ملالي إيران ومعركة الدفاع عن المحافظة 35
عمر كوش
(إلى الشهيد عمر عزيز)
في إحدى الجلسات الدمشقية، التي كانت تجمعنا في بدايات ثورة الخامس عشر من آذار/ مارس 2011، كان الحديث يدور بين ثلة من المثقفين السورين، حول خصوصيات الثورة وآفاقها، وتحدث عمر عزيز عن الخصوصيات، التي كانت مواجهة نظام دموي له امتداداته الإقليمية والدولية من بين إحداها، ويجسدها ارتباط النظام الأسدي بشبكة تحالف صلبة، ذات نسيج مذهبي ظاهر، باطنها يخفي أهدافاً متعددة، لا يحصرها الحفاظ على تركيبة الأنظمة والقوى الميليشاوية، بل تمتد إلى تأبيد وتأليه رموزها، ومصادرة حقوق العامة واحتلال الفضاء العام، وبسط هيمنات وأجندات، وسواها. وتمتد خيوطها من طهران مروراً ببغداد ودمشق، وصولاً إلى الضاحية الجنوبية في بيروت، ثم رحنا نتساءل عن طبيعة المشروع الإيراني في المنطقة، وعما يريده نظام الملالي من سوريا. وأخذ التفكير ينحو باتجاه الحيثيات التي تجعل نظام إيران الإسلامي يخوض معركة مكلفة، دفاعاً عن رصيفه السوري، ومدى تأثيرها على شعوب المنطقة ودولها، وعلى مآل المشروع الإيراني نفسه.
ولعل إرهاصات معركة الدفاع عن النظام الأسدي التي يخوضها النظام الإيراني منذ بداية الثورة، كشفت عن مضمرات، ما كانت لتظهر، لولا إحساس بعض ساسة النظام الإيراني وآياته، بأن النظام الأسدي بات في حكم الماضي، ويعيش مرحلته الأخير، الأمر الذي أخرجهم عن طورهم الهادئ أو الناعم، وكشف ملامح مشروعهم القومي التوسعي، وبالتالي لم تكن زلّة لسان ما تحدث عنه مهدي طائب، واعتبر فيها أن سوريا بالنسبة إلى المشروع الإيراني هي المحافظة الإيرانية الخامسة والثلاثون، وأنها تكتسي أهمية أكبر من أهمية عربستان (الأهواز) بالنسبة إلى ملالي إيران.
ويبدو أنه كلما ضاق الخناق على النظام السوري، كلما فرطت أعصاب ساسة إيران الرسمية، وبشكل يفضح تورطهم واستخدامهم “الأزمة السورية” كورقة، إلى حدّ اقترح فيه عباس عراقجي، مساعد وزير الخارجية الإيراني لشؤون دول آسيا والمحيط الهادي، إدراجها في محادثات النظام، الذي ينتمي إليه، مع مجموعة 5+1، وبما يجعلها ترتقي إلى مصاف قضية الملف النووي الإيراني، بوصفها قضية النظام الأولى، الأمر الذي يكشف طبيعة وتركيبة العقلية، المتحكمة في ساسة النظام الإيراني، ويشير إلى النهج الذي اتبعوه في معاداة الثورة السورية، مقابل الدعم الهائل للنظام السوري، قرين نظامهم في النهج والممارسة والتوجهات، وإلى حجم التورط والتورّم الذي أصابهم، كي يحافظوا على نسيج شبكتهم التي نسجوها في المشرق العربي، ورفعوا عليها يافطة “محور الممانعة”، التي كشفت زيفها وتهافتها الثورة السورية، بعد أن دخل النظام السوري وحلفائه في دائرة بركان ثائر، لن تهدأ حممه وحمولاته، إلا بإسقاط أصحاب الرؤوس الحامية، الذين يتصرفون وكأنهم قادة دول عظمى، في وقت لا تظهر عظمتهم الجوفاء، إلا على شعوبهم، في صورة إقصاء وقمع وخراب وقتل العزل.
