مقالات لكتاب عرب تناولت الثورة في مصر
الفهم الممانع لمصر
حـازم صـاغيـّة
عبّر الممانعون السوريّون واللبنانيّون، وعلى رأسهم الرئيس بشّار الأسد نفسه، عن فرحهم الغامر لإطاحة محمّد مرسي في مصر. لكنْ على عكس المصريّين الذين يشاطرونهم هذا الفرح، أكّد الممانعون “المشرقيّون” عن أسباب أخرى للفرح والابتهاج:
فأوّلاً، يُعدّ سقوط مرسي والإخوان المسلمين، في رأيهم، سقوطاً لنظام داعم للثورة السوريّة، وبالتالي فإنّ النظام الجديد في القاهرة لا بدّ أن يكون صديقاً للنظام الأسديّ القائم في دمشق.
وثانياً، وعملاً بالخزعبلات الجديدة في ادّعاء مناهضة الولايات المتّحدة و”الرجعيّة العربيّة”، سيمهّد سقوط النظام الإخوانيّ لسقوط التحالف المصريّ مع هذين الطرفين.
وثالثاً، ولدى أكثر قطاعات الممانعة صبيانيّة، قد يقود التحوّل المصريّ الأخير إلى طرح مسألة كامب ديفيد على الطاولة مجدّداً. أوليس “الناصريّ” حمدين الصبّاحي جزءاً من هذا التحوّل؟
غنيّ عن القول إنّ هذه التقديرات لا تعدو كونها، في أحسن أحوالها، أضغاث أحلام. ففي ما يتعلّق بعلاقاتها العربيّة والغربيّة والإسرائيليّة، يصعب أن تتغيّر مصر كثيراً لأنّ تلك العلاقات باتت ترقى إلى إجماعات استراتيجيّة، وثمّة أسباب سياسيّة و/أو اقتصاديّة جعلت العلاقات المذكورة ترقى إلى هذه السويّة. فكيف وأنّ الهمّ الاقتصاديّ، على ما يقول أهل النظام الجديد، ستكون له الأولويّة في اعتباراتهم؟
ثمّ إذا صحّ أنّ الجيش المصريّ، بعد انقلابه الأخير، سيكون صاحب اليد الطولى في أمر البلد وتسييره، صحّ أيضاً التذكير بأنّ هذا الجيش هو الراعي التقليديّ لاتّفاقيّة كامب ديفيد وللعلاقات السلاحيّة والماليّة بالولايات المتّحدة.
وبالمثل، لا بدّ من القول إنّ الصلة ببشّار الأسد ونظامه لن تكون معبّدة بالورد والرياحين. فمصر في طورها الجديد لن تخرج عن تحالفاتها مع جميع حلفائها، العرب منهم والغربيّين، لكي تصالح بشّار الأسد. ويصعب على النظام الجديد أن يقف في وجه إجماع شعبيّ عريض يبديه المصريّون حيال الأزمة السوريّة، وأن يزوّد معارضته الإسلاميّة حجّة شعبيّة جديدة في نقده وفي محاصرته سياسيّاً.
لا شكّ أنّ تعبيرات التأييد الرسميّ المصريّ للثورة السوريّة ستختلف في العهد الجديد عمّا كانته في عهد محمّد مرسي. وهي قد تكون أقلّ ضجيجاً، وأضعف في خلفيّتها الإيديولوجيّة، الدينيّة والمذهبيّة. إلاّ أنّها، مع هذا، قد تكون أشدّ فعاليّة في الوقت نفسه، تبعاً لامتلاك النظام الجديد قابليّة لم يمتلكها النظام السابق في التنسيق مع باقي الأنظمة العربيّة التي رحّبت بالانقلاب المصريّ (السعوديّة، الإمارات المتّحدة، الأردن…).
وفي الحالات كافّة، لن يكون التسرّع في إصدار الأحكام حيال الموقف من سوريّا عملاً حكيماً، خصوصاً وقد رأينا شيئاً من هذا التسرّع مع اندلاع الانتفاضة التركيّة ضدّ حكومة أردوغان. وليس من الجائز لأحد ارتكاب خطأين كبيرين في التقدير والتوقّع خلال فترة قصيرة جدّاً… وهذا ناهيك عن أنّ أوضاع بلدان في أهميّة مصر وتركيّا، وفي حجميهما، لا تقاس بموقف خارجيّ هنا وموقف هناك!
موقع لبنان ناو
مصر: ضحية الفهم الخاطئ للديموقراطية!
عبدالله ناصر العتيبي *
هل ما حدث في مصر يُعد انقلاباً أم ثورة شعبية؟ الكل يسأل هذا السؤال هذه الأيام. «الإخوان» و»المتأخونون» وأنصار الدكتور محمد مرسي والمتعاطفون معه يسمّونه انقلاباً. والمعارضون له داخلياً والمختلفون معه خارجياً يسمّونه ثورة شعبية. الأطراف المتورطة (حباً وكراهيةً وحسابات ومصالح) تتعامل مع ما حدث باستقطاب شديد، لكن الواقع من وجهة نظري لا يتطلب كل هذا الانحياز إلى تباين الألوان! ما حدث ليس انقلاباً بالمفاهيم المعروفة للانقلابات العسكرية، وليس ثورة شعبية (كاملة) كما حصل في 25 كانون الثاني (يناير) ٢٠١١، إذ إن هناك ملايين (أخرى) في رابعة العدوية تدعم الرئيس المنتخب وتقف معه! ما حدث كان خليطاً من أمور عدة. فبالنسبة الى الشعب المصري الذي ترتفع فيه مستويات الأمية في شكل كبير يسهل تشكيل الحشود وشحنها بالشعارات العاطفية المفرغة من محتواها والمعتمدة في الأساس على منطلقات اقتصادية، وتوجيهها من نخب متمصلحة ومستفيدة. كما أن جهله بالديموقراطية التي لم يجربها قبلاً عبر تاريخه الطويل يصور له أن الديموقراطية مرتبطة بتوفير لقمة العيش لا أقل ولا أكثر. لقمة العيش التي لا تقتضي المشاركة الفعلية للفرد في الناتج المحلي للدولة، وإنما التي تأتي على صحون الخيرية والرعوية والأبوية. كما أن نقص الخبرة عند «الإخوان» في ميادين العمل العام، وتخبطهم في تطبيق مفردات السياسة عملياً في مقابل نجاحهم في إدارة المعارضة النظرية لأعوام طويلة، وربط الحكم في التراث «الإخواني» بالخلافة، وما يقتضيه هذا الربط من الاستئمار والطاعة لرجل واحد، كل ذلك أسهم أيضاً في كشف ملعب الحزب الفائز بالانتخابات الرئاسية قبل عام، وجعل السهام تنطلق باتجاه الرئاسة من كل جانب. أما الضلع الثالث لمثلث إسقاط «الإخوان»، فكان هشاشة الدولة التي تكوّنت بعد الثورة الشعبية الأولى والاستعجال في قطف نتائج سقوط الرئيس السابق حسني مبارك قبل أن توضع الأسس المناسبة لبناء دولة (مشروع ديموقراطي). كان الأجدر بالنخب المنتصرة تفعيل خطط استدراج آليات الديموقراطية وأساساتها، ولو احتاج ذلك سنين طويلة، والاعتراف بالحاجة إلى بدء مشروع «الدمقرطة»، بدلاً من التظاهر بانتصار الديموقراطية في مجتمعات لم تعرف الديموقراطية أصلاً! محمد مرسي لم يسقط لأن أداءه الرئاسي كان سيئاً (لا يوجد في الدساتير المصرية جميعها – الأول في ١٨٨٢ والأخير في ٢٠١٢ – فقرة تتحدث عن عزل الرئيس بسبب عدم كفاءته الإدارية)، ولم يسقط لأنه خان الأمانة الملقاة على عاتقه كما حكمت بذلك إحدى المحاكم بالإسكندرية، لأن ذلك يتطلب رفع عريضة بذلك من ثلث النواب والموافقة عليها بغالبية الثلثين بحسب الدستور الأخير. ولم يسقط لأن الشعب كافة سحب عنه غطاء الشرعية (التي ذكرها في خطابه الأخير عشرات المرات)، ولم يسقط لأنه عمل على «أخونة» الدولة للقضاء على «الدولة العميقة» من جهة والتطلعات الديموقراطية من جهة أخرى. محمد مرسي سقط لأن المواطن البسيط والرئيس وما بينهما ظنوا أنهم قادرون على ممارسة الديموقراطية، كفكرة مطلقة في العقول من دون الحاجة لصنع قالبها على الأرض أولاً. وعندما أتحدث عما بينهما، فإنني أتحدث عن المرشد الذي يظن أنه الحاكم بأمر الله على الأرض، وأتحدث في الوقت نفسه عن بعض الرموز الشعبية التي خسرت في جولة الانتخابات الرئاسية الماضية، وعلى رغم ذلك عملت خلال الـ12 شهراً السابقة على تقويض حكم مرسي من خلال القنوات القانونية والدستورية الهشة مرةً، ومن خلال استمالة عواطف ملايين الغلابة مرات ومرات.
لا يمكن أن أفهم حديث ابن النظام السابق عمرو موسى عن الديموقراطية أو تنظير الناصري حمدين صباحي عن ضرورة المشاركة الشعبية أو أمالي أبو العز الحريري أو خالد علي على الشعب المسحوق في ميدان التحرير عن الحرية والعدالة، وكل هؤلاء بحكم الأخلاق الديموقراطية يجب أن يكونوا خارج اللعبة موقتاً عملاً بمبدأ تضارب المصالح! الوضع في مصر الآن ليس ثورة ثانية، ولا علاقة لها بما حدث في 25 يناير ٢٠١١. ما يحدث في مصر الآن نتيجة طبيعية لكذبات متتالية، بعضها كان بسبب حسن الظن والجهل، وبعضها كان متعمداً ومدبراً ومخططاً له بعناية! ويخطئ من يظن أن ما حدث هو استعادة للثورة أو تصحيح لمسارها. الأيام حبلى، لكن ما هو مقبل سيكون أصعب مما مضى إن لم تتدخل النخب المصرية العالمة المدركة المثقفة في رسم طريق الإصلاح في مصر، ولعل أول ذلك بالعودة إلى دستور ١٩٧١ بشكل موقت والعمل على تشكيل حكومة انتقالية توافقية تضم الأطياف المصرية كافة، وتستظل برئيس متفق عليه حتى ولو كان يلبس الجبة المرسيّة!
* كاتب وصحافي سعودي
الحياة
دروس مصرية .. الدولة العميقة
رومان حداد
ما حدث في مصر خلال الأيام القليلة الماضية يفتح الباب على مصراعيه لقراء حالة الدولة العميقة في مصر، ويعطي درساً عظيماً لمن يريد أن يقرأ ويتعلم، فوجود دولة عميقة في أي دولة يعني وجود رؤية محددة لهذه الدولة واستراتيجية طويلة المدى لا تحيد عنها الدولة (القانونية) أو الدولة العلنية.
وبناء الدولة العميقة يشترط من التجييش الوطني الدائم وإعلاء مفهوم الهوية الوطنية، وإيجاد عدو خارجي أو داخلي يهدد الوحدة الوطنية والنسيج الوطني، ولكنه في ذات الوقت يتطلب تحديد مقومات الهوية الوطنية والقيم الأساسية التي تنشأ عليها.
بناء (دولة عميقة) في الدولة أمر ضروري، لأن وجودها يساعد الدولة على أن تكون هي صاحبة الفعل في العديد من القضايا، وليست هي الطرف الذي يقوم بردة الفعل، فهي من تصنع المشهد وليست أحد اللاعبين فيه.
مقومات بناء دولة عميقة وفق هذا المنظور متوافرة في الأردن، فالخطر الخارجي والداخلي الذي يشكل تهديداً للهوية الوطنية الأردنية وقد يهدد وجود الدولة مستقبلاً متواجد بشكل أو بآخر سواء أكان على شكل موجات اللاجئين المتتالية التي تدخل الأردن منذ عقد من الزمن عبر الحدود أو بوجود حكومة يمينية في إسرائيل أو الحدود الملتهبة، والشعور المتزايد بالوطنية لدى فئات عريضة من الأردنيين يشكل خزاناً ضرورياً لالتفاف الشباب الأردني حول الدولة.
الدولة العميقة قد تقنع باستخدام الوسائل الديمقراطية في التغيير، وبهدوء لحين الوصول إلى ما تريده، كما حدث في حالة (نيكسون) حين أطاحت به عبر قضية (ووترغيت) ومن ثم جاءت بنائبه (الضعيف) (فورد)، واضطرت لانتظار مرور ثلاثة أعوام هي فترة حكم (فورد)، وتحملت وصول (جيمي كارتر) إلى الرئاسة واستمر حتى نهاية عام 1980، ومنذ ذلك الوقت وحتى نهاية عام 1992 كانت الدولة العميقة الأمريكية في واحدة من أقوى مراحلها، بسبب التوافق الحاصل مع من يجلس على كرسي الرئاسة في البيت الأبيض، وهو كل من الرئيس الأمريكي (رونالد ريغان) والرئيس الأمريكي (جورج بوش الأب).
ما حصل في مصر هو حالة من الاصطدام بين الدولة العميقة المصرية ممثلة ب(الجيش ووزارةالداخلية والقضاء والإعلام) والتنظيم العميق في جماعة الإخوان المسلمين، حيث كانت الجماعة طوال أربعين عاماً تشكل حالة دولة داخل الدولة، وهو ماساعدها على إيجاد مجموعة من التنظيمات السرية والعميقة، كالتنظيم المسلح وتنظيم الاستخبارات وتنظيم الوحدات وتنظيم القضاء، واعتقد (الإخوان) أنهم قادرون عبر وصولهم إلى السلطة إلى إحلال تنظيماتهم السرية والعميقة محل الدولة العميقة المصرية، وبسبب ذلك كان المرشد العام الدكتور محمد بديع ونائبه خيرت الشاطر يملكان أدوارا متقدمة في إدارة المشهد السياسي والأمني المصري، دون تناسي دور المرشد العام السابق مهدي عاكف صاحب النفوذ والقوة داخل الإخوان، والذي كان يرى أن الإخوان لم يتمكنوا بعد من الحكم، وعليهم إحلال عناصرهم وتابعيهم في المراكز المتقدمة في الدولة، حتى يصبح الزمن القادم (زمن الإخوان).
فهجوم الإخوان المسلمين في مصر على ما أسموه الدولة العميقة في مصر، على أساس أن هذه الدولة العميقة تقف سداً في وجه محاولات الإخوان من الحكم، كان محاولة لإعطاء الإخوان المسلمين في مصر شرعية (الانقضاض) على مؤسسات المحكمة الدستورية والقضاء المصري ومؤسستي الجيش ووزارة الداخلية، بغية بناء دولة عميقة تساعد على تثبيت حكمهم في مصر.
الدولة العميقة ضرورة استراتيجية لأية دولة ونظام، لأنها وحدها القادرة على حماية الدولة وبنيتها ومؤسساتها وهويتها في لحظة (الزوغان البصري) لدى الشعوب، لإعادتهم بهدوء إلى موقعهم الوطني الرافض لسلب الروح، كما حصل في مصر تماماً، فثبات القضاء وقوة الإعلام وبطولة الجيش والتزام وزارة الداخلية شكلت معطيات ضرورية كي ينتفض الشعب المصري ويستعيد روحه بعد أن حاول الإخوان المسلمون في مصر الانقضاض عليها وتخريب الدولة.
كيف أطاحت الدولة العميقة بالدولة الغبية؟
أحمد الدريني
كل ما فعله السيسي مع مرسي هو تطبيق المثل الصيني «أعط عدوك الغبي حبلا وسيشنق نفسه بنفسه». ولم يخفَ على أحد كيف التقط مرسي الحبل ولفه حول عنقه بكامل إرادته وإرادة الجماعة.
فعلى مدار الأشهر القليلة الماضية بدا جليا أن هناك دولتين على أرض مصر، لا دولة واحدة.
الأولى يرأسها مرسي، وتعاني من اضطرابات اقتصادية وقلاقل أمنية، وتذبذب إقليمي، وترنح في السياسات الخارجية. تقف السيارات في صفوف بنزين لا تنتهي فيها، وتنقطع الكهرباء عن مشافيها، مع كثير من التصريحات المتضاربة من المسؤولين والعجز الشامل لحكومة قنديل.. لم تكن دولة، كانت أقرب لسيرك.
والدولة الثانية يقودها السيسي، حيث تدريبات الجيش ومناوراته الماضية على قدم وساق، وحيث مشروعات إنشاء محطات تحلية مياه في بعض المحافظات، وحيث تتولى القوات المسلحة إهداء وحدات المطابخ للمدن الجامعية التي يتسمم طلابها.
كان بمقدور أي مشترك في خدمات الرسائل الإخبارية على الهاتف المحمول تمييز كم وكيف «الأخبار الإيجابية» عن نشاط الجيش، وكم وكيف الأخبار الكارثية عن دولة مرسي والإخوان.
وحدهم الإخوان كانوا ينكرون أن شيئا سيحدث، كانوا يتحاشون الحديث عن الجيش ربما كي لا يواجهوا أنفسهم بحقيقة أن مرسي لا يحكم خناقه على المؤسسة الأخطر بما يكفي.
وكان سلوك مرسي منذ بداية حكمه محاطا بشبهات نفسية لا يمكن إغفال دلالتها. فقد اصطحب اللواء مراد موافي رئيس المخابرات الأسبق معه في رحلته لأداء مناسك العمرة، وسعى لتناول الإفطار مع أفراد المخابرات العامة في رمضان الماضي في مقر المخابرات بكوبري القبة، وبدا سعيدا بظهور المؤسسة الأمنية الأهم كميدالية مفاتيح في يده.
ثم كان أن استقدم اللواء رأفت شحاتة لمنصب مدير الجهاز ليؤدي له قسم المنصب واضعا يده على المصحف الشريف! الأمر الذي أثار التساؤلات حول هذا القسم الذي يبدو أليق وأشبه بالأجواء العصابية وبأداء المحلفين المشكوك في ولائهم بعهودهم في جلسات الصلح العرفي!
كان شيء في نفس مرسي يسعى لإثبات سيطرته على المخابرات والجيش، ولو بصورة «سينمائية» أمام الرأي العام.
وفي سيرك الإفراج عن الجنود المختطفين في سيناء يلتقي مرسي الجنود، ويشكر قادة الدفاع والداخلية، ويبدو في ترتيب حضور الأشخاص والمناصب على ذهنه دلالة خاصة، حيث توجه بالشكر لمدير المخابرات العامة والأمن الوطني والمخابرات الحربية، فيما نسي ذكر اسم اللواء أحمد وصفي قائد الجيش الثاني، الذي كان يخوض المفاوضات على أرض الواقع، ويرتب التحريك العسكري «إجرائيًّا». إلى أن همس إليه السيسي «أحمد وصفي»!
ربما كان مرسي بحاجة إلى دعم تصوراته حول إحكام السيطرة على المؤسسات الأمنية، وفقا لما توفر له من خيالات حول أجهزة المخابرات من أفلام هوليوود والكتابات الإسلامية الشائعة حول نظرية المؤامرة.. لقد كان الأمر بائسا لأبعد مما نتخيل.
وهنا، أتذكر الكاتب السينمائي الأمريكي “كيرت ويمر” مؤلف عدد من الأفلام الشهيرة التي تحكي عن عالم المخابرات، الذي يحركه طوال الوقت هاجس أن المخابرات تضحك على عملائها وضباطها، وأن هناك دوما من يدير المخابرات، ثم إذا اكتشفت من هذا الذي يديرها ستكتشف أن هناك من يديره! أفلام ويمر عبارة عن موجات من الشك المتتالي الذي يتحمل عناءه البطل والمشاهد معا.
ولم يكن مرسي واثقا- على الأرجح – أين يقع دوره في سلسلة السيطرة والشكوك المتبادلة.
***
«لا تثق في أصدقائك، لا تثق في حواسك الخمس، لا تثق في أحد! فقط ثق في النداء الداخلي الذي يأتيك ولا يأتي العوام» هكذا يقول آل باتشينو في أحد أفلام كيرت ويمر (the recruit) على لسان ضابط مخابرات مخضرم.
لكن مرسي والجماعة كذبوا نداءهم الداخلي الذي كان أشبه بالنفير العام في مصر كلها: الجيش ليس على وفاق مع الرئيس.
ودون التمادي في إسناد وتضخيم دور وطني عظيم للمؤسسة العسكرية، أو تجريدها منه بدعوى الذهاب إلى أن الجيش يدافع عن مصالحه الخاصة، فقد كان باديا مدى الشقاق في أي خبر صحفي طرفاه الجيش والرئاسة.
حيث عمدت مؤسسة الرئاسة طوال الأشهر الماضية إلى نفي أخبار اضطلاع الجيش بمهمة إجراء حوار وطني، وبينما تنفي الرئاسة يؤكد الجيش! ثم تتدارك الرئاسة نص النفي، بنفي للنفي الأول، ثم يرد الجيش محاولا تدارك نفي الرئاسة دون التمادي في إحراجها. كصحفيين كنا ندور في دورة مفرغة من النفي ونفي النفي والإثبات والإثبات المضاد..كانت فوضى شاملة، من مؤسسة مرتبكة ومؤسسة ساعية إلى التمسك بموقفها، ربما على سبيل إظهار ارتباك المؤسسة الأخرى.
ومن جانبهم كان الإخوان يستبقون الأحداث للتأكيد على ولاء السيسي لمرسي، بالنفخ في أسطورة وشخص الفريق الشاب الذي يقود المؤسسة العسكرية. لقد كانت أسطورة السيسي تنسج على كل الجوانب: الإخوان الذين يمدحون «أمير الجند» الذي هو اختيار الخليفة، وقطاع من المعارضين الذي يأمل في تصفية الجيش لحكم الإخوان، والفلول الذين هم بالضرورة على وفاق مع أي شخص عسكري، من مبارك لسليمان لطنطاوي لشفيق!
الطريف أن صحيفة «وول ستريت جورنال» نشرت في تقرير لها عن الجيش المصري، فور الإطاحة بالمجلس العسكري، أن طنطاوي صرح في ديسمبر 2011 لمسؤولين أمريكيين بأن السيسي هو وزير دفاع مصر القادم، وهو ما يتسق مع الروايات القائلة بأن السيسي كان يعتبر نفسه وزيرا للدفاع باختيار الجيش داخليا، لا باصطفائية مرسي له وبعطفه وكرمه عليه.
في مشاهد 30 يونيو وما تلاها، بدا واضحا أن «الدولة العميقة» لو أنك ممن يقتنعون بهذا المسمى تركت مرسي يلف الحبل حوالي رقبته بمساعدة مكتب الإرشاد، وسط محيط عام كاره للإخوان ومتضرر من وجودهم تضررا تسرب إلى البيوت باختفاء البنزين وانقطاع الكهرباء وانسداد الأمل.
وأيا كان ما جرى، لا ينبغي فصل أن الجيش كان بحاجة إلى حركة جماهيرية جارفة تضفي شرعية شعبية على عملية الإطاحة «المشروعة» برجل دون الحدث ودون الظرف ودون المسؤولية.
لقد تعقدت المشاهد الأخيرة في لحظات مرسي والإخوان، بمكافحة جهاد وعصام الحداد في التغريد والكتابة باللغة الإنجليزية للاستغاثة بواشنطن، في مشهد مثير للاشمئزاز بدا فيه الإخوان مستعدين للاستقواء بالأمريكان على الشعب في نزعهم الأخير.
ثم نقلت الجارديان مشاهد ضحك مرسي واستهزائه بالمتظاهرين حين نقل له السيسي الرغبة في تنحيته جانبا. وهو ما يغلق دفتي الحكاية على أن الجيش وأجهزة الدولة تركت مرسي يسقط بيد الشعب وإرادته الحرة، ثم تولت هي مشاهد التكفين وصلاة الجنازة.
كنعجة أنجبت ذئباً!
علي بردى
وصلت مصر الى المأزق الذي تخوّف منه كثيرون بعد “ثورة 25 يناير” 2011. تحوّل الرئيس محمد مرسي بسرعة قياسية رمزاً لمحاولات “الإخوان المسلمين” الاستئثار بكل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. قاد البلاد الى حافة الهاوية الاقتصادية. غير أن الانقلاب العسكري عليه – ولو مشفوعاً بشرعية شعبية لا لبس فيها – عرّض الديموقراطية الوليدة لامتحان عسير ليس فقط في مصر ذاتها، بل أيضاً في كل العالمين العربي والإسلامي.
بهر المصريون العالم وهم يخلعون نظام الرئيس حسني مبارك. رفض الجيش اطلاق النار على الناس، فسقط مبارك أمام عيون قادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة. نجح هذا في رعاية عملية انتقالية سياسية شاركت فيها كل القوى والأحزاب الإسلامية وغير الإسلامية. أمل كثيرون أن تكون تركيا نموذجاً يحتذى في مصر. تطلعوا الى مساهمة الإسلاميين في الحياة السياسية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية عوض اللجوء الى الإرهاب والعنف. تمنوا أن يقدم حزب الحرية والعدالة، وكذلك أحزاب الوسط الجديد والنور والفضيلة وغيرهما، صورة حضارية ومشرقة للإسلام السياسي. لكن “الإخوان المسلمين” اعتبروا انتصارهم في الانتخابات تصريحاً بالهيمنة على كل مفاصل الحكم في البلاد. حاولوا اقصاء الجميع، فبدت الديموقراطية كالنعجة التي أنجبت ذئباً!
أمضى مرسي سنته الرئاسية الأولى جاهداً لتكريس حكم الإسلاميين ولاستبعاد الأقباط والعلمانيين والمؤمنين بالدولة المدنية، غير مستعجل في معالجة الهواجس الاقتصادية للشعب المصري. تفرغ لأخونة مصر ومقارعة المعارضين لأخونتها: حمدين صباحي ومحمد البرادعي وعمرو موسى وغيرهم. ساءت الحال المعيشية للمصريين خلال عهد مرسي عنها طوال سني حكم مبارك. لم يستفد الرئيس المصري الأول انتخاباً من تجربة إخوانه الأتراك، الذين تركوا مساحة لا بأس بها لمشاركة العلمانيين والمدنيين في الحياة السياسية، على رغم المآخذ الكثيرة على نهج رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان. اضطلع الجيش التركي بدور مهم في رعاية الديموقراطية العلمانية التي أوصلت الإسلاميين الى الحكم في البلاد.
يتساءل بعض الإعلام الأميركي: هل كان ينبغي انتظار الانتخابات النيابية التي كانت مقررة بعد أسابيع قليلة لاظهار انحدار شعبية مرسي وجماعته عوض عزل المجلس الأعلى للقوات المسلحة بقيادة الفريق أول الركن عبد الفتاح السيسي اياه بعد تظاهرات حملة “تمرد” المليونية في “30 يونيو” والمطالبة بإسقاط حكم المرشد؟ يحاول الإسلاميون تصوير أنفسهم مجدداً على أنهم ضحايا. من يقنعهم بعد اليوم بجدوى الديموقراطية والمشاركة في الحياة السياسية لأي بلد عربي أو اسلامي؟
يواجه المصريون اليوم ما عاناه اللبنانيون عام 2005: ساحة تقابل ساحة، وشارعاً يقابل شارعاً. يجدون أنفسهم أمام خيارين: الاسلاميين أو العسكر.
مصير مصر على المحك!
النهار
أميركا مرض مصر؟
حازم صاغيّة
فاليوم ترتفع أصوات في جبهة الإخوان المسلمين والرئيس المخلوع محمّد مرسي تردّ الانقلاب العسكريّ الأخير إلى أميركا، وتذكّر بالعلاقات الوطيدة بين الاثنين كي تستنتج «المؤامرة» على مرسي وعهده. وهذا لا يمنع ظهور أصوات أخرى في الجبهة نفسها تطالب أميركا إيّاها بالتدخّل في مصر دعماً للشرعيّة الدستوريّة التي مثّلها مرسي والإخوان.
وترتفع، في الوقت نفسه، أصوات في جبهة القوى المناهضة للإخوان ومرسي تتّهم أميركا بالوقوف وراءهم وتأييدهم، لأنّ واشنطن دافعت عن تلك الشرعيّة المدنيّة ضدّ الانقلاب. يترافق ذلك، بين وقت وآخر، مع إحراق صور لباراك أوباما الذي يتربّع في المقرّ القياديّ لـ «التآمر» على مصر. وهذا، بدوره، لا يمنع من ظهور أصوات في الجبهة نفسها تركّز على ضرورة تطوير العلاقة مع الغرب وأميركا، وعلى أنّ مرسي وإخوانيّته كانا عائقاً دون ذلك.
ويستلّ الطرفان من ميراثهما ولغتهما السياسيّة ما يبرهن أنّهما «ضدّ» أميركا. فعهد مرسي أبلى بلاء حسناً في مكافحة المنظّمات غير الحكوميّة، المموّلة أميركيّاً وغربيّاً، وفي التضييق عليها. أمّا الفصائل الناصريّة واليساريّة في الجبهة التي تخاصم الإخوان فتعتدّ بقاموس شهير في مناهضة الإمبرياليّة يرافقه تذكير متقطّع بالرئيس الراحل جمال عبد الناصر ومواقعه.
هكذا يتبدّى، وسط تصدّع أهليّ يكاد يكون مطلقاً، أنّ توجيه التهم لأميركا هو الشيءُ الوحيد الذي يتّفق عليه الطرفان المتخاصمان. وأميركا، بالطبع، «جسمها لبّيس».
ولقائل أن يقول إنّ الافتخار الوطنيّ الذي اشتُهر به المصريّون لا يطيق القياس على الواقع الراهن والمزري. وهذا التباين ربّما كان السبب في استيقاظ اللوم لأميركا وتحميلها المسؤوليّة عن تدهور أحوال مصر. ولقائل أن يضيف أنّ صعوبات الانتقال الراهن واحتمالات الفشل الكبيرة في إحداثه تغذّي الميل المذكور وتجدّده اليوم. وهذا، اللهمّ، إن لم يكن الأمر تعبيراً عن حبّ استحواذيّ لا يقع على ما يلبّيه كلّيّاً، ما يجعله ينقلب إلى توتّر وعدوانيّة.
وفي الحالات جميعاً، ليست أميركا مسؤولة عن الانشطار المصريّ الراهن وعن الأزمة المنجرّة عنه. فلا هي أسّست الحكم العسكريّ الذي ولد مع انقلاب 1952 وما ترتّب عليه من كبت واحتقان، ولا هي أسّست جماعة الإخوان المسلمين في 1928 ورعت محاولاتها للأسلمة والتديين. أمّا أنّها دعمت أطرافاً في هذه المرحلة أو تلك، وناوأت أطرافاً في المقابل، فهذا ما ينبغي إبقاؤه ضمن إطاره المحدود التأثير قياساً بتأثيرات التاريخ السياسيّ والاجتماعيّ لمصر نفسها. والحال أنّ توزيع الحصص على هذا النحو أليق بنا وبكراماتنا كي لا نبدو ألعاب طين تشكّلها أميركا أو تفرطها!
ومهمّة اليوم في مصر، وفي بلدان عربيّة كثيرة، تتّصل بمسؤوليّاتنا أضعاف أضعاف ما تتّصل بأميركا. وفي رأس هذه المسؤوليّات الانكباب على بناء تسويات قابلة للحياة بين أشطار متنازعة ومتقاتلة من شعوبنا من أجل أن تبقى هذه الشعوب شعوباً. وفي هذه الغضون يحسن بنا أن ننسى أميركا قليلاً!
الحياة
لا حربَ أهليّةً في مصر
جهاد الزين
انتصر التعقيد على التبسيط في الحدث المصري. فإذا بمصر تفرض على نفسها وعلى كل العالم سؤالَيْها: هل ما حدث هو ثورة ثانية أم انقلاب عسكري؟ هل ستقع الحرب الأهلية؟ كل العالم من ساوباولو إلى طوكيو مرورا ببيروت، الجميعُ مشغولٌ بتقديم إجابة على هذين السؤالين.
من متابعتي بالقدر الذي أستطيع لكتابات المعلّقين العرب والمسلمين والأجانب يبدو العالم منقسما إلى “فريقين” في هذا السجال.
كلُّ حدث كبير هو حدث معقّد أيا تكن ظواهره بسيطة والأصح مبسّطة. في ثورة ميدان التحرير الأولى (25 يناير) كان السقوط هو سقوط الديكتاتورية والديكتاتور. لا خلاف قِيَمِيّاً على التطوّر الجوهري. الآن نعم هناك خلاف عميق حتى لو كان الكاتب، من أمثالي، منحازا بقناعة كاملة إلى فكرة أن ما حصل هو ثورة أكيدة داخل الحراك الثوري المصري البادئ قبل عامين ونصف العام بل هي ثورة استطاعت أن تحشد في يومٍ واحدٍ في القاهرة خصوصا والمدن المصرية عموما ما يُسمّيه الكثيرون من المتابعين المصريين “أكبر حشد بشري في التاريخ”.
أحد أسئلة “الماضي” الآن لا الحاضر هو هل كان يجب أن يبقى تدخُّلُ الجيش في حدود الضغط المعنوي دون أن ينتهي إلى أن يصبح – شكلا- انقلابا عسكريا “كلاسيكيا” يعزل الرئيس المدني؟ ألم يسئ هذا التصرف إلى القوة الأخلاقية وبالتالي السياسية للثورة الثانية التي كانت تعلن في الأساس رجعية وتخلّفَ الحزب الأصولي الديني الحاكم بعد اختبار كارثي على مدى عام وعجزه عن إدارة حديثة وفعّالة لقضايا الدولة والمجتمع؟ ألم يكن من الأفضل أن يَترك الجيشُ من موقع انحيازه إلى الأكثرية “الشارعية” الجديدة (أي الشباب والنساء والطبقة الوسطى المدينية الليبرالية والعلمانية والفنانين والمثقفين والقاعدة الشعبية التي يستقطبونها) هذه “الأكثرية الشارعية” تضغط على الحكم “الإخواني” المفلس بحيث يتهاوى وحده دون دخولٍ جلِفٍ على العملية الديموقراطية؟ الدخول الجلف عبر عزل رئيس الجمهورية بطريقة انقلابية عسكرية كلاسيكية؟
الآن انتقل التوقّعُ العالميُّ إلى الحديث عن خطر الحرب الأهلية في مصر. التحذير حين يصدر عن قوى عظمى ولاسيما في الغرب علينا أن ننظر إليه باشتباه لأنه قد يكون “الكلمة المفتاح” لسياسة عليا ترمي إلى الإمعان في إضعاف مصر داخليا وليس – كما هو الادّعاء – إلى حماية الديموقراطية فيها عبر الدفاع عن رئيس منتخب كان يتهاوى سريعا بدون انقلاب.
في مصر انقسام هام بل خطير. ولكن هناك عوامل عديدة تدفع إلى الرهان على عدم وقوع حرب أهلية بل على عدم إمكان وقوع حرب أهلية. وإذا كان النموذج السوري حاضرا وقبله العراقي وثم قبله اللبناني وما بينها جميعا الجزائري، فإن الحالة المصرية من حيث رسوخ ثقافة وتقاليد الدولة تجعل السيناريو المصري بعيدا من أن يتحوّل إلى اقتتال أهلي مسلّح أوإلى اقتتال بين الجيش والمجتمع. لماذا؟ لأن قوة الدولة وعبرها الجيش حاضرة وراسخة ولأن المجتمع نفسه – بما فيه قاعدة “الإخوان” العريضة – غير مهيّأٍ وغير قابلٍ للدخول في حرب أهلية حتى لو كان التنظيم العسكري لـِ”الإخوان” موجودا كما كان سابقا في عهود مختلفة، وحتى لو شهدنا المزيد من العنف الذي لن يهدّد قدرة الدولة على الاستيعاب الاستراتيجي للوضع، كما حصل أمس في محيط مقر الحرس الجمهوري.
مصر هي النموذج “الأخير” لعدم تحوّل الثورة إلى حرب أهلية. ثورتها سلمية في العمق بل عنفها سلميٌّ في العمق رغم الضحايا التي سقطت تحت وطأة احتقان بؤر محدودة في المجتمع. فهل تتحمّل “جماعة الإخوان المسلمين” مسؤولية الذهاب في التصعيد العنفي الذي لن يضعها في وجه الجيش فحسب، بل بمعنى ما في وجه المجتمع؟ التصعيد الذي قد يؤدي إلى كسرها لا إلى كسر السلم الأهلي ولا إلى كسر الجيش رغم وجود جمهور “الإخوان” الواسع ورغم التشجيع الغربي الذي تتلقّاه “الجماعة” بسبب خطأ الجيش “الانقلابي”؟ لا أظن أن قيادة “الإخوان” قادرةٌ طويلاً أخلاقياً وسياسياً على تحمّل نتائج خيار من هذا النوع رغم خطابها التصعيدي…
الثورة الديموقراطية مستمرة في مصر والرهان على سلميّتها هو رهان على إعادة نِصاب ديموقراطي مؤسّساتي في بعض العالم العربي الذي يشهد لا انهيار دوله فقط بل انهيار مجتمعاته أيضا.
الانقسام السلمي الذي تقدّم نموذجه مصر هو انقسام حاد بنّاء بين الوطني والأيديولوجي وبين المدني والديني. ولهذا ربما يولد حاليا نموذج مصري قابل لِـ”التصدير” على المدى الأبعد والنخب العربية ستكون متشوِّقة لِـ”استيراده” وربما غير العربية.
لا حرب أهليّة في مصر. تحيا مصر.
النهار
الثورة والانقلاب: ماذا يجري في مصر؟
الياس خوري
لن يسعفنا اللجوء الى المقاييس الديموقراطية الليبرالية في وصف ما جرى، فهذه المقاييس سوف تسمّي ‘تمرد’ 30 حزيران/يونيو انقلاباً كلاسيكياً، لأنه اسقط رئيساً انتخب من الشعب، بقرار اتخذته قيادة الجيش المصري، وبتغطية من قوى سياسية واجتماعية وشبابية صنعت التظاهرات الصاخبة في جميع انحاء مصر.
كما لن تسعفنا العودة الى التقاليد الثورية الكلاسيكية، فنظام الاخوان لم يسقط في الشارع، وشرعية الثورة التي اطاحت به ليست مستمدة من شعب ثائر قام بالاطاحة بجميع مؤسسات الحكم. فالذي قدم الشرعية لـ ‘تمرد’ حزيران/ يونيو هو الدولة المصرية العميقة. اي تحالف الجيش والقضاء والأزهر. نحن اذا امام شرعية يختلط فيها الدولتي بالشعبي، بل يمكن القول انه لولا الدولة العميقة التي انقلبت على حكم الاخوان، لدخلت مصر في دوامة من العنف والفوضى.
كيف نقرأ ما جرى ويجري؟
قبل الدخول في محاولة فهم الحدث المصري، لا بد من قراءة معنى كلمة انقلاب في التراث السياسي العربي المعاصر.
كلمة انقلاب مثلما استخدمها المؤرخ والمفكر القومي قسطنطين زريق، كانت تعني شيئاً شبيهاً بالثورة، اي تغييراً عميقاً في بنية الدولة والمجتمع. لكن هذه الكلمة نفسها سوف تتحول مع صعود القوى القومية الى السلطة: الناصرية والبعث… الى بديل للثورة. مؤسس حزب البعث ميشال عفلق استخدم الكلمة في سياق بحثه عن ‘بعث’ الأمة من الرقاد، والناصرية اعتبرت الجيش طليعة الشعب في التغيير. اي ان الانقلاب بما هو استيلاء بالقوة على جهاز الدولة من دون اي مرجعية شعبية، صار بديلا من الثورة، بل صار هو الثورة!
هذا الالتباس ليس آتيا من لا مكان، فالانقلاب، وخصوصا حركة ‘الضباط الاحرار’ في مصر بزعامة جمال عبدالناصر، حقق تغيرات اجتماعية كبيرة، عبر الاصلاح الزراعي، والتأميم، وخاض معارك وطنية كبرى كمواجهة العدوان الثلاثي عام 1956، وادى الى تحولات اجتماعية وسياسية ليس في مصر وحدها، بل في المشرق العربي برمته. لكن الشكل الانقلابي افتقد الى اي رقابة شعبية على السلطة، وهذا ما جعل من الجيش اقطاعاً خاصاً، ما قاد الى هزيمته المروعة عام 1967.
بالطبع سوف تفترس البنية الانقلابية جميع الانجازات الاجتماعية مع عهدي السادات ومبارك، وسوف تتحول في الدول العربية التي سارت على هذا الدرب الى كاريكاتور مضحك للتجربة الناصرية، كما في ليبيا وسورية والعراق والسودان… وسوف تكون هذه الديكتاتوريات باب تفكك الاوطان ودمارها.
