صفحات العالم

المواجهة مع إيران عسيرة/ أفشون أوستوفار

 

 

التزام الشدة مع إيران عسير. فإعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب رفض التصديق على التزام إيران الاتفاق النووي وعزمه على توسيع العقوبات الى الحرس الثوري الإيراني، دليل على العسر هذا. ورفض التصديق على التزام إيران الاتفاق النووي وتوسيع العقوبات هما خطوتان تعلن من طريقهما إدارة ترامب استياءها من إرث الرئيس باراك أوباما في التعامل مع إيران. ولكنهما أماطتا اللثام كذلك عن عجزها (أو عدم رغبتها في) عن تغيير استراتيجيتها إزاء إيران تغييراً دراماتيكياً. وأدركت إدارة ترامب أن تغيير سياستها إزاء إيران متعذر ما لم تغير سياستها الأوسع في الشرق الأوسط، واستراتيجيتها في سورية على وجه التحديد.

ولا شك في أن مصالح أميركا كثيرة في الشرق الأوسط، منها حماية أمن إسرائيل وطمأنة الحلفاء من طريق مرابطة قوات بحرية أميركية يعتد بها في مياه الخليج. فإيران هي عدو الحلفاء كلهم، وشبكة مقاتليها الزبائنية («حزب الله» والميليشيات العراقية والحوثيين في اليمن)، هي رأس حربة هذه التهديدات. وردع طهران ووكلائها هو من أولويات أميركا في الشرق الأوسط. فواشطن ملتزمة إرساء استقرار العراق وهزيمة «داعش» في العراق وسورية ومكافحة «القاعدة» و «داعش» في المنطقة.

ونواة الاستراتيجية الإيرانية الإقليمية هي جبه أميركا وحلفائها. فطهران ترغب في انسحاب القوات الأميركية من الخليج والعراق وسورية وبسط سيطرتها ونفوذها الأمني هناك، إثر انتهاء الحرب مع «داعش». فهي ترمي الى إرساء كتلة إيرانية من العراق الى لبنان، واقتنصت الفرص السانحة، إثر التمرد الحوثي في اليمن، وبسطت نفوذها في شبه الجزيرة العربية لتشتيت قوة الخصوم. ولكن التناقض يشوب الاستراتيجية هذه. فطهران ترغب في طرد أميركا من الشرق الأوسط، ولكن أعمالها (اعتداءات بحرية في الخليج، ودعم زبائن مثل «حزب الله» وتجاربها الصاروخية الباليستية)، هي، الى حد بعيد، ما يبقي القوات الأميركية هناك ويحول دون انسحابها.

والحق يقال إن ردع إيران ليس يسيراً. فالحروب في العراق وسورية واليمن شرعت الفرص أمام إيران لبسط نفوذها في المنطقة. وفي كل دولة من هذه الدول، تعاظمت قوة «زبائن» أو وكلاء إيران، فحازت دوراً ريادياً في النزاعات هذه وتضخم دورها في مستقبل الدول هذه. ووضوح رؤية طهران الاستراتيجية هو وراء قدرتها على التأثير تأثيراً أسرع وأبلغ من نظيره الأميركي في الديناميات المتغيرة في المنطقة، إثر نزاعات ما بعد الربيع العربي. ففي سورية، على سبيل المثل، أمضت إدارة اوباما أربع سنوات وهي محتارة في أمر دعم الثوار دعماً كاملاً أم عدم التدخل في النزاع، في وقت إن طهران بادرت منذ البداية الى دعم الرئيس السوري، بشار الأسد، ولم يتذبذب موقفها. وكان دعم إيران الأسد ليشدّ عود دعم أميركا الثوار في سورية لولا ثلاثة عوامل: تدخل أكبر وأكثر مباشرة في سورية يفتقر الى الشعبية في الداخل الأميركي، غلبة المتطرفين السنّة على الثوار تدريجاً، وانشغال إدارة اوباما بالمفاوضات مع طهران حول برنامجها النووي، إثر انتخاب حسن روحاني في 2013. فأخطار تدخل عسكري أميركي ضد الأسد حينذاك كانت كثيرة: احتمال ترجيح كفة المتطرفين، والانزلاق الى قتال مع وكلاء إيران، وتهديد المفاوضات النووية. وعليه، كانت أسباب إحجام واشنطن عن التدخل في سورية، وجيهة ومعقولة. ولكن الوقوف موقف المتفرج نسبياً ساهم في بروز «داعش»، وتوسع الدور الإيراني الأمني، وتدخل روسيا في الحرب السورية في أيلول (سبتمبر) 2015- والتدخل هذا قيّد قوة واشنطن ورجّح كفة القوات الموالية لإيران والأسد. فهو رفع أخطار التصعيد واحتدام المعارك، وجنت طهران مكاسب هذه القيود والتدخل. فالمظلة العسكرية الروسية تحمي حلفاءها.