كان الأجدى بالنظام الإيراني أن يحسب بدقة ارتدادات وإرهاصات معركة دفاعه عن حكام محافظته الخامسة والثلاثين، وأن يصرف مليارات الدولارات المهدورة، لتلبية احتياجات حياة الناس في المحافظات الإيرانية. واقتصاد إيران أولى بتلك الأموال، خصوصاً وأن عامة الإيرانيين ترزح تحت وطأة فساد و”سلْبطة” مافيات وممارسات نظام مارق، استمرأ مقارعة الكبار، كي يستكبر على شعبه، وعلى ثوار وناس المحافظة الخامسة والثلاثين، وراح يتفاخر ويتاجر بثقل العقوبات الاقتصادية الأميركية والأوروبية، وهو يعرف أن الأنياب النووية التي يطمح إلى امتلاكها، لن ينالها إلا على حساب إفقار غالبية الإيرانيين، بعد أن أفقر حياتهم السياسية، وصادر مجالهم العام، لصالح إطلاقية وصلاحية ما يقرره الولي الفقيه، ولصالح تحكم غالبية الملالي بمقدرات وقدرات الشعوب الإيرانية.
غير أن الثمن الذي يدفعه النظام الإيراني، يصرف في الحقيقة على معركة دفاعه عن حكام المحافظة الملحقة بمجال نفوذه. وهي بالمناسبة ليست المحافظة الوحيدة الملحقة بإيران، حسب تصورات مهدي طاب ونظرائه، لعله لم يخطأ العدّ، حين لم يقل أن سوريا هي المحافظة الثانية والثلاثون، باعتبار ان عدد المحافظات الإيرانية هو 31، بل إن الكويت والبحرين وجزر الإمارات وجنوب العراق، وربما العراق برمته، وجنوب لبنان أو لبنان برمته، هي أيضاً تدخل في تعداد المحافظات الملحقة بإيران. وربما الأمر لا يتوقف عند هذا الحدّ، لكن تعامل ساسة إيران مع الوضع في سوريا، وكأنه القضية الأهم بالنسبة إليهم في منطقة الشرق الأوسط، يدعو إلى النظر في آلية تفكير ساسة النظام الإيراني، وتلمس الأسباب والحيثيات التي جعلتهم، يرسلون جنرالات ومقاتلين إلى سوريا، ولعل مقتل الجنرال في “الحرس الثوري” حسن شاطري، والذي يحمل أسماء مزيفة ومهام مزيفة، إذ كيف يعقل أن يقتل في سوريا، وهو يترأس “الهيئة القانونية الإيرانية لإعادة إعمار لبنان”، إلا إذا كانت إعادة إعمار لبنان لا تكتمل إلا في القتال إلا جانب النظام السوري، الذي سجل سابقة تاريخية في صفقة مبادلة أسرى إيرانيين من الحرس الثوري، بأسرى سوريين معتقلين في أقبية أجهزته الأمنية.
ويذهب التفكير في أبعاد الدور الإقليمي لإيران إلى المشروع الإيراني الارتدادي، الذي يضرب عمقه في التاريخ، وتحكمه مرجعيات الثأر من عرب اليوم، لمعارك ومواجهات قديمة، لم يخضها عرب اليوم، ولا يسألون عنها، بالرغم من أنهم يشكلون الآخر المختلف معه مذهبياً وعرقياً حسب التصنيف الإيراني، مع العلم أن العرب الذين دخلوا إيران، في غابر الأزمان، دخلوها كمسلمين، وفاتحين، ولم يكنوا العداء للشعوب الإيرانية التي دخلت الإسلام من دون إكراه.