ما شهدته مصر في 25 كانون الثاني/يناير كان انتفاضة شعبية كبرى ضد حكم هرم وديكتاتوري ومتعفن، لكن هذه الانتفاضة لم تستطع ان تبني شرعيتها الثورية المستمدة من ميادين التحرير. اذ سرعان ما قام الجيش بانقلابه الناعم، وفرض تجربة حكم المجلس العسكري البائسة، التي سرعان ما تهاوت امام الثورة التي استمرت، ما اضطر الجيش الى الانكفاء واستدعاء الشرعية الليبرالية، اي شرعية صناديق الاقتراع.
جرت الدورة الانتخابية الرئاسية الثانية بين مرشحين: مرشح الاخوان: محمد مرسي، ومرشح النظام القديم الذي اصطلح على تسميته باسم الفلول: احمد شفيق. هذا لا يدل فقط على تشرذم القوى الثورية المدنية التي اطلقت الثورة، وعدم جهوزيتها، بل يدل ايضاًعلى مفارقة لا سابق لها، وهي ان يكون للنظام القديم الذي اسقطته الثورة مرشحه، واكثر من ذلك ان تكون حظوظ هذا المرشح كبيرة، الى درجة جعلت البعض يشكك في نزاهة النتائج النهائية للانتخابات.
بدل بناء شرعية ثورية في الشارع تطيح النظام القديم، تم اللجوء الى الديموقراطية الليبرالية التقليدية، حتى قبل كتابة دستور للبلاد، ما ادى الى سنة الغموض والتوترات التي صاحبت عهد مرسي.
لست معنيا بالتشكيك في نتائج الانتخابات الرئاسية، فالاخوان كانوا التنظيم السياسي الوحيد الذي يمتلك نصاباً تنظيمياً حقيقياً، لذلك فان فوز مرشحهم، خصوصا بعد فشل مرشحي الميدان في الوصول الى الدورة الثانية، كان منطقيا.
لكن ماذا فعل الاخوان بالثورة التي اسلمتهم قيادة البلاد؟
تصرف الاخوان كأنهم قادوا انقلابا، وليس بوصفهم جزءا من نسيج ثوري متعدد اللون. بدلا من حكومة وفاق وطني ثوري، تجمع القوى التي شاركت في الثورة، قاموا بالانفراد في الحكم، معتقدين ان التفويض الشعبي هو دبابتهم للانتقام من دبابات ناصر التي سحقتهم في الخمسينات.
وبدا ان مكتب الارشاد هو رئيس رئيس الجمهورية، وان الجماعة لا تسعى الا الى شيء واحد هو اخونة الدولة. وهذا بالطبع مناقض للعرف الليبرالي الديموقراطي الذي يتباكون عليه الآن.
ففي العرف الليبرالي فان الحزب الفائز يدير الدولة ولا يستولي عليها، فقط الانقلاب هو من يسعى الى هذا الاستيلاء. اما الثورة فتسعى الى تدمير جهاز الدولة القديم من اجل بناء جهاز جديد ومختلف.
لم يكن بمقدور الاخوان وحدهم قيادة عملية ثورية حقيقية، كما ان هذا ليس في برنامجهم، فهم قوة محافظة سياسياً ونيوليبرالية اقتصادياً، لذا استخدموا فوزهم الانتخابي المستند الى انتفاضة 25 يناير، مطية نحو حكم انقلابي كامل.
وهذا سبب سقوطهم المدوي يوم 30 حزيران/يونيو.
(لن ادخل هنا في كواليس الصراع على السلطة التي اشار الى بعضها محمد حسنين هيكل في مقابلته مع قناة ‘سي بي سي’ المصرية، والجهة التي كانت تسنّ السكاكين انتظارا لهذه اللحظة. هل كان الاخوان يستعدون للاطاحة بقيادات الجيش، ام ان الجيش كان ينتظر اللحظة المناسبة التي وجدها في مبادرة ‘تمرد’؟ فهذه المسائل متروكة للمؤرخين، وهي على اهميتها التفصيلية ليست سوى جزء من مسار صدامي كان يتنامى في صراع الدولة مع الاخوان).
جاء سقوط الاخوان في سياق عملية سياسية معقدة، وغامضة الملامح، فهناك انتفاضة شعبية حقيقية ضدهم قامت الدولة باستقبالها بانقلاب لم يقم به الجيش وحده، رغم انه تصدّر المشهد.
النقاش حول هل نحن امام ثورة او انقلاب هو نقاش خارج الموضوع، فما يجري هو عمل انقلابي شعبي، لكنه ليس ثورة، وليس انقلاباً كلاسيكياً.
زمن الانقلابات ولّى، اما زمن الثورات، فهو يفتقد الى طليعة ثورية متماسكة مضى زمنها منذ افول الشيوعية السوفياتية.
مصر تعيش زمناً ثورياً، ومن المؤكد ان ‘تمرد’ 30 حزيران/يونيو ليس نهاية مطافه، انه احد مراحله، لذا لا لزوم لاستعجال الاستنتاجات عن نهاية الاسلام السياسي، او تبني مقولات ليبرالية جامدة عن ان اسقاط رئيس مدني منتخب يعني عودة الجيوش.
مصر ومعها المشرق العربي في مخاض ثوري كبير، وهو مخاض يحتاج الى ادوات فكرية جديدة من اجل فهمه وتحليله. لكنه يحتاج اساسا الى انخراط الديموقراطيين واليساريين الديناميكي فيه، لأن مهمة الثقافة الثورية صارت اليوم تفسير العالم في سياق تغييره، من اجل بناء معاني الحرية والعدالة الاجتماعية والديموقراطية من جديد.
القدس العربي
“التفاوت في التطوّر” على الطريقة المصرية
وسام سعادة
ما دام الحدث الثوري المصريّ المتمادي منذ سنتين ونصف سنة متعدّد الأبعاد بشكل فائق، لزم أن ترتفع قراءته، بشكل نقديّ، إلى حيث، يمكنها عدم التفريط بأي عنصر أساسي فيه، والقفز إلى حيث زعزعة الثقة بالحتميتين المتداولتين، سواء “الحتمية الليبرالية” التي ترى أن مصر، وبعد أن تخلّصت من “حكم الإخوان” تدخل فترة انتقالية تقودها إلى حيث الديموقراطية المتحرّرة تماماً من ثنائية “عسكر واسلاميين”، أو “الحتمية الإسلامية” التي ترى أنّه لا سلام أهليّ في مصر بعد سقوط نظام حسني مبارك إلا باستتباب “دولة الشريعة”.
يبقى أنّ مسعى القراءة النقدية لزعزعة هاتين الحتميتين يتكامل مع الإقرار الصريح بتجذّر مثالين اثنين في الوعي الجمعي للفئتين المنقسمتين حالياً في مصر أو في غيرها من المجتمعات العربية: “المستبدّ العادل” الراسخ في بال الإسلاميين، و”المستبد المستنير” المتجذّر في عقول الليبراليين والقوميين واليساريين.
جماعة “المستبدّ العادل” يرون أنّ لا سبيل لإحقاق العدل بين البشر إلا بمرجعية منزلة من جهة، ومحتكرة من قبل عنصر دون آخر من جهة ثانية. وجماعة “المستبد المستنير” يرونَ أنّ لا سبيل إلى الإنتقال إلى الديموقراطية، أو إلى التنمية، أو إلى أي هدف “وضعيّ” آخر إلا بتسليط جهاز الدولة البيروقراطي والأمني والعسكري ضدّ الإسلاميين. وإذا كانت جماعة “المستبد العادل” تتحجج بالمفهوم الديني للأمة، ساعة تبسطه ليبلغ مدى عالمياً، وساعة تقبض عليه لتختزله في “عشيرتها”، فإن جماعات “المستبد المستنير” يعظّمون أمر “الشعب”، غير أنّهم يتعاملون معه كجسد واحد، له بدن وأعضاء وأذرع، ويبحث عن رأس له.. “المستبد المستنير” قاهر الإسلاميين، ومعبّد الطريق إلى الديموقراطية والتنمية المنشودتين.
بمعنى ما، المواجهة في مصر حالياً لا تزال في جزء أساسيّ منها، مواجهة بين مثالين، “المستبدّ العادل” في مواجهة “المستبدّ المستنير”. لكنّ ما يعقّد الموضوع أكثر أن جماعة “المستبد العادل”، تتمسّك في المواجهة الحالية، بمفاهيم من خارج مرجعيتها العقائدية الأساسية، أي بنتائج الإقتراع العام والدستور “التوفيقيّ” بين حكم الشريعة وحكم القانون.
والتعقيد لا ينتهي هنا. فمن جهة، ثمة قومة شعبية غير مسبوقة ضد حكم الرئيس محمد مرسي، وهذه القومة بدأت بعد أشهر قليلة من انتخابه لتبلغ الأوج يوم الثلاثين من يونيو.
والانتفاضة الشعبية ضد الرئيس مرسي لا تكفي لوحدها لنفي الطابع الانقلابي عن تحرّك القوّات المسلّحة لاعتقال الرئيس المنتخب وقيادات إخوانية أساسية. لأن البديل من التوصيف الإنقلابي لتحرّك الجيش، سيكون أنّ العسكر تحرّكوا بدافع عاطفيّ ليس إلا بعد سماع صدى الجماهير، وهذا لو صحّ لا يطمئن، وتبقى نظرية الإنقلاب أفضل. ثم أنّ الإنقلاب هو “مفهوم تقنيّ” يتصل بتحرّك ضباط في الجيش للاطاحة بالحاكم. وقد يكون الإنقلاب منفّذاً من ضباط في رتب متفاوتة أقاموا تنظيماً سرّياً في ما بينهم، وهذا حال “تركيا الفتاة” و”الضباط الأحرار”، أو يكون على الطريقة التركية، انقلاباً يصدر أمره من قيادة الأركان.
ودون “الإنقلاب” درجة هو “العصيان العسكري” وهذا ما حدث يوم وجّه الجيش انذار الثمانية وأربعين ساعة. أمّا يوم تخطي مرسي ثم اعتقاله فإن التوصيف الإنقلابيّ لا يمكن المكابرة عليه.
إنما أيضاً لا يجوز الاسترسال. ذلك أنّ هذه الإطاحة تحدث في عزّ انتفاضة جماهيرية من ناحية، وفي مجتمع منقسم أهلياً بشكل حاد من ناحية أخرى. وبالتالي إذا كان الأمر انقلاباً، فهذا لا يعني أنّه معدوم الشرعية، لأن الشرعية ليست مسألة مطلقة. الشرعية تزيد وتنقص. والشرعية الدستورية ليست النوع الوحيد من الشرعية، كما يذكرنا الفيلسوف السياسي الفرنسي ايف شارل زرقا في مساهمته ضمن كتاب “إعادة التفكير بالديموقراطية”. لكن الإنقلابات هي مجازفات بالأحرى، من جهة شرعيتها: هي تقترض ما يقوم مقام الشرعية من المستقبل، وفي حالة مصر حالياً، من قدرتها على استئناف المسار الدستوريّ. وهذا، لمصارحة الذات، لسنا نمتلك معطيات توحي بالتفاؤل بصدده كثيراً.
فاذا كان التصوّر الذي سيغلب هو تصوّر أن ثمّة “ثورة” تقابلها “ثورة مضادة” ولا بدّ من تحطيم الثورة المضادة دخلنا في صراع أهليّ عنيف ومزمن. أمّا إذا كان التصوّر الذي سيغلب ولو بعد مرور بعض الوقت، هو أنه ينبغي اللوذ بنتائج الانقلاب، للتفاوض من موقع القوة مع الإسلاميين باتجاه التوصل معهم، الى تسوية تاريخية، فهذا هو وحده السبيل الى الانتقال من الصراع الأهلي الى التداول السلمي على السلطة وفقاً لمرجعية دستورية. أما من يتوهّم أنه يمكنه الانتقال من وضعية مختلّة يربح فيها “الاخوان” ثلاثة استحقاقات انتخابية متتالية الى وضعية يخرج فيها “الاخوان” من التاريخ، فهذا يتوهّم أنّه يمكن بالفعل أن تصير الأمور تداولاً مستقرّاً على السلطة بين مدنيين يختار العسكر أحدهم رئيساً.
ليس هناك ما هو أفضل من المفهوم اللينيني عن “التفاوت في التطوّر” كوصف إجمالي للأوضاع المصرية. فعناصر المشهد المصريّ “متفاوتة في تطوّرها”، بين انتفاضة شعبية واسعة النطاق، وارتكاسة الى التحرّك الانقلابي، وانقسام أهليّ حاد، وامكانية تسخير الوقائع الانتفاضية والانقلابية في اتجاهين متناقضين: اما للاسترسال في صراع أهلي بين “ثورة” وبين “ثورة مضادة”، الأولى “وطنية” والثانية “اسلامية”، أو العكس، بكل ما يمكن أن يطوّره ذلك من احتمالات غير مسبوقة، وامّا وعي نقديّ وواقعيّ، يقرّ باستحالة أن يلغي فريق فريقاً، ويذهب مباشرة الى الفوز بايجابيات الاختلاط بين “الثورة الشعبية” و”الانقلاب العسكري”، أي وضع حد لعام الفشل الذريع، عام محمد مرسي، والبحث عن أرضية دستورية للتداول السلمي على السلطة بين الإسلاميين وغير الإسلاميين.
المستقبل
الفتنة المصرية: ليته كان انقلابا وليت أمريكا كانت ضالعة
د. عبدالوهاب الأفندي
فيما يدور السجال حول ما إذا كان ما شهدته مصر عشية الرابع من يوليو (ذكرى الاستقلال الأمريكي) ثورة شعبية ضد الاستبداد ‘الإخواني’، أم انقلاباً عسكرياً على الشرعية، فإن الأنباء السيئة هي أن المسألة لم تكن انقلاباً عسكرياً، وإنما ما هو أسوأ من ذلك. فما وقع لم يكن تسلماً للسلطة من قبل الجيش، وإنما لعب الجيش دور المحلل لإعادة السلطة إلى أجهزة مخابرات مبارك التي كانت الحاكم الفعلي للبلاد في عهده ثم إلى حد كبير في عهد مرسي.
وفي حقيقة الأمر فإن كل ما يسمى بالانقلابات العسكرية لا تعني أبداً تولي الجيش للسلطة، بل بالعكس فإن أول مهام الانقلابات العسكرية تكون إخصاء الجيش وإخضاعه للجهة التي تتولى السلطة تحت عباءته. فالأنظمة ‘العسكرية’ تخشى أكثر ما تخشى الجيش، وتعتبره عدوها الأول. ولهذا فإنها تخترقه بالجواسيس، وتعهد بمواقعه القيادية إلى شخصيات تفتقد الأهلية، ولكنها تدين بالولاء للفئة الحاكمة تحديداً لأنها تفتقد الأهلية وتعلم أن البقاء في موقعها رهن بإرادة الحكام. ولهذا تبقى هذه الأنظمة في حالة حرب دائمة مع الجيش، وتجهد في القضاء على كل توجه مهني في داخله.
ولعله لم يتحقق نجاح في إخضاع جيش وتحويله إلى هيكل فارغ كما حدث في مصر. ففي عهد عبدالناصر، حين تولى السلطة ضباط برتبة العقيد وما دونها (باستثناء محمد نجيب الذي لم يكن سوى واجهة) كانت البداية بانتهاك هرمية القوات المسلحة وإخضاع كبار الضباط إلى مرؤوسيهم. وفي نهاية المطاف تحول الجيش إلى ما يشبه ضيعة خاصة بيد عبدالحكيم عامر، وكان ما كان. أما في حقبتي السادات ومبارك، فقد تحول الجيش إلى دكان لكبار الضباط، فانشغلوا بالبيزنس والتجارة عن كل مكرمة ومهمة عسكرية. وفي ظل اتفاقية كامب دايفيد التي جعلت الحفاظ على أمن إسرائيل (لا أمن مصر) هي مهمة النظام الأساسية، فإن كل الجهود اتجهت إلى مواجهة ‘الأخطار الداخلية’. ولأن هذه أساساً هي مهمة المخابرات، فقد أخضع الجيش بالكامل للمخابرات.
وقد يحتاج العالم في وقت ما إلى دراسة متعمقة لرد فعل الجيش المصري إزاء انتفاضة 25 يناير 2011، ولكن كل الدلائل تشير إلى الجيش ظل حتى آخر لحظة في حالة خضوع كامل للنظام وجهاز مخابراته حتى انهار كل شيء فورثه في صمت. فخلال اللحظات الحرجة، كان الجيش يقف مع النظام، ولم يجرؤ صوت داخله على الارتفاع محتجاً على قتل المتظاهرين أو التنكيل بالمواطنين. بل بالعكس، روى كثير من الصحافيين الأجانب أن قوات الجيش كانت تعتقلهم ثم تسلمهم للمخابرات. وقد كان لعب الجيش أدواراً محورية في محاولات النظام المتعددة لإفشال الثورة، بما في ذلك الإشراف غير المباشر على ‘موقعة الجمل’ الشهيرة التي تمت تحت بصر وسمع قوات الجيش التي حاصرت ميدان التحرير وتولت حماية مداخله.
مهما يكن فإن الجيش المصري ظل خاضعاً تماماً للسلطات الاستبدادية في مصر، وإن فترة مرسي القصيرة التي حصل فيها الجيش على استقلال مؤقت، قد انتهت الآن، مع عودة النظام القديم وأجهزته السرية إلى السلطة. ولهذا النظام وجوه سياسية وإعلامية معروفة، عادت اليوم إلى الواجهة بشعاراتها المعروفة، وله أدوات قمعية عادت إلى العمل بكامل أهبتها كما ظهر من سلسلة الاعتقالات في حق إسلاميين دأب نظام مبارك على ملاحقتهم. وقد اختفى تماماً الفرق بين ما يسمى بالقوات النظامية وما كان يعرف بالبلطجية من أنصار النظام السابق، حيث كشفت المجازر الأخيرة سفور البلطجة بالزي العسكري الرسمي. ولهذا نقول أنه لو كان ما وقع في مصر انقلاباً عسكرياً لربما كان الأمر أهون، ولكنه للأسف عودة إلى الجيش إلى نفس الدور الذي كان يلعبه أيام مبارك، حين كان يتولى حراسة فساد المفسدين وجرائم المجرمين لقاء أجر معلوم لكبار قياداته.
المفارقة تكمن في أن فرقاء النزاع السياسي القائم في مصر يتناوبون في اتهام الخارج ولوم الآخرين على محنتهم. فقد كان خصوم مرسي يتهمون قطر وحماس والولايات المتحدة بدعم مرسي (ولا شك أن هذا يعتبر أول تحالف بين حماس والإدارة الأمريكية إن صحت التهمة، وهو خبر يجب ان تسير به الركبان). أما أنصار مرسي فدأبوا على اتهام الإمارات والسعودية وكذلك أمريكا بالوقوف وراء التحركات ضده. ولا شك أن هذا الإجماع على اتهام أمريكا يمثل شهادة براءة في حقها، لأن الولايات المتحدة لو كانت دعمت مرسي وخصومه في نفس الوقت فإن محصلة جهودها لا بد أن تكون صفراً.
ولعلها مصادفة ذات مغزى أننا قرأنا على صفحات ‘القدس العربي’ (وهي حقاً صحيفة التعددية في الآراء) في يوم واحد (في عدد السبت الماضي) رؤيتين متناقضتين للدور الأمريكي في مصر. ففي عمود ‘هواء طلق’ لام عزت القمحاوي الأمريكان على أنهم كما قال: رتبوا ‘المؤامرات لإهدائه (يعني الربيع العربي) إلى قوى أقل جدارة بالحكم من القوى الساقطة، ثم استراحوا إلى ما رتبوه.’ وبحسب هذا الرأي، وهو موقف يؤيده مصريون كثر على ما يبدو، فإن الولايات المتحدة هي التي نصبت مرسي رئيساً (وليس الشعب المصري الذي انتخبه على مرأى ومسمع من العالم كله). ويرى هؤلاء كذلك في اعتراض الولايات المتحدة على الانقلاب العسكري تأييداً للإخوان، وليس موقفاً معروفاً من الإدارة الأمريكية تجاه أي انقلاب عسكري، وهو موقف مؤسس له في القانون الأمريكي الذي يقضي بقطع المعونات عن أي نظام انقلابي ما لم يتقدم الرئيس بحجج قوية تؤكد أن الأمن القومي يفرض استثناءً.
ولكن في نفس عدد ‘القدس العربي’ نطالع رأياً مصرياً آخر، هذه المرة للزميل سليم عزوز في عموده الممتع غاية الامتاع، حيث أسعفنا باعتراف من البرادعي شخصياً بأنه ‘بذل جهداً عظيماً من أجل إقناع الغرب بالانقلاب على الرئيس محمد مرسي، وأن هذا تم منذ ستة شهور، والمعنى أن النية كانت مبيتة، وأن الاحتشاد الجماهيري، والرضوخ لمطالب الشعب الرافض لوجود الرئيس مرسي هو الغطاء لما بذل فيه البرادعي جهداً لإقناع الغرب به’.
ورغم أن الاعتراف سيد الأدلة إلى أنني لا أميل إلى تصديق دعاوى البرادعي بأنه ‘أقنع الغرب’ بضرورة الانقلاب على مرسي، لسبب بسيط، هو أنه لا يوجد ‘غرب’ واحد حتى يستطيع البرادعي (الموظف الدولي السابق والمفترض فيه أن يكون أقل سذاجة من ذلك) إقناعه أو لا يستطيع. وحتى في كل دولة غربية، هناك مراكز قوى كثيرة لا يستطيع كثير من المحاورين الوصول إليها. ففي واشنطن لوبيات صهيونية ومراكز قوى اقتصادية توجست منذ اليوم الأول من الديمقراطيات العربية الوليدة، وذعرت عندما تولى الإسلاميون السلطة. ولكن الإدارات الغربية رضخت مكرهة لهذه الإرادات الشعبية، ولو لم تفعل لاتهمها الخصوم بالنفاق. ومهما يكن فإن مرسي لم يتول السلطة في مصر باعتباره صاحب ‘مشروع إسلامي’، وإنما كان ينادي مثل غيره بالديمقراطية، وكان كلما اختلف مع خصومه في أمر احتكم إلى صناديق الاقتراع. وقد انصاع مرسي لكل الأحكام القضائية التي صدرت ضده، والتزم كل قواعد الديمقراطية، فلم يعتقل خصومه، ولم يغلق القنوات الفضائية. وإذا كان خصومه اتهموه بفتح بلاغات ضد منتقديه فإن هذا لا يعتبر تسلطاً، لأن من حق أي مواطن مصري فتح بلاغ، ويبقى الحكم في نهاية المطاف للقضاء.
مهما يكن فإن الغرب لم يكن هو الذي نظم الانتخابات التي فاز فيها مرسي، كما أن الغرب لم يكن هو الذي دبر الانقلاب الذي أسقطه. فالصراع الدائر هو صراع بين المصريين. وعندما يلقي البعض باللوم على أمريكا أو غيرها، فإن هذا يعتبر توسلاً غير مباشر من قبل هذه الأطراف للخارج لكي يحارب معاركهم نيابة عنهم. فهم يريدون من أوباما أن يقود المظاهرات في ميدان التحرير ضد مرسي، أو أن يرسل المارينز لاعتقال السيسي وتسليمه لمحكمة الجنايات الدولية. وكل هذا من قبيل الهوس والأوهام. فلدى أوباما وغيره مشاغل أخرى غير شجارات المصريين. وما نسمعه من أساطير حول هذا الدور الأمريكي أو ذاك هي إحدى أهم أعراض مرض عربي مستعص، وتعبير عن العجز والاتكالية وعدم الثقة في النفس.
ونحن نطمئن مع ذلك الإخوة الأعزاء أن إسرائيل، وهي أهم من أمريكا، تحب البرادعي (وعمر موسى كذلك) وتكره مرسي. وأن قلبها معهم وسيوفها إذا اقتضى الأمر. ولكن الفشل في هذه المسألة ليس فشل مرسي أو فشل امريكا وإسرائيل، وإنما فشل الأنظمة التي حظرت حركة الإخوان وحاربتها ستين عاماً، ثم إذا بها تستيقظ فتجد الإخوان يحكمون مصر. ولا شك أن عودة النظام القديم بسجونه ومخابراته لن تحل مشكلة الإخوان، بل إن التدخل العسكري الأخير ساعد الإخوان وغطى على فشل مرسي الذريع.
بعض المنتقدين ادعى أن المشكلة في مصر والعالم العربي هي أن الليبراليين غير ديمقراطيين والإسلاميين غير ليبراليين. ولكن من الواضح أن مصر كانت أكثر ديمقراطية وليبرالية في عهد مرسي منها في العهد ‘الليبرالي’ الحالي، الذي يبدو أنه يخشى حرية التعبير كما يخشى الديمقراطية. ولعلها مفارقة أن بعض أنصار الانقلاب أصبحوا يتحدثون ـ مثل إخوانهم في سوريا- عن ‘مؤامرة كونية’ تشترك فيها الجزيرة وسي إن إن والبي بي سي وأمريكا وقطر. ولكن الفرق هو أن النظام السوري (ومعه السعودية والإمارات وإسرائيل، وبالطبع قناة العربية) رأوا في الانقلاب نصراً لتيارهم، الذي هو بلا شك تيار الليبرالية والديمقراطية الأول في العالم.
‘ كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن
القدس العربي
من السماء القاهرة
فيليب سكاف
ذات عرض عسكري، حصلت مبارزة بين الفرعون “المبارك” ووزيرين. ويُحكى ان وزير داخليته شاهد سرباً من الحمام يُرفرف في سماء القاهرة. أطلق عليه الرصاص من مسدسه فأسقط حمامة واحدة. فما كان من وزير دفاعه إلا أن شهر مسدساً وأردى حمامتين. ابتسم الريّس بثقة. تناول مسدساً وأطلق النار فلم يصب حتى حمامة واحدة. وفوراً، صفقت له الجموع، ومن بينهم مفتي الجمهورية الذي اسر له: “الله، يا ريّس. دي أول مرة بشوف حمام ميّت بيطير”. هكذا كان الجو أيام الريس المخلوع “لتكن مشيئتك على الارض كما في السماء”…
الى أن نزلت الملايين الى الميادين، وامتلأت السماء هذه المرة بوعود الهية، فاشرأبت الأعناق وشخصت الجماهير نحوها، مبتهلة، متأملة ان تنزل عليهم الحرية والعدالة… والعيش الكريم من اخوان السماء. أتوا بمرسي. لكن لعنة الفرعون لاحقتهم. وفي غضون سنة واحدة، نكث المنتخب بكل وعوده لهم، ونصب عليهم فلوله. ورويداً رويداً، اصطدم بالشباب، وبالأعلام، وبالكنيسة وحتى بحلفائه السنة، وصولاً الى الشرطة والجيش، وشعاره: “إما نحكمكم او نقتلكم. وهذه الصناديق التي أتيتم بي بها، والتي حملتني الى السلطة، ستتحول الى صناديق تحملكم اذا لم تخضعوا لي ولجماعتي. إن لم يكن اليوم… فغداً أو بعد غد.
لكن الشعب المصري يُشبه طبيعة بلاده التي تنقلب فجأة من صحراء صفراء الى ضفاف نيل خضراء. وهكذا حصل، انقلب الشعب بلحظة فعادت الملايين الى الميادين. وبهدف تحقيق الديموقراطية، انهى ديموقراطية الأخوان. أولئك الذين يؤمنون بالديموقراطية على أساس “صوت واحد لمواطن واحد… ولكن لمرة واحدة وأخيرة”. وعادت الجموع تنظر الى السماء، لا لتصفق امام أسراب الحمام او الأوهام، بل أمام أسراب الطائرات الحربية التي أخذت تتراقص اغراء للشعب، مطلقة رسالة الى مرسي: “أنت من السجون… والى السجون تعود”. ومن المخلوع الى المعزول، رسالة من أم الدنيا الى سائر الدنيا”. من يتجاهل او من يقسم الشعب لا يستأهل أن يحكمه”. وتهاوت أحلام الأخوان المحيطية (على فكرة، ماذا كانوا يدبرون للامارات؟ ألا يريدون ان يتركوا أرضاً مسلمة سالمة مسالمة؟. لقد صدق من قال فيهم: “حاربوا العدل، فسقط حكمهم”).
مصر انتخبت جلادها وندمت… فصححت. ولكن بعد أن تهدأ الأمور، سينظر الملايين العائدون من الميادين مجدداً الى السماء، بعد أعجوبتين اجترحوهما في السنتين الماضيتين، طالبين من الله، هذه المرة، أعجوبة إلهية ثالثة: تكثير العيش والسمك. فالعيش بكرامة إنما يبدأ بلقمة العيش.
النهار
سقوط الإخوان المسلمين… وسقوط الإخوان الليبراليين
زياد الدريـس *
انسجاماً مع الانقسام الراهن في منطقتنا العربية، سأقسم مقالي هذا إلى قسمين!
سقوط الإسلاميين
الحقيقة أن العنوان أعلاه غير دقيق، فالذي سقط حُكمه هم الإخوان المسلمون، الذين هم فصيل فقط من الإسلاميين، وليسوا هم كل الإسلاميين. والدليل الملموس على تلك المفاصلة أن إسلاميين (ملتحين ومحجبات) كانوا في ميدان التحرير مع المعارضين للإخوان المسلمين.
وبهذه الرمزية أيضاً نردّ على الذين اعتبروا سقوط الرئيس مرسي هو سقوط للإسلام وهزيمة للمسلمين، وكأن الإسلام حكرٌ على الذين يتظاهرون في ميدان رابعة العدوية، بينما أن الذين يتظاهرون في ميدان التحرير لا علاقة لهم بالإسلام .. وإن التحوا وتحجّبوا، وصاموا وصلّوا!
لماذا سقط الإخوان المسلمون؟!
سقطوا لأسباب داخلية، من ذواتهم، ولأسباب خارجية من الأطراف المناوئة لهم. لكن الجو السياسي الساخن الذي تعيشه الساحة الشعبية لا يسمح لأتباع الإخوان بأن تكون لديهم الآن رحابة صدر للاستماع للأسباب الداخلية للسقوط، فيما يسعى أعداء الإخوان بالمقابل لتهميش الأسباب الخارجية.
وبسبب هذا الاحتقان المبرّر والخاضع للمزاج البشري الطبيعي كان رد الفعل عنيفاً على تغريدتي التي وضعتها في «تويتر»: «عرفت سبب سقوط مرسي عندما رأيت شيوخاً وعواجيز من كوادر الإخوان في عمر أبي يقبّلون يد المرشد العام. بالإضافة إلى أسباب أخرى بالطبع!».
الغضب العارم والمفهوم من الانقلاب العسكري على الشرعية في مصر أفقد حتى بعض العقلاء القدرة على فهم مغزى عبارتي، وباتوا يقارنون آداب التقبيل السلطوي بين الإخوان وفي الخليج، وكأني كنت أهاجم سلوك الإخوان وحدهم وأدافع عمن سواهم، رغم أن السياق الثقافي للعبارة كان يمكن أن يكون جلياً لغير المنفعل الذي لم يستطع لفرط انفعاله أن يقرأ تتمة عبارتي: «بالإضافة إلى أسباب أخرى بالطبع».
اكتشفت واعترفت أني أخطأت في توقيت قولي ذلك، لا في مضمونه، وأني لو كتبته في غير تلك اللحظة الساخنة كان سيفهمه ويؤيده معظم الذين اعترضوا عليه.
عندما تهدأ النفوس، ستنهال المراجعات العقلانية الهادئة والمحايدة لأداء الرئيس مرسي في ذاته وقدراته القيادية، ثم في تأثيرات الطقوس الإخوانية والضغوط الحزبية التراتبية على أداء أي رئيس سيأتي من صلب الحزب.
سقوط الليبراليين
وللإنصاف أيضاً، سأقول إن العنوان أعلاه غير دقيق، فمن الليبراليين من هو أكثر إنصافاً للإخوان المسلمين من إسلاميين آخرين!
الحقيقة أن سقوط الإخوان المسلمين أدى إلى سقوط ما يمكن تسميتهم مجازاً بالإخوان الليبراليين، أي الليبراليين الذين تقوم مبادئهم على الحرية والتعددية «الانتقائية»، التي تخدم رغباتهم وشهواتهم واصطفافهم فقط، وقد وصفهم أحد المدونين المصريين صادقاً بأنهم: الليبراليون الإمبرياليون!
التشفي والانتقام والاعتقال المشين وتقييد الحريات إجراءات لا تلقى القبول من ليبرالي حقيقي صادق في مبادئه وملتزم بالقيم التي يدّعي اتّباعها. ولذا يصبح من الطبيعي على هذه الليبرالية المزيّفة أن تنفعل أيضاً وتتحول من ليبرالية إلى إمبريالية مؤيدة لانقلاب عسكري ضد الشرعية التي جاءت عبر صناديق الاقتراع، وتنسى قيمها التي تؤكد أن عدم رضاك عن أداء الرئيس الذي اختير عبر صندوق الاقتراع لا يبرر لك استخدام العسكر، عوضاً عن استخدام الأدوات المدنية المعتبرة للاحتجاج. ولو كانت هذه هي الوسيلة المتبعة والمشروعة لكان الشعب الفرنسي قد استعان بالجيش لإسقاط الرئيس السابق ساركوزي الذي انحدرت شعبيته بدرجة مريعة آنذاك، لكنه أكمل فترته الرئاسية الواحدة فقط ثم غادر غير مأسوف عليه.
أفهم أن تتخلى كل الفصائل والأحزاب والتيارات عن احترام مبدأ التعددية والحرية، إذ لديها مبادئ أخرى تفخر بها وتنشغل بتفعيلها، لكن لا أفهم أن يتخلى الليبراليون عن صُلب الليبرالية الذي هو التعددية واحترام الآخر، فبماذا سيفخرون بعدها؟!
***
وبعد، فالإشكالية تبدو في أن الإخوان قد انشغلوا عن التركيز على النجاح في الحكم بتثبيت آليات التمسك بكل مفاصل الحكم، فيما انشغلت المعارضة ليس بإنجاح الثورة وإخراج مصر من المأزق، بل بإفشال الإخوان وإخراجهم من المشهد.
سألني أحدهم: هل أنت مع أم ضد الانقلاب؟!
قلت له: إذا تخلصت من ثنائية المع المطلق والضد المطلق ستعرف الجواب.
الحياة
الثورة المصرية الثانية تكشف النظام السوري
خيرالله خيرالله
يستطيع النظام السوري متابعة قتل السوريين. ما لا يستطيع اخفاءه هو ضعفه وإفلاسه وتعلقه ببيع الاوهام ولا شيء غير الاوهام. يرفض النظام السوري الاعتراف بأنه انتهى وأن قتل مئتي ألف سوري وليس مئة ألف كما ورد في تقارير الامم المتحدة لن يقوده الى أي مكان. كلّ ما يمكن ان يقوده اليه يتمثّل في تكريس سوريا مستعمرة ايرانية القرار الاوّل والاخير فيها لطهران.
ما يعكس مدى ضعف النظام السوري وعيشه في الاوهام والاحلام رد فعله على اطاحة الشعب المصري، بدعم من المؤسسة العسكرية، الرئيس محمد مرسي بكل ما يمثله. أيّد النظام الشعب المصري في ثورته الثانية، من باب الشماتة في مرسي الذي اتخذ قبل فترة قصيرة موقفا حاسما وقطع كلّ العلاقات مع النظام السوري واغلق سفارته في القاهرة… وذلك من باب المزايدة لا أكثر.
سبق لمرسي أن اتخذ مواقف متذبذبة مما يجري في سوريا. فبعدما اعتمد في البداية موقفا سليما، اذا به يلعب ورقة التقرب من ايران داعيا الى مشاركتها في اجتماع رباعي يضمّها مع المملكة العربية السعودية وتركيا ومصر من اجل البحث في الازمة السورية وايجاد مخرج.
بالطبع، رفضت السعودية المشاركة في مثل هذا الاجتماع. كان لها الحق في ذلك، نظرا الى أن ما تشهده سوريا هو بكل بساطة وصراحة حرب يشنّها النظام، بمشاركة ايرانية فعّالة على الشعب السوري. كيف يمكن لايران أن تكون طرفا في حلّ في حين أنها في أساس المشكلة، خصوصا أن مقاربتها للموضوع السوري مقاربة مذهبية وعنصرية في الوقت ذاته؟ تقوم المقاربة الايرانية أوّلا وأخيرا على دعم حكم طائفي تختصره عائلة حرمت السوريين من كلّ نوع من انواع الحرّية والكرامة.
استعاد الرئيس المصري الاخواني رشده في الوقت الضائع. استعاده في وقت لم تعد المزايدات تنفع في شيء. كشف مرسي الموقف الانتهازي للاخوان المسلمين الذين لا يمتلكون سياسة ثابتة من أي موضوع كان. فلو كان اخوان مصر صادقين فعلا في دعم الشعب السوري وثورته، لكانوا تفادوا منذ فترة لا بأس بها أي نوع من البهلوانيات.
على العكس من ذلك، كان على اخوان مصر أن يكونوا قدوة في دعم الشعب السوري بكلّ الطرق والوسائل الممكنة بدل التفكير في كيفية استخدام الموقف من سوريا للتقرب من ايران في لعبة لا هدف منها سوى ابتزاز هذه الدولة الخليجية أو تلك.
لا يشبه موقف النظام السوري من مرسي ومن الثورة المصرية الثانية، سوى موقف اخوان مصر مما يدور في سوريا. فلو كان النظام السوري صادقا بالفعل، لكان اوّل ما فعله هو التعلّم من الاحداث التي شهدتها مصر. وهذا يعني في طبيعة الحال امتلاك حدّ ادنى من الشجاعة للاعتراف بأنّ ما تشهده سوريا ثورة شعبية بكلّ معنى الكلمة وليس مواجهة مع “ارهابيين”. فكلمة ارهاب لا تليق في وصف الشعب السوري الذي يقوم بثورة حقيقية هي انبل الثورات العربية. انّها ثورة لا علاقة لها سوى بالرغبة في استعادة بعض الكرامة والخروج من نير نظام فئوي قائم على اذلال الشعب واستعباده ونهب ثرواته عن طريق الاجهزة الامنية والتحالفات المذهبية، في مقدمها الحلف بين دمشق وطهران.
في كلّ الاحوال، انّ ما تشهده مصر حاليا درس لكلّ الانتهازيين الذين يسعون الى استغلال الربيع العربي، كلّ على طريقته.
كان النظام السوري يعتقد في البداية أنّه خارج دائرة الثورات الشعبية. من يتذكّر الحديث المشهور الذي ادلى به بشّار الاسد الى “وول ستريت جورنال” في بداية الربيع العربي؟
كان النظام السوري مقتنعا بأنّ الحلف غير المعلن القائم مع اسرائيل، والمبني على ابقاء جبهة الجولان مغلقة وفتح جبهة جنوب لبنان كي يكون الوطن الصغير مجرّد “ساحة”، اكثر من كاف للضحك على الشعب السوري. كان يعتقد أن الشعب السوري ساذج الى درجة يمكن أن يصدّق أن للنظام علاقة ما بشعارات مثل “المقاومة” و”الممانعة”… وأنّه يكفي أن يكون حليفا لميليشيا مذهبية اسمها “حزب الله” كي تنطلي اللعبة على الجميع، بما في ذلك المواطن السوري العادي، خصوصا الشاب السوري الذي يرفض أن يعيش كما عاش اهله منذ اكثر من اربعين عاما في ظلّ الخوف والقهر.
كانت المفاجأة الكبيرة أن النظام السوري لا يعرف شيئا عن شعبه ولا عن تطلعات الشباب فيه. الاخطر من ذلك أنه يرفض الاعتراف بالواقع. ألم يقل الاسد الابن للمبعوث العربي والدولي الاخضر الابراهيمي انه يدرك أن الشعب السوري لا يحبّ حزب البعث، لكنه مقتنع بأنه يحظى بشعبية واسعة في صفوفه؟ هل يمكن لمثل هذا الكلام أن يصدر عن رجل طبيعي يعرف شيئا عن سوريا وشعبها؟
ما شهدناه في مصر كشف الانتهازيين. كشف خصوصا النظام السوري الذي يظنّ أنه يستطيع في الوقت ذاته اعلان تأييده للشعب المصري الثائر وذبح الشعب السوري الساعي الى التخلص من الظلم.
نعم، كشفت الثورة المصرية الثانية كثيرين. لم تكشف النظام السوري والانتهازية الايرانية والروسية فحسب، بل كشفت أيضا “حماس” التي سيكون عليها، عاجلا أم آجلا، مراجعة حساباتها من منطلق سقوط الاخ الاكبر في القاهرة. لم يعد كافيا تخلّي احد الاجنحة الحمساوية عن الحلف القائم مع النظام السوري و”حزب الله” وايران كي يعثر اخوان فلسطين على طوق نجاة…
سيكون على “حماس” الاجابة قريبا عن اسئلة في غاية الخطورة تتعلّق بالدور الذي لعبته في دعم الاخوان في مصر وفي نشر الارهاب في سيناء. فما شهدته مصر بداية وليس نهاية. انها بداية فصل جديد من فصول الربيع العربي…الذي لم يتوقف ولن يتوقف عند حدودها.
المستقبل
ثنائية “عسكر وإسلاميين”: هل من فكاك؟
وسام سعادة
راج شعار “نهاية الاسلام السياسي” في الأيام الأخيرة، على خلفية التداخل بين التطورات الانتفاضية الشعبية والانقلابية العسكرية والتجاهل لوقائع الانقسام الأهلي الحاد في مصر.
وصدحت معه “الحتمية الليبرالية” لبضع ساعات، هي تلك الفاصلة بين ليلة القبض على الرئيس المنتخب، ورئيس الغفلة، الذي أراد أن يستأثر بالسلطة على رأس جهاز دولة لا يطاوعه فيه حاجب واحد، وما بين جمعة ظهور مرشد الجماعة محمد بديع في ميدان رابعة العدوية، مفتتحاً مرحلة جديدة من مسيرة.. “الإسلام السياسي”.
رهان هذه الحتمية “الشعبوية” و”الليبرالية” في آن، أنه وبعد أن أنجزت الثورة المصرية مراحل اسقاط المستبد المزمن والحزب الحاكم، ثم اسقاط سلطة العسكر، فقد أطاحت بحكم الإخوان، واختتمت المراحل الأساسية للانتقال نحو الديموقراطية والتنمية.
لكن عمر انتشاء هذه “الحتمية الليبرالية” كان قصيراً، بضع ساعات على الأكثر، دخل بعدها معتنقوها في دركات الهمّ والغمّ. سهلٌ أنْ تقطّع المراحل “التاريخية” التي تقطعها ثورة بالشكل الذي يحلو لك. الأصعب هو اسناد هذا التقطيع بما يبقيه بضعة أيّام على قيد الحياة.
فبعد أن اجتزنا المراحل الثلاث (اسقاط حسني مبارك والحزب الوطني، احباط المجلس العسكري، الاطاحة بحكم الاخوان)، ظهر أنّ الاستقطاب الرئيسي ما زال في مصر، كما في البلدان العربية الأخرى، بين “العسكر” و”الإسلاميين”، أو ان شئنا، “الإسلام العسكري” و”الإسلام السياسي”، وكأنك يا بوزيد ما غزيت!
ليس الغرض القول إنّ التاريخ يدور حول نفسه، فهذه الثنائية العسكرية – الاسلامية هي الأخرى لها هياكل وسياقات وأزمنة مختلفة. لكن الخروج من هذه الثنائية لا يكون بافتعال تقسيم مرحليّ صارم من حيث شعاره، وهشّ ليس فقط من حيث قدرته على تسويق نفسه جدياً، بل أيضاً من حيث افتقاده الى أي تراكم في المسودات الدستورية يعتد به لتبرير نظرية “المراحل – القفزات” الثلاث في الثورة المصرية، التي سيجيء بعدها الزمن الخلاصي الموعود.
فبعد تحقيق هذه “القفزات”، بالفعل، لا نزال في أسر الثنائية نفسها “اسلاميين وعسكر” التي أعقبت، في التاريخ ما بعد الاستعماري لمجتمعاتنا الاسلامية، ثنائية “أمراء الجند وعلماء الدين” في المرحلة السابقة على الاستعمار.
وما بين هذه الثنائية وتلك، بدت هذه المجتمعات في المرحلة الاستعمارية تأخذ مساراً آخر، حيث تطوّرت حركات وطنية تقتفي بعضاً من مثالات المستعمر سواء في حاضرته أو في إدارته الكولونيالية للبلد، وشيئاً من منطلقات الليبرالية والتنوير، انما للتحرّر من الاستعمار نفسه، وهذه حال “حزب الوفد المصري” بالتحديد في أيام سعد زغلول ومصطفى النحاس.
لكنّ ما حدث أنّ هذه الحركات كان عمرها من عمر الاستعمار نفسه، ولم يكتب لها وراثته في مرحلة الاستقلال الوطني كما فعل “حزب المؤتمر” في الهند، بل كُتب عليها الاندثار والتسليم، لسلطة العسكر، التي عوّمتها الأيديولوجيا الثورية العالمثالثية والقومية العربية، ثم لثنائية الاستقطاب بين العسكر والاسلاميين، وهو استقطاب قد يتضمّن شهور عسل عديدة، في أيام الضباط الأحرار، كما في أيام المشير طنطاوي، أو سنوات عسل، كالحالة السودانية قبل وقوع الطلاق بين عمر حسن البشير وحسن الترابي، أو ينشغل تاريخ هذا الاستقطاب بمتاهات البطش من جهة، والارهاب من جهة أخرى، كلّ يستولد علة وجوده من الوقوف حاجزاً منيعاً في وجه الآخر. هذا يتعثّر في محاولاته التحديثية القسرية، وذاك يتلعثم في تحديثيته اللاواعية التي تزيّن لنفسها أنّها عودة إلى الجذور، فيما هي ابتداع لتراث لم يوجد بالشكل الذي تتخيّله قط.
فإذا وضعنا لبنان الإسلامي المسيحي والصغير الرقعة جانباً، لرأينا تجربة الحبيب بورقيبة وحدها تحاول الافلات من هذه الثنائية، على سلطوية تجربة بورقيبية وطابعها الفرديّ، وهذا قبل أن تنضم تونس بدورها، مع زين العابدين بن علي وانقلابه، الى هذه الثنائية الاستقطابية بين أجهزة الأمن والاسلاميين، انما لتشكّل على ما سيظهر لاحقاً “الحلقة الأضعف” ضمن هذه المنظومة، حيث أن التقاليد البورقيبية أرست فيها بالفعل امكانية بلورة تيار مدني مواجه للاسلاميين، لا يكون طيعاً لسلطة العسكر، ولو أنه يسرف في أغلال كذا فكرة أيديولوجية قومية وشعبوية.
أما مصر، التي لا تزال هزيمة الخامس من حزيران 1967، بمثابة صدمتها المزمنة المتجددة يومياً، فان ثنائية الاستقطاب بين “عسكر واسلاميين” فيها لا تزال تجد المتنفس لتجديد نفسها بشكل خطير، رغم كل الديناميات السياسية والجماهيرية للثورة المصرية، التي تسير أساساً باتجاه تجاوز ذلك الاستقطاب.
وليس المراد من كلامنا أنه، لئن تهافتت الحتميتان الليبرالية والاسلاموية، فان ثنائية عسكر واسلاميين ستبقى حيّة ترزق وتتجدّد الى ما لا نهاية. انما التنبيه الى انّ تجاوزها ما زال في أمر اليوم ويتطلب صبراً طويلاً. ومن شروط الصبر أنّ المفاضلة بين “اسلام عسكري” و”اسلام سياسي” لا يمكن أن تُعمل الا كل يوم بيومه، وانّه اذا كان ينبغي عدم الخلط بين “الاسلام السياسي” والاسلام نفسه، كذلك ينبغي عدم الخلط بين “الاسلام العسكري” وبين “الاسلام الروحي”، وانّ التحدي الأساسي هو الانتقال من استقطاب ثنائي بين العسكر والاسلاميين، الى حيث يحدّ فيه العسكر من جموح الاخوان والاخوان من جموح العسكر، الى حيث يصير المجال متسعاً للتداول على السلطة سلمياً ودستورياً بين الاسلاميين وسواهم. من هم “سواهم”؟ هذا ما لن يتحدّد الا بصناعة هوية سياسية مستقلة عن العسكر والاسلاميين، علماً ان التمسك بأهداب الايديولوجيا القومية هو أقصر طريق للوقوع في يد العسكر، وكذلك للأسف، بعض الليبرالية الفاقدة لشروطها، والمتعصبة للتحديث القسري و”المستبد المستنير” في مواجهة أخيلة وأشباح “المستبد العادل”!.
المستقبل
مصر: استقطاب بلون الدم
محمد كريشان
وسال الدم في مصر بشكل ينذر بما هو أسوأ. استقطاب حاد بين معسكرين يرى كل منهما الصواب إلى جانبه على الدوام وخصمه المخطئ على الدوام. نفس داء الاستقطاب الحاد الذي أصاب من قبل الساحات العراقية واللبنانية والفلسطينية. مجتمع منقسم عموديا بين فريقين ليس بينهما سوى كل مناكفة ونكاية ومزايدة. بين المعسكرين يكاد لا يوجد أحد. محكوم على الجميع أن يكونوا مع هؤلاء أو أولئك، سواء ارتضوه لانفسهم منذ البداية أو دفعتهم الاحداث لاحقا في النهاية إلى إحدى الخانتين: جماعة نوري المالكي أو معارضوه، 8 أذار أو 14 أذار، فتح أ وحماس.
لم يعد هناك في مصر اليوم وبعد الذي حصل من انقلاب على الرئيس مرسي وما أعقبه في اليومين الماضيين من إراقة للدماء، وحتى قبل ذلك، لم يعد هناك من مكان سوى للاسلاميين من جهة ومعارضيهم من جهة أخرى. صار لكل ‘فسطاط’ أنصاره الكثر وساحته وشعاراته. ومثلما ما قالت ‘الغارديان’ البريطانية مؤخرا فإن الديمقراطيين في مصر (أو المطالبين بالديمقراطية بشكل أدق) ليسوا ليبراليين والليبراليون ليسوا ديمقراطيين. هذه المفارقة الحادة جعلت لا حديث هذه الأيام لدى كل الاسلاميين في مصر تقريبا سوى الشرعية وضرورة احترام صناديق الاقتراع وهو حديث لا غبار عليه من الناحية المبدئية… لكن هل كانت غيرتهم على الشرعية ستكون مثلا بنفس هذه الشراسة لو كان هذا الذي حصل في حق صاحبهم حصل لأحمد شفيق رئيسا ؟!! كثيرون لا يرون في هذه اللغة لدى الاسلاميين في بلادنا ما يعكس قناعة متأصلة بضرورة إحترام قواعد اللعبة الديمقراطية فقد أثبتت كل التجارب أنهم إن وصلوا السلطة ودانت لهم الامور لا يتخلون عنها أبدا تحت شتى أنواع التبريرات والذرائع.
في المقابل، خصوم الاسلاميين بلغ بهم بغضهم لهؤلاء أنهم باتوا يتوقون إلى إزاحتهم عن السلطة بأي ثمن حتى وإن كان ذلك على حساب كل أبجديات قواعد العمل الديمقراطي. لا مانع أن يكون ذلك حتى بانقلاب عسكري، سواء سموه كذلك أو اختاروا له إسما آخر يجنبهم الحرج ويرفع عن ضمائرهم بعض الضيق.
كان يفترض أن من جاء بصناديق الاقتراع لا يذهب بغيرها. كان ذلك سيجنبنا جميعا المظلومية التي تدثر بها الاسلاميون لعقود. لم يكتب لنا أن ننهي إلى الابد هذه ‘اللطمية’ لدى هؤلاء بأن يصبح الناس هم من يزيحونهم تماما كما أتوا بهم. لم يتم ذلك لأن مرسي وجماعته فضلوا المغالبة على المشاركة ونكثوا بوعود كثيرة مع عجرفة ممزوجة بأداء ساسي هزيل، ولأن خصومهم المتربصين بهم ليلا نهارا لم يكن لهم من الصبر ما يجعلهم يراكمون عليهم النقاط منتظرين أي انتخابات مقبلة ليصفوا حساباتهم معهم عبر صناديق الاقتراع وليس عبر الإستقواء بالعسكر. كلا الجانبين أخذته العزة بالاثم فأوصلا مصر وكل الحالمين بعصر ديمقراطي عربي إلى هذا المصير البائس.
في جلسة صريحة للغاية جمعتني مؤخرا بزعيم حركة النهضة الاسلامية التونسية الشيخ راشد الغنوشي، قلت له: بعد تحملكم أعباء الحكم في العامين الماضيين، صرتم في مواجهة فئات مختلفة: فئة تعاديكم بالفطرة من زمان ولن ترضى عنكم حتى وإن اجترحتم المعجزات وهذه إزدادت لكم بغضا، فئة كانت حذرة للغاية تجاهكم وهذه انتهى بها المطاف في النهاية إلى أن تتحول تجاهكم إلى عدو، فئة كانت تسعى إلى أن تكون منصفة ومتوازنة فهي رغم تحفظاتها لم تنكر عليكم حقكم في التجربة والخطأ، هذه تراجعت مع الايام إشاداتها وازدادت انتقاداتها حد القسوة. ونتيجة كل ما سبق لم يبق معكم للاسف في نهاية الأمر سوى متحزبيكم الخلّـص… وهكذا الحال في مصر أيضا.
من المحزن أن نظل نجتر دائما نفس الاخطاء فنعود باستمرار إلى المربع الاول. كثيرة ومتداخلة هي العوامل التي أدت إلى ذلك. ليس الاسلاميون وحدهم الذين أوصلونا إلى ذلك… لكنهم بالتأكيد في صدارة قائمة هؤلاء.
القدس العربي
ارتدادات الفشل الاخواني
دلال البزري
منذ أشهر احتل المسلسل التركي، “حريم السلطان”، صدراة المشهد الإقليمي عندما أوعز رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بإيقافه بعدما انتقده بحدّة محمد مرسي، الرئيس المصري الاخواني، على الصورة المشوّهة التي يعطيها المسلسل، برأيه، عن السلطان سليمان القانوني. لم تكن هذه أولى خطوات أردوغان، ولا آخرها، نحو المزيد من “الأسلمة”: الحجاب، الاختلاط، تنظيم النسل… الخ، كلها كانت بدأت تتصاعد بعد الثورات العربية؛ وكأن الحكم الإسلامي التركي أخذ ينجرّ نحو الإخوانية العربية الأكثر أصوليةً منه، الأقل “علمانية” منه. وبذلك التقت ارهاصات إستعادة أمجاد الامبرطورية العثمانية وهيمنتها على العرب برافد صعود الاسلام السياسي العربي الى السلطة؛ فاجتمع بين أيدي أردوغان المجدان: العثماني والإسلامي.
وكانت تلك الوصاية التركية على من هم دونها “وسطية” و”علمانية” من الإسلاميين العرب، هي القاطرة التي استفزت بقية الأتراك العلمانيين، فكان ما كان في تقسيم؛ انتفاضة ساخنة لم تنطفىء بؤرها. الآن، بعد الفشل الإخواني المصري: بأي حال تكون الاسلامية التركية؟ هل تراجع توجهاتها، فتكون “براغماتية”؟ أم تتشدّد وتدعم وتبادر لصالح الاخوانية، وتمشي بذلك على نفس طريقتها؟ نحو الفشل؟
إيران الاسلامية، التي افتتحت عصر الدين والسياسة، فكانت ثيولوجية تحكم باسم الدين، وملالي يفتون ويهدرون: أي “نموذج” ترنو اليه تلك الأبصار التائقة نحو الخلاص من أنظمتها “العلمانية” المزعومة. ولا فرق هنا بين اسلامية شيعية ملهمة، وبين إسلامية سنية، إلا بدرجة العضوية المذهبية. وعندما انفجرت الثورات العربية، روجت الجمهورية الإسلامية بأن تلك الثورات إنما هي من وحي ثورتها هي، التي نال منها الزمن… وبأن إسلامية قادتها الجُدد من وحي إسلاميتها؛ وهذا لم يمنعها من إعطاء الامر لـ”حرسها الثوري” بالمشاركة الى جانب قوات الأسد في قتل الشعب السوري… من باب محاربة “التكفيريين”.
الآن، بعد الفشل الاخواني المصري، سوف تحتاج القيادة الايديولوجية الايرانية الى ابتكار طرق المواءمة بين نموذجها “الناجح” حتى الآن، وبين طرق الانقضاض عليه على الطريقة المصرية. سوف تحتاج أيضاً، بعد حين، الى توضيح “التكفيريين” الذين تقصدهم، بعد ان تكون الإنتفاضة المصرية ضد الاخوان قد أزاحتهم عن خشبة المسرح. ففرحة ايران المزعومة، بهذه الضربة الناجحة ضد “التكفيريين” أعداءها، تتلازم مع فرحة بشار الأسد بها: هي فرحة إعلامية، لا ترى أبعد من أنف صاحبها. وهي لن تذهب أبعد من تلك العقول المهجوسة بـ”التكفيريين” في شوارع حمص المدمّرة. على المدى القريب، أو المتوسط، سوف تضعف الاسلامية السياسية بعد الفشل الاخواني المصري، ما سيتيح للتيارات المدنية أن تأخذ مكاناً يليق بما تمثل، وتفتح الثورة السورية على المفاهيم العصرية الحداثية التي كانت تبطنها وتعلنها في بداياتها: ثورة المواطن من أجل دولة القانون، لا ثورة طائفة على اخرى. وقد يكون هذا الفصل التالي من الثورة السورية هو الأكثر جذرية في خوضه للصراع مع التيار الديني؛ وذلك بسبب العملية الثورية التي ما زالت الثورة السورية في صددها.
“حماس” طبعاً، حاكمة قطاع غزة، والتي بدّلت حلفها الايراني بالثوب الاخواني المصري، بعد وصول رجاله الى الحكم، والتي لم تتوقف، مذذاك، عن إطلاق القرارت والقوانين ضد الشباب والنساء والحياة، تقريبا على الطريقة التركية نفسها: حجاب، اختلاط، فنون…. الخ. كان الصعود الاسلامي بمثابة مجال حيوي جديد يجدد سلطتها على القطاع ويدفعها نحو مزيد من “الأسلمة”… بأي ورطة تكون الآن؟ خصوصاً ان أجنحتها الأكثر عسكرة، أو المنشقين عنها من “جهاديين”، يمكن ان يحركوا مسلحيها في شبه جزيرة سيناء ضد الجيش المصري، تضامناً مع أخوتها المصريين الإخوانيين… فتكون بذلك مسرعة نحو الفشل، هي الأخرى…
تلك هي اللائحة الأولية لإرتدادات الفشل الإخواني المصري…. أما ما يخبئه من ذيول، فلن يكون أقل من كل ذلك.
المدن
“الإخوان” من الظلام وإليه
موناليزا فريحة
لا عودة الى الوراء في مصر. وسواء خلصت اميركا الى ان ما حصل “انقلاب” أم “ثورة”، لن يتغير شيء. لن يعود مرسي الى الرئاسة ولن يسحب السيسي “خريطة الطريق” لمستقبل مصر. واذا واصل “الاخوان” تحديهم الشعب المصري والجيش معا، فقد يعود التاريخ بهم وحدهم الى الوراء، وربما الى السجون.
منذ نشأتهم، لم ينجح “الاخوان” في التعايش مع أي من أنظمة الحكم في مصر، لا بل ذهبوا الى مواجهتها جميعا. عندما سمحت لهم الانظمة بالتحرك، لم يتوانوا عن ارتكاب أعمال ارهابية، بينها اغتيال اثنين من رؤساء وزراء مصر. عاملهم رجال “ثورة 23 يوليو” بمبدأ “عدو عدوي … صديق”، على أساس ان الجماعات كانت مناوئة للقصر وللملك وسياساته، فبدأت علاقتهم بعبد الناصر هادئة ومتناغمة. ولما حاولوا فرض الظلام على مصر، عجل القدر في المواجهة معهم. لا للسينما ولا للمسرح ولا للموسيقى ولا للمرأة في العمل. ومع انهم قدموا أنفسهم على انهم جماعة دينية تربوية لا سياسية، باتوا يسعون الى الوصاية على كل قرارات الدولة وقوانينها، وفرض أنفسهم الحاكم الفعلي ولكن “من وراء الستار”. وعندما كشف عبد الناصر ان “لا امان لهم اطلاقا”، حاولوا اغتياله عام 1954، ثم تآمروا لقلب نظام حكمه عام 1965، لتنتهي الحقبة الناصرية بالقبض على جميع القيادات الاخوانية.
في بداية حكمه، حاول السادات استرضاءهم، واطلق جميع معتقليهم من السجون، وسمح لهم باعادة تنظيم صفوفهم وبممارسة دور سياسي محدود، قبل ان ينقلبوا عليه لتنتهي الحقبة الساداتية بصراع ذهب الرئيس ضحيته.
خلال عهد مبارك، شهدت العلاقات بين الجانبين كثيراً من المد والجزر. وشهدت صدامات ولم تخل من تعاون. فلئن كان مبارك يلقي بين الحين والاخر بقيادات من “الاخوان” في السجون، سمح في ايامه للمرة الاولى في تاريخ النظام السياسي في مصر لـ”الاخوان” بأن يصيروا قوة رئيسية في السلطة التشريعية.
لم يكن “الاخوان” رأس حربة في “ثورة 25 يناير” التي أطاحت مبارك. الا انهم سرعان ما استغلوا تضعضع صفوف الثوار ونزلوا بثقلهم للاستئثار بكل مفاصل النظام الجديد. رفعوا شعار “مشاركة” الا انهم لم ينتهجوا الا “المغالبة”.
كانت الايام الـ369 لمرسي في الحكم كافية لكشف ظلامية “الاخوان” وهوسهم بالسلطة. لم يعرفوا من الاصلاح الا عنوان برنامجهم (النهضة)، فنفّروا الناشطين والاصلاحيين، وزادوا الهوة بينهم وبين رموز النظام القديم. احتكروا السلطة وأستأثروا بمؤسساتها فاستعدوا كل القوى السياسية، بمن فيهم حلفاؤهم السياسيون. وبعد اطاحتهم من الحكم رفضوا الإذعان. وعندما دعت قياداتهم الى “الشهادة” من أجل استعادة الكرسي، قرر “الاخوان” الوقوف لا في وجه العسكر والتيار الشعبي الجارف فحسب، وانما في وجه مصر كلها. بملء ارادتهم هذه المرة، قرر “الاخوان” العودة الى الوراء وربما الى الظلام.
النهار
«الإخوان» إلى اين؟
عبدالله إسكندر
دخلت جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر مرحلة جديدة كلياً يتقرر فيها مصير علاقتها بالسلطة كحزب اسلامي، من جهة. ومن جهة اخرى تتقرر فيها طبيعة مشاركتها في السلطة.
لم تكن الجماعة في مصر اول حزب اسلامي يصل الى السلطة او يشارك فيها في المنطقة العربية. لقد سبق تجربتها، قبل الربيع العربي، انقلاب الجبهة الاسلامية في السودان ووصول حزب العدالة والتنمية الى الحكم عبر الانتخابات. كما شارك الاسلاميون اليمنيون في السلطة على اكثر من مستوى. ونالت حركة النهضة الاسلامية في تونس، مع الربيع العربي، غالبية حملتها الى الحكم وقيادة الائتلاف.
لكن كل هذه التجارب الاسلامية في الحكم، وعلى رغم ما شابها من نزعات الى الاستفراد وفرض الرأي الواحد والدفع في اتجاه أسلمة قوانين ومواد دستورية، ظلت رهينة تحالفات مع اطراف اخرى، سياسية او مناطقية او قبلية، ورهينة مراعاة الطبيعة الاجتماعية والاقتصادية التي تتعامل معها. ولم تكن قادرة على توطيد سلطة الحزب الواحد، حتى لو ان بعضها كان قد تسلل الى المؤسسة العسكرية، وتالياً فرض ديكتاتورية مطلقة. وفي خضم نزاعاتها وتحالفاتها كادت سمتها «الإخوانية» ان تختفي لمصلحة ضرورات البقاء في السلطة.
تجربة جماعة «الإخوان» المصرية، وإن عقدت بعض التحالفات لتوسيع قاعدتها الانتخابية، بقيت وفية لأيديولوجيتها الداعية الى فرض حكمها وسلطتها المطلقة. اي ان تجربتها في الحكم هي تجربة الحزب الاسلامي وليست تجربة الحزب المشارك في السلطة. لقد كانت جماعة «الإخوان» المصرية وفية للمناخ السياسي الذي نشأت فيه مطلع العقد الثالث من القرن الماضي، مناخ الاحزاب التوتاليتارية والعسكريتارية، مناخ صعود الاحزاب الشيوعية والفاشية والنازية، ومناخ القيادة المركزية وسلطتها المطلقة.
والفشل الذي انتهت اليه التجربة «الاخوانية»، عبر رئاسة محمد مرسي، يكمن في بقاء الجماعة في هذا المناخ، وعجز عن فهم التطور الهائل الذي حصل في مصر والعالم، منذ اطلاق دعوة حسن البنا وتركيبة الحزب الذي اراده، قبل ثمانية عقود تقريباً، وعن فهم التطلعات التي تراكمت في المجتمع المصري منذ ان اعتبر سيد قطب ان العنف والقوة، قبل نصف قرن، هما وسيلة فرض سلطة الجماعة. هذا العجز هو الذي دفع ملايين المصريين الى الشارع لرفض حكم «الإخوان»، اي رفض استخدام الأفكار النمطية البالية لمعالجة مشكلات حديثة ومستجدة ورفض الخضوع لقيادة مركزية مطلقة يمثلها المرشد. وجاء عزل مرسي والبدء بمرحلة انتقالية نتيجة لهذا الرفض الشعبي الواسع.
لقد عرف «الاخوان» في مصر مراحل عدة من العمل السياسي، من السري الى المتسامح معه الى العلني الى الشرعي وصولاً الى السلطة. لكنّ اياً من هذه المراحل لم تكن المناسبة، بالنسبة الى الجماعة، الى اعادة قراءة المتغيرات وإعادة تكييف نفسها كحزب سياسي معها. هذا الجمود الفكري والسياسي هو الذي كان وراء فشل الجماعة في ان تكون جزءاً عضوياً من حياة سياسية طبيعية في مصر، خصوصاً عندما باتت هذه الامكانية واقعاً مع رحيل النظام السابق وتولي عضو فيها الرئاسة. وربما هذا الفشل الاخير هو الاكبر لها والكاشف عن طبيعة الخلل الكبير الذي تعانيه. ولم يكن هذا الفشل في ادارة البلاد ومشكلاتها المعقدة والقضايا الخارجية المطروحة عليها فحسب، وإنما كان فشلاً ذريعاً في الانخراط في النسيج المصري، واعتبار نفسها صاحبة رسالة خاصة تفرضها على الجميع، احزاباً وهيئات ومؤسسات.
والسؤال اليوم هو عن المشروع السياسي للجماعة. فهل هي لا تزال قادرة على اعادة قراءة تجاربها السابقة كلها، خصوصاً الفترة القصيرة من حكمها، لتعيد صوغ خطّها وهيكلها التنظيمي بما يتكيف مع الظروف الراهنة؟ ام انها ستظل متمسكة بتاريخها المتكرر من الفشل؟ مؤشرات ذلك ستظهر من خلال موقفها في الايام المقبلة، فإن قبلت الاعلان الدستوري الجديد وانخرطت في العمل السياسي في اطاره ربما تتمكن من ان تستعيد وضعها بين الاحزاب المصرية. اما اذا تمسكت بالنهج الذي اطلقه مرشدها بعد عزل مرسي، فيمكن توقع تكرار ما حدث في دار الحرس الجمهوري، وصولاً الى تعميم العنف في البلاد، فتكون بذلك قررت الخروج نهائياً من النسيج المصري.
الحياة
لماذا ينتحر “الإخوان المسلمون” المصريّون ؟
جهاد الزين
العام الذي قضاه “الإخوان المسلمون” المصريون في السلطة – رئاسة محمد مرسي- لن يكون عاما استثنائيا في وجودهم الممتد ثمانية عقود وحوالي نصف العقد، فحسب، بل سيكون عاما يعادل كلّ تاريخِهم. كأنما هذا التاريخُ، تاريخُهم، من حيث كثافتُهُ السياسيُّة هو “نِصْفان”: نِصْفٌ من 83 عاما في المعارضة ونصفٌ يوازيها من عامٍ واحدٍ في السلطة.
الحساب ليس بالعدد، بل بكثافة التجربة السياسيّة. فالانطباع العميق الذي أعطته فترة تولّي أحدهم (محمد مرسي) رئاسة مصر لدى قطاعات واسعة من النخبة المصرية هو عدم صلاحيّتهم القطعية للحكم إن من حيث الخامة القيادية أو من حيث العجز عن تمثيل فعلي للشخصية المصرية الجامعة. ولم يخدِمْهُمْ بذلك أنهم الحزب السياسي والأيديولوجي الأكبر بين الأحزاب. فهذا التفوق التنظيمي شيء وتمثيل الشخصية الجامعة الوطنية شيء آخر.
دعوني هنا أفتح هلالين تفرضُهما طبيعة الموضوع: فرغم نجاح أخصامِ “الإخوان” في حشد هذا العدد الهائل من المتظاهرين مما يعني تحقيقَ هؤلاء الأخصامِ أخيرا امتداداً شعبيا واسعا جدا لهم، فإني لا أزال أعتقد أن جوهر الصراع في مصر بعد ثورة 25 يناير هو بين كتلة شعبية كبيرة يمثّلها “الإخوان” وبين نخبة سياسية وثقافية واجتماعية تشمل خليطاً من الليبراليين والعلمانيين والقوميين واليساريين بمن فيهم المثقفون والفنانون ذوو التكوين المهني-الشخصي العلماني ومعظمهم ذوو ثقافة دينية طبيعية. نجحت النخبة أخيرا في استنفار أكثرية شعبية ضد “الإخوان”… مدعومة بالجيش. ولكنها نخبة في الأساس.
هذا العام الرئاسي “الإخواني” أظهر أن أخصامهم أكثر تمثيلا للشخصية المصرية رغم الطّيْف “الإخواني” الواسع والمتجذّر. فهذه مسألة لا تُحسب بالعدد السياسي فقط.
هذا المستوى هو أحد المستويات الأكثر أهمية – وربما غير المنظورة تماما- في الصراع بين “الإخوان” وأخصامهم. والآن بعيدا عن ساحات الصراع لا نعلم إذا كانت قيادات “الإخوان” قد أخذت بعض الوقت للتفكير في هذا الانهيار الدراماتيكي السريع لتجربتها في الحكم من حيث أسبابه الموضوعية (في تكوين مصر) و الذاتية (في تكوين “الإخوان”) بعيدا عن الجانب المؤامراتي الموجود في أي صراع سياسي ولا سيّما في ديموقراطية قلقة عائدة بعد غياب أكثر من ستّين عاما.
أعلنت قيادة “الإخوان” بعد 25 يناير 2011 أنه لن يكون لها مرشّح لرئاسة الجمهورية ثم فعلت عكس ذلك وبعد نجاح مرسي رفضت تشكيل حكومة ائتلافية ثم قام الرئيس مرسي بوضع “الإعلان الدستوري” الذي يمنحه صلاحيات ديكتاتورية فعلا بحجة أن القضاء يتآمر عليه ووردت في “الإعلان” المادة الثانية التي حتى الآن لم أستطع- مثل كثيرين- أن أفهم كيف يفكّر –مجرّد تفكير- أيُّ عاقل في السلطة بعد الثورة بوضعها وهي تعطي قرارات الرئيس سلطة مطلقة ولا تسمح بأي مراجعة لها! وتراجَعَ “مكتبُ الإرشاد” تحت الضغط النخبوي السياسي والشعبي عن “الإعلان” ثم جاءت تعييناتُ المحافظين الفضائحية انحطاط المستوى و عدم الأهلية لا سيما حالة الشخص الذي عُيِّن محافظا لدرة تاج السياحة المصرية بل العالمية أي “الأُقصُر” وهو كان عضوا في تنظيم مسلّح قتل سُوّاحاً في “الأُقصُر” نفسها! في هذا الوقت لم يفهم الرئيس مرسي معنى “الرسائل” التي وجّهها إليه المثقّفون والفنّانون في لقاءاته معهم.
على أن أهم وأخطر ما فعله “الإخوان” هو السياسة الطائفية ضد الأقباط وكان موقعهم مكشوفا وسيّئا في إدارة هذا الشأن. كان ذلك تعبيرا عن عجزهم العميق في السلطة.
ردّ فعل “الإخوان” على التظاهرات التي واجهَتْهُم، ثم خاتمة العزل العسكري، كان عنيفا وبدا في التهديدات التي يوجّهونها و في تحريضِهم الواضح على الشغَبِ الأمني وكأنّهم ينتحرون في لحظة إحساس ذاتي بالقوة وضَعَتْهُمْ وقد تضعهم أكثر ضد المزاج السلمي للمجتمع المصري حتى لو كانت لديهم جماهيرُهم بل لأن لديهم جماهيرَهم التي انزلقوا بها ضد الحساسية السلمية المصرية.
لن تنخرط مصر في الحرب الأهلية ولكن قد ينتحر “الإخوان” إذا راهنوا على ذلك. فهل يستدركون ويقبلون قواعد اللعبة الجديدة لإعادة رسم موقعهم فيها بدل الاصطدام بها كلّها؟
الآن أحد مظاهر تخطّي مرحلة “الإخوان” هو انتقال النقاش الكبير إلى بحث “الإعلان الدستوري” الجديد الذي أصدره الرئيس الانتقالي والذي يبدو أن الرغبة باستقطاب “السلفيين” أعطته جرعة دينية خطرة جدا كما عبّر عن ذلك اعتراضُ حركة “تمرّد” الشبابية عليه. حتى ليمكن وصف الإعلان الدستوري الجديد بأنه “أخونة بدون إخوان”. لكن هذا حديثٌ آخر.
النهار
الثورة المصرية الثانية: الأولويات أولاً
جيمس زغبي
لقد تلقى من كانوا قد أوشكوا على فقدان الأمل في مصر و«الربيع العربي» دفعة قوية من حركة «تمرد» ومن الصلابة التي أظهرها الشعب المصري من خلال المظاهرات الحاشدة التي خرجت إلى الشوارع وأبهرت العالم مرة أخرى، ففي الوقت الذي تتلاحق فيه الأحداث وتتسارع بميدان التحرير ومناطق أخرى فرضت مصر نفسها من جديد كبؤرة اهتمام على الصعيد الدولي، محتلة بذلك مساحات واسعة في الإعلام العالمي.
ومع أن حركة «تمرد» ومنظميها ساندهم الشعب الغاضب على الرئيس المعزول مرسي لتوجهه المتزايد نحو التسلط في الحكم، وسعي حزبه لاحتكار السلطة والانفراد بمقاليد الأمور، إلا أنه لا مفر من التعبير عن الإعجاب والتقدير على قدرة «تمرد» في الحشد والتنظيم وتعبئة الملايين من المواطنين الذين وافقوا على رفع ملتمس موقع يطالب بانتخابات رئاسية مبكرة.
وبالطبع كانت ردود الفعل الدولية حذرة تجاه التحرك العسكري وقرار الفريق أول عبدالفتاح السيسي، التدخل لعزل مرسي، حيث وصفه بعضهم بالانقلاب وذهب البعض الآخر في الولايات المتحدة، بمن فيهم الرئيس أوباما، إلى التلويح بإمكانية مراجعة برنامج المساعدات الأميركية العسكرية. ولكن قبل إصدار أحكام متسرعة علينا أولا الإصغاء إلى الملايين من المتظاهرين الذين طالبوا الجيش بالتدخل، واحتفلوا في الميادين والشوارع عندما سقطت حكومة مرسي.
من المهم أيضاً الانتباه إلى أن الجنرالات لم يعينوا واحداً منهم لقيادة المرحلة الانتقالية، بل أسندوا المهمة لرئيس المحكمة الدستورية العليا، وستكشف الأيام والأسابيع المقبلة ما إذا كان الجيش المصري ملتزماً حقاً بخريطة الطريق التي تعود في النهاية إلى حكومة مدنية.
وسواء كان ما جرى انقلاباً عسكرياً، أو عملية تصحيح مسار، سيتم الحكم عليه ليس من خلال تحرك الثالث من تموز الذي شهد عزل مرسي، بل بمدى الالتزام بحكم القانون واحترام حقوق الإنسان، والعودة السريعة للحكومة المدنية من خلال دستور وانتخابات جديدين.
لا بد من الاعتراف بأن ما جرى ليس «ثورة ثانية»، كما ذهب إلى ذلك بعض المراقبين، بقدر ما هو استمرار للثورة التي بدأت قبل عامين، حيث يبدو أن من قال إن السياسة لا تعيد نفسها مخطئ، فما قامت به حركة «تمرد» بمساندة واضحة من الجيش، هو إعطاء الشعب المصري فرصة أخرى لإعادة إطلاق الثورة وتصحيح مسارها إثر انحرافها عن الأهداف المسطرة في البداية. ولكن التظاهرات وحدها والاحتشاد في الميادين لن يحققا التغيير المنشود، فلا بد من توافر القدرة على التنظيم والتخطيط الاستراتيجي وإمكانية تنفيذ الاستراتيجية على الأرض باعتبارها عناصر النجاح الأساسية التي تنتقل من القول إلى الفعل، ومن مجرد التعبئة إلى الانخراط العقلاني في الممارسة السياسية. ولذا وبدلا هذه المرة من الاستعجال في الذهاب نحو انتخابات جديدة يتعين ترتيب الأولويات جيداً، بحيث تأتي في البداية عملية تعديل الدستور، على أن يتم ذلك من خلال هيئة تمثل شخصية الشعب المصري وتشمل جميع الفئات العمرية.
لعل دعوة الجيش لليبراليين والمحافظين والقيادات الإسلامية والقبطية، فضلاً عن الشباب والنساء يبعث على الأمل في بدء عملية تشاركية لا تقصي أحداً، وتنكب على تلبية تطلعات الشعب المصري من خلال إنجاز وثيقة دستورية تحدد قواعد اللعبة السياسية.
وهذه المرة يتعين على قادة الحركة الاحتجاجية إما الانضمام إلى صفوف الأحزاب السياسية القائمة، أو تشكيل حزب خاص بهم يستطيع الانتقال من الاحتجاج ورفع الملتمسات إلى العمل السياسي وتحقيق النصر الانتخابي. ومع أن الهياكل التي استحدثها الشباب في إطار حركة «تمرد» للتواصل مع الناس وجمع التوقيعات هي إنجاز باهر في حد ذاته، ولكن لا بد اليوم من المرور إلى مرحلة الهياكل الدائمة القادرة على التنظيم وإقناع الناخبين بالتصويت لمصلحتهم. وهذا الحضور الانتخابي الوازن للقوي المعارضة كان غائباً بعد سقوط مبارك، ما دفع «الإخوان المسلمين» إلى التقدم لملء الفراغ السياسي. إن الوضع الراهن يفرض على النخبة السياسية، سواء المدنية أو العسكرية، الانصراف إلى حل مشاكل الشعب المتراكمة، ولا سيما في ظل ما أظهرته استطلاعات الرأي التي أجريناها في مصر قبل سقوط مبارك وبعده، من أن الانشغال الأساسي للمواطن المصري هو تحسن الوضع الاقتصادي، فيما اقتصرت الهموم السياسية التي أثارها الشعب على «الفساد والمحسوبية»، وقد بدا أن «الإخوان المسلمين» عندما تولوا السلطة لم يدركوا هذه الحقيقة، فبدلا من التركيز فوراً على التنمية الاقتصادية وخلق الوظائف، حاولوا تعزيز سلطتهم وفرض أجندتهم ومعاقبة المعارضين.
إذا كان لهذا الفصل الثاني من الثورة المصرية أن ينجح فلا بد أن يلمس الشعب المصري إشارات قوية وفورية على حدوث التغيير، بحيث يتعين على حكومة التكنوقراط الجديدة أن تضم وجوهاً كفوءة تحظى بالاحترام. كما أن اللجنة المكلفة بتعديل الدستور عليها أن تعتمد مقاربة تشاركية تضم جميع فئات المجتمع المصري بما فيه «الإخوان المسلمون» أنفسهم. ومن الآن وحتى موعد الانتخابات على من يطالبون بتصحيح مسار الثورة أن ينخرطوا في عمل جاد لتنظيم أنفسهم والبروز كقوة سياسية.
ولكن التغيير ليس سهلاً وعادة ما يكون مصحوباً بالفوضى والصعوبات، وهو الدرس الأساسي الذي تعلمه المصريون خلال أحداث السنتين الماضيتين. والعزاء الوحيد أن الشعب صار قوياً وممسكاً بناصية التغيير، كما أنه ما عاد الحكام قادرين على الإفلات من مراقبته والتمرد عليه.
السفير
الإخوان: حرب على القديم والجديد معاً
علي الرجَّال *
هزيمة الإخوان المسلمين في 30 يونيو ليست سياسية محدودة، بل امتدت لتصبح هزيمة فكرية واجتماعية وأخلاقية وتنظيمية. وهي لا تخص مصر وحدها، لأن البلاد تحولت في ذلك التاريخ إلى ساحة حرب بالوكالة بين أطراف عدة. وكان بطل الملحمة بلا شك هو الجموع الجديدة. لم يسقط الإخوان وحدهم، بل سقط معهم مشروع الإسلام السياسي. فمن التمكين والأخونة، صارت الجماعة إلى التيه والاقصاء، ومن أحلام السيطرة إلى متاهات الانحدار.