والحرب على «داعش» في العراق رمت بواشنطن وطهران الى تحالف أمر واقع في بغداد. وعلى خلاف سورية حيث تتباين المصالح الأميركية والإيرانية تبايناً بائناً، تدعم واشنطن وطهران بغداد وأرست قوات وموارد لهزيمة «داعش». وعلى رغم غياب التنسيق بين القوات الأميركية وبين طهران ومجموعاتها، نسقت كلتاهما مع الحكومة العراقية والجيش العراقي، وهما ترميان الى أهداف واحدة: هزيمة «داعش» وحماية وحدة العراق. والتقاء مصالحهما جعلهما في معسكر واحد إزاء قضية استقلال كردستان. ولكن مصالحهما المتقاطعة تفترق: ترغب طهران وحلفاؤها في انسحاب القوات الأميركية من العراق بعد دحر «داعش». وسبق لوكلاء إيران أن حاربوا القوات الأميركية واستهدفوها في حرب الخليج الثانية، وهم يتوعدونها اليوم إذا شنت عملية عسكرية ضد الأسد أو إذا لم تنسحب من العراق، إثر دحر «داعش». ومنذ بدء الحملة العسكرية على «داعش»، قدرة طهران على استهداف القوات الأميركية بواسطة وكلائها هي شوكتها في مواجهة أميركا. ولم تستخف واشنطن بهذه الأخطار، فهي تعرف أن أي خطوة تخالف المصالح الإيرانية في سورية أو غيرها، تعرض قواتها للخطر في العراق.

وكان في مقدور الرئيس ترامب في مطلع ولايته توضيح سياسة بلاده في الشرق الأوسط. فعلى سبيل المثل، كان في وسع واشنطن ترك سورية لمصيرها مع روسيا. وهذا كان ليطلق يدها في مكافحة «داعش» في العراق ويخفف التوتر مع إيران. ولكن تسليم سورية لإيران ليس خياراً واقعياً، فهو يخالف المصالح الأميركية ومصالح الحلفاء في الشرق الأوسط. وفي الأعوام الأخيرة، سعت طهران ووكلاؤها الى المرابطة على طول الحدود السورية مع إسرائيل. وهذه المرابطة تنفخ في أخطار النزاع بين إسرائيل والقوات الإيرانية الولاء. وقد يزعزع مثل هذا النزاع استقرار الشرق الأوسط كله.

ومشت إدارة ترامب على درب سياسة اوباما، ولم تجبه إيران في سورية. وأقدمت على خطوتين (تقدم ذكرهما) تفاقمان الضغط على طهران، ولكنهما لن تقوضا مكانتها في الشرق الأوسط، أي لن تخلفا أثراً في مشكلة واشنطن البارزة مع العاصمة الإيرانية. وفي المتناول الضغط على الحرس الثوري الإيراني من دون المسّ بالاتفاق النووي. والجمع بين رفض المصادقة على التزام إيران الاتفاق النووي وزيادة العقوبات لفّ سياسة أميركا بغموض. فـ «رفض المصادقة» أضعف الموقف الإيراني ضد إيران. فجلت واشنطن على صورة من لا يؤتمن، على خلاف طهران التي ظهرت في صورة القوة المسؤولة والمعقولة.

وإذا رغبت أميركا في أن تدحر الحرس الثوري الإيراني، حريّ بها استهداف نقاط قوته في المنطقة، بدءاً من سورية. ولا يترتب على هذه المواجهة تدخل عسكري يرجح كفة الثوار، بل التمسك بمصالح أميركا والحلفاء في مستقبل سورية، والحؤول دون مرابطة أمنية مستدامة لميليشيات أجنبية على الحدود السورية الجنوبية. ومثل هذه المرابطة قد تنقل عدوى نزاع من الحدود السورية مع إسرائيل الى لبنان. والحؤول دون ذلك يقتضي توجيه واشنطن دفة المرحلة الانتقالية في سورية ما بعد «داعش»، والحرص على ألا تزعزع استقرار المنطقة من طريق التعاون مع إسرائيل والأردن وروسيا وتركيا للحؤول دون استخدام مجموعات إيرانية الولاء سورية منصة لشن عملياتها عبر الحدود مع الدول المجاورة. وعلى أميركا تشجيع التنازلات الإيرانية ومكافأتها. فدور طهران لا يُنكر في المنطقة، وعلاقاتها بسورية والعلاقات وثيقة. واحترام أعمالها في المجالات المشروعة مثل التجارة والديبلوماسية والاستثمارات التجارية، واجب، على خلاف عملياتها السرية وسعيها الى بث الاضطراب في دول الجوار. ولا شك في أن الانسحاب من الاتفاق النووي يرجح كفة رفض إيران المساومة ولا يساهم في جبه عملياتها الشائكة في المنطقة. وهذا يقتضي ترجيح كفة الردع (الحؤول دون سلاح نووي إيراني ودون بروز ملاذات آمنة دائمة لوكلاء إيران على الحدود السورية، وجبه العدوان الإيراني في الخليج) على كفة المبادئ والقيم في الاستراتيجية الأميركية.

* صاحب «طليـــعة الإمـــام: الدين، الســياســـة، والحرس الثـــوري الإيـــراني»، أستـــاذ مســاعد في شؤون الأمن القومي، عن «فــــورين افيــرز» الأميــركية، 25/10/2017،

إعداد منال نحاس

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى