على وجه الخصوص.
أولاً، هناك استدعاء حضور عسكري دولي كانت تركيا من أوائل المطالبين به كي يعينها على مواجهة ضغوط تمارسها عادة الجارتان، إيران وروسيا، لتحجيم دورها المشرقي. فتوفير غطاء سياسي عالمي مثقل بالعصا العسكرية الغربية يحرر قرار أنقرة المتحسب من تعقيدات الصراع في المنطقة واحتمال أن يفضي توغلها في الحالة السورية إلى استفرادها من قبل إيران وحلفائها، وما يستتبع ذلك من تداعيات تضع قطار حزب العدالة والتنمية على سكة لا يريدها، وربما تستنزف قواه وتهدد طموحاته.
ولعل ادراك تركيا حاجة الغرب الماسة لدورها في مناهضة «داعش» وفي معالجة الملف السوري، شجعها على وضع شروط على التحالف الدولي تجنبها الوقوع فريسة تسوياته المحتملة. ومن الشروط مطالبته بتأمين منطقة حظر جوي تردع خصومها عسكرياً، ومنها ربط ما يجري بخطة طريق تفرض تغييراً سياسياً في سورية يزيح السلطة القائمة ويمهد لقيام حكومة بديلة موالية لتركيا.
ثانياً، تركيا صاحبة المصلحة الحقيقية في إجهاض الحضور الكردي المستقل في سورية ومحاصرة تأثيره السلبي على استقرارها وعلى مسار التسوية مع حزب العمال الكردستاني، والقصد أن خطة «داعش» في السيطرة على القرى الكردية الممتدة على طول الشريط الحدودي بين سورية وتركيا، تقدم افضل خدمة لحكومة أنقرة في محاصرة الوجود السياسي والعسكري الكردي وتحجيم اخطاره، وبخاصة قوات pyd التي استثمرت انسحاب الجيش السوري من مناطقها لتعلن الادارة الذاتية وتنظم قواها، عسكرياً واجتماعياً. يزيد الأمر وضوحاً ما يحصل في عين العرب (كوباني) وإحجام تركيا عن مساندة الأكراد المدافعين عن المدينة، ربما لأنها تتطلع لأن يشكل سقوط كوباني درساً بليغاً ومؤلماً للأكراد، وربما كي تعزز ضغوطها على pyd للقبول بشرطها للتعاون ضد «داعش»، وهو فك ارتباطه بسياسات النظام السوري والتعاون مع المعارضة الداعية لإسقاطه. ولكن ربما لم تتحسب سلطة أردوغان من أن يفضي اجتياح كوباني عنفاً وتدميراً إلى شحن العواطف القومية الكردية وإلى اندفاعات شعبية وسياسية وعسكرية ضد مصالحها!
ثالثاً، استثمار الحملة الدولية لدحر «داعش» للتشجيع على إقامة منطقة آمنة في جزء من شمال سورية وشرقها، بما يمكن حكومة أنقرة من نيل حصة مجزية في إعادة إعمار المناطق المدمرة هناك، ومن التحكم بالنفط السوري واستجراره إلى السوق التركية بأسعار مقبولة. وفي هذا السياق يمكن إدراج مشروع قديم، يندر الحديث عنه، يتعلق بمصلحة تركية في الوصاية على ممر عبر الأراضي السورية لنقل الغاز القطري إلى أوروبا وتخفيف ارتهان الأخيرة للغاز الروسي، وفي الطريق تخفيف الأعباء التي تتكبدها تركيا لقاء تزايد أعداد اللاجئين السوريين على أراضيها بتشجيعهم على العودة إلى مدن المنطقة الآمنة وقراها.
رابعاً، مع تنامي وزن «داعش» وعنفه البدائي وتهديداته المستفزة، يسهل على حزب العدالة والتنمية تسويق نموذجه في الحكم، كخيار للإسلام المعتدل، في أوساط الرأي العام العربي والغربي، والترويج لموقع أنقرة الريادي دينياً وادعاء أنها خير من دافع ويدافع عن الاسلام السنّي الذي تنتهك حقوقه في غير مكان، وتالياً استعادة القاعدة الشعبية للحزب التي انحسرت جراء فضائح الفساد، ومحاصرة الاعتراضات على أسلوبه المتدرج في فرض نمط الحياة الاسلامية على المجتمع التركي. ولولا هذه المستجدات، ما كان ليتجرأ أحد المسؤولين الأتراك على المطالبة بتحريم ضحكات النساء في الشارع، أو تمرير قانون يسمح للطالبات في المدارس الابتدائية بارتداء الحجاب!
في ما مضى ومع الظهور الأول لـ «داعش» سارع بعضهم، وكان على حق، إلى تحميل إيران والنظام السوري وحلفائهما مسؤولية نشوء التطرف الاسلاموي ودعمه لإثارة الفوبيا الغربية من الجهادية المتشددة وتشجيع القبول بهم كأهون الشرور. واستند هؤلاء إلى وقائع ميدانية تثبت وجود ما يشبه التواطؤ بين هذه الأطراف لتشويه الثورة السورية وإجهاضها، وصلت إلى حد إطلاق مئات المتشددين الاسلامويين من سجون العراق وسورية وتمكينهم من التغلغل في صفوف الحراك الشعبي ودفعه صوب السلاح ومنطق العنف. واليوم يذهب آخرون، وهم محقون أيضاً، الى تحميل تركيا مسؤولية دعم «داعش» وتمكينه لاستخدامه ورقة في حسابات النفوذ على منطقة المشرق العربي، مستندين أيضاً الى وقائع كثيرة، منها أن تركيا الطرف الوحيد الذي فتح الحدود على مصراعيها لتسرب الآلاف من كوادر التنظيمات الجهادية من الشرق والغرب كي ترفد تنظيم «داعش» وتمده بالخبرات والأموال، ليبدو كذر للرماد في العيون اعلان أنقرة أخيراً منع أكثر من ألف متطوع جهادي من دخول الأراضي السورية وترحيلهم إلى حيث أتوا، ومنها فضيحة التسوية المعلنة والمذلة بين حكومة أنقرة و»داعش»، وفيها تمتنع سلطة أردوغان عن تأييد التحالف الدولي لقاء تحرير أسراها الديبلوماسيين، وتبادر لإطلاق أكثر من مئة مقاتل من أنصار «داعش» من سجونها. فكيف الحال إذا أضفنا ما يثار عن اكتشاف مخازن أسلحة نوعية لـ «داعش» فوق الأراضي التركية. ولا يغير هذه الوقائع بل يؤكدها ضمناً اعتذار واشنطن لحكومة انقرة عن اتهامات طاولتها على لسان غير مسؤول اميركي عن دور كبير لها في مساعدة تنظيم «داعش» وتمكينه.
والحال أن حروب «داعش» مهدت لعودة الدور التركي إلى موقعه المؤثر في صراعات المنطقة بعد انحسار موقت، وأنعشت حنين حزب العدالة والتنمية الى الماضي الإمبراطوري العثماني، وأظهرت تالياً أن سلطة أردوغان لا تزال متحفزة لمد نفوذها شرقاً تحت الراية الاسلامية، وأنها لن تقبل أبداً بخسارة حصتها من المستقبل السوري أو السماح لآخرين بقطف ثمار هي الأولى بها، بخاصة أنها خير من يدرك أن الصراع على دمشق سيكون مفتاح الصعود أو التراجع لدورها الريادي في الجوار العربي والإسلامي.
الحياة