الإخوان: غلبة عددية وذكورية أيضاً
لم يسقط المشروع الإخواني في مصر بسبب الأزمات المعيشية والفشل في عبور لحظات عصيبة بمقابل ارتفاع الطموحات والآمال بعد ثورة شعبية كبرى في 25 يناير، وإنما حصل ذلك بسبب عجزه عن تكوين خطاب مجتمعي قادر على جعل الجموع تتحمل معه الأزمة وتصبر على مشاقها. فلقد ركن الخطاب الإسلامي إلى الغلبة والعدد، وتصورات مغلوطه عن نفسه وعن المجتمع. ظن في نفسه الغلبة العددية و«الذكورية» أيضاً، بما هي تمجيد القوة الفجة. وهو لم يتوقع أن ينهار من خلال جموع من الشعب تنزل إلى الميادين وتربك التنظيم ولا تتورع عن رد العنف بالعنف. فقد ظن التيار الإسلامي أنه الأشرس وصاحب العقيدة القتالية الأعلى، ونسي أن الجموع الثورية لم تخشَ جحافل الأمن المركزي ولم تُرهب من مدرعاته، ولم تتورع عن مواجهة الجيش بكل معداته الثقيلة ميدانياً، وبرغم تجذره مجتمعياً وفي بنية السلطة.
هذه التصورات الإخوانية لكانت تصح لو كنا نتحدث عن مصر قبل الثورة، وليس عن المجتمع الجديد. فالمؤسسات العاملة في المجتمع القديم كانت تقوم على تركيبة السلطة القديمة متمثلة في شبكات المصالح للحزب الوطني (الذي هو امتداد للاتحاد الاشتراكي بعد تحولات بنيوية ضخمة)، والجيش، والمنظومة الأمنية الشرطية والاستخباراتية، والدين ممثلاً في كل من الكنيسة والأزهر، والإسلام السياسي بأشكاله الدعوية والتربوية والانتخابية. ولكن ثمة تغيير راديكالي تحمله الثورة بشكل عام، وهو وجود أشكال فاعلة خارج تلك المؤسسات، وانهيار منظومة التمثيل والنيابة بشكل عام.
لم ينتبهوا للقيم الجديدة
سيولة القيم الجديدة، وانتشارها في الأنسجة الاجتماعية دونما احتياجها للتعبير عن نفسها من خلال مؤسسة، هي الخاصية الطاغية لمجتمع أصبح أغلب شبابه متطلع للحريات والتمثيل المباشر لنفسه في المجال العام، بشكل سياسي ومجتمعي وثقافي، متجاوز للمجال السياسي القديم المؤطَّر في أبنية البرلمان والأحزاب. فالقيمة والفكرة حلتا مكان «المؤسسة» بشكل مباشر، والشبكات والأشكال الجديدة حلت مكان «البنية» و«التنظيم». وعلى كل حال، فخطاب الإخوان ـ كتصورات معرفية وممارسات سياسية ـ كان يقيم قطيعة كاملة مع هذه المفاهيم الجديدة. فبدلاً من مواكبة تطلعات الشباب والثورة واحتوائها والالتصاق بها، حاولت الجماعة بكل السبل كسر إرادتها وتسفيه حامليها. وكان خطاب الجماعة متجسداً في مقولة: «موتوا بغيظكم، نحن الأكثر تنظيماً، نحن الأكثر قدرة على الاستحواذ على السلطة». وبالفعل، رمت الجماعة بكل ثقلها على المجتمع القديم الذي تتبنى خطابه، وتمثِّل هي أحد طرفي ثنائيته منذ عقود طويلة، بينما طرفه الآخر هو النظام الذي كان قائماً، والذي كان يلعب مع الإخوان لعبة شد الحبال، بين قمع واحتواء ومغازلة. وتمحور خطاب الاخوان على التخويف من توقف عجلة الإنتاج، وخلق فزاعة أمنية، والتماهي مع المؤسسات الأمنية متمثلة في الجيش والداخلية والانبطاح أمامهم، والمغازلة الدائمة لهم، مثلما تجلى بشكل فج في خطاب مرسي قبل 30 يونيو أمام وزير الداخلية والقائد الأعلى للقوات المسلحة وجموع الإسلاميين.
.. وخسروا الجميع
دخلت الجماعة في حرب واضحة مع كل من المجتمع القديم والجديد معاً. فالنعرة الطائفية، والركون إلى مجموعات إسلامية متشددة لتعضيد حكم الجماعة وخلق تكتل سلطوي مضاد لمعارضيها من القوى الليبرالية واليسارية والثورية، جعلها تفقد الكنيسة بالكلية. بل إن الكاتدرائية تعرضت في عهد الجماعة إلى حادثة غير مسبوقة وهي قصفها بقنابل الغاز المسيل للدموع. وسرعان ما دخلت الجماعة وحلفاؤها من الإسلاميين في حرب مع الأزهر، وتم النيل من شيخه بأشكال متعددة، بل قاموا بمحاولة لعزله من خلال استغلال قضية تسمم غذاء طلاب جامعة الأزهر… مع الأخذ بالاعتبار العداء الأيديولوجي بين الأزهر والجماعات السلفية المختلفة، وهو صراع قديم بين الأشعرية الصوفية والسلفية.
وبدا من الواضح منذ اليوم الأول، عدم قدرة مرسي على إحكام سيطرته على الداخلية والمخابرات. وتجلى الانقسام بين مؤسستي الرئاسة والوزارة في أحداث الاتحادية، حيث رفضت الداخلية قمع المتظاهرين من دون أمر مكتوب. ودخلت بعض قيادات الجماعة في حرب تصريحات عدائية مع جهاز المخابرات العامة. أما على مستوى التفاعل اليومي مع الشرائح السكانية المختلفة، فينقل سكان مناطق عديدة وقائع عن الصلف السلوكي لدى الإخوان، الذي تزامن مع الفشل في تلبية الخدمات والاحتياجات اليومية (مثل السولار والكهرباء والمواد الغذائية وارتفاع الأسعار)، فضلاً عن إحباط الآمال في تلاحم مجتمعي أوسع. وهكذا جاء مشهد النهاية: الجموع والشباب في الميادين، محاطين بالداخلية، عدو الأمس والحليف على مضض في معركة اليوم، والقضاء في الشوارع ومنتفض في نواديه، والأهالي الذين ظلوا في مناطقهم أعلنوا رفض تواجد الإخوان فيها، وخاضوا حرب مواقع ضروس معهم. وفي الأخير، الجيش والكنسية والأزهر والمعارضة المدنية في مشهد بانورامي، يعلنون عزل مرسي.
العجز عن توليد سردية كبرى
ومثَّل هذا السقوط فشل الإسلام السياسي في خلق قصة كبرى خارج مريديه. وهذه هزيمة إيديولوجية. فبعد عقود طويلة من وهم تطبيق الشريعة، ووعد الدولة الإسلامية، وأحلام الحكم الرشيد، لم يعد الأمر أكثر من جماعة إخوانية ذات طباع نيوليبرالي/أمني، لا يتجاوز حدود خيالها السياسي تطبيق الحدود الشرعية وغلق المجال العام على ما هو إسلامي فحسب، ومنع فوائد البنوك الربوية… وستتمدد تلك الموجة داخل التيار الإسلامي ذاته لاحقاً حينما يعترف بهزيمته ويبدأ في التأمل والتدبر في فشله، لتنتج استقطاباً حاداً بين نزوع جهادي تكفيري من جهة، وإحساس باضطراب منظومة القيم، وشكٌ فيها، وربما ولادة ظواهر إسلامية جديدة. وهناك في بند ثالث انحسار شعبي ملموس، سواء على مستوى التواجد والتفاعل اليومي، أو على مستوى الانتخابات والعمل السياسي. رابعاً، يُلحظ ارتباك المشروع الأميركي الذي كان طامحاً لخلق قطبيين إسلاميين رأسماليين معتدلين في المنطقة، الأول في تركيا والثاني في مصر، لضمان استقرار السوق، وأمن إسرائيل، ومواجهة القطب الإيراني أو التخفيف من حدة اندفاعته، بالإضافة إلى السيطرة على الجماعات الإسلامية المتطرفة ودمجها في العملية السياسية الديموقراطية داخل بلدانها، في محاولة لمنع هجرتها أو ما يسمى تصدير الإرهاب.
المشكل الأخلاقي
ولكن ثمة أمر أخطر بكثير على المستوى المجتمعي مما سبق. فقد أبى الإخوان الاعتراف بالهزيمة بشكل سلمي، فسفكوا دماء الناس وروعوا أحياءهم وهجموا على اعتصاماتهم، وحاولوا احتلالها بالقوة، مثل محاولة اقتحام ميدانَي عبد المنعم رياض وسيدي جابر في الإسكندرية، وألقوا بالشبان من على أسطع البنايات، وقتل «الجهاديون» جنوداً من الجيش وهاجموا مواقعه في سيناء ومطروح. حوّل الإسلاميون الأمر إلى حرب، وها هو الجيش في المقابل لا يتورع عن سفك دمائهم بلا هوادة. المشكلة أن في الحرب لا يفرق عدد الموتى إلا في الذكريات والتباكي، وإنما ما يفرق هو من المنتصر. وهكذا بدأت لعنات الكثيرين تنصب على القيادات الإسلامية وتتهمها بالخسة لأنها ألقت بأبناء الوطن في هذا المرجل، وكشفت أوراقها مما أتاح للعسكر البطش بها كيفما يشاء. وفتحت المجال لعودة «الدولة» الى الميدان ومعها الخطاب الأمني. وفي الإسكندرية ومحيطها، التي تتسم الأحداث فيها بالعنف تقليدياً، بات من الواضح أن إستراتيجية الإخوان قائمة على شقين: الأول هو ترويع الجموع، وتوليد حالة كره مباشر معها بشكل عام يتيح ممارسة الانتقام بحجة أنهم إما فلول، وإما خونة، وإما علمانيون وملحدون، وإما «لاعقو البيادة» (أي متماهون مع الجيش). والثاني مرعب يقول بأنه إن لم يتمكن الإخوان من تكبيد الأهالي خسائر فليتكبدوا هم شهداء. فسقوط شهداء للإخوان أصبح الوقود الرئيسي لإشعال ثورتهم وإنتاج خطاب مظلومية عميق قادر على التجذر في صفوفهم، لدعم قدرتهم على القتل من جهة، وعلى الاستمرار في المعركة بفضل دوافع نفسية وعقائدية.
إستراتيجية خطرة
تواجه هذه الإستراتيجية مشكلتين: الأولى هي أن الناس شهدت عيانياً وحشية الإخوان، والثانية هي سقوط شهداء وجرحى في صفوف الأهالي مما جعلهم ليس فحسب غير متعاطفين مع شهداء الإخوان بل أكثر تعطشاً لتكبيدهم أكبر قدر من الخسائر. فيوم الأحد في السابع من تموز/يوليو، ظهرت في سيدي جابر بالإسكندرية، لافتة غاية في الخطورة تقول «من رأى منكم إخواني فليقتله وله الأجر». وحينما حاور بعض الثوار الأهالي الذين رفعوا ذلك الشعار، عن خطورته وإنه يحرض على الدم والقتل، كاد بعضهم أن يفتك بهم! وفي ذلك اليوم، قام أهالي الحضرة بالإسكندرية بالفتك بمسيرات الإخوان ودحرهم، كما فعل أهالي بولاق في القاهرة… ثمة خطاب انتقامي تجاه الإخوان لدى مواطنين عاديين، وثمة خطاب انتقامي من الإخوان تجاه الأهالي. وخوض الإخوان والإسلاميين لحرب مع الأهالي، بحسب ما تؤكده شهادات وأحداث كثيرة، يتسبب بحجب التعاطف المأمول معهم. وهو ما أظهره رد الفعل الجماهيري الأوّلي على اقتحام الجيش للاعتصام أمام مقر الحرس الجمهوري، الذي راح ضحيته قرابة الخمسين فرداً من المعتصمين من الإسلاميين. وخطورة ذلك هو خروج العسكر منتصرين عسكرياً وسياسياً ومجتمعياً.
* باحث في علم الاجتماع السياسي متخصص في الدراسات الأمنية، من مصر
أين تقف واشنطن؟
حسين عبد الحسين
في 2 شباط/فبراير 2011، طالب المتحدث باسم البيت الابيض روبرت غيبس الرئيس المصري حسني مبارك بالرحيل، وقال ان على مبارك ان يرحل الآن، و”الآن يعني الأمس”، للدلالة على عجلة واشنطن في دعم الثورة وانتقال السلطة الى حكومة ديموقراطية.
في 3 تموز (يوليو) 2013، وتعليقا على عزل الجيش المصري للرئيس محمد مرسي، اصدر الرئيس باراك اوباما بيانا جاء فيه: “اعطيت التوجيهات للدوائر المعنية بمراجعة عواقب الخطوة المصرية وتأثيرها بموجب القانون الاميركي على المساعدة الاميركية الى الحكومة المصرية”.
وبعد البيان بأسبوع، سأل الصحافيون في البيت الابيض الناطق باسمه جاي كارني ان كان يعتقد ان ما حصل في مصر هو انقلاب، ما يشترط قانونا وقف المساعدة الاميركية، فأجاب: “سوف نأخذ الوقت الضروري لمراجعة ما حصل”. وقال: “هذا وضع بالغ التعقيد وصعوبة”.
التباين في مواقف ادارة اوباما بين الحماسة للاطاحة بمبارك والتردد في التعليق على احداث الاسبوع الماضي في مصر ليست وليدة الصدفة، بل هي نتاج انفراط عقد تحالف كان يحدد سياسة الولايات المتحدة الخارجية حتى الامس القريب.
ولو أخذنا العراق مثالا، لوجدنا أنه لم تكف محاولة الرئيس السابق جورج بوش الذهاب الى الحرب هناك على ظهر اعتداءات 11 ايلول (سبتمبر) والانتصار العسكري الباهر في افغانستان، بل اضطر الى تقديم رواية حول أسلحة صدام حسين الكيميائية، التي ثبتت عدم صحتها.
على ان المحرك الرئيسي للحرب كان تحالف عدد من اللوبيات الاميركية التي دفعت الرأي العام والاعلام والسياسة في اتجاه حرب العراق.
التحالف المذكور كان يتألف من اصدقاء اسرائيل، وهم كانوا يعتقدون ان لاسرائيل مصلحة مطلقة في رحيل صدام، خصوصا بعد وقوف معارضين عراقيين من امثال احمد الجلبي امام اللوبي الاسرائيلي “ايباك” لاطلاق الوعود بالتوصل الى معاهدة سلام في حال الاطاحة بصدام واستبدال حكمه.
وفي التحالف ايضا ما يعرف بـ “المجمع العسكري الصناعي” المؤلف من شركات صناعة السلاح وتأمين الحاجات اللوجستية في الحرب من ثياب للجنود ومأكل ومأوى ونقل للمعدات الحربية وغير الحربية.
وفي الجانب السياسي المحض، برز تيار “المحافظين الجدد”، الذي لعب الدور التنظيري للحرب. هؤلاء المحافظون معظمهم من التروتسكيين سابقا، وهم يؤمنون بامكانية استخدام القوة العسكرية الاميركية لهندسة المجتمعات حول العالم ونشر الديموقراطية. وصفة “جدد” اضيفت لتمييزهم عن “المحافظين” الكلاسيكيين، من امثال برنارد لويس ودانيال بايبس. فلويس مثلا، كان على مذهب هنري كيسينجر، ويعتقد ان التحالف مع حكومات غير ديموقراطية كان كافيا طالما هو يخدم المصالح الاميركية.
“المحافظون الجدد” اعتقدوا ان للديكتاتوريات وجهين، واحد يحرض ضد اميركا وواحد يصادقها سرا، فارادوا حلولا جذرية، اي انشاء تحالف مع حكومات منتخبة، ما يعني ان الصداقة الاميركية تمتد الى الشعوب كذلك. لذا، رأوا ضرورة في انشاء ديموقراطيات حول العالم كضمانة للمصالح الاميركية بطريقة تجمع بين “مبادئ اميركا ومصالحها”.
اما التيار الرابع في هذا التحالف، وهو الاضعف نفوذا، فيتألف من “الليبراليين الامبرياليين”، وهؤلاء يعتقدون ان على الحكومة الاميركية ان تكون “قوة خير” في العالم كما داخل اميركا. وهؤلاء الليبراليون هم فئة من الليبراليين الاميركيين الذين يميلون غالبا الى العزلة وتقليص دور اميركا حول العالم، والتركيز على “بناء اميركا” واستخدام الموارد للرعاية الاجتماعية والتنمية الداخلية.
لكن منذ اندلاع الربيع العربي، و تحديدا الثورة المصرية، “انفخت الدف” وتفرق هذا التحالف.
اصدقاء اسرائيل تمسكوا بمبارك، وقالوا انه حليف ممتاز، رعى معاهدة كامب دايفيد وامن الحدود وسيناء وقناة السويس. اما المجمع العسكري، فقالوا نمشي خلف الجيش المصري، فالمساعدة التي تقدمها اميركا بقيمة مليار و300 مليون دولار سنويا هي غالبا على شكل عتاد حربي ومعدات وتدريب، وهذه الاموال تذهب في الغالب الى مصانع السلاح الاميركية.
“المحافظون الجدد” ايدوا الثورة المصرية، واعتبروا انها نتاج حرب العراق، وتمسكوا بفكرة ان انتشار الديموقراطية الصحيحة هي في المصلحة الاميركية في المدى البعيد، وفي الوقت نفسه تنشر المبادئ الاميركية الى جانب رعاية المصالح، وهو موقف أيده “الليبراليون الامبرياليون”.
الجدل الاميركي حول الاطاحة بمبارك لم يحسمه الا التأكيدات بأن الجيش المصري هو حليف واشنطن، وهو يكفل الوضع في غياب مبارك، الذي يمكن له ان يرحل دون تأثير على اسرائيل او امنها، وتستمر العلاقة مع الجيش المصري والمساعدة الاميركية له، ويفرح مؤيدو نشر الديموقراطية في مصر. وعندما التقت هذه العناصر، خرج غيبس بحسم، وقال للصحافيين ان “الآن تعني امس”، وان على مبارك الرحيل فورا.
لكن هذا الاجماع الاميركي لم يتوفر حول احداث مصر الاسبوع الماضي، ما يعني ان البيت الابيض سيستمر في “درس الوضع” حتى اشعار آخر، فاللوبي الاسرائيلي يعتقد ان مواجهة الاخوان واجبة في كل حين، ولوبي السلاح يؤيد الجيش المصري واستمرار ارسال المساعدة له، اما “المحافظون الجدد” والليبراليون عموما، فهم لا يستسيغون الاطاحة بمرسي، حتى لو لم يكونوا من مؤيديه، ويفضلون الالتزام بمبادئ الديموقراطية، حتى ان بعضهم اعتبر ان التخلي عن التمسك بالديموقراطية في مصر، فقط لانها في مصلحة الاخوان الآن، قد تشكل “تكرارا لسيناريو الاطاحة بمصدق في ايران والعواقب التي نتجت عن ذلك واستمرت عقودا”.
هكذا، حتى تتوصل التيارات الاميركية المعنية بالسياسة الخارجية الى اتفاق ما، لن يسمع العالم اي كلمات اميركية جازمة حول الوضع في مصر، وسيستمر حديث البيت الابيض عن ما هو “قيد الدرس”.
النقد الذاتي والمصالحة الوطنية
السيد يسين – القاهرة
تمر مصر بلحظات تاريخية فارقة ليس فيها مجال للإحتفال بنشوة الانتصار للجماهير الشعبية الهادرة التي خرجت في كل الميادين لإسقاط حكم الإخوان، كما أنه ليس هناك – في تصورنا – مجال لإحساس جماهير الإخوان المسلمين بمرارة الهزيمة.
على العكس من هذه الاتجاهات والنزعات المتضاربة، هذه لحظة ممارسة النقد الذاتي من قبل كل الأطراف السياسية بدون إستثناء واحد. ولو استطعنا أن نمارس النقد الذاتي من ناحية، وأن نحقق المصالحة الوطنية من ناحية أخرى فإن مصر ستستطيع أن تخرج من النفق المظلم الذي قادتنا إليه ويا للأسف الارتباكات الكبرى التي صاحبت المرحلة الانتقالية، والتي بدأت بعد نجاح ثورة 25 يناير التي شارك في صنعها كل الأطراف السياسية وفي مقدمها جماعة الإخوان المسلمين بحكم أن سياساتها المعيبة والمنحرفة التي طبقها ممثلها في رئاسة الجمهورية الدكتور محمد مرسي هي التي قادت إلى إنقسام المجتمع المصري في الشهور الأخيرة، وخاصة بعد الإعلان الدستوري الديكتاتوري الذي سبق أن أصدره.
ويمكن القول أن بذرة الفشل التاريخي الذي لاقته جماعة الإخوان المسلمين والذي تمثل في الثورة الشعبية الهادرة التي سعت بقيادة حركة “تمرد” لإسقاط الدكتور مرسي ونجحت في ذلك بدعم من القوات المسلحة التي انحازت إلى الإرادة الشعبية الحقيقية، تعود إلى ثمانين عاماً مضت ونقصد منذ عام 1928 حين أسس الشيخ حسن البنا رحمه الله جماعة الإخوان المسلمين.
وظهرت بوادر انحراف المشروع السياسي للجماعة منذ أن تم خلط الدين بالسياسة، مع أن الدين له مجاله والسياسة لها آفاقها ووسائلها التي تختلف بطبيعة الحال عن الدعوات الدينية.
غير أن أزمة الإخوان المسلمين بدأت حقيقة منذ تحول الجماعة إلى ممارسة العنف ضد خصومها بتكوين “الجهاز السري” الذي قام بسلسلة اغتيالات لبعض الزعماء السياسيين.
ومن هنا بدأت رحلة الصدام الدموي بين جماعة الإخوان المسلمين وكل النظم السياسية المصرية المتتابعة من أول النظام الملكي الدستوري في عهد الملك فاروق إلى عهد مبارك مروراً بالمرحلة الناصرية وبحكم أنور السادات.
ويحق لنا أن نطرح سؤالاً مهما هو لماذا اصطدمت جماعة الإخوان المسلمين مع كل النظم السياسية المصرية بالرغم من تنوعها واختلافها؟
والإجابة أنها منذ أن نشأت وهي تمارس دورها كجماعة سياسية انقلابية هدفها الاستراتيجيي هو الانقلاب على الدول المدنية في البلاد العربية، وتأسيس دول دينية بهدف إحياء الخلافة الإسلامية.
ويمكن القول أن مرحلة الصراع بين الجماعة والنظام السياسي المصري انتهت في عهد الرئيس السادات الذي أصدر قراراً استراتيجياً بإدماجهم مرة أخرى في الحياة السياسية، إلى أن تم الانقلاب عليه. ثم انتقلت الجماعة إلى مرحلة التوافق مع نظام مبارك الذي سمح لهم بالترشح لمجلس الشعب وحصلوا على أكثر من ثمانين مقعداً، ثم ضاق بهم نظام مبارك حين زوّر انتخابات مجلس الشعب الأخيرة عام 2010 ضد كل قوى المعارضة.
وجاءت ثورة 25 يناير التي شارك فيها شباب الإخوان المسلمين على غير رغبة قياداتهم بعد أيام من اندلاعها. وحين وصلت المرحلة الانتقالية إلى الانتخابات البرلمانية استطاعت الجماعة مع حزب “النور” الحصول على الأكثرية في المجلسين. وكانت هذه خطوة أولى للزحف المتواصل للهيمنة على مجمل الفضاء السياسي المصري مما أدى إلى نجاح الدكتور مرسي في انتخابات رئاسة الجمهورية.
والواقع أن الفشل التاريخي لجماعة الإخوان المسلمين يحتاج إلى وقفة نقدية، وأهم من ذلك إلى ممارسة النقد الذاتي الجسور.
غير أن قيادات جماعة الإخوان أبعد ما تكون عن القدرة على ممارسة النقد الذاتي الذي يحتاج إلى شجاعة أدبية كبيرة، وهي مازالت تحشد الجماهير الإخوانية لمقاومة ما أسفرت عنه الثورة الشعبية المصرية في 30 يونيو والتي أسقطت حكم الإخوان.
غير أنه لفت نظري بشدة أن الإعلامي المصري الأستاذ أحمد منصور مقدم البرامج المعروف في قناة “الجزيرة” وهو إخواني الهوى- كما تدل على ذلك برامجه التلفزيونية ومقالاته – مارس النقد الذاتي بجسارة يحمد عليها، وذلك في مقالة مهمة نشرها في عموده “بلا حدود” في جريدة “المصري اليوم” وذلك بتاريخ 6 تموز 2013 وبعنوان “طوفان الكراهية للإخوان المسلمين”.
يقرر أحمد منصور بعد ذكره تعاطف الناس مع الإخوان المسلمين، وخصوصاً بعد أن منحوهم الثقة في الانتخابات البرلمانية والرئاسية أنه “… من العجيب أنه خلال عام واحد فقط من وجودهم في السلطة بلغ طوفان الكراهية لهم حداً غير مسبوق، انتهى بسيطرة القوات المسلحة على السلطة وعزل الرئيس محمد مرسي. وهو يحدد بوضوح قاطع أسباب الفشل التاريخي للإخوان المسلمين ويجملها في أسباب عدة. الأول “أن اختيار مرسي للمنصب كان خطاً كبيراً في حد ذاته لأن الرجل لا يملك المقومات الرئيسة لرجل الدولة”. والثاني لأن مرسي “وجد نفسه في مكان لم يعدّ نفسه له ولم يفكر فيه فخُدع بمظاهر السلطة ولم يتمكن من أدواتها ويدخل إلى جوهرها. والثالث أنه “حكم الدولة بعقلية رجل الحزب والجماعة وجمع حوله فريقاً لا يتمتع بكفاءة إدارة الدولة”.
وحاول منصور أخيراً أن يشخّص ظاهرة الكراهية الشعبية التي وجهت ضد الإخوان المسلمين فقرر أن السبب الأول هو إعلام “الفلول”، “وعجز الإخوان عن الترويج لإنجازاتهم ودخولهم في عداوة مع الإعلاميين”، وأهم من ذلك أداء الرئاسة المزري وخصوصاً خطابات الرئيس العاطفية والمرتجلة الخالية من المحتوى والمضمون والرؤية والخيال، وإصراره على رئيس الحكومة وعلى النائب العام والإعلان الدستوري.
وقد أدت هذه الأخطاء جميعاً إلى تدمير صورة الإخوان ومكانتهم في المجتمع التي صنعوها خلال ستين عاماً بالدماء والسجون والمعتقلات، ولن يستطع الإخوان استعادة مكانتهم وتعاطف الناس الذين خسروهم إلا إذا درسوا تجربتهم وقوّموا أخطاءهم وأعادوا بناء أنفسهم من جديد.
هكذا تكلم أحمد منصور بصراحة شديدة ومن باب النقد الذاتي، وهو بحكم أنه من أنصار الإخوان المسلمين لا يمكن اتهامه بمعاداتهم ولكنها شجاعة النقد الذاتي.
وهذه الشجاعة مطلوبة ليس فقط من قبل جماعة الإخوان المسلمين، ولكن من قبل كل التيارات السياسية بما فيها شباب الثوار والأحزاب السياسية المعارضة، لتحقيق هدف أسمى هو تحقيق المصالحة الوطنية، وعدم إقصاء شباب الإخوان المسلمين من العملية السياسية مستقبلاً.
سابقة مصر العسكريّة
حسام كنفاني
اليوم، بعدما هدأت قليلاً الفورة العاطفية التي ترافقت مع الحشود المليونية لتظاهرات الثلاثين من حزيران/ يونيو، وما رافقها من عزل للرئيس المصري محمد مرسي، وبالتالي جماعة “الإخوان المسلمين”، قد يكون الوقت حان لقراءة متعقلة في الحدث المصري، وما يشكله من سابقة تهدّد مسار حراك الربيع العربي بشكل كامل، وتؤسّس كخطوة أولى لإعادة البلاد إلى ما كانت عليه قبل مرحلة الثورات وإطاحة الرؤساء.
بداية لا بد من الإشارة إلى انه لا تشكيك بالمطلق في أهداف ونوايا الملايين الذين خرجوا في المسيرات المناهضة للإخوان. لكن في الوقت نفسه، يجب عدم إغفال نوايا أخرى كانت تسير بشكل موازٍ بين بعض، ليس بقليل، من المشاركين في التظاهرات، إضافة إلى من كان يتابع مشهد الشارع، في الداخل المصري وخارجه. إذ لا يمكن تجاهل أن أنصار النظام السابق (الفلول)، كانوا جزءاً لا يستهان فيه من الحراك الشعبي الأخير، بعدما اندسوا في حملة “تمرد”، مدعومين بكم هائل من الأموال أغدقتها عليهم دول خليجية تضع إطاحة “الإخوان المسلمين” في مقدمة أولويات مشاريعها الاستراتيجية، وهو ما بدا واضحاً من المواقف والإجراءات التالية مباشرة للحظة إعلان الجيش عزل مرسي. إجراءات بدأت بالتهنئة والتبريكات لتصل إلى الدعم المادي بمليارات الدولارات للحكم العسكري الجديد. وسبقت ذلك أيضاً إجراءات إعلامية تحريضية حرّكتها 17 قناة فضائية مصرية تم فتحها أخيراً في مصر بأموال خليجية.
كل هذا لا ينتقص من الممارسات التي قامت بها حركة “الإخوان المسلمين” منذ وصولها إلى الحكم، انطلاقاً من ما يمكن تسميته “الجوع إلى السلطة” المتراكم على مدى الاعوام الثمانين الماضية، هي عمر التنظيم. “جوع” تجسّد باستئثار الحركة بقيادة المرحلة الانتقالية، رافضة أي صوت آخر او نصح كان يقول بضرورة إشراك المكونات الأخرى من الشارع المصري في هذه العملية، ولا سيما أن الثورة لم تكن تعبر عن أيديولوجيا منتصرة على سواها، على غرار الثورة البلشفية او ثورات أميركا اللاتينية، بل كانت خليطاً من الأفكار والميول والرؤى جمعتها غاية إسقاط النظام القائم. بالتالي كان من الواجب مشاركة كل هؤلاء الاطراف في بناء النظام الجديد قبل الانتقال إلى مرحلة الحكم الديموقراطي والاحتكام إلى الصندوق. لم تقنع حركة “الإخوان” بكل ما سبق، ومضت في سياسة إقصائية تكفيرية طالت حتى أقرب حلفائها الإسلاميين، الذين رأت فيهم مزاحمة على سلطتها.
بين الغضب الشعبي الممزوج بانتهازية داخلية وخارجية، وأخطاء الإخوان التي لا تغتفر، جاءت السابقة المصرية على شكل انقلاب عسكري بغطاء ثوري. انقلاب تستر بالغضبة الشعبية العارمة لتصفية حسابات مبيّتة مع نظام الإخوان. فالعسكر لم ينسوا لحكم “الإخوان” قرار إقصاء المجلس العسكري، والاتجاه إلى محاكمة قادته، وبالتالي إنهاء حكم عسكري لمصر امتد منذ خمسينيات القرن الماضي. الجيش وجد في التظاهرات المليونية الفرصة المناسبة للعودة إلى الحكم، متذرعاً بتنفيذ رغبة الملايين، التي هللت لقرار عزل مرسي.
لكن للقرار مفاعيل ستكرس عرفاً في العمل السياسي المصري، الذي قامت الثورة ليكون مدنياً ديموقراطياً بالكامل. عُرف محوره سطوة الجيش فوق السلطة السياسية الحاكمة، وإمكان تدخله في أي لحظة، سواء لاعتبارات شعبية داخلية أو سياسية خارجية. فلا شيء يمنع في اي مرحلة مقبلة من تدخل آخر للعسكر لإطاحة أي رئيس منتخب بذريعة تطبيق رغبات الشعب أو تهديده للأمن القومي المصري. الجيش عملياً، عاد حاكماً مطلقاً للبلاد بشكل مباشر حالياً، وبشكل غير مباشر لاحقاً، بعد إتمام المرحلة الانتقالية المقررة خلال الأشهر المقبلة.
مرحلة انتقالية تبدو واضحة فيها ملامح عودة القبضة الأمنية عبر الملاحقات التي تتم بحق جماعة “الإخوان المسلمين” وإغلاق مؤسساتهم الإعلامية، وهو الأمر الذي بالتأكيد لم يكن في ذهن القوى الثورية التي شاركت في تظاهرات 30 يونيو/حزيران، وخصوصاً أنها ترى إمكان تكرار هذه الممارسات بحق أي قوى أخرى لا تعجب السلطة العسكرية الحاكمة.
3 يوليو/تموز تاريخ مفصلي لمصر، وعلى ما يليه يمكن قياس مصير ثورة 25 يناير/كانون الثاني، وما إذا كانت نقلة نوعية لمصر أو مرحلة عابرة لتعود بعدها الأمور إلى ما كانت عليه.
ليلة الجنرالات
هشام ملحم
ما فعله جنرالات مصر ليل الاربعاء الماضي، عندما انهوا حكم محمد مرسي بعد سنة واحدة من انتخابه، وهل هو انقلاب تقليدي، أم انقلاب ناعم، ام انقلاب شعبي، لا يزال السؤال الذي يبحث عن جواب نهائي وقاطع في واشنطن.
من المرجح ان يجتهد الرئيس الاميركي باراك اوباما ويخرج بحكم سياسي غامض لا يصنف اسقاط مرسي انقلابا تقليديا بل اجراء ذو شعبية واسعة لكنه لا يرقى الى مستوى الانقلاب بمعناه التقليدي، لكي يتفادى تطبيق القانون الذي يحظر توفير المساعدات لاي نظام يصل الى السلطة من طريق اطاحة سلطة شرعية.
احداث ليلة الجنرالات في مصر، فاجأت واشنطن، التي كانت ولا تزال الى حد كبير غير محورية بالنسبة الى ما يحدث في مصر. ادارة اوباما تجد نفسها الان في موضع لا تحسد عليه. انصار الائتلاف الجديد الملتف حول الجيش وخصوصاً الليبراليون يطلقون سهامهم السامة على السفيرة الاميركية آن باترسون لانها تجسد ما يعتبره هؤلاء – بشكل مبالغ فيه كثيرا – سياسة اوباما المنحازة الى “الاخوان”. من جهتهم يتهم “الاخوان” ادارة اوباما بالتآمر عليهم والتخلي عنهم لان باترسون نصحتهم بعد اقالة مرسي بالتفاوض مع العسكر وحركة “تمرد”، واعتبروا ان رفض اوباما تسمية اقالة مرسي انقلاباً هو خبث سياسي صارخ.
والواقع ان قدرة واشنطن على التأثير على الانتفاضة الشعبية المصرية منذ بدايتها في 2011 كانت محدودة، وسمعة واشنطن الاخلاقية كانت موضع تشكيك في اعين الجماهير التي انتفضت على حكم حسني مبارك بسبب الدعم الاميركي القوي والعميق لحكمه الطويل وتردد واشنطن في ظل الحكومات الجمهورية والديموقراطية في انتقاد انتهاكاته الصارخة لحقوق الانسان. وخلال حكم العسكر، انتقد الليبراليون والاسلاميون الذين تظاهروا ضد العسكر في الشوارع ما اعتبروه – ايضا بشكل مبالغ فيه كثيرا – تواطؤ واشنطن مع جنرالات مصر.
وعندما اخفقت واشنطن خلال حكم مرسي – الاخوان في انتقاد ممارساته السلطوية ووضعه نفسه فوق القانون، ساهم ذلك في اقناع الليبراليين واليسار بأن واشنطن تنام مع “الاخوان” في سرير واحد. معضلة اوباما الآن هي ان اي قرار يتخذه لوصف ما حدث في مصر سوف يؤدي الى اغضاب فريق مهم سوف يسارع الى شيطنته بشراسة أكبر. الانقسامات في واشنطن حول ما حدث في مصر تعدّت خطوط التماس الجمهورية – الديموقراطية التقليدية، الامر الذي يعقد أكثر خيارات اوباما. السناتور الديموقراطي النافذ باتريك ليهي التقى الجمهوري النافذ جون ماكين في وصف ليلة الجنرالات بانها انقلاب يتطلب قطع المساعدات. وهناك انقسامات مشابهة في اوساط الباحثين في مراكز الابحاث والمعلقين وافتتاحيات كبرى الصحف. اوباما، اللاعب المتردد اصلا، لا يزال مترددا.
النهار
الجواب عند “خريطة الطريق“…
الياس الديري
نستأذن دوامة الأزمات والتفجيرات والفراغات والتفاهات، لنلقي تحيّة على مصر الجديدة، مصر “خريطة الطريق”، وفي الوقت نفسه نلقي نظرة على ورشة التغيير الناشطة على مختلف الصعد، والتي يتابعها العالم العربي والعالم الآخر…
كيف لا، وهذه مصر. مصر التي اذا تاهت، أو ضَيَّعت طريقها فقَدَ العرب توازنهم. واعتلَّت صحة أنظمتهم. واهتزّ استقرار دولهم.
إنها بوصلة العرب.
واللبنانيون أدرى الناس بهذا الأمر، وهذا الميزان، وهذه البوصلة. فمذ غُيِّب الدور المصري بدا لبنان كمن ضيَّع أمه، بل كل عائلته. وبدا اللبنانيون كالأيتام.
العالم بأسره يعلم ويعرف أن المنطقة العربية بوجود مصر قوية مستقرّة شيء، وفي غيابها، أو انهماكها بحالها، شيء آخر.
منذ أيام معدودة بدأت مصر تخطو واثقة ووفق “الخريطة” في اتجاه جديد يوصلها الى واحة الديموقراطية والحرية والانفتاح على الطموحات القديمة الى تغييرات تنتشل أم الدنيا من هذه البئر.
وبقرارات واجراءات لاقت ترحيبا وتشجيعاً ودعماً من بعض العرب وبعض العالم، مما حدا واشنطن الى اعلان ترحيبها مع دعم سعودي خليجي للحكم المصري الجديد، يبرز بقوة واضحة تقول بصراحة إن السعودية تؤازر “خريطة الطريق”، وأهدافها.
وتأكيداً لهذا الموقف الداعم، أعلن وزير المال ابرهيم العساف تقديم حزمة مساعدات بخمسة مليارات دولار.
وقبل ذلك بساعات، كان وفد إماراتي ضم وزير الخارجيّة الشيخ عبدالله بن زايد ومستشار الأمن القومي الشيخ هزاع بن زايد يزور القاهرة، معلناً التأييد والدعم لـ”خريطة الطريق”، والحكم الجديد وكل التدابير والخطوات التي تعجّل في عودة الهدوء والاستقرار، كل ذلك مقرونا بمساعدات قيمتها ثلاثة مليارات دولار، أما الكويت فقدمت 4 مليارات دولار.
ما شجع أميركا والسعودية ودولة الامارات على المجاهرة بدعم المرحلة الانتقالية، ومدِّ الحكم الجديد بالعنصر الأول في سلم القوة، الذي هو المال وبالمليارات، يترجم الاقتناع لدى هذه الدول وسواها أن الجيش لا يعتزم وضع يده على السلطة.
وأن لا محمد مرسي آخر خلف الستارة يحجب بدوره عطشاً “اخوانياً” الى السلطة، فضحته الفترة السوداء، مثلما فضحت كل الادعاءات والقرارات والتعيينات والانتخابات، بل كل ما صدر خلال تلك الحقبة المشؤومة، على صغرها.
حسناً فعلت قيادة الجيش المصري ببقائها بعيدة عن الاضواء والتعامل المباشر.
هل انتهت تجربة “الاخوان” ومرحلتهم، حتى في العالم العربي حيث مرَّ “الربيع”؟
الجواب عند “خريطة الطريق”.
النهار
الجيش في مصر لم يشن انقلاباً دموياً على حكم مدني
راغدة درغام
ريثما يتردد الرئيس الأميركي باراك أوباما في صوغ تصوّره للحدث المصري ويمضغ أعضاء في الكونغرس الأميركي ما إذا حدث «انقلاب» في مصر يضطره إلى قطع معوناته إليها، تحركت دول الخليج العربية بتعهدات مالية بقدر 13 بليون دولار إلى مصر قزّمت عصا التهديد وجزرة الترغيب الأميركية بقدر 250 مليون دولار سنوياً كمساعدات اقتصادية و1.5 بليون دولار كمساعدات عسكرية ذات علاقة باتفاقية «كامب ديفيد» بين مصر وإسرائيل. حسناً فعلت الدول الخليجية بإقدامها على إنقاذ اقتصاد مصر وحمايتها من الانهيار. وعسى أن تدرك دول مجلس التعاون الخليجي أن رهان الذين يودّون تقزيمها في المقابل هو على انحسار تسليم الأموال لأن لهذه الدول سيرة وصيت التعهد بلا تنفيذ للالتزامات. إدارة أوباما تركض وراء الحدث بلا بوصلة ولقد نجحت في جعل نفسها موضع استقطاب بين «الإخوان المسلمين» الذين هرولت إلى تبني صعودهم إلى السلطة وبين الحداثيين والمدنيين الذين تتمهل في توصيف انتفاضتهم نحو الحكم المدني في مصر. الأوروبيون أيضاً يتأرجحون على تعريف ما هو استكمال لثورة المصريين على احتكار السلطة وفرض الدين على الدولة، تارة مختبئين وراء «شرعية الحكومة المنتخبة» وتارة مجاهرين بما تتمادى شبكة الـ «بي بي سي»، بوصفه بلهجة بريطانية بـ «كوو داي تها» أي «انقلاب» بلا أي لجوء إلى قاموس تعريف الكلمة وواقع الحدث المصري. روسيا من جهتها مرتاحة لأي هبوط للإسلام السياسي السنّي من السلطة فيما حليفها الإيراني يتبنى موقفاً مغايراً، كمبدأ أساسي، وهو صعود الإسلام السياسي إلى السلطة – تماماً كما حدث في إيران قبل أكثر من 34 سنة. الغرب مطالب بالكف عن تعطيل مسيرة الحكم المدني في المنطقة العربية، ومصر بالذات. من واشنطن إلى لندن، هرول الغرب إلى تشجيع صعود «الإخوان المسلمين» إلى الحكم في مصر قبل سنة، وهو اليوم يتباطأ في دعم حكم الدولة المدنية في مصر. هذا خطأ كبير ليس فقط في حق شعوب المنطقة العربية وإنما أيضاً أنه خطأ يؤذي المصلحة الاستراتيجية الغربية في المنطقة العربية.