والناظر في عقلية المتشددين في إيران، يجد أنهم دعاة مشروع إيديولوجي، يتخذ تلاوين مختلفة في المنطقة، ويقف وراءه عقل سياسي، يزاوج ما بين الديني والقومي، أي ما بين العقيدة المؤولة مذهبياً، وفق فهم رجال دين متزمتين، وبين الطموح القومي الضارب في عمق الإيديولوجيا والتاريخ الغابر، الأمر الذي يجعل منه مشروعاً جامعاً ما بين السعي إلى الهيمنة والإلحاق وإلى التغيير، وهادفاً إلى تحقيقهما بمختلف الوسائل، المشروعة وغير المشروعة. ولا يقدم دعاته ومناصريه أية تنازلات، ولا يقبلون بالمساومات أو التسويات، حتى وإن تعلّق الأمر بالأسم فقط، حيث مازالوا يرفضون تسمية “الخليج الإسلامي”، التي اقترحت كحل وسط لتسمية الخليج العربي، ويصرون على تسميته “الخليج الفارسي”، بل ويتخذون إجراءات عقابية صارمة بهذا الخصوص.
والمفارق في الأمر هو أن الشعب الإيراني، لا تسكن غالبيته هواجس هذا المشروع، ولا يكنون العداء للشعب السوري أو لسواه من الشعوب العربية وغيرها، في حين أن الموقف الإيراني الرسمي حيال الأزمة في سوريا، اتسم بالانحياز الكامل للنظام السوري، منذ اندلاع شرارة الحراك الاحتجاجي الشعبي فيها، حيث تبنى الساسة الإيرانيون خطاباً داعماً للنظام في نهجه وسياساته الداخلية والخارجية، ونظروا إلى الثورة بوصفها نتاج “مؤامرة خارجية”، “صهيونية وأطلسية”، ثم زادوا عليها صفة “العثمانية”، وحصروا هدفها في النيل من مواقف النظام المعادية للمشاريع الأميركية والصهيونية، ولم يخفوا وقوفهم القوي إلى جانبه بكل إمكاناتهم الدبلوماسية والسياسية واللوجستية والعسكرية، بل دعموه بالرجال والمال والسلاح، وتبنوا وجهة نظره وطريقة تعامله مع الأوضاع الدامية والمتغوّلة في قتل المدنيين وتدمير البلاد. وراحوا يتحدثون عن كربلاء جديدة، بالتناغم مع أزلام النظام السوري، الذين تفتقت أذهانهم عن “كربلاء العصر”، بلغة مخاتلة ومخادعة، توظف كربلاء القديمة، لصالح من يتاجر بدم “الحسين”، وبتجيير أكثر الناس بعداً عن روح كربلاء وروح الدين.
ومنذ عقود عدة، يحاول ساسة النظام الإيراني تنفيذ معادلات، تنهض على قيام إيران بدور الدولة المحورية بأسنان نووية، كي تتزعم المشرق الإسلامي تحت يافطة ذرائعية، فحواها الصراع مع إسرائيل ومجابهة الولايات المتحدة الأميركية. وهي يافطة شعاراتية فارغة، لأن هذا النظام سارع على الدوام إلى مهادنة المشاريع الأميركية والاستفادة منها، بل وساعد الإدارات الأميركية، التي تعاقبت على البيت الأبيض، على تنفيذ مرادها في أفغانستان وفي العراق. في حين أن الصراع المزعوم مع إسرائيل اكتسى معانٍ لفظية، طنانة فقط، لأن الهدف من ورائه ضمان أمن النظام الإيراني وسلامة نخبته الحاكمة، إلى جانب سعيه إلى إيجاد مجال حيوي يضمن نفوذه الإقليمي القوي.
يبقى أن النظام الإيراني يعيش إخفاقات داخلية على مختلف الصعد، ولا يكل عن بحثه المحموم في تعويض تلك الإخفاقات، سوى التلويح بالبرنامج النووي، وبمدّ الأذرع التدخلية، ومحافظات جديدة، واللعب على وتر العصبية القومية، المسبوغة ببلوثة التفوق الآري، الممزوجة بوهم التفوق المذهبي وولاية الفقيه، وما ينتج عن ذلك من عنصرية قومية دينية مركبة، يبيعها النظام، بدلاً من أن يتلفت إلى حاجات ومشاكل غالبية الإيرانيين المسحوقين، والتصالح مع عالم اليوم على أسس المصالح المشتركة، واحترام حقوق الإنسان، والديموقرطية، وسائر قيم العصر.