الجيش في مصر لم يستول على الحكم، ولم يشن انقلاباً دموياً على حكم مدني، بل انه أوضح أنه يسلط خريطة طريق لتسليم السلطة إلى المدنيين عبر انتخابات شرعية ودستور مدني وديموقراطية جدية. الزميل جهاد الخازن لجأ إلى الموسوعة البريطانية لتعريف «الانقلاب» وهي: «الانقلاب العسكري قلب مجموعة صغيرة بالعنف للحكومة القائمة. الشرط الوحيد للانقلاب هو السيطرة على القوات المسلحة والشرطة والعناصر العسكرية الأخرى، كلها أو بعضها. بعكس الثورة التي يقوم بها عادة أعداد كبيرة من الناس يعملون لتغيير أساسي اجتماعي واقتصادي وسياسي، الانقلاب هو تغيير في السلطة من فوق يؤدي إلى تغيير كبار المسؤولين في مواقع الحكم».
ما حدث في مصر يتنافى حرفياً وتفصيلاً مع تعريف «الانقلاب». على رغم ذلك يمضي المراسلون الغربيون بالتشكيك بأن ما حدث لم يكن أبداً «كو دهِ تا». فلقد خرج 22 مليون مصري إلى الشارع ليطالب بالإصلاح للثورة التي قاموا بها قبل سنتين وصادرها «الإخوان المسلمون». ثم أساؤوا استخدام الحكم للاستيلاء على جميع مفاصل السلطات وفشلوا في التجاوب مع الشعب المصري. مراكز البحوث والدراسات الأميركية والبريطانية التي تزعم أن لديها خبراء في مسألة الإسلاميين والإسلام السياسي وقعت في غرام صعود «الإخوان المسلمين» إلى السلطة لدرجة أعمتها عن الواقعية وأبعدتها عن الرادار الشعبي في المنطقة العربية. إصرار هؤلاء على توصيف الحدث المصري بأنه «انقلاب» ليس خالياً إما من الجهل أو من الرغبة بالإساءة إلى مصر البلد علماً بأن الكونغرس الأميركي مضطر بحكم القانون أن يوقف أي دعم لمصر إذا كان ما حدث فيها حقاً «انقلاباً».
الذين يتحدثون بلغة وقف المعونات الأميركية إلى مصر يؤذون كبرياء المصريين وكذلك العرب عامة ليس لأن المبالغ ضئيلة ولا تستحق كل هذا التباهي والكبرياء، بل لأن التهديد يأتي ضد ثورة شعبية تصحيحية وإصلاحية. الرئيس أوباما تجنب في أول رد فعل له استخدام تعبير «انقلاب» وتجنب منذ ذلك الدعوة لإعادة الرئيس المصري المعزول محمد مرسي إلى كرسي الرئاسة. شدد الرئيس أوباما على أولوية الدستور والانتخابات وأعطى فرصة للجيش للتصرف بمسؤولية والوفاء بتعهداته.
لكن الناطق باسمه قال مؤخراً إن الإدارة تنظر فيما إذا كان ما حدث هو «انقلاب» مما أعاد الانطباع السائد بأن الرئيس الأميركي دائماً يتردد ويركض وراء الحدث. الآن، ليس هذا وقت التردد إزاء ما يحدث في مصر. يجب على الرئيس الأميركي أن يبلغ الجيش المصري معنى أن يثق بتعهداته بأنه لن يتحول إلى حاكم عسكري، ولن يمارس السلطة، وإنه عازم على تسليم جميع مفاصل الحكم إلى المدنيين وفق برنامج زمني سريع.
الرئيس الأميركي مُطالب أيضاً بإيضاح دعمه لحكم الدولة المدنية المصرية بعدما اختار الشعب فصل الدين عن الدولة، لا سيما أن الانطباع لدى الكثيرين في مصر والمنطقة العربية هو أن باراك أوباما يدعم صعود الإسلاميين إلى السلطة، وبالذات «الإخوان المسلمين»، ويجدر بالرئيس الأميركي أن ينشط ديبلوماسية أميركية – أوروبية دعماً للحكم المدني في مصر. فالديبلوماسية الأميركية في عهد أوباما مكلفة للمنطقة العربية نتيجة ترددها نحو سورية لسنتين والآن نحو مصر، لأسباب مختلفة.
القوات المسلحة المصرية يجب أن تلتزم وتنفذ ما تعهدت به وأن تراعي أيضاً قواعد الاشتباك حتى وإن كانت تواجه الاستفزاز والتحريض. فالإفراط في استخدام القوة العسكرية ضد «الإخوان المسلمين» ليس في مصلحة مصر على رغم أن الطرف الذي لجأ إلى العنف هو «الإخوان»، والذي يقوم بالتحريض هو مرشد «الإخوان» محمد بديع الذي يدعو إلى الاستشهاد من أجل محمد مرسي.
ما شاهده الشعب المصري بعد مقتل 51 شخصاً في المواجهة بين الجيش و «الإخوان» أدى إلى تراجع في أي تعاطف شعبي مع «الإخوان» بعدما شرح العقيد الشاب أحمد علي ما حدث وكشف استخدام صورة لأطفال سورية المغدورين زعم «الإخوان» أنهم أطفال مصر الذين قتلتهم القوات المصرية. العقيد أحمد علي أوضح أيضاً أن «الإخوان» كانوا يستدرجون عمداً الجيش المصري ولم تكن التظاهرات مدنية وإنما كان فيها مسلحون مكلفّون بالاستفزاز.
الجيش يتلكأ بالحزم لأنه يحرص على عدم فلتان الأمور في اتجاه حرب أهلية، ولذلك إنه يتخذ خطوات لطمأنة «الإخوان المسلمين» إنهم مرحب بهم في العملية الانتقالية. المشكلة أن «الإخوان» غاضبون لا يريدون الاعتراف بالفشل أو الهزيمة. فلقد خسروا فرصة تاريخية وهم في حال نكران لما حدث. إنهم يزعمون أنهم الوكلاء على «الشرعية» ويتوسلون إلى الغرب التدخل لإنقاذهم باسم صعود رئيسهم إلى السلطة عبر انتخابات. يتناسون أن رئيسهم قبض على جميع مفاصل السلطة وأن من حق الشعب عزل رئيس شاء حجب الثقة عنه بسبب خيانته للعملية الديموقراطية.
النصائح تتدفق على «الإخوان المسلمين» منها ما يدعوه إلى الأخذ بالنموذج التركي، أي الصبر ثم الانقلاب، ومنها ما يدعوه إلى تجنب النموذج الجزائري، أي الدخول في معركة مسلحة مع الجيش لأنها انتحار. أولى المحطات هي في اعتراف «الإخوان المسلمين» أن مصر رفضت أخونة الدولة وأخونة الحكم، وأن الفصل الثاني من الثورة الشعبية أتى ضد الثيوقراطية وضد احتكار السلطة والاستفراد بها.
ثاني المحطات هي الكف عن التصوّر بأن ثمانية عقود من معركة الإخوان المسلمين من أجل الاستحواذ على السلطة تعني تلقائياً حق الإخوان المسلمين بالاستحواذ والاستفراد بالسلطة. لهم الحق في المشاركة ولا حق لهم بالإقصاء. هم الذين أقصوا الآخرين. اليوم، إنهم يرفضون دعوة رئيس الوزراء الموقت أن يكون لهم وزيران في الحكومة ويضربون بعرض الحائط تعهدات القيادات المدنية بأن لا إقصاء لهم، ولا محاكمات.
لقد راهن «الإخوان المسلمون» على وعود قطرية وتركية بأن الغرب سيتبناهم ويدعمهم مهما كان. الشعب شاء أن يتحدى هذه الوعود وأن يراهن على مشيئته وليس على مشيئة الغرب أو سواه. استعد «الإخوان» لإرضاء الغرب كي يهيمنوا على السلطة وراهنوا على «حليف» جديد اعتبروه سابقاً «عدواً». حان اليوم الموعد مع مواجهة الواقع بتواضع وعقلانية لإعادة النظر في الأخطاء والقبول بالشراكة بدلاً من الاستفراد.
الجيش يحاول استقطاب «الإخوان المسلمين» وحزب «النور» السلفي في خطوات بعضها مسيء للعملية التشاورية التي تعهد إجرائها مع القيادات المدنية. لذلك أسرع إلى إعلان دستوري موقت نص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع، بلا أخذ رأي القيادات المدنية المعارضة لإعادة إحياء المادة 219 التي أقحمها «الإخوان المسلمون» على الدستور وعرّفت الشريعة الإسلامية بما يجعلها الأساس للقوانين.
المدنيون يريدون أن يكون لمنصب رئيس الوزراء صلاحيات أكبر من صلاحيات الرئيس. الجيش لم يلب ذلك حتى الآن وهو يجعل من رئيس الوزراء منصباً مجرداً من الصلاحيات. الجيش يتحدث عن انتخابات برلمانية أولاً، ثم الانتخابات الرئاسية. المدنيون يريدون انتخابات رئاسية أولاً لإعطاء الوقت للتنظيم للانتخابات البرلمانية كي لا تطول الفترة الانتقالية ووكالة الجيش على البلاد. وبالتأكيد، أن الأولوية للدستور المدني الذي تريده القيادات المدنية ضماناً للديموقراطية.
الأولوية أيضاً للاقتصاد، ولذلك، إن تعهدات المملكة العربية السعودية بمبلغ 5 بلايين دولار، ودولة الإمارات العربية بمبلغ 4 بلايين، والكويت بمبلغ 4 بلايين إنما هي حيوية لإنقاذ مصر. لكن مصر في حاجة إلى مؤسسات وخطة تنمية. فالخزينة المصرية فارغة ومن دون الإنفاق الحكيم لهذه الأموال، إن مصر مزعزعة. على الجيش أن يحسن السيطرة، وعلى رئيس الوزراء أن يجند الشباب في حكومته وأن تتسم الحكومة بالحيوية والديناميكية كي لا تطول المرحلة الانتقالية. الجيش يقود الآن، إنما من الضروري أن يتجنب تولي الحكم بأي شكل كان.
المرحلة الآتية مخيفة إذا قرر «الإخوان» أن يجعلوا منها مرحلة عنف وانتقام وتخريب وتفجير علاجاً لليأس. إنها مرحلة تتطلب إجراءات داخلية حكيمة، ومالاً عربياً سخياً، ودعماً دولياً لمصر الدولة المدنية.
إنها لحظة تاريخية لمصر وللمنطقة العربية. فالحكم الديني في إيران زاد على ثلاثة عقود ومهما عارضت إيران الشيعية «الإخوان» السنّة، إن خصمها الكبير هو الحكم المدني الليبرالي. لذلك إنها ليست مرتاحة لهزيمة «الإخوان» وإخراجهم من السلطة. تركيا أيضاً اليوم ذات حكم ديني عبر حزب «العدالة والتنمية» الذي يقوده رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان. وتركيا أيضاً غاضبة جداً من إسقاط حزب «الحرية والعدالة» و «الإخوان» في مصر. إسرائيل أيضاً حكمها ديني وهي تسعى وراء إقرار العالم بـ «الدولة اليهودية».
الواحة للحكم المدني في الشرق الأوسط هي مصر. حينذاك، وعندما تستقر مصر على حكم مدني تتغير معالم الشرق الأوسط نحو الأفضل للمنطقة العربية ولمنطقة الشرق الأوسط على السواء.
الحياة
“حيزبون” التي هتف لها المصريون “ارحلي” آن باترسون صورة أميركا المثيرة للجدل في القاهرة
موناليزا فريحة
بالحماسة عينها وربما أكثر، طالب المصريون في تظاهراتهم التاريخية في 30 حزيران، برحيل الرئيس محمد مرسي و”الحيزبون” آن باترسون (63 سنة). وبعدما انتهى الرئيس الاخواني “سجين” جدران نادي الحرس الجمهوري في القاهرة على الارجح، بات على السفيرة الاميركية في القاهرة انقاذ لا السياسة المتعثرة لبلادها في مصر فحسب، وإنما سمعتها الشخصية أيضاً.
نظريا، كانت باترسون الديبلوماسية المثالية لتوجيه السياسة الاميركية في مصر خلال انتقالها من ستة عقود من الحكم العسكري الى الديموقراطية، نظرا الى خبرتها في دول شهدت اضطرابات سياسية مثل كولومبيا وباكستان. وفعلاً، اضطلعت بدور رئيسي في المقاربة الاميركية لجماعة “الاخوان المسلمين” وحزب الحرية والعدالة المنبثق منها. ومع نشوب الانتفاضة في وجه مرسي وإخوانه، وجدت باترسون نفسها فجأة وسط فوضى عارمة وهدفاً للثوار الغاضبين من الدور المنحاز لواشنطن في شؤون بلادهم والذين حملوها المسؤولية عن الاحتضان الاميركي الوثيق لـ”الاخوان” في مصر. لذلك ارتفعت صورها المشطوبة بالاحمر والمكتوب عليها بالانكليزية “Hayzaboon Go Home”، الى جانب صور مرسي وسط التظاهرات المناهضة له، تعبيرا عن رفض ما يعتبره الثوار احباطاً أميركياً لجهودهم لاطاحة مرسي. و”حيزبون” تعني المرأة العجوز الداهية، وتستخدمها العامة في مصر شتيمة.
في ظل حكم مرسي الذي أكمل سنته الاولى بشق النفس،غالباً ما عبرت المعارضة المصرية عن ارتيابها في سياسة الادارة الاميركية في مصر نتيجة لما اعتبرته انحيازا الى “الاخوان”. ولا تزال مشاهد رشق موكب وزيرة الخارجية الاميركية هيلاري كلينتون بالبندورة خلال زيارتها للقاهرة في حزيران 2012، حاضرة في الاذهان.
ولم يساعد أداء باترسون في الموجة الاخيرة المناهضة لمرسي على تبديد تلك الريبة. وزاد الوضع تفاقماً تصريح لها في 18 حزيران الماضي، أي في ذروة حملة “تمرد” لجمع تواقيع للدعوة الى اجراء انتخابات جديدة. في ذلك اليوم قالت باترسون إن مرسي يختلف عن سلفه حسني مبارك، “ولا تصح المقارنة” بينهما، مشيرة إلى أن مرسي رئيس منتخب، وأن مبارك بقي في السلطة 30 سنة انتهت باطاحته، فيما لم يكمل مرسي سنته الأولى، مؤكدة أن احتجاجات الشارع “لن تؤدي إلى الديموقراطية المستقرة، التي لن تتحقق الا بالانتخابات”.
ومع عزل مرسي ورسم العسكر “خريطة طريق” لمصر في رعاية القوى السياسية والدينية الرئيسية في البلاد، ثبت لكثيرين في مصر وربما في واشنطن أن تصريحات باترسون ليست الا النموذج الاخير لفشل الادارة الاميركية في الاعتراف باخفاقات مرسي وتردده في استخدام منصبه لتحقيق المصالحة بين المصريين ومعالجة المشاكل الاقتصادية للبلاد.
ومع مرور أكثر من أسبوع على عزل الرئيس الاخواني، لم تحسم الادارة الاميركية، على الاقل علناً، تصنيفها لما حصل في مصر، أهو انقلاب أم لا. ولكن مع رفضها وصفه بانه انقلاب بدأت تبعث برسائل حذرة عن العملية الانتقالية، مؤيدة ضمناً انتهاء الحكم الاخواني.
أما باترسون، فيبدو أنها تدير حاليا سفارة مقفلة أكثر ايام الاسبوع أمام الجمهور، وتعمل بطاقم الحد الادنى، بعد خفض وزارة الخارجية عدد الموظفين غير الرئيسيين.
منتقدون ومدافعون
في مقال لها أمس، كتبت صحيفة “الدايلي بيست” أن مسؤولين وخبراء في واشنطن يناقشون ما اذا كانت باترسون مسؤولة عن اخفاق السياسة الاميركية في مصر منذ اطاحة مبارك. ونقلت عن مسؤول سابق في ادارة أوباما أن “باترسون دفعت في اتجاه التقرب من مرسي… كان رأيها أنه يجب تثبيت هذه العلاقة. وفي الوقت عينه نفّرت المعارضة.كان ذلك غير حكيم وغير ضروري… كانت تقول لكثيرين أن المعارضة المصرية عديمة الجدوى، ولا فائدة من هدر الوقت معها، وأن الاخوان هم اللاعب الوحيد في البلاد”.
وثمة من يقول انه في نقاشات داخلية، كانت باترسون تقلل شأن الميول الاستبدادية لمرسي، كما لم تكن تتوقع أن تتخذ احتجاجات 30 حزيران هذا الحجم الذي أربك الادارة الاميركية.
وفي المقابل، ثمة من يدافع عن باترسون، قائلا إنها كانت تبذل كل ما في وسعها لتصحيح مسار عقود أحجمت خلالها واشنطن عن تشجيع “الاخوان” وجماعات اسلامية أخرى.
واضاف انها “منذ ايامها الاولى في مصر لاحظت أن المصريين الذين يقيمون اتصالات مع مؤسسات الرأي وأعضاء في الكونغرس ومسؤولين في وزارة الخارجية الاميركية وغيرهم، هم شخصيات موهوبة وخلاقة، لكنهم لا يمثلون بالضرورة المصريين الثمانين مليونا… لقد جادلت بأن علينا أن نعي أن ثمة جزءا تقليديا ودينيا ومحافظا في المجتمع المصري لا يتأقلم مع مدللي مجموعة مؤسسات الرأي في واشنطن”. الى ذلك كله، يلفت الى أن باترسون تواجه الانتقادات لانها ممثلة الادارة الاميركية التي غالبا ما صب المصريون جام غضبهم عليها، بعض النظر عما تفعله.
خلال مسيرتها الديبلوماسية، عملت باترسون مع حكومات مدنية ضعيفة تواجه انقلابات محتملة. بين 1997 و2000، كانت سفيرة الولايات المتحدة فى السالفادور، وبين 2000 و2003 سفيرة في كولومبيا. وهناك أثارت شكوكا حيالها، حتى أنها تعرضت لمحاولة اغتيال لدى زيارتها احدى المدن الكولومبية.
وعندما وصلت الى باكستان عام 2007، كان الجنرال برويز مشرف رئيسا للدولة. وعملت خلف الاضواء مع مجموعات من المجتمع المدني لتدبير انتقال الى حكم مدني.
ثمة من يرى أن تجاربها في العمل لاقامة حكم مدني في باكستان ودعم حكم الرئيس الكولومبي أندريس براستانا، ساهمت في مقاربتها لمصر حيث عارضت الانتقاد العلني لمرسي ودفعت من أجل دعم بلادها الحكومة المصرية المنتخبة من غير أن تبدو كأنها تتدخل في الشؤون المصرية.
ويقول مدير برنامج الشرق الاوسط في “مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية” في واشنطن جون ألترمان أن تلك المقاربة نفّرت القوى المعادية لمرسي. ويضيف أن”استراتيجية ديبلوماسية أنجح كانت تفترض عدم اشعار أي فريق بأنه عدو”.
ويحمل ألترمان بعضا من مسؤولية ما حصل على البيت الابيض “لانه أخفق في تهديد الحكومة المصرية برسائل قوية عندما اقتضت الضرورة”.
يتردد أن باترسون مرشحة لترقية تخرجها من القاهرة، ربما لمنصب مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الادنى.فهل تؤثر الحملة الاخيرة عليها على مستقبلها الديبلوماسي؟
النهار
مقاربة سياسية لدلالات الحوادث المصرية
ماجد كيالي
ما الذي يحدث في مصر حقاً؟ هل هذه ثورة ثانية؟ أم مجرد انقلاب عسكري؟ هل هذه نكسة للثورة أم جزء من الحالة الثورية؟ وبمعنى آخر، ما هي دلالات الأحداث المصرية الجارية؟
من جهتي أعتقد بأن الإجابة على هذه التساؤلات بنعم أو لا لا تشرح شيئاً، فمثل هذه الإجابات الحدّية، التي تنطوي على ثنائيات قاطعة ومطلقة، لا تفيد على الصعيد المعرفي، ولا تجدي على صعيد حل المعضلات السياسية، لأنها في الغالب تأتي متحيّزةً ومتعصّبة وانتقائية. القصد أن الأوضاع المركّبة والمعقّدة تحتاج أيضاً إلى إجابات من نفس النوع، أي إلى إجابات تنشأ من تفحّص الواقع الصعب، بتعقيداته ومشكلاته وتناقضاته.
هكذا، مثلاً، لا يمكن تجاهل أن ثمة انقساما في الشارع المصري بشأن مستقبل مصر، ولا طمس التناقض الناجم عن الاستقطاب بين تيار الإسلام السياسي، على تنويعاته، والتيارات العلمانية والقومية واليسارية والليبرالية، ولا القفز عن التخبّطات التي حكمت مسار الثورة المصرية منذ نشوئها، وضمن ذلك تأجيل صوغ الدستور، إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، ولا التقليل من شأن التركة الثقيلة التي خلفها النظام السابق، في مختلف المجالات، في أجهزة الدولة، وفي السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتبعة.
بناء على كل ذلك فإن أي مقاربة لأحوال مصر، وثورتها، ينبغي أن تتأسس على الملاحظات التأسيسية التالية:
أولاً، إن ما يحدث في مصر، لجهة التصارع على السلطة، والانقسام الحاصل بانفكاك عقد القوى التي خاضت الثورة لإسقاط نظام مبارك إلى معسكرين، هو أمر طبيعي، لاسيما أننا نتحدث هنا عن ثورة عفوية، لا أحزاب وقفت وراءها، ولا برامج حدّدت ماهيتها أو غايتها.
المعنى هنا أن الشعب، الذي بدا متوحّداً في سعيه لإسقاط النظام السابق، بات مختلفاً على ذاته في كل ما عدا ذلك، أي على مفاهيم الدولة والسلطة والمواطنة والحرية والمساواة والديمقراطية، وهي ملاحظة تشمل معظم ثورات الربيع العربي.
وبديهي أن سعي المصريين لحلّ هذه المعضلة لم يأت بطريقة سويّة، بسبب ضعف خبراته السياسية، بحكم تهميشه لعقود، وبواقع ضعف القوى الحزبية، وهشاشة الثقافة السياسة السائدة. وبالنتيجة فقد وجدنا أنفسنا إزاء محاولة تجديدية في الثورة، وإزاء انقلاب عسكري، أو إزاء ثورة ناقصة مشوبة بشبهة الانقلاب، الذي يفتح على مخاطر إعادة العسكر إلى السياسة والسلطة، وإلى عودة نهج الإقصاء والتهميش لهذا التيار أو ذاك.
الملاحظة الثانية، وهي تشمل مجمل الثورات أيضاً، وتتعلق بطابع الصراعات في المجتمعات العربية، فمما حدث في مصر، ويحدث في سوريا والعراق ولبنان وتونس (بدرجة أقل)، يؤكّد أن هذه المجتمعات العربية تبدو وكأنها تكتشف أو تتعرّف على ذاتها للتوّ، بمعنى أنها تتعرف على أحوالها ومشكلاتها، مشتركاتها واختلافاتها، تنوّعها وتعدديتها، كأن هذه المجتمعات تبدأ من نقطة الصفر في تعريف هويتها وإجماعاتها السياسية والثقافية. والمعضلة أن هذا التعرّف يأتي بشكل صادم، لاسيما أنه يحصل في فترة الثورات، التي تنطوي أيضا على اضطرابات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما يؤدي إلى تداعيات مؤلمة.
الملاحظة الثالثة، وعطفاً على غياب المشاركة السياسية، وضعف الثقافة السياسية، فإن الصراعات في المجتمعات العربية تكاد تأخذ طبيعة صفرية، وكأنها صراع على الوجود، كونها تأخذ طابع الصراع الهوياتي، التأسيسي، فهذه هي المرة الأولى التي تجد فيها المجتمعات العربية أمام لحظة الحقيقة، أي أمام لحظة تأسيس مجتمعية ودولتية، بعد أن كانت الدول الغربية أخذت ذلك على عاتقها في أوائل القرن الماضي، وبعد عقود من التهميش والحرمان من المشاركة السياسية.
الملاحظة الرابعة، أن هذا الصراع الهوياتي/السياسي، على المكانة والسلطة في المجتمعات العربية، بات يأخذ شكل الصراع الديني، أيضاً، سني شيعي، وإسلامي علماني، أو ديني ومدني، أي كأننا نمر بلحظة تأسيسية لثورة ثقافية، أو لثورة شبيهة بثورات الإصلاح الديني في الغرب، مع كل الآلام والمصاعب التي مرت بها تلك المجتمعات، وهو ما بتنا نكابد منه الآن، لا سيما في تجربة الثورة السورية.
الملاحظة الخامسة، وهي تتعلق بمعنى الديمقراطية في بلداننا العربية. فبغض النظر عن كل الضجيج بشأن ما يجري في مصر، فهذا كله ينضوي في إطار تعزيز، أو إنضاج، فكرة الديمقراطية بحمولاتها الليبرالية، المتعلقة بتكريس مفهوم المواطن، الفرد, والحريات الشخصية والعامة، والمساواة بين المواطنين، واعتبار الدولة مجالاً عاماً، وليس مجالاً حزبياً، يحتكره الحزب الحاكم، أو حزب الأكثرية، أياً كانت خلفيته، علماً أن هذا الأمر لا يتعلق فقط بالإخوان المسلمين، وإنما يشمل مجمل التيارات السياسية الليبرالية واليسارية والقومية والعلمانية، في مصر وفي العالم العربي.
فإذا كان من حق حزب ما أن يحتكر السلطة، وأن يتحكم بالتوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مرحلة معينة، فهذا لا يمنحه الحق بالتحكم بجهاز الدولة، أو بصوغه حسب مزاجه السياسي.
هذا هو معنى أن الديمقراطية لا تقتصر على مجرد عمليات انتخابية، وأن تحقيق أكثرية في انتخابات ما لا يعني التحكم بالدولة والمجتمع، وصوغهما على مقاس الحزب الحاكم. وهذا هو معنى الكلام عن الدستور، واعتبار الحرية والمساواة والكرامة والعدالة وتكافؤ الفرص بين المواطنين قيماً فوق دستورية.
ومعلوم أن هذه المشكلة تبدو مستفحلة عندنا بسبب عدم هضم الديمقراطية لمسألة الحرية الفردية، أو بسبب الفصل بين الديمقراطية والليبرالية، في حين أنها تبدو أقل حدّية في الدول الديمقراطية في الغرب، بسبب أن ديمقراطيتها مطعّمة بقيم الليبرالية، المتعلقة بضمان الحريات الفردية والعامة، وحياد الدولة إزاء الأكثريات والأقليات السياسية، ولكونها أنجزت تحولاتها نحو الليبرالية قبل التحولات الديمقراطية، علماً أنه لا يوجد نظام سياسي كامل أو نزيه، لكن هذا هو النظام الأمثل الذي دلّت عليه خبرة البشرية، في مجال النظم السياسية، حتى الآن.
الآن، وبخصوص ما يجري في مصر تحديداً، فمما لا شكّ فيه أن ثمة مشكلة في فهم الإخوان المسلمين للديمقراطية، ولمعنى الدستور، والمواطنة، والحريات، لكن التجربة لم تثبت أن التيارات القومية واليسارية والعلمانية كانت أفضل حالاً في تمثلها لمقاصد الديمقراطية والدستور والحريات، في الأنظمة التي تسيّدت فيها، في العالم العربي أو في البلدان الأخرى.
ولا شكّ أن الإخوان المسلمين، في مصر وغيرها، أخطؤوا في مجالات عديدة، لكننا في غضون ذلك ينبغي أن نكون واضحين، ومنصفين، بحيث لا ننسى أن النظم “القومية” و”اليسارية” هي، أيضاً، أسهمت في تكريس الاستبداد والتسلط، وتهميش الدولة والمجتمع، وتقييد الحريات، وتأخير قيام دولة المؤسسات والقانون والمواطنة في عديد من بلدان العالم العربي، وهذه هي الملاحظة الأولى.
الملاحظة الثانية، وعلى ضوء ما يجري في مصر، والاستقطاب الحاد، بين مؤيد لحكم الإخوان والمعارض له، ثمة مخاطر من تفشّي نوع من الخطابات التي تتأسس على التشكيك والتهميش والإقصاء وكراهية الآخر والإلغاء.
فهذه اللغة العدائية والعدمية مضرّة، وغير مفيدة، في الصراعات السياسية، وهذا ينطبق على التيارات الدينية والمدنية. ومعلوم أن هذه اللغة هي أصلاً من نتاج العقليات والنظم الاستبدادية، لذا من المفترض نبذها والثورة عليها، لأنها تتنافى مع الحرية والمساواة والديمقراطية، وتؤدّي إلى ترسيخ الانقسامات المجتمعية، وإلى قيام علاقات عدائية تغذّي التطرف والعنف.
الملاحظة الثالثة، وهي أن تيارات الإسلام السياسي تتحمّل مسؤولية عما جرى، كونها تبوأت السلطة، عبر الانتخابات، في مصر (وفي تونس)، ولكنها تصرّفت وكأن المجتمع ملك يديها لمجرد رفعها راية الإسلام، الأمر الذي أغراها بعدم الالتفات للقوى الأخرى، والتسرّع في محاولاتها بسط هيمنتها على الدولة والمجتمع، مما أوقعها في مشكلات عديدة، وأسهم في عزلها، وتراجع شعبيتها.
وإضافة إلى تسرّعها، وعدم استفادتها من التجارب الماضية، وظنّها أن الطابع الديني يحميها من النقد والمساءلة، فإن خطأ التيارات الإسلامية، كغيرها من التيارات الحاكمة التي سبقتها، والتي برّرت نفسها بأيديولوجيات مطلقة، يكمن في محاولتها الهيمنة على الدولة وتحويلها من مجال عام إلى مجال حزبي، وفرض وجهات نظرها على المجتمع بوسائل قسرية وزجرية، واعتبار ذاتها تحتكر الحقيقة، ووضع المنتسبين إليها فوق المجتمع.
طبعا من المفيد الانتباه إلى الخلاف الناشئ عن تشخيص الصراع على السلطة في مصر، فثمة من يرى في عزل الرئيس المصري محاولة لتصويب مسار الثورة، واستردادها، واعتباره بمثابة ردّة فعل على محاولة “أخونة” الدولة والمجتمع، والاستئثار بالسلطة، وهو كلام ينطلق من قناعات مسبقة مفادها أن تيار الإسلام السياسي لا يؤمن بالديمقراطية، ويرى فيها نوعاً من هرطقة، ومجرد سلّم للصعود إلى الحكم، بدعوى أن الإسلاميين، الذين يرفعون شعار “الحاكمية لله”، يعتقدون أن الشرعية تأتي من الشريعة.
وثمة من يرى أن ما جرى هو اعتداء واضح على الديمقراطية، وأن الإخوان المسلمين ظاهرة سياسية تخضع للتطور، ولا ينبغي تعميم تجربة ما في زمن ما على تجربة أخرى في زمن آخر، لأن ذلك يضع الأمر في إطار التنميط والتعميم والإطلاق، مع الاعتراف بأن تجارب الإسلام السياسي، في إيران والسودان وغزّة وأفغانستان والعراق ولبنان (حزب الله)، لجهة الهيمنة على الدولة والمجتمع، لا سيما بوسائل القوة، ما زالت تثير الشبهات والمخاوف.
مع ذلك، ومن قبيل الإنصاف، كما ذكرنا، فإن هذه الحقيقة يجب أن لا تطمس معرفتنا أن لوثة السلطة ليست حكراً على الإسلاميين فقط، فهي تشمل التيارات العلمانية واليسارية والقومية، أيضاً، ذلك أن النظم التي انبثقت من هذه التيارات هي التي رسّخت الاستبداد في العالم العربي، ناهيك عن معرفتنا، أيضا، بأن تجربة انخراط الجيش بالسياسة لا تبشر بالخير البتّة، إذ تفضي إلى الهيمنة على الحكم، وخلق دكتاتوريات عسكرية، ونظم استبدادية، وبديهي أن نموذج سوار الذهب في السودان هو استثناء من هذه القاعدة حتى الآن.
الآن، يخشى أن يؤدي ما حصل في مصر إلى الإضرار بسلامة العملية الديمقراطية، بخاصة مع صمت جزء كبير من الطيف الديمقراطي/العلماني عن الممارسات التعسّفية، وغير المفهومة، إزاء الرئيس وحزبه، ويخشى أكثر أن ينشأ عن هذه الخطوة الصادمة نوع من القطع بين تيارات الإسلام السياسي ومسار تطبّعها مع الأفكار السياسية/المدنية، المتعلقة بالدولة والمواطنة والديمقراطية.
عموما، وفي غضون ما يجري في مصر، ينبغي التمييز بين الثورات التي تحاول حل مشكلاتها واختلافاتها بالوسائل السياسية (تونس مثلا) وبين الثورات المسلحة التي يصعّب وضعها حل هذه المسألة بالطرق السياسية (الحالة السورية مثلا)، مع ملاحظة ذهاب مصر من مربع السياسة إلى مربع الانقلابات العسكرية لحسم هذا الأمر.
قصارى القول، يبدو مقدّراً على ضوء التجربة أن التيارات “العلمانية” (وضمنها اليسارية والقومية والليبرالية) لن تتحرّر من عصبياتها الأيديولوجية والهوياتية، التنميطية والمغلقة والمسبقة، حتى تتحرّر من “فوبيا” الإسلام السياسي، ولن يتحرّر الإسلام السياسي حتى يتحرّر من فوبيا التيارات العلمانية أو المدنية، وبالتالي من توهّماته حول ذاته، وضمنها اعتباره ذاته وكيلاً حصرياً للدين. تحرّر التيارات الدينية والمدنية، الإسلامية والعلمانية، من حال العداء والنفي وعدم القبول المتبادل، هو شرط تحرّر الجميع وشرط الدخول في السياسة، وتالياً الولوج إلى الحقبة الديمقراطية في بلادنا، ولعل هذا هو المتوخّى من ثورات الربيع العربي، على تعقيداتها ومشكلاتها وصعوباتها. ولنأمل السلامة لمصر وأهلها في هذه المحنة.
الجزيرة نت
ملاحظات على الثورة المصرية الثانية
ماجد كيالي
ما يحدث في مصر، من تصارع على السلطة، وانفكاك عقد القوى التي شاركت في الثورة لإسقاط نظام مبارك، هو أمر طبيعي، لاسيما أننا نتحدث هنا عن ثورة شعبية وعفوية، انطلقت من دون ممهّدات، فلا أحزاب وقفت وراءها، ولا برامج حدّدت ماهيتها، أو غايتها.
الواضح هنا أن الشعب، الذي كان متوحّداً إبان سعيه لإسقاط النظام السابق، بات منقسماً على ذاته في كل ماعدا ذلك، أي على مفاهيم الدولة والسلطة والمواطنة والحرية والمساواة والديموقراطية، وهذه سمة عامة تشمل معظم الثورات التي انطلقت في بعض البلدان العربي، والتي باتت تعرف ببلدان “الربيع العربي”.
الآن، ربما كان الأجدى للمصريين التوجّه نحو إيجاد حلّ خلاق لهذه المعضلة، بالتوافق حول القضايا المختلف حولها، بواسطة ورشات الحوار والنقاش، أو بحسم الأمر بواسطة المؤسسات التشريعية، أو عبر الاستفتاء، لاسيما أننا إزاء مرحلة انتقالية، لكن هذا الأمر لم يحصل، بالشكل المناسب، أو بالطريقة السويّة. ويمكن إحالة ذلك إلى أسباب عديدة، لعل أهمها يكمن في انعدام الثقة بين الأطراف المختلفة، وثقل عقود من التهميش، وهشاشة الثقافة السياسية السائدة، وضعف التنظيمات الحزبية (باستثناء جماعة الإخوان المسلمين).
هكذا انفتح الصراع في مصر على مصراعيه بين القوى التي كانت متوحّدة، إبان ثورة يناير، في جهدها لإسقاط النظام السابق، بحيث بتنا، نتيجة كل ذلك، إزاء حالة معقّدة وملتبسة ومتناقضة، فثمة هنا محاولة تجديدية في الثورة، تم تتويجها بواسطة انقلاب عسكري، أو ثمة ثورة شعبية لم تكتمل، وهو ما تمثّل في التظاهرات التي عمّت مصر (30 يونيو/حزيران)، والتي طالبت بعزل الرئيس المنتخب، والتوجّه نحو انتخابات مبكرة، تم قطعها بواسطة تدخّل الجيش الذي حسم الأمر لصالح المتظاهرين، أو لصالح خيار أخر، يصعب الجزم، أو التكهن، به الآن.
بالنتيجة فإن الوضع المتشكّل في مصر، بعد عزل الرئيس مرسي، بات يهدّد بمخاطر متعدّدة ومتضاربة، ضمنها تسهيل عودة العسكر إلى السياسة والسلطة، واحتمال عودة نهج الاقصاء والتهميش لهذا التيار او ذاك، وتشريع الإنقلاب على صناديق الاقتراع بالشارع، وانتقاص الديموقراطية والحرية، وقطع مسار التطور السياسي والفكري عند تيارات الإسلام السياسي، وتعزيز الاتجاهات المتطرفة فيها، وترسيخ الشرخ بين التيارات الدينية والمدنية، أو الاسلامية والعلمانية.
لم يعد بالإمكان تجاهل، أو طمس، الانقسام الحاصل في الشارع المصري بشأن مستقبل مصر وهويتها، بخاصّة بعد مرور عامين ونصف من عمر الثورة، ولا طمس التناقض الناجم عن الاستقطاب بين تيار الإسلام السياسي على تنويعاته، والتيارات العلمانية بتنويعاتها القومية واليسارية والليبرالية، ولا القفز عن التخبّطات التي حكمت مسار الثورة المصرية منذ نشوبها، وضمن ذلك تأجيل صوغ الدستور، إلى مابعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية، ولا التقليل من شأن التركة الثقيلة التي خلفها النظام السابق، في مختلف المجالات، في أجهزة الدولة، وفي السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتبعة، ولا المداخلات الخارجية الرامية لتوجيه دفة السياسة المصرية، علماً أنها بدت مؤثّرة، لاسيما بقوة السياسة والمال والإعلام.
وعلى أي حال، ومن متابعة ما حدث في مصر، وما يحدث في سوريا والعراق ولبنان وتونس (بدرجة أقل)، يمكن الاستنتاج بأن المجتمعات العربية، لاسيما في المشرق العربي، تبدو وكأنها تكتشف ذاتها للتوّ، بمعنى أنها تتعرّف على أحوالها ومشكلاتها، مشتركاتها واختلافاتها، تنوّعها وتعدديتها، كأن هذه المجتمعات تبدأ من نقطة الصفر في تعريف هويتها واجماعاتها السياسية والثقافية. لكن المعضلة هنا تكمن في أن هذا التعرّف يأتي بشكل صارخ، وصادم، لاسيما أنه يحصل في فترة الثورات، التي تنطوي أيضاً على اضطرابات سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية، غالباً ما تؤدّي إلى تداعيات مؤلمة ومكلفة.
وينجم عن غياب التشكيلات الحزبية، وضعف الثقافة السياسية، معضلة ثانية، قوامها أن الصراعات البينية في المجتمعات العربية تكاد تأخذ طبيعة صفرية، وكأنها صراع على الوجود، كونها تأخذ طابع الصراع الهويّاتي، التأسيسي، العمودي، لا طابع الصراعات التي تنبني على المصالح الطبقية والاجتماعية والمعيشية الافقية. فهذه هي المرة الأولى التي تجد فيها المجتمعات العربية نفسها أمام لحظة الحقيقة، أي أمام لحظة تأسيس مجتمعية ودولتية، بعد أن كانت الدول الغربية اخذت ذلك على عاتقها، في أوائل القرن الماضي، وبعد عقود من التهميش والحرمان من المشاركة السياسية.
ثمة معضلة ثالثة ناجمة عن أن هذا الصراع الهوياتي/السياسي، على المكانة والسلطة في المجتمعات العربية، بات يأخذ شكل الصراع الديني، أيضاً، سني ـ شيعي، وإسلامي -علماني، أو ديني ومدني، أي كأننا نمر بلحظة تأسيسية لثورة ثقافية، أو لثورة شبيهة بثورات الإصلاح الديني في الغرب، مع كل الآلام والمصاعب التي مرت بها تلك المجتمعات، وهو ما بتنا نكابد منه الآن، لاسيما في تجربة الثورة السورية.
أخيراً، ثمة المعضلة الرابعة، ومفادها الخشية من أن يؤدي ما يحصل في مصر إلى الإضرار بسلامة العملية الديمقراطية، بخاصة مع صمت جزء كبير من الطيف الديموقراطي/العلماني عن الممارسات التعسّفية، وغير المفهومة، إزاء الرئيس وحزبه، ويخشى أكثر أن ينشأ عن هذه الخطوة الصادمة نوعاً من القطع بين تيارات الإسلام السياسي ومسار تطبّعها مع الأفكار السياسية/المدنية، المتعلقة بالدولة والمواطنة والديموقراطية.
في غضون كل ذلك لا يمكن تجاهل وجهات النظر التي تتحدّث عن تحميل الرئيس مرسي، وحزبه الإخوان المسلمين، المسؤولية عن ما حصل، بمحاولتهم تجيير الفوز بصناديق الاقتراع، لإدارة الحكم، بمحاولتهم الهيمنة على الدولة، وفرض تصوراتهم على المجتمع، وهو ما تمثل في “سلق” الدستور، وصوغه بعيداً عن التوافقات مع الشركاء الآخرين بالثورة، وضمن ذلك المسؤولية عن إنكار الواقع المتمثل بانقسام المجتمع المصري، في ظروف مرحلة ثورية انتقالية. ويشمل ذلك، أيضاً، تحميل الرئيس مسؤولية عدم أخذه زمام المبادرة بالدعوة لتنظيم استفتاء على انتخابات رئاسية، في ظل رئاسته او حتى الدعوة الى انتخابات مبكرة، لحسم الأمر، وتجنّب ما حصل.
عموماً، ربما من المبكّر التقرير بشأن ما حدث، إن كان ثورة ثانية، أو أمراً آخر.
المستقبل
وداعاً يا عزيزي “الإخواني“
أشرف الشريف
بدل خروجهم الآمن من السلطة، بعدما لفظتهم الغالبية الساحقة من الشعب، اختار “الإخوان المسلمون” ما تربّوا عليه كطائفة إيديولوجية لا ترى العالم إلا في منظار ثنائيات قصوى عوَّدتهم على قبول الكارثة بكربلائية لا تعبأ بجثث الضحايا منهم ومن باقي المصريين.
عزيزي “الإخواني” الذي انتبه فجأةً إلى أن هناك شيئاً اسمه “حكم العسكر”، أودّ أن تعلم بأن العسكر موجودون منذ البداية، وكانوا شركاء “الإخوان” قبل انتخاب محمد مرسي رئيساً، وفي أثناء حكمه. لكننا لم نسمع منك ولا من سواك من مؤيدي “الإخوان” عن مثالب حكم العسكر. هذا لأن “الإخوان” كانوا، ببساطة، شركاء العسكر في اقتسام مغانم الثورة من موقع مميز. ما نسمعه اليوم منك من شكاوى من حكم العسكر، باعثه إقصاء “الإخوان” من اللعبة وخسارتهم موقعهم المميز. إذاً، كلِّمني يا عزيزي عن حزنكم على خسارتكم المغانم السياسية، ولا تحدّثني، رجاءً، عن قلقكم من خطر حكم العسكر، وعلى الثورة وعلى التحول الديموقراطي في مصر… لأن حديثاً من هذا النوع قمة في الابتذال.
طبعاً هنالك داخل النظام من يتحيّن الفرص لبناء دولة أمنية بوليسية جديدة. هذا احتمال وارد، لكن فرصه متدنية. فالمطمئن أن الشعب المصري أسقط حكم “الإخوان” في سنة واحدة، الأمر الذي لم يحدث في أيّ مكان من العالم. هذا ما يدفع “الإخوان” إلى اشعال حرب اهلية حقيقية. ففي الاسكندرية تدفقت عصابات “الإخوان” المسلحة الى الشوارع، واعتدت عشوائياً على الناس، فضلاً عن استهدافها العنيف للمتظاهرين في سيدي جابر، حيث سقط قتلى وكثير من الجرحى. الغريب ان الجيش لم يتدخل لوقف العنف، بل وقفت وحداته تتفرج ساكنةً ساكتةً على ما يحدث.
انطلقت الثورة المصرية منذ بدايتها ضد سلطوية الدولة وقهرها البوليسي وانتهاكها حقوق الإنسان، وضد المظالم الاجتماعية وسوء توزيع الدخل والفساد والاستبداد. هذه المسائل كلها لم تكن يوماً من قضايا “الإخوان المسلمين” ومن اهتماماتهم، ولا خاضوا باسمها وفي سبيلها معاركهم. لقد كانوا دخلاء على هذه الثورة، ورأس حربة الثورة المضادة لإرباك ثورة الشباب والشعب، وحرفها عن مسارها وإجهاضها. الآن، تعود الثورة الى مسارها الاصلي ومعاركها الاصلية، بدون تشويش وارباكات. ثورة 30 حزيران (يونيو) اسقطت من يتصدر الثورة المضادة، وبقي الوحش الأصلي ماثلاً: ألا فليسقط حكم “الإخوان” والعسكر.
لو كان لدى “الإخوان” قدر ضئيل من المسؤولية والعقلانية، ليس فقط حيال البلد، بل أيضاً حيال جماعتهم، لكان من المفروض أن يقبلوا، غداة ما حدث في 30 حزيران الماضي، بالخروج الآمن السلطة، ويدعوا جمهورهم الى هذا القبول، وأن يباشروا التفاوض حول موقعهم في المسار السياسي الجديد الذي يحافظ على سلامتهم ويضمن لهم الحد الأدنى من مكتسباتهم السياسية. ذلك لأن البديل من هذا، هو الحرب الأهلية التي سيخسرونها في مواجهة مجتمع صار ينفر منهم اجتماعياً وسياسياً، ويقدر، بعد تحرره وتمرسه في إطلاق الاحتجاجات، على ابتلاعهم. لكن “الإخوان” يعتبرون ما حدث معركة حياة أو موت: إما أن يفوزوا بكل شيء، وإما أن يخسروا كل شيء، وعلى البلاد والدنيا من بعدهم السلام، أي الخراب. هذا يتسق ويتطابق مع تكوينهم بوصفهم طائفة إيديولوجية لا ترى العالم إلا في منظور ثنائيات متداخلة ومتكاملة: الثبات والصمود والانقضاض والظفر، أو المحنة والتقهقر والانكسار والهزيمة.
لقد نشّأتهم تربيتهم على قبول النتائج القصوى لهذه الاحتمالات في معاركهم. وهم يقبلونها بكربلائية ومظلومية على جثث الكثير من الضحايا منهم ومن باقي المصريين، من دون أي حساب لسلامتهم وسلامة المجتمع. هذا ما صرّح به صابر أبو الفتوح أحد قياديي “الإخوان” عشية النزول الشعبي العظيم في 30 حزيران الفائت، فقال إن “الإخوان” على حق، ولن يتراجعوا قيد أنملة، ومن يموت من شبابهم إنما هم شهداء في الجنة. هذه هي نواة ذهنيتهم: ذهنية الطائفي المؤدلج التي تتفوق تحت الضغط على ذهنية التاجر البقّال التي تقودهم.
جماعة “الإخوان المسلمين” هي كيان ضد السياسة، وضد الرشاد، ولا أمل في تغيّرها. وإذا كان المرء يرفض إقصاء أيّ جماعة، فإن الأمانة تقتضي الإعتراف بأن لا مستقبل ولا معنى لهذه الجماعة في حال استمرارها على ما هي عليه. لذا عليها أن تختفي من الوجود، لتحلّ محلها كيانات اجتماعية وسياسية أخرى تستوعب طاقات اعضائها الحاليين، وسواهم من التيارات الاسلامية، كقوى محافظة ثقافياً داخل المجتمع. وذلك من موقع المشاركة، لا من موقع الوصاية والهيمنة، وبناء على افكار جديدة تعترف بانهيار التمكين الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي راكمه الاسلاميون طوال عقود. الاعتراف هذا يقتضي ايضاً طيّ صفحة الماضي، والإقرار بهزيمة الاسلام السياسي وسعيه الى الهيمنة على الثقافة والمجتمع في مصر، وبنهاية اسطورة ما يسمّى الدولة الاسلامية، أمام الممانعة الاجتماعية والسياسية العظيمة التي سطّرتها تظاهرات 30 يونيو (تموز). فاليوم ذاك، هو أحد أهم الأيام في تاريخ مصر الحديثة مع 28 يناير (كانون الثاني) 2011. وضع 28 يناير خاتمة لدولة 23 يوليو الناصرية العسكرية، ووضع 30 حزيران 2013 خاتمة لمشروع الاسلام السياسي، وللمسار السياسي الكارثي الطويل. أما ما تبقّى من تلك الدولة وهذا المشروع، فهو مجرد تفاصيل في طور الاحتضار على طريق ولادة الجديد. “الإخوان” في هذا المسار، كيان بائس، ديناصور عجوز ضعيف الحركة، ويرفض الرحيل في صمت، وبدل أن يُحتضر في صمت يسوق ابناءه الى المقصلة.
مرةً أخرى أتوجه إليك عزيزي “الإخواني” المنكِر للواقع، والمصرّ على الكلام عن “الإنقلاب العسكري”، فأسألك عن عشرات الملايين الذين ثاروا على حكم “الإخوان” في 30 حزيران المنصرم: ماذا تعتبرهم؟! لا شيء؟! كفاك إنكاراً للواقع عزيزي. لكي ترتاح قليلاً اقول لك إنها ثورة شعبية ضد حكم جماعتك، قفز الجيش الى قطارها، مثلما قفز إلى قطار ثورة 25 يناير (كانون الثاني 2011). الجيش حاضر أصلاً في المشهد من بدايته، لكنه لم يخرج منه ليعود إليه ثانيةً، بعدما هندس المسار السياسي الكارثي بالتواطؤ مع “الإخوان”، ثم انقلب عليهم منعاً للانهيار الكامل للدولة في ظل هذه الثورة الشعبية العارمة ضد حكم “الإخوان”. الحقيقة أن مشكلة الجيش مع “الإخوان” لم تنشأ من عدائهم للثورة وللديموقراطية (وهم معادون لهما حقاً)، بل هي نجمت عن فشلهم في بناء تحالف سياسي – اجتماعي يتمكن من الحكم، وعن إصرارهم على إعادة بناء دولة الاستبداد.
الحق أن الرئيس “الإخواني” هو من كان يسعه غلق الباب على تدخل الجيش، لو قبل بمطلب الشعب، ودعا الى انتخابات رئاسية مبكرة. وهذه آلية ديموقراطية عادية، وليست بدعة، بل جرى اتباعها في الارجنتين والبرازيل وروسيا وسواها من الدول. لذا يجدر بـ”الإخوان” ان يصبّوا لومهم وغضبتهم على رئيسهم محمد مرسي، لأنه أغلق الباب حيال إنهاء حكمه و”إخوانه”، أهله وعشيرته، على نحو ديموقراطي شعبي، بدل أن يفتح الباب لتدخل الجيش في شكل مباشر. كأنه في هذا انتقم من الشعب والجيش ومن نفسه ومن جماعته دفعة واحدة، قائلاً: عليّ وعلى أعدائي، متبعاً سياسة الأرض المحروقة معشوقة القوى والجماعات الإسلاموية كلها.
سلطة تمارس هذا النوع من السياسة، هي سلطة استبدادية إجرامية معادية للثورة والديموقراطية. في هذا المعنى لعب “الإخوان” دور الثورة المضادة بامتياز. فهم تحالفوا مع العسكر وبقايا نظام مبارك طوال سنتين ونصف السنة لإجهاض الثورة التي لا ناقة لـ”الإخوان” فيها ولا جمل. فلا سلطوية أجهزة الدولة وقهرها البوليسي، ولا سوء توزيعها الدخل واحتقارها حقوق الإنسان، كانت من قضايا “الإخوان” الذين استخدمهم النظام للتشويش على الثورة وإرباكها. لذا لا تستحق ممارسات “الإخوان” وحقبتهم في الحكم أيّ نوع من البكائية والندب على الديموقراطية.
أخيراً، يستحيل عليك يا عزيزي “الإخواني” أن تعترف بمسؤوليتكم عما ابتليتم به، وعن الكوارث التي أنزلتموها بالبلاد. فأنتم مثل آل بوربون في فرنسا: لا تنسون شيئاً ولا تتعلمون شيئاً.
أمس للمرة الاولى منذ سنتين، أستطيع أن أصلّي صلاة الجمعة بسلام، فوداعاً يا عزيزي “الإخواني”.
انهيار التواطؤ بين الجيش و”الإخوان“
كمال مدحت عنّارة
يروي الكاتب في هذه الشهادة الجزئية، بعضاً من وقائع الشراكة التي كانت معقودة ما بين “الإخوان المسلمين” والمؤسسة العسكرية المصرية وجهاز الشرطة. وهي وقائع كشفتها تجربته في إحدى المنظمات الحقوقية العاملة على إرساء العدالة الانتقالية في مصر ما بعد الثورة.
ها قد تفككت الأسطورة المؤسِّسة لفكرة “الإخوان المسلمين” عن أنفسهم في أنهم جماعة ثورية، قبل وصولهم الى السلطة، وبعده. هذا ما تكشّف عنه حكم الرئيس محمد مرسي المنحاز ضد أهداف الثورة المصرية، منذ أيامها الاولى. فكلامه عن أركان النظام السابق ليس أقل من مهزلة، ما دام “الإخوان” قد تحالفوا معه، ومعه تقاسموا سلطة أجهزته القمعية. أما حديثهم عن الفلول فلا يقل ابتذالاً عن انتسابهم الى الثورة وقواها. فالقرارات “الثورية” المزعومة للرئيس “الإخواني” لم تمس جهاز الشرطة ولا مؤسسة الجيش وجهاز المخابرات. الدليل الى ذلك، وزير الداخلية أحمد جمال الدين – وهو سفّاح برتبة لواء – الذي لم يعيّنه النائب العام عبد المجيد محمود وزيراً في حكومة مرسي. فجمال الدين من رجالات العادلي، وكان مديراً لأمن أسيوط في وقت اندلاع الثورة في 25 كانون الثاني 2011. وهو الذي سحل مرّاتٍ مرشد “الإخوان” في شوارع أسيوط في وقت اندلاع الثورة في 25 كانون الثاني نفسه 2011. اللواء محمد زكي الذي كان قائد وحدة المظلات، والمسؤول عن جرائم عدة ارتُكبت أثناء الثورة – وأسوأها مذبحة مجلس الوزراء التي سُحِلت فيها فتاة انتشرت صور سحلها عالمياً في حينه، وقُتل فيها ايضاً الشيخ الأزهري الشاب عماد عفت – هو من عيَّنه الرئيس مرسي قائداً لحرسه الجمهوري. الحال نفسها تطاول خالد غرابة الذي عذّب سيد بلال حتى الموت وقمع المتظاهرين ودهسهم في الاسكندرية يوم 28 كانون الثاني 2011، فعيِّن مساعداً لوزير داخلية الرئيس مرسي.
مجلس الشعب ذو الغالبية “الإخوانية”، وليس مجلس الشعب في عهد “الحزب الوطني” المباركي، هو الذي اتبع سياسة المماطلة في كل ما يتعلق بإعادة هيكلة وزارة الداخلية، وفي إجراءات العدالة الانتقالية. فأنا شخصياً عملتُ مدة طويلة مع المجلس “الإخواني” في إعداد قانون لتطهير وزارة الداخلية وتعديل قانون هيئة الشرطة. لكن الملفّين أُهملا طوال 3 أشهر أمضاها أعضاء المجلس “الإخواني” في تبادل القبل والنفاق مع وزير الداخلية ومساعده. التعديل الوحيد الذي جرى إمراره أخيراً هو قانون هيئة الشرطة، بعدما لم يبقَ منه سوى رفع الأجور والحوافز لضباط الشرطة وأفرادها.
أعضاء حكومة الرئيس مرسي “الثوريون” هم الذين كلما كنا نجتمع بهم لمناقشة وضع حدّ لآليات التعذيب والقتل العشوائي المستمرة داخل جهاز الشرطة، كانوا يقولون لنا إنها حالات فردية، أو يتظاهرون بالاندهاش كأنهم هولنديون. مثل هذه الردود كانت لسان حال أعضاء حكومات الرئيس مبارك المخلوع. قرارات الهيئة التأسيسية لصوغ الدستور “الإخواني”، هي التي وضعت البنود الخاصة بمجلس الدفاع الوطني، وحصّنت القوات المسلحة وحمت موازنتها من الرقابة البرلمانية، ترسيخاً لحكم العسكر ودولة الطوائف والمغانم. الجيش الذي تصالح وتحالف معه الرئيس مرسي، هو الذي احتل قبل شهر جزءاً من جزيرة القرصاية، وقتل رجلاً على الأقل من أبنائها أثناء اطلاق جنود النار على الأهالي كي يفرّوا هاربين في المياه، فيستولي الجيش على مساحات من أراضي الجزيرة، على ما تعوّد اللواءات في هذا الجيش. ولما اتصلت زميلة لنا بنائب الرئيس محمود مكي (الثوري المستقل المزعوم) كي يتدخل، صمت كمَن على رأسه الطير. وإذ تُلي عليه بيان المتحدث الرسمي بأن “قوات الاحتلال المحلية” للأراضي شرعية، بدعوى أنها “محور ارتكاز” عسكري، على ما كانت تقول بيانات القوات نفسها في عهد مبارك، تساءل مكي: ما هذا، البيان قال كده بجد؟! بعد ذلك لم يحدث أي تدخل، والجيش سرق الأرض وحاكم الأهالي الذين أطلق عليهم النار وفرّوا فنجوا من القتل.
وزير العدل في حكومة مرسي، أحمد مكي، هو صاحب الدور الرئيسي في كل محاولات خلق سلطوية جديدة محصنة بالتشريع. فقد سعى منذ توليه منصبه، الى إعادة العمل بقانون الطوارئ، كي تستعيد الشرطة دورها القمعي الإجرامي. وكلما حاولنا أن نعقد مؤتمراً أكاديمياً لإصلاح منظومة العدالة الجنائية بمشاركة وزارة العدل، كان الوزير نفسه يرفض استعمال كلمة إصلاح أو تطهير، ويطلب منا أن نطهّر أنفسنا من كراهية الشرطة، حرفياً. من تجربتي الشخصية واحتكاكي المباشر بالوزراء، يمكن أن أروي الكثير الكثير من أمثال هذه الوقائع، لأستنتج أن قرارات الرئيس المعزول المتعلقة بإعادة المحاكمات، جاءت خاوية من كل مضمون. فالنيابة العامة وجهاز الشرطة قامت بينهما علاقة تكافلية راسخة ومستمرة.
الحق أن ما يقوم به الناشطون في الحركة المدنية الثورية اليوم لا يتعدى تحسين شروط المعركة المقبلة. فهم لا يمتلكون رفاهية اختيار معاركهم. لكن الأكيد أن السلطة “الإخوانية” انهارت بعدما ظهر تغوّلها وانكشفت أكذوبة الإسلام السياسي ومشروع “الإخوان” السلطوي المحافظ والقائم على التضييق على أشكال المشاركة السياسية والديموقراطية الإجرائية. وهو في هذا لا يختلف عن المشروع الناصري إلا في كونه قليل الحيلة. لذا تمكنت الثورة من كسر آليات السيطرة “الإخوانية” التي أرادت وراثة الدولة الناصرية. أما ما يبعث الآن على الخوف فهو ارتباط وصول “الإخوان” الى السلطة بآليات الديموقراطية الهشة الوليدة، مما قد يتسبب بانتكاسة هذه الآليات. غير أن هذا يتحمل تبعاته “الإخوان” أنفسهم بعدما ابتذلوا الديموقراطية، معتبرين الانتخابات وصناديقها ادارة مبتذلة لتمكينهم من السلطة. وأظن أن السلطة المقبلة ما بعد 30 حزيران المنصرم، لن تنجح كذلك في تعزيز حكمها، لأن الشعب المصري ودّع انقياده المديد وإذعانه الى السلطة الجائرة، منذ ما قبل دولة يوليو الناصرية.
لكن لا شيء يدعو الآن الى الحزن ولا الى السعادة. فالناشطون المدنيون الثوريون دخلوا المعركة الأخيرة بلا يأس أو أمل، لأنها كانت معركة حتمية. لذا لا داعي الى الولولة واعتبار ما حصل انقلاباً عسكرياً. فمنذ البداية كنت أحدس بما حصل وأتوقعه. وكان انتقادي لحركة “تمرد” يتركز على أننا لا نقدم حلولاً بديلة، بل نقوم طوال سنتين ونصف السنة بخلق فراغ سياسي ليشغله غيرنا. وسوف نستمر على هذه الحال حتى نتمكن من أن نكون حركة اجتماعية لا تخشى السياسة ولا تخجل منها، الأمر الذي يبقي تحركنا حراكاً شعبياً ينجم عنه فراغ سياسي. لكن الكلام على انتكاسة للديموقراطية يجب ألا يكون مخيفاً ايضاً، لأن الديموقراطية لم تكن موجودة أو قائمة أصلاً. فحكم “الإخوان” كان أبعد ما يكون من الديموقراطية. الفرق بين تجربتهم في الحكم وتجربة الحكم الديكتاتوري المباركي، يكمن في مقدرة الحركة المدنية والشعبية على أن تفرض عليهم ما فرضته، من دون أن يتمكنوا من قمعها ومقاومتها. توخياً للدقة أقول إن ثقافة الناس في التعاطي مع فكرة الحكم الديموقراطي لا تزال ضعيفة. السبب في هذا أننا سمحنا لـ”الإخوان” بأن يسمّوا ما قاموا به ديموقراطية، أو ديموقراطية جزئية غير مكتملة أو ناضجة لمجرد فوز ديكتاتور أبله في الانتخابات. لذا علينا أن نتعلم أن نسمّي الأشياء بأسمائها، ودون ذلك جولات مستقبلية كثيرة، نخوضها بلا يأس ولا أمل.
طبيعة المسؤولية الأميركية في الأحداث الأخيرة
حسن منيمنة
فيما تُوجَّه أصابع الاتهام إلى واشنطن من كل صوب، حول ضلوعها إما في تنصيب «الإخوان المسلمين» في البدء أو في إسقاطهم لاحقاً، أو في هذه وتلك معاً، تنصّل واشنطن من المسؤولية، بناء على التضارب الواضح في الاتهامات، بالتالي جزافيتها وافتقارها إلى المعقولية والدليل، ليس في محله. فالمسؤولية الأميركية في ما يجري في مصر كبيرة، وإن كانت مختلفة بعض الشيء عمّا يجري تصويره عموماً.
سقط في تونس، في إطار الثورة التي أزاحت السلطوية عام ٢٠١١، عشرات من الشهداء. وسقط مئات في ثورة مصر التي جاءت في أعقاب الثورة التونسية… وفي حين تداخلت المواجهات في اليمن وتعددت، فشهداء اليمن لم يتجاوزوا مئات كذلك، فيما عشرات الآلاف سقطوا في ليبيا، ونزيف الثورة السورية تجاوز المئة ألف. وفي حين تُستدعى الاعتبارات المحلية، وهي طبعاً ذات أهمية، لتفسير التباين بين ليبيا وسورية من جهة وسائر التحولات التي شهدت مواجهات في المنطقة من جهة أخرى، لا يمكن إهمال واقع أن الجيوش التي أظهرت مقداراً من الانضباط في التعامل مع شعوبها كانت على ارتباط بالمؤسسة العسكرية الأميركية.
وهذا الانضباط النسبي، وما نتج عنه من تقليص الخسائر في صفوف المدنيين، ناجمان عن عاملين، أحدهما المبادئ العسكرية الأميركية والتي طُبِّقت بنسب متفاوتة في المناهج العسكرية للدول المتآلفة والداعية إلى حماية المدنيين كأولوية ثانية (حماية القوة المسلحة هي الأولوية الأولى)، فيما الآخر هو الحاجة إلى استمرار الدعم من الجانب الأميركي، وهذا مشروط بالرقابة المدنية الأميركية الملتزمة بقطع العون في حال ارتُكبَت تجاوزات. ويمكن من باب الاعتراض على التشخيص حول العامل الأول الإشارة إلى ما يبدو استهتاراً أميركياً بواحاً بحياة المدنيين، في إطار القصف الذي يستهدف أعضاء المنظمات الموسومة بالإرهابية، والذي حصد ولا يزال أعداداً متعاظمة من المدنيين في باكستان وغيرها من الدول. ولكن، لا تناقض هنا، فالمبادئ العسكرية الأميركية التي تقضي بأولوية الحفاظ على أرواح المدنيين لا تشمل تلقائياً مواطني الدول الأخرى.
على أي حال، فالتدريب العسكري وفق البرامج الأميركية والذي تلقته الجهات العسكرية من رتب مختلفة في الدول المتآلفة مع الولايات المتحدة، يدفع باتجاه حماية المواطن، فيما يتبدى بوضوح أن هيبة الدولة وسطوة الحاكم هما الهدف من تطبيق القوة العسكرية في الحالة السورية مثلاً، من دون أن يكون لحياة المواطن وكرامته موقع الأولوية.
والمؤسسة العسكرية المصرية تحديداً، وإن كانت استفادت من الرصيد النظري الأميركي في تطوير مناهجها (على خلاف سائر الأجهزة الأمنية في مصر التي بقيت علاقتها بالمواطن قائمة فعلياً على القهر)، فإن اعتناءها الأساسي في علاقتها مع الولايات المتحدة هو في الحفاظ على أطر التعاون والدعم. وتمكنت هذه المؤسسة المصرية، انطلاقاً من أسس سابقة لعلاقتها بالولايات المتحدة جرى تعزيزها وتفعيلها بفعل هذه العلاقة، من تشكيل هيكلية اقتصادية موازية على مقدار من التميّز عن المؤسسات المدنية، ما أتاح لها تلقائياً هامشاً واسعاً من استقلال القرار. فالحاصل العام لتأثير الولايات المتحدة على الترتيب البنيوي المصري (بل هو ينسحب على كل حالات الدول المتآلفة)، هو تعديل للعلاقة بين المؤسسة العسكرية والسلطة السياسية تجاوزاً لتبعية الأولى للثانية نظرياً باتجاه مقدار من الاستقلالية ومقدار من الاستجابة للتأثير الأميركي. وفي حين ينطوي الترتيب البنيوي المهجّن والمستجد على مخاطر واضحة من حيث انفصام السلطة، بل تمكين سلطوية عسكرية (وهو ما حاصل فعلاً في باكستان اليوم، وكان إلى أمد قريب مرضاً مزمناً في تركيا)، فالتبرير لدى الجـهات الـمعنـية بـمتابعة المسألة أميركياً كان أن هذا الترتيب يسمح بـعدم زجّ المؤسسـة العسـكرية بمـفاسـد كـما جـرى فـي ليـبـيا ويـجري في ســوريـة، ثم إن الحالة التركية تكشف أنه ترتيـب بنـيـوي موقـت قابل للتجاوز مع استقرار العملية السياسية.
فهذا الترتيب المهجّن يستعيض عن أحادية مرجعية السلطة الوطنية السياسية، وهي إما قاصرة وإما فاسدة، بموازنة ثلاث مرجعيات، تبقى السلطة الوطنية مبدئياً أولاها، وتضاف إليها التركيبة المؤسساتية بمصالحها الذاتية، والمرجعية الخارجية المفيدة، المتمثلة بالولايات المتحدة، لا سيما مؤسستها العسكرية. ولا بد هنا من التشديد على أن قدرة هذه المرجعية الثالثة على التأثير محدودة، إذ أن المؤسسة العسكرية المصرية كيان سيادي، فالتأثير المذكور هو في واقع الأمر تأثّر طوعي، وليس تبعية وفق المصطلح الذي يستحضره الراغبون في الطعن. فالمسألة في نهاية المطاف مقايضة وتبادل: طرف يوفر الدعم والخبرة، وطرف يضمن الاستقرار بما يضمن مصلحة الطرفين معاً.
إذاً، لماذا تتخلى الولايات المتحدة عن قدرتها على التأثير، وإن تضاءلت؟ ما جرى من مطالبة برحيل الرئيس محمد مرسي قد يكون بالفعل، مصرياً، استعادة للمشروعية الثورية في مرحلة انتقالية لم تنتهِ، لكن فعل العزل بقرار من المؤسسة العسكرية هو انقلاب، وإن جاء استجابة للإرادة الشعبية. وتوصيف الفعل بالانقلاب لا يقف منه تلقائياً موقفاً عدائياً، بل يشير إلى أوجه التباسه، ويحافظ أميركياً على هذه القدرة المحدودة على التأثير.
الرئيس الأميركي باراك أوباما وجّه فريقه إلى عدم استعمال وصف الانقلاب، في سعي مفترض لعدم الانحياز الى طرف أو آخر. بل أن أوباما، وفي سقطة جديدة تضاف إلى سلسلة متواصلة من السقطات، فرّط بالصدقية الأميركية، حين جعل المصطلح ومن خلفه المبدأ محكومَيْن بالمصلحة العابرة، وبدد القدرة الأميركية على التأثير حين أوحى للمؤسسة العسكرية المصرية بأن لا عواقب أميركية لأفعالها. هنا، وليس في مؤامرات لا طاقة للولايات المتحدة على اجتراحها، تكمن مسؤولية أميركية عظيمة في الشأن المصري.
الحياة
مصر على مفرق طرق
نهلة الشهال
… ومعها، تقف كل المنطقة على المفرق ذاته. فإما إلى الخراب، المزيد منه، بصرف النظر عن الحيثيات والمبررات، وإما اختطاط الصفحة الجديدة المأمولة، ولو بتلمس وتأتأة. وقد يقال ان تلك ليست خيارات، بالمعنى الإرادي والذاتي، وإنما الاتجاه في أحد المسارين تقرره قوة دفع العوامل الكبرى، أو المعطيات كما هي قائمة. صحيح، ولكن…
وبداية، لا يوجد وقوف أبدي على المفرق، ولا حتى طويل الأمد. فالأمر ملح، وربما يتقرر خلال أيام، وفق ما ستكون عليه مجموعة عناصر أساسية تتحرك اليوم: أولاً، ماذا عن وجود مجموعات مسلحة «غامضة»، تارة تقتل كاهناً، وتارة أخرى ضابطاً وجنوداً، وهي في فورة وازدهار حتى أصبحت ارتكاباتها أحداثاً وليس حوادث. قيل إنها محصورة في شبه جزيرة سيناء، تحديداً في مناطق رفح والعريش وسيدي زويد، حيث تختلط المجموعات القبلية المتذمرة من الإهمال التاريخي لها (والاضطهاد)، بمجموعات من مهرّبي كل «الأصناف»، وبـ «القاعدة»، وهو الاسم المختصر للحالة… ولكن يظهر قناصة ومسلحون هنا وهناك، في القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية وغيرها، بعضهم يبدو أنه أطلق النار من فوق رؤوس المعتصمين في ميدان رابعة العدوية مطلع الأسبوع الفائت، مستدرجاً رداً نارياً مكثفاً من قوات الجيش أو الشرطة باتجاه الناس، أوقع مجزرة بشعة!
ليس من مصلحة جماعة «الإخوان المسلمين»، حتى في عز ارتباكها أو حنَقها الحاليين، توفير غطاء أو حضن لتلك المجموعات المستعيدة نشاطها، والتي تؤمن بنظرية «إن لم تخرب فلن تعمر»، وبأفكار يقال فيها إنها «جهادية». أما ضد ماذا ومن أجل مَنْ، فالله أعلم.
ثانياً، عدنا إلى الإعلانات الدستورية! وهي هنا، إن لم تكن موصوفة بـ «مُلزِمة» وفق نعت مرسي لإعلانه (هل من إعلان دستوري غير ملزم، أي: يطبق بمزاج مثلاً؟)، فهي لا تقل عجلة وسوء صياغة عن سالفتها. ما معنى «المصادر الكليّة للشرع»، ومن هم «أهل السنّة والجماعة» تحديداً، وكيف يستقيم الأمر مع إزاحة سلطة الأزهر التفسيرية؟ وفي هذه الحالة، هل القضاة هـم المفـسـرون للدين، أم جماعة حزب النور السلفية التي ارتضت أن تحضر المشهد الحالي ليتوازن، فلا يغيب عنه المكون الإسلامي، لكنها كما يبدو تقدّر القيمة الثمينة لاشتراكها فيه وتبتز، وتنوي بيع موقفها بثمن غال، إذ يدغدغ أحلامها أن ترث فضاء «الإخوان»، قائلة في كل مقام إنها حارس الشرع.
يا سلام! من المعلوم مقدار تغلغل «الأجهزة» في صلب التيارات السلفية المصرية، لكن ذلك لا يمثل ضمانة بحال، كما يظن بخفة من يستعجل محو «الإخوان» من الوجود بأي ثمن (ليدفع ثمناً مضاعفاً غداً!). فالتيار الإسلامي قائم حقاً وكبير (جداً! بالإذن ممن يرون أنهم في 3 تموز-يوليو تخلّصوا منه بكل بساطة)، ومن الأجدر بمن يريد هندسة المشهد أن يخطب ود من يمكنه حقاً أن يمثل ذلك التيار في ضمائر الناس المتأثرين به، فيسعى إلى تمثيلهم عبر شخصيات أصيلة، وفي الوقت ذاته عاقلة وتمتلك إدراكاً وطنياً عاماً، كالدكتور عبد المنعم أبو الفتوح وسواه، ممن خبِرهم الشعب المصري طويلاً، ويعرف أنهم ليسوا مجرد أقنعة وأوراق توت، وأن ما يبطنون هو ما يعلنون، وأن محركاتهم سياسية ووطنية.
ثالثاً، هل نرمي الأقباط إلى حضن اليأس مجدداً، نأتي بهم في مشهد 3 تموز كديكور، ثم نقول لهم «آسفين»، ذميين كنتم وستبقون؟ لا بد من إيجاد أرضية وطنية عامة يقف فوقها الجميع، ويرون فيها ما هو أساسي من صورتهم، ويرتضونها لأنفسهم بحق وليس على مضض. وهذا اسمه التوافق الوطني، وهو لا يتحقق بـ «دوزنة» عالِمة للمكونات (يا لبشاعة التعبير!)، بل بتوفير إحساس عام بأن البلد يتيح حاضراً وأفقاً مستقبلياً للجميع، وأنهم فيه أصحاب حقوق غير منقوصة بأي شكل من الأشكال، ولأي حجة.
رابعاً- ولعلها يجب أن تكون أولاً- من الخطير تصوير الصراع كأنه يدور فحسب على العملية السياسية، بما هي ترتيبات الحكم. فالتصورات العامة حول معيشة الناس، حقهم في العمل والخبز والتعليم، والطبابة والنقل، والسكن… حقهم في الأمان والعدل، وصون كرامتهم تحت أي ظرف، حقهم في الرفاه والراحة، وفي أم كلثوم (جديدة!) في فرقة رضا (جديدة)… هو الأصل، ذلك كله ومعاً، وليس الانشغال بترتيبات ميكروسكوبية لمعادلات السلطة. وحسناً فعل «الاتحاد العالمي للنقابات» إذ أصدر بياناً حول «الملايين من فقراء مصر»، ذكّر فيه بالحقوق الاجتماعية والمعيشية للناس، وقال إن «الرأسمالية العالمية المستغلة، وإسرائيل» هما المستفيدان من انزلاق الوضع إلى ما هو عليه… حتى لا يبقى المصرِّحون المعتمدون هم فحسب وزراء خارجية الدول الكبرى! شعار «خبز وحرية وكرامة اجتماعية» هو الأصل، ولا يحق لأحد نسيانه، ليس وفاء للثورة المدهشة التي تمكنت من إزاحة حكم مبارك، بل لأنه الشعار الذي يوفر رضا الناس ويطابق طموحاتهم، أي أنه يمثّل محركهم الأساس، وعليه يلتقي الجميع (ما عدا القلة القليلة المستغلِة).
مفرق الطرق ذاك لا يرحم. فلا يمكن بعد حين الندم على ولوج طريق الخراب، غفلةً أو جهلاً أو استخفافاً أو كيداً أو قصوراً… والعودة عنه. انظروا ما جرى ويجري في سورية، حيث لا ينفع أن يقال كان ينبغي الحذر من الانزلاق إلى كذا وكيت. لا ينفع! وليست الساحة حرة وليس الخيار هيّناً. ففي المجال قوى وسلطات تخطط وتتدبر، وتدفع باتجاه مصالحها. لكننا، وبما أننا إزاء لحظة تاريخية، فأضعف الإيمان القول. ومَنْ يقول اليوم المطلوب باستقامة، ويبلوره ويدافع عنه، سيفاجَأ بسطوة ما يقول، لأن الأرض متعطشة بعد كل العبَث وكل القرف الذي شهدته، ولأن من خاصيات اللحظات التاريخية أنها تتمكن من المعجزات، متجاوزة ضرورات معلومة ومكرورة ببلادة (عن التنظيم الجيد، والبرنامج الواضح، والتحالفات… الخ). ولا بد من لفت الانتباه إلى ظواهر تحمل الأمل في هذا الاتجاه: انظروا مثلاً في البيان المشترك الذي أصدرته بعد يوم على مجزرة رابعة العدوية، خمس عشرة هيئة حقوقية مصرية، كلها أثبتت في الماضي جدارتها، والمعنون: «قبل أن تنزلق البلاد إلى دائرة عـنـف لا تـنـتـهي». عـسـى يغلب هذا الاحتمال على ذاك!
الحياة
مرسي فشل في استثمار انتصاره الانتخابي فسقط
حسن السوسي
الحديث عن النصر وعن الهزيمة، في إحدى المعارك السياسية أو العسكرية، ليس عبارة عن كلام إنشائي يدبجه المتحدث عنهما كيفما شاء، وكيفما اتفق، من دون ضوابط موضوعية مادية ومنطقية وفي كل زمان ومكان… بل هو تعبير عن واقعين ملموسين، في الحالتين معاً، تتحكم بصنعهما عوامل كثيرة، بعضها ذاتي وبعضها موضوعي، وتدل عليهما علامات لا تخطئ وتترتب عليهما نتائج ومضاعفات تفرض على المنتصر والمهزوم التعامل معها وفق إكراهاتها ومنطقها هي، وليس كما شاء التعامل معها وفق إرادة مطلقة مزعومة.
ولأن الانتصار والهزيمة مفهومان يخضعان لقانون النسبية الذي يتحكم بكل ظواهر الواقع الإنساني، فإن استحضار الظروف المادية والمعنوية التي يندرج فيها الحديث عن الانتصار والهزيمة والنجاح والفشل، أمر يساعد على عدم التحامل على الواقع ومحاولة تطويعه ليتلاءم مع تصورات المتحدث الإيديولوجية المسبقة.
من هذا المنطلق النسبي، ليس كل انتصار تكتيكي انتصاراً استراتيجياً وليست كل هزيمة تكتيكية عنواناً للهزيمة الاستراتيجية، إذ كثيراً ما يكون عدم استثمار ظرف الانتصار مدخلاً لحصاد الهزيمة النهائية، تماماً مثلما أن استخلاص دروس الهزيمة التكتيكية قد يكون سبباً في كسب المعركة الإستراتيجية والانتصار على الأعداء. وهذا يعني أن كلاً من تلك الحالات تظل على الدوام جزئية وموقتة ويمكن في حالات بعينها أن تنقلب إلى ضدها على كل المستويات بحيث يكون الانتصار الجزئي التكتيكي مدخلاً إلى الهزيمة الإستراتيجية الماحقة أو تنقلب الهزيمة التكتيكية، على العكس من ذلك، إلى العمل المؤسس للانتصار المحقق. وهذا ما يضفي على المعارك السياسية والعسكرية ديناميكيتها المتواصلة بتواصل فصولها وتداخلها في كثير من الأحيان. لنضرب لهذه المسألة مثلاً بكيفية تعاطي حزب الحرية والعدالة الذي أسسه «الإخوان المسلمون» في مصر، في معرض خوض العراك السياسي بعد خلع الرئيس حسني مبارك. فهو بليغ في خصوص ما نرمي إلى البرهنة عليه في هذا المستوى من التحليل، ونكتفي هنا بالإشارة إلى مسائل دالة في هذا المضمار.
لقد خاض «إخوان» مصر معركة سياسية كبيرة من دون أن تتوافر لهم عوامل النجاح فيها، كتنظيم مستقل. بل كان عليهم منذ البداية اعتماد وسائل (وهي هنا أصوات) غيرهم من القوى السياسية المصرية التي لا تشاطرهم الرأي، إلا على هذا المستوى البسيط الذي مثّله الوقوف في وجه الفريق احمد شفيق في الانتخابات الرئاسية مخافة فتح الباب أمام أي عودة محتملة للحزب الوطني، أو ما تم نعته آنذاك بفلول نظام مبارك.
«الإخوان» لم يؤدوا الدور الرئيس في حركة ٢٥ يناير بل كانوا يراهنون على التوصل إلى حل من خلال المفاوضات مع اللواء عمر سليمان، في الوقت الذي قاطعت القوى الأساسية في الثورة الحوار الذي نادى به نائب رئيس الجمهورية السابق لأنها لم تكن ترى أي بديل عن تحقيق مطلب تنحي مبارك ورحيل نظام الحزب الوطني.
قال «الإخوان» في البداية إنهم لن يترشحوا للرئاسة لاقتناعهم بأنهم سيحصدون الغالبية في البرلمان ومجلس الشورى، مخافة أن يتهمهم بعضهم بالرغبة في الاستحواذ على السلطة والتحكم بكل مفاصلها. غير أنهم ترشحوا خلافاً لما هو منتظر وما وعدوا به الشعب المصري علناً بلا مواربة، الأمر الذي أثار الشكوك في نياتهم الحقيقية، وهو ما أدى أيضاً إلى انشقاق احد قادتهم الأساسيين، الدكتور كمال الهلباوي، ولهذا السبب بالذات.
وعندما قدم «الإخوان» محمد مرسي مرشحاً، كان ذلك على سبيل الاحتياط، لأن الأهلية القانونية والسياسية لمرشحهم الأساسي خيرت الشاطر مطعون فيها.
تعاقدوا مع قوى الثورة في الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية لضمان الفوز في مواجهة الفريق أحمد شفيق، إلا أنهم لم يلتزموا تعهداتهم، بعدما أُعلِن فوزهم فاستفردوا بالسلطة ودخلوا في عملية «أخونة» لمؤسسات الدولة تعدّ سابقة في اريخ مصر.
فكر «الإخوان» في الاستحواذ على كل مغانم المعركة قبل التفكير في العمل على كيفية استتباب فوزهم، ففرّطوا بكل ما يشكل حماية لاستسهالهم النصر ربما، أو لاستخفافهم بقوة خصومهم السياسيين وإلغائهم من معادلات الصراع.
استعدى «الإخوان» القضاء الدستوري وهو قضاء عريق في مصر، كما استعدوا القضاء والعدالة بوجه عام، خصوصاً بالإعلان الدستوري الذي أراد به مرسي وضع نفسه فوق كل المؤسسات التي عليها أن تظل تحت رحمته، في سير عملها وفي أحكامها.
فماذا يعني كل هذا؟ يعني بكل بساطة أن «الإخوان» لم يستثمروا انتصارهم التكتيكي بالطريقة المثلى المتاحة، فحصدوا الفشل في المواجهة الحاسمة مع قوى الثورة ومع المجتمع المصري الذي استعاد المبادرة فنزل إلى الشارع لإملاء قراره على حكم المرشد الذي يسيّر محمد مرسي كما يشاء، وفي الوقت الذي يشاء.
كان يمكن تحويل الانتصار التكتيكي الذي تحقق بانتخاب مرسي رئيساً، إلى انتصار استراتيجي، لو التزم مرسي مفردات التوافقات التي تحققت بين جماعته وقوى الثورة، على مستوى إقامة شراكة حقيقية وبناء مؤسسات تلك الشراكة في البرلمان ومجلس الشورى، في الحكومة والهيئات التنفيذية المرتبطة بها. غير أنه لم يفعل بل أتى من الآثام السياسية ما سرّع فقدانه الشرعية وزمام المبادرة، فكشف عورات مشروع غير سوي لتنظيم «الإخوان»، وحطم أسطورة إمكانية ممارستهم السياسة كغيرهم من الأحزاب. وهم ليسوا في الواقع كغيرهم من الأحزاب السياسية التي يفترض فيها أن تؤمن أول ما تؤمن بالتعددية السياسية التي سمحت لها بالوجود، وتلتزم الديموقراطية التي قد تمنحها مكانة وازنة في قمة السلطة، كما قد تعيدها وفق إجراءاتها الخاصة إلى مقاعد المعارضة في المؤسسات الدستورية.
إطاحة الاخوان خلطت الأوراق الاقليمية انعكاسات على المحيط مع تقدّم الدور السعودي
روزانا بومنصف
كشف الاستياء الذي استمر رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان في التعبير عنه لإطاحة حكم محمد مرسي في مصر وانتقاده الغرب في ادانة وتسمية ما حصل بـ”الانقلاب العسكري” خلط اوراق كبيرا حصل في المنطقة مع الثورة المصرية الثانية لمصلحة محور تحتل المملكة العربية السعودية الصدارة فيه على حساب كل اللاعبين الآخرين العرب والاقليميين. وجاء ضخ مبلغ 12 مليار دولار خلال يومين لمصلحة التغيير في مصر من السعودية والامارات العربية والكويت بحجم الرهانات على انجاح التغيير الحاصل ودعمه في مقابل تراجع الدور التركي وامكان انعكاس التحول المصري على حكم اردوغان خصوصا مع التغيير الذي حصل في السلطة في قطر فضلا عن استياء ايران من الانقلاب على حكم الاخوان الذي اعاد فتح ابواب مصر امام طهران بعد انقطاع دام ثلاثة عقود وكسر حلقة التضييق على ايران نتيجة تدخلاتها في دول المنطقة مما اثار خشية من الا يساعد حكم الاخوان في مصر على ردع ايران ومنع تمددها في دول المنطقة. وكانت مفارقة كبيرة في هذا الاطار ان تستاء طهران من الانقلاب على حكم مرسي فيما يهلل لذلك النظام السوري الذي كان داعما لعقود لسيطرة الاخوان عبر حركة “حماس” على الفلسطينيين ومحاولة الاستئثار بالسلطة الفلسطينية ووجد في سقوط حكم الاخوان في مصر سقوطا للاسلام السياسي بما يصب في مصلحته المباشرة.
والاسئلة التي يثيرها خلط الاوراق الاقليمية الحاصل عبر مصر هو مدى انعكاسها على سائر الاوضاع في المنطقة باعتبار ان قلب الطاولة في مصر مركز الاستقرار في الشرق الاوسط يفترض ان يطاول اوضاعا اخرى ساهمت فيها او عززتها سيطرة الاخوان على السلطة في مصر فتحسس المحور الداعم لها مخاطر لم يستطع اخفاءها من حركة “حماس” الى تركيا فايران وتونس وسوريا وصولا الى بعض التنظيمات في لبنان. ذلك ان التباين الاقليمي الكبير او الصراع بالاحرى لم يقتصر على مصر بل كانت قمته، كما تقول مصادر ديبلوماسية معنية في عملية تكليف رئيس حكومة انتقالية من الائتلاف المعارض السوري. فترجم الانقلاب الاقليمي الذي حصل في تقديم رئيس الحكومة الانتقالية غسان هيتو استقالته من منصبه قبل ايام قليلة على نحو لا تعزله هذه المصادر عن امساك المملكة السعودية بالاوراق الاقليمية واستحواذها على الدور الابرز عربيا الذي لا يمكن ان تناهضها به اي دولة اخرى مع الثورات المتفجرة في مصر والحرب الداخلية في سوريا وتراجع ادوار دول اخرى خليجية. والسؤال يسري على واقع ان التباين في الخطوط الاقليمية لم يبدأ مع مصر بل من ليبيا حيث دعم افرقاء اقليميون الاصوليين فيها لاعتبارات مختلفة قد لا يكون من بينها الحرص على فوزهم بمقدار الحرص على اعتبارات مهمة جدا ولكن ثانوية في الحسابات الكبرى. وانتقل هذا التباين الى مصر بعد وصول الإخوان المسلمين الى السلطة. فدعمت كل من تركيا وقطر الإخوان بمبالغ تخطت 10 مليار دولار على حساب باقي المعارضة عبر استثمارات كبيرة ومساعدات مالية فورية في مقابل دعم المملكة السعودية الحركات الاخرى ومعهم بعض الإسلاميين من اجل التصدي للرئيس مرسي وعدم ترك الاخوان المسلمين يستأثرون بكامل السلطة. وثمة من يشير الى استقالات شهدتها احدى المحطات التلفزيونية العربية نتيجة دعمها الاخوان المسلمين على نحو يجانب حقيقة ما يجري في مقابل الدعم الاعلامي للمعارضة لحكم الاخوان في محطات عربية مهمة ايضا.
وبحسب المصادر نفسها فان التباين كان قائما في شأن الموضوع الفلسطيني ورعاية “حماس” وتشجيعها وهي فصيل من الإخوان المسلمين في مصرعلما ان الحركة تسببت، وكانت لا تزال برعاية ايرانية ومن النظام السوري، بخلاف حاد مع المملكة العربية السعودية عن اتفاق المصالحة بينها وبين حركة فتح، الذي تولى رعايته الملك السعودي. وعاد فسرى هذا التباين على سوريا بعد انطلاق الثورة الشعبية ضد حكم الرئيس بشار الاسد. فكان هناك دعم اقليمي لحركة الاخوان المسلمين كونهم جزءا لا يتجزأ من تنظيم الاخوان المنتشر في مصر وسوريا والاردن وفلسطين وحتى تركيا والذي استفادت منه تنظيمات استطاعت تعزيز حضورها من المساعدات التي قدمت في مقابل الدعم السعودي ودعم دول اخرى للثورة عبر دعم الجيش السوري الحر.
وفي الاطار نفسه تتطلع المصادر المعنية الى لبنان لرصد ما اذا كان خلط الاوراق الاقليمية سينعكس عليه خصوصا ان المملكة العربية السعودية عادت بعد استقالة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي تبرز حضورا وانخراطا اكبر في الشأن اللبناني من العامين الماضيين على نحو سابق او استباقي لمرحلة الامساك السعودي باوراق اقليمية عدة خصوصا ان التباين الاقليمي ساهم في بروز تنظيمات او تعزيز اخرى حضورها على حساب الاعتدال السني واستكمالا للدعم الذي كانت تتلقاه تنظيمات مماثلة من ضمن الثورة السورية. في حين يصيب ما لحق بالاخوان في مصر بعض التنظيمات التي يعتقد انها كانت تستفيد من التباين الاقليمي.
النهار
الإطاحة بمرسي: المسارات والمآلات المحتملة
مركز الجزيرة للدراسات
مساء الأربعاء، الثالث من يوليو/تموز 2013، وبعد فترة وجيزة عن موعد إنذار الـ 48 ساعة الذي كان وجهه للقوى السياسية بالتوافق، ظهر وزير الدفاع المصري الفريق عبد الفتاح السيسي، القائد العام للقوات المسلحة، ليعلن الإطاحة بالرئيس المنتخب، د. محمد مرسي. حرص السيسي على أن يحاط في ظهوره بشيخ الأزهر وبابا الأقباط، كما بممثل جبهة الإنقاذ محمد البرادعي، واثنين من حركة تمرد، ورئيس حزب النور السلفي؛ ليعطي الانطباع بأن إعلانه عن الإطاحة بالرئيس وتعطيل العمل بالدستور هو تعبير عن الإرادة الشعبية واستجابة لمطالب المتظاهرين ضد الرئيس. ولكن قرار الإطاحة بكل ملابساته يواجه معضلة افتقاد أي أساس قانوني أو دستوري.
هذه قراءة لعملية الانتقال الجديدة للسلطة في مصر، ومأزق إسباغ مسحة من الشرعية عليها، واحتمالات نجاحها، والعقبات التي تواجهها.
الطريق إلى الإطاحة
ليس ثمة شك في أن مرسي ارتكب أخطاء في إدارته لشؤون البلاد، وأن بين هذه الأخطاء ما وفر مادة لخصومه. ولكن المؤكد أن ليس بين هذه الأخطاء فرض برنامج إسلامي على البلاد، ولا أخونة الدولة. مسألة الأسلمة لم تكن محل جدل ملموس في الطريق إلى الإطاحة، وقد اتضح بعد أن تكاتف جهاز الدولة بأكمله ضد الرئيس أن اتهامات الأخونة كانت مجرد دعاية سياسية.
ولكن، وإلى جانب خطوات سياسية غير محسوبة جيدًا، مثل إعلان نوفمبر/تشرين الثاني 2012 الدستوري، ارتكب مرسي خطأين رئيسيين:
الأول: كانت ثقته المفرطة في قيادة الجيش الجديدة، التي عينها هو بعد إنهاء ازدواجية السلطة والتغلب على قيادة المجلس الأعلى للقوات المسلحة في أغسطس/آب 2012.
الثاني: كان تردده في إجراء تطهير عميق ومبكر لجهاز الدولة، عندما كانت شعبيته قوية. تجلت نتيجة هذين الخطأين في عجز إدارة مرسي وحكومته عن مواجهة سلسلة من الأزمات المعيشية، أدت إلى تصاعد وتيرة الامتعاض في صفوف قطاعات متزايدة من المصريين، الذين وقعوا بين مطرقة إعلام معادٍ للرئيس بشراسة غير مسبوقة، وسندان صعوبات الحياة المتزايدة.
التحول في موقف هذه القطاعات من الرئيس، كان هو المؤشر الخطر على تأزم وضع الرئيس والبلاد، بالرغم من الجدل حول حجم هذه القطاعات في احتجاجات 30 يونيو/حزيران 2013. الشرائح الأخرى، مثل أنصار النظام السابق، والأقباط، وغلاة المعارضين لأية مشاركة إسلامية في السلطة، لم يكن هناك طريقة لكسبها، بغض النظر عن إخفاقات أو نجاحات إدارة مرسي.
هذا على مستوى تداعي الأحداث، ولكن خلف الإطاحة ثمة سبب أكبر وأعمق، يعود إلى العلاقة الخاصة بين الجيش والدولة، التي لم تأخذ صيغة دستورية قط، ولا تجلت في نمط واحد منذ ولادة الجمهورية. ما عرفته مصر طوال الستين عامًا الماضية، وبغض النظر عن التقلبات، أن الجيش ظل شريكًا في الحكم وإن لم يستلم مسؤولية إدارة عملية الحكم. وربما يُعزى تحول موقف الجيش من نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك في سنواته الأخيرة إلى أن قياداته استشعرت وجود توجهات جادة لتوريث الحكم من الرئيس السابق إلى ابنه، بما يهدد موقع ودور القوات المسلحة في تقرير وجهة البلاد.
مرسي، بالطبع، كان يدرك هذه السمة الراسخة في نظام الجمهورية، ولكنه اعتقد، ربما، أن مكاسب الثورة الشعبية ومطالبها، من ناحية، ونجاحه في التغلب على المجلس العسكري، من ناحية أخرى، منحته شرعية كافية، ووفرت مناخًا مواتيًا، لبناء دولة مدنية وإعادة الجيش بصورة نهائية إلى مهماته الدفاعية. والملاحظ، أن الاعتبارات التي سردها الفريق السيسي، في كلمته مساء 3 يوليو/تموز 2013، كأسباب للاختلاف مع الرئيس مرسي، تنصبّ جميعًا على رفضه سعي القيادة العسكرية إلى لعب دور سياسي يتمثل في طلبها منه تنفيذ بعض الاجراءات التي تعد بنظر القادة العسكريين ضرورية من أجل امتصاص حالة الاحتقان المتزايدة.
البحث عن الغطاء الشرعي
ليس من الواضح الآن إن كانت القيادة العامة للقوات المسلحة اتخذت قرارًا مبكرًا بضرورة إحداث تغيير سياسي ما في البلاد، ولكن الواضح أن قيادة الجيش تدحرجت نحو قرار الإطاحة بإرادتها وبغير إرادتها. ما قامت به قيادة القوات المسلحة في مساء 3 يوليو/تموز هو خطوة غير مسبوقة في تاريخ البلاد، بما في ذلك حدث الانقلاب المؤسس للجمهورية في 1952. بمعنى أن كل تغيير شهدته مصر في نظام الحكم، بما في ذلك تنحي الملك فاروق في 1952، والتحول إلى النظام الجمهوري في العام التالي، وتنحي الرئيس جمال عبد الناصر وعودته للرئاسة في يونيو/حزيران 1967، وتنحي حسني مبارك وتولي المجلس العسكري السلطة في فبراير/شباط 2011، تم تحت غطاء قانوني ما، بغض النظر عن صلابة أو هشاشة هذا الغطاء.
هذه المرة، لم يتوفر مثل هذا الغطاء، بأية صورة من الصور. وما بات معروفًا الآن أن جهودًا بُذلت من القائد العام للقوات المسلحة، ووزير خارجية دولة عربية، والسفيرة الأميركية، عملت في الساعات الأخيرة قبل إعلان الإطاحة على إقناع مرسي بقبول أن يبقى في منصبه بصورة رمزية حتى نهاية فترته، على أن يقبل بتعيين رئيس جديد للحكومة تتفق عليه المعارضة وقيادة الجيش، يقوم بإدارة شؤون الحكم. لو ارتضى مرسى هذا العرض، لكان تغيير فعلي قد وقع في نظام الحكم، وبصورة قانونية وغطاء شرعي. ولكن مرسي، الذي اعتقد دائمًا بأنه موكّل من الشعب لحماية الدستور والدولة، رأى في الصفقة تخليًا عن واجباته كرئيس، فرفض العرض. وكان هذا الموقف هو ما أسس لمأزق الإطاحة الأول: أنه لم يستطع أن يتحلى بأية غلالة من الشرعية أو السند القانوني.
موقف سائل
تشير كل الدلائل إلى أن قيادة الجيش وقيادات جبهة الإنقاذ التي ساندت عملية الإطاحة لم تتوقع أية ردود فعل كبيرة. روَّجت وسائل الإعلام المصرية، بما في ذلك الإعلام الرسمي، لأن البلاد تشهد ثورة عارمة ضد مرسي واستمراره في الحكم، ولم ترَ، أو لم تكن تريد أن ترى، حجم الحشود الشعبية التي خرجت لمساندته. وربما اعتبرت سلسلة الإجراءات السريعة التي اتخذت مباشرة بعد الإعلان عن الإطاحة، بما في ذلك اعتقال مرسي ومساعديه، واعتقال قيادات إخوانية وإسلامية أخرى، وصدور قوائم لمئات الممنوعين من السفر، وإيقاف عدد من محطات التلفزة الفضائية إسلامية التوجه، بما في ذلك قناة مصر 25 الإخوانية، كافية لإحباط أية ردود فعل محتملة.
بيد أن الحشود التي تدعم الرئيس والشرعية استمرت في موقعها؛ وسرعان ما تشكّل تحالف لدعم الشرعية، دعا إلى حركة تظاهر يوم الجمعة، 5 يوليو/تموز، في كل أنحاء البلاد. والحقيقة، أن القوى المؤيدة للرئيس كانت منذ مساء 2 يوليو/تموز قد بدأت حركة شعبية واسعة باسم دعم الشرعية، بحيث اتضح نهار اليوم التالي، الذي كان يوم الإطاحة، أن الحشود المؤيدة للرئيس في أنحاء مصر لا تقل كثرة عن الحشود التي ناهضته.
وهذا ما تأكد بالفعل يوم الجمعة، الذي ما إن اتجه نحو المساء حتى كانت الملايين من مؤيدي الرئيس والشرعية يتمركزون في ثلاثة مواقع رئيسة في القاهرة، وميادين أخرى في عشرات المدن المصرية؛ بينما قامت الجموع بالسيطرة على مقار الإدارة المحلية، رمز السلطة والحكم، في سبع من محافظات البلاد. وقد وصلت حصيلة قتلى يوم الجمعة الحافل، وكلهم تقريبًا من مؤيدي مرسي والشرعية، الثلاثين قتيلاً.
ما أكدت عليه أحداث يوم الجمعة أن المصريين منقسمون، وأن طرفًا لم يعد يستطيع القول بأن أغلبية الشعب المصري تؤيده وتقف خلفه، وأن الإطاحة تواجه مأزقًا فعليًا، وأن من وقفوا خلفها لم يتوقعوا ردة فعل كهذه.
على المستوى العربي والإقليمي، سارعت كل من السعودية والإمارات والأردن إلى الترحيب بالإطاحة وتهنئة الرئيس المؤقت بمنصبه. ولوحظ أن الفريق السيسي، وليس الرئيس المؤقت، أجرى اتصالاً بكل من الملك عبد الله والشيخ خليفة يوم الجمعة 5 يوليو/تموز. هذا، بينما بدا أن قطر تعترف بالوضع الجديد باعتباره أمرًا واقعًا. الرئيس السوري، بشار الأسد، أعرب هو الآخر عن ترحيبه، بينما تراوح الموقف الإيراني بين الخوف من عواقب ما وقع، والارتياح من تنحية الرئيس مرسي الذي كان اتخذ موقفًا صلبًا من الأزمة السورية قبل الإطاحة به بأسابيع قليلة. من جهة أخرى، وصفت تركيا الحدث بالانقلاب ورفضت الاعتراف به وحذّرت من عواقبه؛ وهو تقريبًا الموقف نفسه الذي اتخذته القيادة التونسية. وسار الاتحاد الإفريقي في ذات الاتجاه فعلّق عضوية مصر، وإن كان في تقاليده يعتبر استيلاء الجيش على السلطة انقلابًا غير شرعي، لكنه يعترف بنتائج الترتيبات التي تعيد الشرعية مجددا.
دوليًا، اتخذت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي موقفًا غامضًا، محجمة عن وصف ما حدث بالانقلاب، ولكن بدون ترحيب صريح به؛ وبدا وكأن القوى الغربية تنتظر لترى ما إن كان النظام الجديد سيستطيع توطيد أقدامه، وإن كان ليس لديها اعتراض جوهري على الإطاحة بمرسي، بالرغم من الحرج الذي تستشعره من طريقة الإطاحة به. وكان طبيعيًا أن يثير هذا الغموض في الموقف أسئلة حول الدور الأميركي في الحدث المصري، سيما أن الولايات المتحدة تحتفظ بعلاقات وثيقة بالقوات المسلحة المصرية. والحقيقة، أن من الصعب القول ما إن كانت واشنطن شريكًا في قرار قيادة القوات المسلحة المصرية بالإطاحة بالرئيس، أو أنها دخلت فقط على خط الوساطة بين الفرقاء في الساحة المصرية بعد أن أخذت الأمور في التأزم. المؤكد أن واشنطن مستمرة في القيام بدور الوساطة، بعد اتضاح حجم المعارضة لقرار الاطاحة يوم 5 يوليو/تموز، بطريقة مباشرة وغير مباشرة، وربما عبر قطر وتركيا.
مستقبل محفوف بالمخاطر
أصبح مؤكدًا الآن أن الإطاحة بالرئيس لن تمر بسهولة وسلاسة، وأن محاولة وضعه في ثوب الاستجابة لمطالب شعبية تواجه مأزقًا عويصًا. فإلى أين ستذهب مصر من هنا؟
أفضل نتيجة يمكن أن يحصل عليها من قاموا وأيدوا الإطاحة هو إدخال البلاد في حالة طويلة من عدم الاستقرار. ولن يتأتى عدم الاستقرار هذه المرة من أن مصر تعاد ثانية إلى وضع انتقالي، بل من خلل هيكلي في بنية مصر السياسية، وذلك لجملة أسباب، هي:
أن النظام الجديد يفتقد إلى غطاء قانوني ودستوري.
أن معارضيه سيستمرون في رفض شرعيته.
أن من المفترض عودة الجيش في النظام الجديد إلى ممارسة دوره التقليدي باعتباره شريكًا رئيسًا في حكم البلاد، ولكن المشكلة أن هذا الدور لم يمارَس في العقود الستة الماضية بصورة مباشرة، بل من خلال الشراكة مع قوة سياسية رئيسة، يرتكز إليها نظام الحكم (الاتحاد الاشتراكي أولاً، ثم الحزب الوطني بعد ذلك). في حقبة ما بعد ثورة 2011، لم يكن هناك قوة سياسية رئيسة إلا الإخوان المسلمين. إخراجهم من الساحة السياسية، يعني أن ليس هناك من سيقوم بهذا الدور، سيما أن جبهة الإنقاذ، لاعتبارات عديدة، لا يمكنها احتلال موقع العمود الفقري السياسي لمصر.
أن من غير الممكن استبعاد احتمال اندلاع العنف المسلح، المعارض للنظام الجديد. وفي هذه الحالة، ونظرًا لانتشار السلاح في أنحاء البلاد بصورة غير مسبوقة، والشعور بالمظلومية الناجمة من الإطاحة بنظام شرعي بقوة الجيش، سيكون العنف بالغًا وواسع النطاق.
أن من دعوا الجيش ودعموا قراره بالتدخل، لم يستطيعوا الحصول على جدول زمني قاطع من قيادة القوات المسلحة؛ وهو ما يفتح المرحلة الانتقالية التي وعد بها بيان الفريق السيسي على مرحلة من عدم اليقين قد تكون محل خلاف بين الجيش والجبهة التي ساندته في الإطاحة بمرسي.
مصر تتأرجح بين الاقصاء والتوافق
يلخص كل ما سبق معضلة مصر الراهنة، وهي كيفية الجمع بين الديمقراطية والاستقرار، فالذين أطاحوا بمرسي يعتقدون أن شرعيته الانتخابية لم تحقق الاستقرار، بل أثارت سياساته الأزمات والسخط والاستياء لدى قطاعات واسعة من المصريين، وأن الإطاحة به، وإن كانت مخالفة للقواعد الديمقراطية، هي القرار الصائب الذي يمتص السخط الشعبي ويعيد الاستقرار، لكنهم وقعوا في المحذورين: انتهاك الديمقراطية وهز الاستقرار. وهم بالتالي أمام خيارين رئيسيين:
خيار الإقصاء؛ فيعتقدون أنهم يستطيعون القضاء على مناصري مرسي وجماعة الإخوان، ويراهنون على الحل الأمني والإجراءات القانونية، فيزداد الاستقطاب، وتصير المبادرة في أيدي المتشددين من الطرفين، وتنجر مصر إلى حرب أهلية. وتبدو مؤشرات هذا الخيار في اعتقال قيادات إخوانية وغلق منابر إعلامية مع الدعوة في نفس الوقت إلى الحوار، وقتل العشرات من مناصري مرسي بالرصاص أمام مقر الحرس الجمهوري. إلا أن احتمالات تحقق هذا السيناريو ليست كبيرة، لأن القوات المسلحة المصرية تواجه ثلاثة كوابح: الضغط الأميركي الذي يضع استقرار مصر فوق باقي الاعتبارات، والغطاء الشعبي الذي يرفض الإقصاء، وبناء القوات المسلحة المصرية الذي يتسم بالانفتاح على المجتمع ويتأثر بما يجري فيه من توافق أو استقطاب.
خيار التوافق؛ حيث تلتزم مختلف القوى بالتنافس السلمي على السلطة من خلال آليات ديمقراطية، ولكن هذا السيناريو، وإن كان يحظى بمساندة قوى رئيسة، إلا أنه يواجه عقبات؛ على رأسها كيفية التعامل مع مرسي؛ إضافة إلى أن التوافق لن يتحقق إلا بإشراك جماعة الإخوان المسلمين، وهي ترفض الاعتراف بالإجراءات المترتبة على الإطاحة بمرسي، وأخيرًا فإن التوافق يحتاج الإجابة على سؤال: ما الذي يضمن أن القوات المسلحة لن تلغي نتائج أية انتخابات مقبلة؟
الوطني الفلسطيني مع ثورة مصر
هشام نفاع
كتب عدد من الأخوات والإخوة الفلسطينيين بغضب عبر «تويتر» عن اللهجة العدائية ضد الفلسطينيين في بعض (بعض!) وسائل الإعلام المصرية. فهؤلاء الشباب الفلسطينيون الباقون في وطنهم بمناطق 48، بعد أن تم تهجير معظم شعبهم من فلسطين، يستصعبون جسر الهوة السحيقة ما بين تماهيهم الهائل مع ثورة شعب مصر الحرّ وأصوات مصرية تأخونهم وتخوّنهم وتصوّرهم مصدرا من مصادر الإرهاب المضاد للثورة.
ليس الجميع متساوين في المنطلقات. هناك من لا يعرف، ببساطة، أو لا يجتهد ليعرف، لكنه يتحدّث ويحلّل بشكل تعميمي للأسف! هناك من لديه مصلحة في خلق انطباع كاذب عن «تجند فلسطينيين لإجهاض الثورة»، وهو نفسه من أعدائها! وهناك من يرى الشعب الفلسطيني بأكمله من منظار علاقة جماعة «الإخوان» مع «حماس» ليجعل 12 مليون فلسطيني رغما عن أنوفهم حمساويين وإخوانيين! مع أن الصورة ليست صحيحة أبدا، مع احترامي للشرفاء غير الملوّثين بفساد السلطة في حماس وفي الإخوان.
فعلاقات حماس مع امتداداتها الأيديولوجية معروفة، ولكن بالمقابل القوى الوطنية الفلسطينية تقف مع إرادة شعب مصر بكل وضوح. ينطبق هذا على الأحزاب والفصائل في الضفة الغربية وقطاع غزة، وينطبق أيضًا على الأحزاب والحركات الوطنية في مناطق 48. وأدعو كل قارئة وقارئ إلى البحث بشكل سريع عن هذه المواقف عبر «جوجل». اقرأوا مواقف الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة والتجمع الوطني الديمقراطي وأبناء البلد (في مناطق 1948) ومواقف حزب الشعب الفلسطيني، الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، المبادرة الوطنية، فدا، فتح، ومؤسسة الرئاسة الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية. ابحثوا عن صور مظاهرات خرجت في نهاية الأسبوع ضد الاستيطان الإسرائيلي، وقد تم فيها رفع علم مصر، تعبيرا عن الفخر والتماثل الكفاحي مع ثورة 30 يونيو المجيدة.
أحد الأصدقاء المصريين قال لي إن هناك جهلا في بعض الأوساط الليبرالية المصرية بخصوص حقيقة الموقف الفلسطيني، وهناك تشويه غير جديد لوجهة نظر معظم الشعب الفلسطيني، وتعاطيه مع مصر وشعبها وثورتها ومصالحها الوطنية. هذا التشويه والالتباس وسوء الفهم خطير جدًا. فلطالما استغلت قوى رجعية «الورقة الفلسطينية»، وقامت بالمتاجرة بها. ينطبق هذا على أنظمة النفط والتبعية والاستبداد واحدًا واحدًا وكلها معًا، وطبعًا من لا يتورّع عن المتاجرة بالدين لن يتورع عن المتاجرة بفلسطين! إنّ من يشوّه موقف غالبية الشعب الفلسطيني المتماثلة بالعقل والوجدان مع الثورة المصرية، ويعرضها كذبًا كأتباع للرئيس السابق محمد مرسي، فإنه يقوم من حيث لا يدري بمنح «ورقة فلسطين» لأعداء الثورة، وفي هذا إساءة كبرى وضرر مزدوج هائل لشعب مصر ولشعب فلسطين معًا!
من الواضح أن هناك فئات فلسطينية يربطها ولاء أيديولوجي بفضاءات هلامية لا تضع الوطن والشعب الفلسطيني في المركز، بل تمنح أولوياتها وولاءاتها لحركات تسييس الدين، واستثمار الدين، والربح من المتاجرة بالدين! لكن هؤلاء موجودون في صفوف الشعب الفلسطيني مثلما هم موجودون في صفوف كل شعب عربي، لكن الوطنيين الفلسطينيين في مناطق 48 وفي مناطق 67 وفي الشتات ومخيمات اللجوء شديدو الوضوح: منحازون دون تأتأة إلى جانب المسيرة الثورية المصرية بكل محطاتها من 25 يناير و30 يونيو وما بعد بعدها.
ربما ليست هذه المسألة من أولويات الاهتمام المصري في هذه الظروف. هناك بحق وصدق قضايا أكبر وأخطر وأكثر إلحاحًا من تدقيق موقف الفلسطينيين من مصر وثورتها أمام الرأي العام المصري، لكني آمل أن يجد عدد من الكاتبات والكتّاب والصحفيين والصحفيات الوقت والاهتمام والمساحة لمعالجة هذه القضية. محزن ومؤلم ومضرّ أن يمتلئ الفلسطيني والفلسطينية بكل هذا الاحترام والحب والإعجاب بشعب مصر صاحب الإرادة الثورية المُبهرة، وأن يسمع في الوقت نفسه بعض الأصوات الإعلامية المصرية التي تقول بناء على عدم معرفة أو عن قصد، بهذا الشكل أو ذاك، إن الفلسطينيين يعادون ثورة مصر. هذا غير صحيح ومناقض للواقع بكل المقاييس.
مصر بعد الفشل “الإخواني“
عبد الوهاب بدرخان
مرَّت الإدارة الأميركية، على ما نقل عن مداولاتها، بلحظات من الحيرة إزاء الحدث المصري. ورغم أنها تواكب الوضع يوماً بيوم، وتعرف جيداً مسار التطورات وصولاً إلى يوم 30 يونيو، وقعت الإدارة في موقف صعب وملتبس. كانت هناك حقيقتان، ثورة شعبية تريد إسقاط الرئيس، ورئيس منتخب راكم الأخطاء ولم يسجل أي إنجار. وما زاد التعقيد أمران: أولهما أن الجيش المصري اتخذ موقفاً واضحاً بانحيازه إلى الشعب الثائر على الرئيس، والثاني أن تقديرات السفيرة الأميركية في القاهرة كانت في أفضل الأحوال منفصلة عن الواقع وفي أسوئها محابية للحكم “الإخواني”.
قد لا تكون السفيرة آن باترسون أخطأت في قولها إن احتجاجات الشارع ليست وسيلة للتغيير، لكنها أخطأت في التعامي عن فشل الحكم في طرح البدائل السياسية كما في اكتساب ثقة المجتمع.
المهم في ما حصل إثباته، كما في ثورة 25 يناير، أن الشارع المعبر عن شعب مصر لا يخضع لمعايير وإملاءات خارجية. ومن جهة أخرى لم يندفع الشارع فوراً إلى الانقلاب على الشرعية، وإنما وجه التحذير تلو التحذير وكان على الحكم أن يفهم ويستوعب ويتصرف، ولما أكد عجزه وفئويته أصبحت “شرعيته” موضع تساؤل وتشكيك. ذاك أن الشرعية ليست تفويضاً إلهياً ولا تمنح صاحبها ميزة لتحدي الشعب أو تجاهله. هذا على الأقل ما انبثق من المفاهيم العامة التي بلورتها الثورة على النظام السابق، وهو ما لا تزال الميادين المتنافسة تذكِّر به، لكن الشارع “الإخواني” انتهى إلى نسيانه ليتمترس وراء “الشرعية” التي يعتبرها مكسباً له وحده.
ثمة فوارق بين الثورتين. في الأولى أفلت النظام قواه الأمنية لإخماد الاحتجاجات ثم لجأ إلى الجيش الذي رفض مواجهة الشعب واحتضن الثورة. أما في الثانية فوقف الجيش والشرطة معاً إلى جانب المحتجين الذين يريدون إنهاء رئاسة محمد مرسي الذي قررت “جماعته” إفلات شعارها ضد الجيش والشرطة وضد الشارع الآخر فلم توفر لـ”الشرعية” أي تزكية خاصة بل برهنت أن الجيش كان محقاً في موقفه لأن المبادرة الوحيدة التي هيأها “الإخوان” كانت الحرب الأهلية. وبذلك يكونون قد ختموا مسلسل أخطاء مرسي بالخطأ الأكبر، القاتل، لأن الجيش والمجتمع المصريين كفيلان بإجهاض هذه الحرب وإفشالها.
كانت المرة الأخيرة التي تحاور فيها محمد مرسي مع أقطاب المعارضة قبل أسابيع من إصداره الإعلان الدستوري الذي استحوذ فيه على كل السلطات والصلاحيات متجاوزاً القضاء بل فاتحاً معركة معه. وأتبع ذلك بالإيعاز إلى ائتلاف الإسلاميين لحسم الجدل حول الدستور واعتماد نسخته الأخيرة ثم المسارعة إلى الاستفتاء عليها. بعد ذلك، انعدمت الثقة تماماً، ولم يعد هناك مجال للحوار، طالما أنه اختار الحكم بالمغالبة والقسر، لم يتنبه ولا التفتت جماعة “الإخوان” إلى أن النظام أصبح معطوباً، بل تجاهلوا غير الإسلاميين الذين صوتوا لمرسي رئيساً، والأهم أنهم استهزأوا -كما ظهر في تصريحات عصام العريان ومحمد البلتاجي، وأبرز الأزلام المتأخونين عصام سلطان- بالرأي العام المصري ولا سيما بأصوات المعارضة وآرائها، لينكبَّوا بعدئذ إلى التمكين طالما أن هناك سلاحاً في أيديهم: الدستور والشرعية الانتخابية. وبناءً على ذلك أعماهم الغرور عن رؤية تصاعد مشاعر الكراهية تجاههم، حتى أنهم راحوا يتساهلون مع من يطلق فتاوى تحدد السلوك الأمثل مع المعارضين مراوحة بين الضرب والسجن والقتل. أي أنهم خطوا الخطوة الأخيرة نحو نشر روح ميليشاوية في صفوف أنصارهم وعموم الإسلاميين.
من الواضح أن المشكلة كانت في العقل السياسي “الإخواني” نفسه، ولم تكن في الخلاف على “الشرعية”. كان من شأن “الجماعة” أن تبادر بكل وضوح وعلانية إلى جعل “رئيسها” محتضناً من جانب فئات الشعب كافة وليس مداراً من مكتب الإرشاد، إلى جعله فرصة لمصر وللوحدة الوطنية وليس فرصة من لا مهنة لهم غير الإسلام والأسلمة. ويؤمل بأن يكونوا فهموا الآن أنهم لم يكونوا مؤهلين لإدارة الدولة، وأن الدولة المدنية -كمطلب اجتماعي وشعبي، داخلي وخارجي- لا يمكن أن يديرها العسكريون أو المؤدلجون دينياً. كانوا من أكثر المؤهلين لإدراك أن الشعب قرر أن يبقى في حال ثورة إلى أن يتبلور وضع يصرفه عن الشارع، لكن المكابرة و”سرقة الثورة” وسياسات الإقصاء أبقته على تأهبه.
بالعودة إلى الموقف الأميركي، لا شك أنه صدم بانهيار مراهنته على الإسلام المعتدل الذي ظن خطأ أن “الإخوان” يمثلونه، بل أخطأ أيضاً في اعتبار “الإخوان” قادرين على إقامة حكم “مدني”. فالمسلم يمكن أن يكون مدنياً، أما الإسلامي فلا يهمه سوى تنظيمه، ولا يتردد في ترجيح الخيارات العنيفة باعتبار أن الولاية الإلهية التي يتوهمها تمنحه حق تأديب الآخرين بعد تكفيرهم وتخوينهم.
الاتحاد
لماذا فُجعت أميركا بسقوط مرسي؟!
راجح الخوري
ليس صحيحاً ما يحاول “الاخوان المسلمون” إشاعته من انهم تلقوا مطالبات اميركية بالتراجع والاعتراف بما سمّوه “شرعنة الانقلاب” في مصر، فمن الواضح ان واشنطن تتحسر حتى الآن بصمت على سقوط محمد مرسي، الذي شكّل “عنواناً للمشروع الاخواني الاميركي الصهيوني” وفق ما يقول عدد من شباب “الاخوان” الذين انشقوا عن قيادات الحركة.
لم يكن مصادفة ان يرفع شباب حركة “تمرد” منذ اللحظة الأولى، صورة كاريكاتورية للسفيرة الاميركية آن باترسون كتبوا تحتها شعار “حيزبون الاخوان”. فقد كانت سلسلة التصريحات التي أدلت بها قبل اسبوعين من تاريخ 30 حزيران بمثابة دعم مطلق لمرسي وحكم “الاخوان”، على رغم ان الكثيرين يؤيدون نظرية مارتن انديك التي تقول لقد اخطأت واشنطن بعدم معارضة ميول مرسي الجشعة الى أخونة الدولة وممارسته سياسة التسلط واقصاء الآخرين، وفي النهاية بدت في نظر المصريين كمن انتقل من دعم فرعون الى دعم فرعون آخر، على رغم ان الشعب المصري قال كلمته في شكل واضح ضد سياسة الهيمنة الاخوانية.
ليس صحيحاً ايضاً ان واشنطن كانت فعلاً قصيرة النظر الى درجة انها حسبت ان وصول “الاخوان” الى السلطة في اكبر بلد عربي، سيشكل مدخلاً الى استنساخ التجربة التركية في الدول التي انقلبت على الديكتاتوريات العسكرية في سياق “الربيع العربي”، لكنها راهنت على نقل المنطقة من حكم الديكتاتوريات التي ترفع زوراً شعار الاشتراكية والتقدمية ومحاربة اسرائيل، الى حكم ديكتاتوريات دينية جديدة ترفع الدين شعاراً بما يفضي الى امرين خطيرين طالما راهنت واشنطن والصهيونية عليهما وهما:
أولاً – ان “الاخوان” لا يقيمون أي وزن للديموقراطية التي يذرفون عليها الآن دموع التماسيح، والأخطر من هذا انهم لا يقفون كثيراً عند مستلزمات المسألة القومية، ولهذا لم يكن مفاجئاً ان يرسل محمد مرسي بعد وصوله الى السلطة خطاباً مفاجئاً ومطمئناً الى شمعون بيريس كان عنوانه “من الصديق المخلص الى الصديق الوفي”. ثم ان امساك “الاخوان” بالسلطة في أكبر بلد عربي، سيفتح الباب أمام عالم عربي يديره هؤلاء الذين تؤكد كل الدلائل والوثائق تحالفهم الجهنمي ضمناً مع الولايات المتحدة على رغم ان طروحاتهم العلنية تقوم على معاداتها وسوق الاتهامات اليها!
ثانياً – ان امساك “الاخوان” بالسلطة في الدول العربية سيدخل المنطقة في اتون حرب مذهبية بين السنّة والشيعة تستمر عقوداً، وخصوصاً بعد الاندفاعات والتدخلات الايرانية السافرة في الشؤون الداخلية لعدد من الدول العربية وحتى في القتال ميدانياً ضد الشعب السوري مثلاً، وان دفع المنطقة الى الصراع المذهبي لن ينهي القضية الفلسطينية فحسب، بل سيجعل منها منطقة غارقة في الفوضى والدماء بما يفتح الابواب على شرذمتها وتقسيمها!
النهار
«الإخوان» لم يفشلوا وحدهم في مصر
الياس حرفوش
كيفما كان النظر إلى التطورات الأخيرة في مصر بعد إسقاط الحكم الإخواني للرئيس محمد مرسي وبدء العمل بخريطة الطريق التي أعلن عنها الفريق أول عبد الفتاح السيسي، فان أية رؤية عاقلة للأمور لا بد أن تخلص إلى أن ما حصل يمثل أكبر انتكاسة لأحلام «الربيع العربي» التي أيقظت أبناء المنطقة خلال السنوات الثلاث الماضية.
بماذا كان يحلم أهل هذا «الربيع»؟
– بقيادات تأتي من صناديق الاقتراع، حيث يدلي الناس بأصواتهم بكل حرية. ينجح من ينجح ويخسر من يخسر. غير أن الكل يحتكم في النهاية إلى هذه العملية ويحترم نتائجها. وهو ما يلبي الطموح إلى مجتمعات ديموقراطية، تزيل ما كان يسود من «قناعات» من أن الشعوب العربية غير مؤهلة للديموقراطية ولاحترام مبدأ تدول السلطة.
– بأنظمة متسامحة، لا يعتبر فيها الفائز بالعملية الانتخابية أن فوزه يمنحه الحق الحصري بتملك البلد والاستفراد بالسلطة والاستقواء بها على الآخرين. ولا يأتي ذلك سوى من قناعة راسخة، هي في أساس العمل الديموقراطي، أن البلد ملك لجميع أبنائه، وأن الحاكم اليوم قد يكون في موقع المعارض غداً، وبالتالي فهو لا يملك الحق في تغيير هوية البلد وجعلها مطابقة لهويته الحزبية أو الدينية أو السياسية.
– بحكومات تعتبر خدمة المصلحة العامة وتحسين فرص العيش على رأس أولويات العمل العام، فلا تضع مشروعها الأيديولوجي فوق المشروع الوطني، ولا تجعل وظيفتها في الحكم هي خدمة مشروعها على حساب مصالح الناس وهمومهم.
بهذه المقاييس يجب القول إن تجربة «الربيع العربي» في مصر كانت تجربة فاشلة. وستكون لهذا الفشل ارتداداته السلبية على تجارب الدول الأخرى، سواء تلك التي مرت بها الثورات، أو التي لا تزال تنتظر. فكما أيقظت الثورة المصرية آمال الكثيرين من العرب، على رغم أنها كانت الثانية في مسلسل «الربيع العربي»، فان فشل هذه التجربة سيحبط آمال الكثيرين في إمكان نجاح التحول الديموقراطي في دولنا، وسيعزز قناعة من يشكك في «القدرات» الديموقراطية لدى شعوبنا ومجتمعاتنا، باننا شعوب ومجتمعات لا تستحق هذه التجربة وليست مؤهلة لخوضها.
ومسؤولية فشل التجربة المصرية يتحملها كل الذين شاركوا في هذه التجربة، سواء في الحكم أو في المعارضة. لم يحسن «الإخوان» التصرف بفوزهم. وبدل أن يكونوا يقظين للحساسيات حيال عملهم السياسي، سواء في المجتمع المصري، أو في غيره من المجتمعات العربية، والتي تعود إلى ثمانين عاماً مضت، فانهم اعتبروا هذا الفوز تأشيرة تخولهم إعادة بناء مؤسسات الدولة المصرية بالطريقة المتفردة والاستفزازية التي يريدونها. ولم ينتبهوا إلى أن مصر الخارجة من الثورة هي مجتمع منقسم على نفسه، ويحتاج إلى حاكم بعيد النظر يعيد الألفة، ولا يمعن في تعزيز كل أسباب الانقسام.
تتحمل المعارضة المصرية («الحاكمة» اليوم) حصتها أيضاً من المسؤولية. أحجمت المعارضة المصرية عن المشاركة في أية فرصة يمكن أن توفر الظروف لنجاح حكم «الإخوان». قد يقال هنا: لماذا كان منتظراً أن يوفر معارضو «الإخوان» هذه الظروف وهم أصحاب المصلحة في فشل المشروع «الإخواني»؟ الحقيقة أن فشل هذا المشروع ليس فشلاً فقط لمحمد مرسي ولحزب «العدالة والتنمية»، بل هو بالدرجة الأولى فشل لتجربة احتكام الإسلاميين إلى صناديق الاقتراع وإلى العملية الديموقراطية، بعيداً عن اللجوء إلى أساليب العنف كوسيلة في العمل السياسي. إخراج «الإخوان» من العملية السياسية أو منعهم من مزاولتها هو رسالة لهم أن هذه الطريق مقطوعة في وجههم، وأن الأجدى لهم البحث عن طرق أخرى. وهذا مصدر الخطر الأكبر على مستقبل العمل الديموقراطي في مصر.
لا بد من كلمة في النهاية عن دور الجيش المصري في ما حصل مع حكم «الإخوان»، وخصوصاً في ضوء أحداث الأمس أمام مقر الحرس الجمهوري في القاهرة. فمهما كان الاسم الذي تفضلون إطلاقه على تدخل الجيش، وسواء كان «انقلاباً» كما يفضل أنصار مرسي، أو «حماية للشرعية الثورية» كما اختار أنصار «جبهة الإنقاذ» وحركة «تمرد» إن يسموه، فان توريط الجيش في عملية عسكرية لحماية فريق من شعبه في وجه فريق آخر، في مجتمع شديد الانقسام كالمجتمع المصري، لا بد أن يضعف القوة المعنوية التي يتمتع بها الجيش. بهذا المعنى كانت عودة الجيش إلى الفصل بين المتخاصمين في مصر أكبر هزيمة للعملية السياسية التي كان يجب أن تكون من اهم إنجازات ثورة 25 يناير.
الحياة
«إخوان» آخرون
محمد صلاح
الإخوان المسلمون» في مصر يدركون أن بيان الفريق عبد الفتاح السيسي الذي عزل بموجبه الدكتور محمد مرسي مثل الرصاصة التي خرجت من السلاح ولن تعود مرة أخرى اليه، وإنما يمكن أن يخرج من السلاح نفسه رصاصات أخرى، وبالتالي فإن عودة مرسي إلى المقعد الرئاسي أمر غير وارد من الأساس، وستدور العجلة ولو وسط هضاب وجبال وسهول وأحراش ولن تتوقف. ولا مجال للسؤال متى يعود مرسي أو يتراجع السيسي، وإنما السؤال الأهم يتعلق بمستقبل جماعة «الإخوان» نفسها، في ضوء التجربة الفاشلة لحكمها لأكبر بلد عربي لمدة سنة، خسرت فيها رصيداً وافراً من تعاطف الناس، ذلك التعاطف الذي مكنها دائماً من الوجود في كل مشهد سياسي مهم، إن لم يكن في الصدارة فعلى الأقل ضمن مكوناته الرئيسية. إن فشل تجربة الحكم في مصر بعد سنة واحدة وفي ضوء إصرار الجماعة على الموت في سبيل الشرعية، كما جاء على لسان مرسي ومن بعده المرشد محمد بديع، يقفز السؤال: كيف سيكون مستقبل الجماعة؟ ليس في مصر وحدها محل الأحداث والاهتمام والأضواء وإنما في العالم، فالجماعة تؤمن بالأممية وتتخطى بأفكارها القطرية.
من البداية، فإن رد فعل الإسلاميين عموماً، و «الإخوان» خصوصاً، على عزل مرسي ومضي الجيش والقوى المنافسة في خطة الطريق، التي وضعها السيسي بالتوافق مع السلفيين الذين تحالفوا فترة مع «الإخوان» وقوى سياسية أخرى في حضور شيخ الأزهر وبابا الأقباط طبيعي وليس فيه مفاجآت. ومن كان يتصور أن «الإخوان» سيقبلون الدعوة لحضور ذلك الاجتماع، أو اعتقد أن الجماعة وأنصارها سيرضون بسهولة بأمر واقع ويسلمون بأن ما جرى ثورة شعبية ضد فشلهم في إدارة أمور الدولة طوال سنة، أو أن جموع «الإخوان» وقادتها ورموزها سيبدأون طواعية وعن طيب خاطر من جديد في عملية ديموقراطية وسيخوضون انتخابات رئاسية أخرى وبرلمانية ثانية وفقاً لخريطة الطريق تلك، مؤكد أنه لم يدرس تاريخ «الإخوان» جيداً، ولم يتعامل مع رموزهم، ولم يعِ أن الجماعة لا تدافع عن مقعد مرسي أو تطالب بجلوسه عليه مجدداً، فهذا هو المشهد من الخارج، وإنما تدافع عن تاريخها الطويل الذي تعرض إلى انتكاسة كبيرة بفعل الثورة على حكمها أخيراً، وتسعى كذلك إلى تبييض حاضرها الذي أطاح آمال وطموحات دفعت أجيال من «الإخوان» أثماناً باهظة لتتحقق، ويسعى التنظيم إلى الحفاظ على مستقبله وحجز مكان ضمن مكوناته الأساسية، ليس في مصر فقط وإنما في أرجاء العالم.
يدرك «الإخوان» أيضاً أن استعداء الغرب يخفض من رصيدهم الشعبي، ويعلمون أن مواجهة الجيش بالسلاح لن تحقق لهم نصراً وإنما ستفقدهم ما تبقى من تعاطف لدى الجماهير غير «الإخوانية»، وهم على يقين بأن مرسي لن يعود إلى مقعده مجدداً، وأن الترويج لإعادة سيناريو تشافيز في فنزويلا هو من باب المحاكاة، ولا علاقة له بالواقع. لكن «الإخوان» اختاروا هذا الرهان وتلك المخاطرة لأن لديهم قناعة بأن الإقرار بفشل إدارة مرسي للدولة طول سنة، وأخطاء حزبهم «الحرية والعدالة» في التعامل مع القوى الأخرى، ودخول الجماعة في صدامات مع أجهزة الدولة، وسعيها إلى إقصاء الآخرين، والتركيز على «الأخونة» من دون التنمية، وخلق المشاكل وتفجيرها بدلاً عن حلها، كل ذلك سيسئ إلى تاريخ الجماعة ويطيح بأي مستقبل لها، ليس في مصر وحدها وإنما في دول أخرى كان قادة التنظيم يعتقدون أنها ستلحق بمصر حكماً و»أخونة»!
رد فعل «الإخوان» يتسق مع سياسات قادتها أثناء حكمهم لمصر ومتناغم مع أساليب الجيل الذي يحكم الجماعة الآن ويعكس، للأسف، إصراراً على المضي إلى نهاية المطاف بمزيد من الفشل وكثير من الأضرار التي قد تضر بمصر والمصريين في مرحلة ما لكنها ستضرب لاحقاً جسد الجماعة كلها. هم يسعون الآن للحفاظ على التنظيم بالترويج لنظرية الانقلاب العسكري كرسالة إلى القوى الإقليمية والدولية علها تضغط لتعيد مرسي إلى المقعد، وإلى الداخل أملاً في انشقاق في جيش ليس فيه «إخواني» واحد، أو تحريك لعواطف المتعاطفين الذين أصلاً فقدوا أي تعاطف مع الجماعة. أفضل من وجهة نظر قادة «الإخوان» أن تخرج الجماعة من الحكم بعمل عسكري أو مؤامرة مخابراتية أو أمنية أو تدبير بليل من دول عربية أو أجنبية أو منظمات دولية أو بفعل الثورة المضادة ونشاط الفلول وسطوة الإعلام، وليس نتيجة لفشل أو تقصير. كل ما يدور في مصر الآن طبيعي لكن ما سيحدث لـ «الإخوان» في المستقبل لن يكون بأي حال، بعد سنة من حكمهم لمصر طبيعياً، ومهما أفضت التطورات في مصر فإن العالم صار على موعد مع «إخوان» آخرين غير الذين عرفهم على مدى أكثر من ثمانية عقود.
الحياة
مصر وكأس السم
غسان شربل
المأزق المصري عميق. ومفتوح على كل الأخطار. وأصعب ما فيه هو غياب القدرة على التراجع. التراجع في وضع من هذا النوع لا يقل قسوة عن تجرع كأس السم.
هل نستطيع أن نتصور مثلاً عودة الرئيس محمد مرسي إلى موقعه في القصر؟ وماذا عن الملايين التي تدفقت في 30 يونيو (حزيران) واكتسحت الميادين وحسمت ميدانياً مسألة الأكثرية؟ وماذا عن ملايين التواقيع التي جمعتها حركة «تمرد»؟ وماذا قبل ذلك عن مؤسسة الجيش والإنذار الذي وجهته إلى ساكن القصر قبل أن تتحرك بعد انتهاء المهلة لإقصائه؟.
لم يعد المكان يتسع لحلول تجميلية أو أنصاف الحلول. عودة الرئيس إلى قصره تعني هزيمة نصف الشعب إن لم يكن أكثر. وتعني هزيمة مدوية للمؤسسة العسكرية التي كان القصر في يد أبنائها في العقود الستة الماضية. لا الذين صنعوا «30 يونيو» في وارد القبول بهزيمة من هذا النوع. ولا المؤسسة العسكرية قادرة على تحمل مثل هذه الضربة. فعودة مرسي لا تعني أبداً أن الفريق أول عبد الفتاح السيسي هو من سيشرب كأس السم بل المؤسسة التي ينتمي إليها. ومثل هذا الانتصار لـ «الإخوان» سيكون أكبر بكثير من الانتصار الذي شكله وضع الناخبين قصر الرئاسة في يد المرشح «الإخواني».
على الضفة الأخرى يصعب التراجع أيضاً. لا يستطيع المرشد محمد بديع تجرع كأس السم. في أي حال لن يتجرعه منفرداً إذ ستشاركه الجماعة في الأعراض والآلام. وإذا قبل هزيمة بهذا الحجم سيفتح الناس داخل الجماعة وخارجها دفاتر الماضي القريب. قالت الجماعة إنها لن تخوض انتخابات الرئاسة. اعتبر موقفها دليل واقعية وتعقل وفهم كلامها على أنه رسالة طمأنة للداخل والخارج معاً.
في نهايات آذار (مارس) تحلق أعضاء مجلس الشورى حول المرشد وكان الموضوع المطروح كبيراً وخطيراً وهو: هل يخوض «الإخوان» انتخابات الرئاسة وما هي الفرص والمخاطر والأثمان؟. انقسمت الآراء في ذلك الاجتماع إذ كان هناك من يخشى من أن تكون الخطوة أكبر من القدرة على الاحتمال. عصام العريان نائب رئيس «حزب الحرية والعدالة» الذراع السياسية لـ «الإخوان» تحدث نصف ساعة في ذلك الاجتماع. «كنت ضد أن ندفع بمرشح رئاسي لأنها مجازفة شديدة». كان الانقسام واضحاً في صفوف المجتمعين. حسم الأمر لصالح خوض انتخابات الرئاسة بخيرت الشاطر بـ56 صوتاً من أصل 110 أعضاء.
سألت العريان الذي كان عضواً في مكتب الإرشاد إبان الثورة عن قصة اعتبار خيرت الشاطر «الرجل القوي» داخل مكتب إرشاد الجماعة فرد: «لا شيء اسمه الرجل القوي… القوة الرئيسية في الإخوان هي الطابع المؤسسي». سألته من قاد الجماعة في هذه المرحلة المصرية الصعبة فأجاب: «المرشد. لا يوجد أحد غيره. جماعة الإخوان اعتادت طوال تاريخها أن لها قائداً واحداً وهو من يتحمل المسؤولية. الجميع يصب عنده ما لديه من معلومات أو اقتراحات. وتعودت الجماعة، على عكس ما يراه الناس، أن هذا المرشد لا يتصرف منفرداً، لا بد أن يأخذ القرارات عبر الأطر المؤسسية».
لا أقصد أبداً أن ليس من حق «إخواني» أن يخوض سباق الرئاسة. لكن بعض القرارات يتضمن أحياناً مجازفات شديدة لأنه يفوق قدرة المسرح على الاحتمال. كانت الحكمة تقضي بإلقاء أعباء المرحلة الانتقالية على شخصية محايدة. وأن يكتفي «الإخوان» بالجلوس في المقاعد النيابية والحكومية. كان ذلك أفضل لهم ولمصر معاً. رفضهم تجرع كأس السم قد يدفعهم إلى المقامرة بمصيرهم ومصير مصر معهم. أتمنى أن يكون فلاديمير بوتين مخطئاً في قوله إن مصر تتجه نحو حرب أهلية على غرار ما يجري في سورية. وأتمنى أن لا تنزلق مصر نحو السيناريو الجزائري فيكون كأس السم من حصتها.
أعرف أن القارئ سيء النية. وأنه سيذهب بعيداً. وربما يسأل ما إذا كان قرار «حزب الله» التدخل في سورية من قماشة المجازفات الشديدة. ومن يدري فقد يسأل عمن سيتجرع كأس السم لاحقاً.
الحياة
مصر: فرز المنتصرين
بيسان كسّاب
من مسيرة الأحد إلى التحرير (أ ف ب)
“الاحتشاد بالميادين سيوقف خطة الإخوان لضرب الثورة. لا تفاوض لا تصالح لا رجوع” هذا هو خيار حملة تمرد كما يبدو من الدعوة التي اطلقها حسن شاهين احد مؤسسي الحملة والمتحدث باسمها. ويبدو الى الآن خيار الحملة ناجحا بدءا من توافد حشود مناصريها المليونية على ميادين رئيسية الأحد في العاصمة المصرية القاهرة والإسكندرية أقصى شمال البلاد بصورة خاصة، لكن خيارها هذا لا يبدو في مواجهة جماعة الإخوان المسلمين فقط، بل في مواجهة ” شركائها ” المفترضين من القوى السياسية الرسمية وفي السلطة المؤقتة كذلك .
فالمعركة ضد الإخوان المسلمين لم تضع أوزارها تماماً – على الرغم من إعلان عزل رئيس الجمهورية المخلوع محمد مرسي الذي ينحدر منها- الا ان المعركة على فرض الإرادة بين “المنتصرين” بدأت بشراسة، والى الآن يبدو ان أقصى اليمين هو من يحرز الانتصار في هذا السياق، وهو ما يثير التساؤلات حول مصير صراع الإرادات في صياغة الدستور.
اول الغيث هو الصراع على تسمية رئيس الحكومة المؤقتة، فبعد بث خبر تعيين محمد البرادعي مؤسس حزب الدستور رئيساً للوزراء السبت، عاد المستشار الإعلامي لرئيس الجمهورية المؤقت قبل الموعد المحدد لاداء البرادعي القسم أمام رئيس الجمهورية في مؤتمر صحافي في وقت متأخر من مساء اليوم نفسه، لينفي وقوع اختيار رئاسة الجمهورية على البرادعي او غيره لشغل المنصب، قبل أن تدور تسريبات حول تعيين زياد بهاء الدين رئيسا للحكومة والبرادعي نائباً له، مع العلم أن بهاء الدين كان قد حاز على ترشيح حزب “النور” السلفي لهذا المنصب.
واللافت طبعا ان هذا النفي جاء بالرغم من تأكيد عدلي منصور رئيس الجمهورية المؤقت مغردا في حسابه الشخصي على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر” اختيار البرادعي بالفعل وقائلا ان “تعيين د. محمد البرادعي لرئاسة الحكومة جاء بناء على اتفاق مع القوى السياسية الفاعلة في الساحة المصرية” .
والمفارقة ان اقل الأطراف مشاركة في “الانتصار” على الإخوان بدا انه الطرف الأعلى صوتا في اختيار رئيس الحكومة الجديد الذي يفترض انه سيصل الى منصبه بفضل هذا الانتصار. حزب النور السلفي وجد لنفسه موطئ قدم وحده من بين حلفائه القدامى من القوى الإسلامية في الساحة السياسية بعد الانتفاضة ضد الرئيس محمد مرسي فقط بفضل حياده ورفضه الانضمام لبقية الفصائل السياسية الإسلامية التي نظمت صفوفها في احتجاجات مستمرة منذ ما يزيد عن أسبوعين. لكن “النور” لم ينضم في المقابل للتظاهرات المعارضة للرئيس محمد مرسي.
والثابت والمعلن في هذا السياق ان حزب النور هو السبب وراء استبعاد البرادعي من المنصب.
اما حملة تمرد صاحبة الفضل الأول في إسقاط مرسي، فقد همش خيارها بوضوح كما يبدو من تصريحات محمود بدر المتحدث باسم الحملة واحد مؤسسيها الثلاثة على حسابه الشخصي على موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك: “بالمناسبة تمسكنا بالبرادعي معناه تمسكنا بحقنا في اننا شريك في رسم المستقبل .. احنا في تمرد لا هنبقى وزرا ولا رؤساء وزرا … ولا هنقبل اي منصب تنفيذي .. بس كمان بيان الفريق السيسي اللي اعلن فيه انتخابات مبكرة مكتوب فيه نصا “وقد قرر المجتمعون” اللي احنا جزء منهم وبالتالي احنا بندافع عن حقنا في تحقيق مطالب الناس اللي اتفقوا عليها معانا” .
والأمر ليس بهذه البساطة اذ لا يبدو ان “النور” وحده يقف في مواجهة إرادة “تمرد”، بل كذلك حزب مصر القوية. اذ قال حسن شاهين على حسابه الرسمي ان عبد المنعم ابو الفتوح مؤسس الحزب و رئيسه هو خيار حزب النور لرئاسة الحكومة، مدينا ضمنيا التفاف ابو الفتوح على التزامه السابق بدعم البرادعي. ابو الفتوح يبدو افضل خيارات “النور” المتاحة على كل حال، فالرجل ينحدر من خلفية اسلامية كونه كان قياديا اخوانيا قبل ان ينشق عن الجماعة على خلفية رفضها ترشيحه في انتخابات الرئاسة.
وبالفعل احتج ابو الفتوح وجلال مرة امين عام حزب النور على اعتقال حازم صلاح ابو اسماعيل مؤسس حزب الراية الاسلامي وخيرت الشاطر نائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين في لقائهم مع رئيس الجمهورية.
الا ان “مصر القوية” سرعان ما نفى الأمر في بيان رسمي مقتضب على لسان متحدثه الرسمي قال فيه ” ان عبد المنعم أبو الفتوح رئيس الحزب لن يشارك في أي منصب تنفيذي في هذه المرحلة و أن الحزب يسعى بالمشاركة مع باقي القوي الوطنية لحل الأزمة الراهنة” .
المدن
الثورة المصرية تفضح اليسار
محمّد علي مقلّد
تعليقا على ما يحصل في مصر ، خشي شيوعي لبناني تابع للقيادة المحتضرة من أن تؤم المساجد راقصات الملاهي بديلا عن المشايخ ورجال الدين ، وخشي آخر على الربيع من سطوة العسكر وعودة الانقلابات العسكرية بثوب مدني. من أين أتى هذا الحرص على المؤسسة الدينية ؟ وكيف يكون العسكر المصري موضع خشية والعسكر الممانع موضع ثقة؟ العلم عند الله .
أشخاص من أصوليات أخرى أعربوا عن خشيتهم من أن يكون الانقلاب العسكري قد “أتى لقطع الطريق عن التمدد الثوري للجماهير، فالتمدد الثوري قائم فعلاً كما الانقلاب، فهما نقيضين جدليين تاريخيين في الواقع المصري (فانقلاب الضباط الاحرار في القرن الماضي أتى ايضاً للالتفاف على اتساع رقعة الحركة الثورية، ليغلق الخناق عليها” ( النص منقول بأخطائه اللغوية من مقالة إلكترونية بعنوان الحركة الثورية مستمرة رغم الانقلاب)
ناهيك عن خشية الممانعين المستلهمة من نصائح النظام السوري إلى حكام مصر وتركيا وهي نصائح تدعو إلى احترام إرادة الشعوب .موزاييك من المواقف مضحك مبك على حال الأصوليات القومية والدينية واليسارية.
ليس لغزا أن تتشابه الأصوليات. من موقع التشابه هي تدافع عن بعضها ، وترى أي عدوان على واحدة منها هو عدوان على الآخر. التضامن في مثل هذه الحال واجب لا للدفاع عن الآخر بل للدفاع عن النفس. ووجه الشبه بات أسطع من نور الشمس. قد تختلف الأصوليات على الإيديولوجيا وعلى البرامج الاقتصادية لكنها تتشابه في نظرتها إلى الدولة وفي طريقة إدارتها السلطة وفي موقفها من الديمقراطية .
الربيع العربي كان بالضبط ثورة على وجه الشبه هذا ، ولذلك ارتبكت الأصوليات في البداية ووقفت متفرجة ثم سرعان ما التحقت في بلدانها وظلت مترددة في التضامن من خارج بلدانها. الربيع ثورة على الاستبداد في حين حاولت الأصوليات أن تحرف مساره ولم تنجح . حاولت أن تجعله تارة ضد الجوع وتارة ضد الاستعمار وثالثة ضد الصهيونية.
حنق الشيوعي اللبناني والبعثي الممانع والقومي المتعصب على مصير تجربة الإسلام السياسي ليس ناجما من فراغ بل نابع من كونهم ينهلون جميعا من منهل مجافاة الديمقراطية والعداء لدولة القانون والمؤسسات .
ولأن لكل أصولية معيارها في الموقف من القضايا التي واجهها العالم المعاصر: التقدم ، النهضة ، الحرية ، المرأة ، الملكية ، إدارة الشأن العام ، الخ. كانت أعنف الخصومات هي تلك التي عصفت بين تياراتها المختلفة ، على أن الأكثر تدميرا من بين هذه الخصومات هي تلك التي نشبت داخل التيار ذاته أو التيارات المتشابهة ، الديني والديني ، القومي والقومي ، الماركسي والماركسي. والسبب واحد عدم قبول الأصولية بالآخر المختلف وعدم الموافقة على مشاركته في أي شأن ، لا سيما المتعلق بالسلطة السياسية . هذا هو المصدر الفكري والإيديولوجي والسياسي لمفهوم الحزب الواحد والقائد المفدى والزعيم الأوحد والرئيس إلى الأبد ، ولسياسة الإبعاد بالنفي والقتل والسجن ، ولنهج الاستئثار بالسلطة وممارسة الاستبداد ، ولا سيما أبشع أنواعه ، أي الاستبداد الديني ( على رأي الكواكبي).
الخوف ليس على المساجد ، بل من إساءة استخدامها وتوظيف القداسة الدينية في الشؤون السياسية المدنسة . أما التخويف من تدخل الجيش المصري فهو ليس سوى ذريعة . بعد أن ثبت أن الأصوليات كلها تعتمد على صيغ من التنظيم العسكري السري، قد تختلف تسمياته ( فرقة ، خلية ، مجموعة ، فرعية ، منطقية ، شعبة ، فصيل ، سرية ، الخ ، الخ ، وصولا إلى مجالس القيادة والرئيس والأمين العام والقائد العام والمرشد العام ، حتى آخر مبتكرات التمسك بالسلطة بأحدث أدوات الاستبداد.
خطيئة الإصولية الاسلامية في مصر تمثلت في اغتصابها السلطة والاستئثار بها وانتهاك الدستور وتعطيل الديمقراطية وإلغاء العمل بالمؤسسات.
ثورة مصر الثانية خطوة ضرورية على طريق الديمقراطية وبناء دولة القانون
المدن
الصراع على خريطة طريق الثورة
مصطفى اللباد
رئيس مركز الشرق للدراسات الإقليمية والإستراتيجية ـــ القاهرة
تقف مصر الآن على مفترق طرق كبير، سيرسم الطريق الذي ستذهب إليه بعد إسقاط حكم «الإخوان المسلمين».
خريطة الطريق والتجربة السابقة
اختبر المصريون تجربة خريطة الطريق وأهميتها الفائقة في رسم ملامح المستقبل قبل سنتين ونصف، وبالتحديد عند إسقاط حكم المخلوع حسني مبارك في 11 شباط 2011. احتشد المصريون على مدار ثمانية عشر يوماً مجيداً، في الفترة الواقعة بين «25 يناير» 2011 وحتى يوم تنحي مبارك يوم 11 شباط 2011، أبهروا خلالها أنفسهم والعالم بعزمهم وقدرتهم على إسقاطه. بعدها مباشرة حددت خريطة الطريق ملامح المستقبل لفترة انتقالية، تلك التي انتهت مع موجة الثورة الثانية في «30 يونيو» 2013 التي أسقطت مرسي وجماعته من الحكم. خلت الميادين من الجماهير مباشرة بعد تنحي مبارك، فعادت إلى بيوتها منتشية بانتصارها. ساعتها تقدمت مجموعات الضغط وأصحاب المصالح، فحسموا في ما بينهم خريطة طريق، أفضت في النهاية إلى ما أنتهت إليه من صفقة بين «الإخوان المسلمين» والمجلس العسكري بقيادة طنطاوي وعنان. لم تكن هذه الصفقة ممكنة بدون خريطة طريق متفق عليها في ما بين الأطراف الفاعلة، تلك التي جلست في الغرف المغلقة لتترجم موازين القوى على الأرض بشكل يخدم مصالحها. ولما كان انفضاض الجمع قد ترك الساحات خالية إلا من مجموعات الضغط وأصحاب المصالح، فقد فقدت الثورة ممثليها في التفاوض على خريطة الطريق. والأخيرة ليست سوى محصلة الاتفاق بين التحالف المتبلور بعد إسقاط النظام، وهي كانت في الموجة الأولى من الثورة بين المؤسسة العسكرية وجسم النظام القديم الذي فقد رأسه فقط، وجماعة «الإخوان المسلمين» التي لم تصنع الثورة ولم تشارك بها في بداياتها، وإنما هندست خريطة طريق مواتية لمصالحها. في الموجة الأولى من الثورة تم ترقيع الدستور وترك مهمة صياغة الدستور الجديد إلى هيئة تأسيسية بعد انتخابات البرلمان، ما يعني ترك النظام السياسي القادم كله رهنا بانتخابات ستربحها القوة الاكثر تنظيماً على قوى الثورة المشتتة والأقل تنظيماً والمفتقرة بوضوح إلى قيادة تمثلها، وعن طريقها تستطيع فرض أهداف ثورتها. ساعتها وافقت قوى النظام السابق «الفلول» على خريطة الطريق الإخوانية لقطع الطريق على إزاحة كامل النظام وحصر الخسائر في رأسه فقط، وبالتالي ترقيع الدستور القديم يحول دون تغيير جذري في بنية النظام، ما يعني في النهاية توسيع قاعدة التحالف الحاكم بضم جماعة «الإخوان المسلمين» إليه. في الموجة الثانية من الثورة يبدو الموقف مختلفاً بعض الشيء، فهناك تبلور لقيادة سياسية معنوية تتمثل في الدكتور محمد البرادعي والأستاذ حمدين صباحي. وهناك حركة ثورية هي «حركة تمرد» دعت إلى التظاهرات وقادتها حتى إسقاط الدكتور محمد مرسي، وما زالت مستمرة في التظاهر بالميادين. بالمقابل كانت الموجة الأولى بلا رأس تنظيمي أو قيادي، فنبتت التنظيمات الشبابية كالفطر على خلفية طموحات شخصية في الأغلب، ومن دون سند فعلي جماهيري على الأرض. وبالرغم من الاختلاف الواضح بين الموجتين، إلا أن هناك أيضاً مشتركات تخص موازين القوى. شاركت قوى «الفلول» في الموجة الثانية من الثورة، بعد ان حاولت جماعة «الإخوان المسلمين» استبعادها من التحالف الحاكم بغرض تمكين الجماعة وحدها من مفاصل الدولة. ويبدو واضحاً أن المواكبة الإعلامية للموجة الثانية من الثورة، وإحجام قوى الأمن عن قمع التظاهرات، وكلاهما ينتمي في غالبية قياداته إلى فلول النظام السابق، عكس مساهمة ضمنية في إسقاط حكم الجماعة. بمعنى آخر تتنازع الآن في مصر قوى الثورة ممثلة في «حركة تمرد» والتيار المدني العريض بتلويناته، مع ثلاث قوى مرة واحدة. تتمثل القوة الأولى في قوى النظام السابق التي تريد إعادة عقارب الساعة إلى الوراء وحصر الثورة في إسقاط حكم «الإخوان المسلمين» مع الإبقاء على قسمات النظام وانحيازاته الاجتماعية والسياسية على حالها، في حين تظهر القوة الثانية في التيار الديني ممثلاً في التيار السلفي الذي أفرد الغطاء السياسي على الثورة بمشاركته في إعلان عزل الدكتور محمد مرسي، بالرغم من عدم مشاركته فيها، لا في موجتها الأولى ولا في موجتها الثانية. والقوة الثالثة هي القوات المسلحة المصرية وقيادتها، والتي تعتقد أن «أخونة» مؤسسات الدولة يضرب المصالح الوطنية المصرية في الصميم، وستشارك إلى حد كبير ـ بحكم موازين القوى ومنطق الأمور ـ في رسم خريطة الطريق المرتقبة.
المصالح المتضاربة في خريطة الطريق الجديدة
تريد قوى النظام السابق الآن تفريغ الثورة من محتوياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية عبر فرض أولوياتها على المرحلة الانتقالية، بحيث يصبح مطلب عودة الأمن إلى الشارع المصري بعد انفلات سنتين ونصف مسوغاً لفرض مبدأ «عفا الله عما سلف» والتغاضي عن جرائم وقعت ضد المتظاهرين والثوريين ودماء الشهداء. كما تبغي قوى النظام السابق الالتفاف على مطلب العدالة الاجتماعية، وهو مطلب مؤسس للثورة المصرية بموجتيها، عن طريق إعطاء الأولوية لإسقاط قضايا الفساد المالي السابقة تحت شعار «التصالح مع رجال الأعمال الهاربين»، وهو مطلب سارت فيه حكومة محمد مرسي بتفان وإخلاص. وتروم قوى النظام السابق أيضاً ترميم النظام السياسي ليعود إلى حاله الأول وتوازناته الأولى، عبر خريطة طريق تثبت أجندتها وأولوياتها وإنهاء العزل السياسي لرموز نظام مبارك. بالمقابل يريد التيار السلفي ممثلاً في حزب «النور»، الإبقاء على دستور «الإخوان» ورفض مبدأ تغييره، ووافق على تغيير الدستور ولكن دون المس بالمواد التي تتعلق بالهوية الإسلامية للدولة. يعرف حزب «النور» أن موافقته على المشاركة في المرحلة الانتقالية كممثل للتيار الإسلامي وكغطاء سياسي لإسقاط حكمهم، تحمل فرصاً ومخاطر في آنِ معاً. تتمثل الفرص في وراثة نفوذ جماعة «الإخوان المسلمين» في الدولة وتثبيت مكاسب للتيار الإسلامين تسمح له بوراثة نفوذ «الإخوان المسلمين» في الشارع أيضاً . وبالمقابل تتمثل المخاطر في وصمه بالخيانة لمصالح التيار الإسلامي، وهو ما يواجهه بالتصلب في رسم خريطة الطريق الجديدة ليقتنص الفرص، وليرد في الوقت ذاته على منتقديه بأن وجوده في المرحلة الانتقالية يمنع التيارات المدنية والعلمانية من القضاء على مكتسبات التيار الإسلامي. بمعنى أخر رغبة الجيش والقوى الثورية في وجود ممثل للإسلاميين في المرحلة الانتقالية، تعطي حزب «النور» حق فيتو من نوع ما يشهره في اللحظات المفصلية الحالية، لإجبار باقي الأطراف على تغيير خريطة طريقهم، وبالتالي أهدافهم، وهو ما يمنع بالتالي من وصول الثورة إلى أهدافها. ولا يخفى أن أولويات حزب «النور» لا تتضمن العدالة الاجتماعية ولا العدالة الانتقالية ولا السيادة الوطنية ونوابه لا يقفون احتراماً أثناء عزف السلام الجمهوري الذي يعتبرونه مظهراً غير إسلامي.
الجيش المصري: الحَكَم بين الأطراف
تقف المؤسسة العسكرية المصرية باعتبارها طرفاً فاعلاً وشريكاً حقيقياً في الموجة الثانية من الثورة أمام تحديات كبيرة، داخلية وإقليمية ودولية. وتتعرض هذه المؤسسة إلى ضغوط قوية من أطراف العملية سواء من فلول النظام السابق أو السلفيين أو من ممثلي الثورة في المرحلة الانتقالية لرسم خريطة الطريق، نظراً لأهميتها في تظهير توازنات النظام المقبل. للمؤسسة العسكرية مصالحها في الدولة، ورؤيتها لإدارة الصراع ولكنها تعلمت من درس «المجلس العسكري» الفاشلة منذ سقوط مبارك وحتى انتخاب محمد مرسي، فلم تتصدى لإدارة المرحلة الانتقالية الحالية وتركتها للقوى المدنية. ومع ذلك ومع احتدام الخلاف بين أطراف المرحلة الانتقالية: القوى الثورية وفلول النظام السابق والسلفيين، فستضطر إلى اتخاذ موقع الحكم بين الأطراف الثلاثة. كان معلوماً من البداية أن الدكتور محمد البرادعي هو مرشح «حركة تمرد» المفضل لرئاسة الحكومة الانتقالية، وكان طبيعياً أن يكلفه الرئيس المؤقت بذلك، ولكن اعتراض حزب «النور» وعدم حماس القوى المؤيدة للفلول أجل تسميته، وأغلق الباب أمام خريطة طريق تلبي أهداف الثورة وطموحاتها. هنا سيضطر الجيش إلى تغليب وجهة نظر على أخرى وفقاً لاعتباراته وما يراه مناسباً في المرحلة الانتقالية الراهنة، منعاً للانزلاق إلى فوضى أو مواجهة لا يرغبها في ظل تصاعد الضغوط الأميركية عليه لصالح «الإخوان المسلمين».
الخلاصة
يميز خيط رفيع بين المرونة والتفريط، لذلك على القوى الثورية إبداء المرونة تجاه ممثلي التيار الإسلامي في المرحلة الانتقالية (حزب «النور») منعاً لاستئصال الإسلاميين من الحياة السياسية، وهو أمر لو حدث سيشرع ويشرعن الانزلاق إلى نزاعات مسلحة لا يريدها أحد ولا تخدم المصالح الوطنية المصرية. ولكن بالمقابل التهاون في فرض قسمات خريطة الطريق والتنازل في أحد محكاتها الرئيسة والمفتاحية، أي تعيين البرادعي رئيساً لها، سيعد تفريطاً لا يغتفر في أهداف الثورة، بغض النظر عن شخص البرادعي، لأن خريطة الطريق التي سيجترحها هي الأهم. تعلّم المصريون من درس تحرير السفينة، ثم تسليم زمامها لمن لم يشارك في تحريرها، لأنه سيرسي على الشاطئ المناسب لمصالحه هو وليس مصالح أصحاب المصلحة الحقيقيين. ومن شأن القبول بفيتو حزب «النور» والنزول على إرادته أن ترسم خريطة على قياس وقيافة التيارات المعادية بالثورة، ما يعيدنا بالنهاية إلى المربع رقم واحد. لا يتبق أمام «حركة تمرد» والقوى الثورية إلا حشد الجماهير والنزول إلى الميادين بكثافة تمسكاً بالثورة وأهدافها، وتثبيتاً لانتصارهم بغرض ترجمته إلى خريطة طريق تحقق أهداف الثورة. سيذهب الحشد المدني في الشارع وتسمية رئيس الوزراء وطريقة تشكيل الحكومة الجديدة كمؤشرات لا تخطئ على طبيعة المرحلة الانتقالية التي تمر بها مصر الآن وحصص اللاعبين الكبار فيها.
السفير
——————–