صفحات العالم

لكنْ كيف تُسرق الثورات؟

 

حـازم صـاغيـّة

راجت وتروج في الأوساط الممانعة نظريّة غريبة مفادها أنّ الثورات العربيّة “سُرقت”. والنظريّة هذه، ذات الدلالة الغنيّة عن أحوال الممانعين، تستحقّ دائماً نقاشاً يفوق ما حظيت به.

فالبيئة الممانعة لا تستطيع، من حيث المبدأ، أن تكون ضدّ “الثورات”. فهي وعدتنا طويلاً بها وهي تنفجر في وجه “الامبرياليّة والصهيونيّة وعملائهما من الحكّام العرب”. لهذا فإنّ العطل ليس في الثورات، بل في المآل الذي آلت إليه وفي القوى التي انتهت عندها. وهنا تلعب “السرقة” دورها، فتمتدّ اليد الأميركيّة الخفيّة ذات ليل لتقضم هذه الثورات وتحرفها عن مسارها “الطبيعيّ” وتفصلها عن أصحابها “الطبيعيّين”.

لكنْ هل يستطيع أيّ عقل سويّ أن يبتلع هذه القدرة الإمبرياليّة على سرقة الثورات في بلدان تمتدّ من تونس إلى اليمن، مروراً بليبيا ومصر وسوريّا، بلدانٍ تختلف ظروف إحداها عن الأخرى اختلافاً لا يعوزه الشرح والإيضاح؟ ثمّ كيف يعقل أن ينجح المعسكر الإمبرياليّ – الصهيونيّ، ومعه حلفاؤه من الحكّام العرب، في إنجاز هذا الهدف الضخم، وأن ينهزم، هو نفسه، أمام حزب الله، في 2006، في لبنان؟

هناك شيء لا يستقيم في هذا التقدير إلاّ إذا استُعين بعنصرين: الإنكار والسحر.

فالإنكار، أوّلاً، هو ما يقود إلى التغافل عن “التحليل الملموس للواقع الملموس”، ومن ثمّ غضّ النظر عن المستجدّات والتحوّلات التي شهدتها وتشهدها البلدان المعنيّة، في الواقع كما في أنماط الوعي. إلاّ أنّ هذا الإنكار ليس بريئاً، إذ يملك وظيفة محدّدة هي الإعلان عن بقاء أصحابه على قيد الحياة. ذاك أنّ الإقرار بتحوّلات الواقع والوعي إنّما يتسبّب بإحالة الممانعين، فكراً وقوىً، إلى التقاعد.

أمّا السحر، ثانياً، وهو ما يملأ الفراغات الضخمة التي يخلّفها الإنكار، فمفاده، هنا، تضخيم قوّة الخصم تضخيماً خرافيّاً، ثمّ السهو عن ذلك أحياناً بالتقليل، أيضاً على نحو خرافيّ، من قدرات هذا الخصم. ذاك أنّ الإمبرياليّة التي هي “نمر من ورق”، والتي أمكن تحقيق “نصر إلهيّ” عليها، تستطيع دفعة واحدة أن تسرق خمس ثورات عربيّة! وهذا ما يذكّر ببعض أدبيّات اللاساميّة الأوروبيّة حيث يُقدّم اليهود بوصفهم ذوي بأس وقوّة يجعلهما يسيطرون على سياسات الدول الكبرى ومالها وإعلامها، ويتيح لهم التآمر على كلّ من تسوّل له نفسه التجرّؤ عليهم، كما يُقدّمون، من ناحية أخرى، ضعفاء وجبناء و”شذّاذ آفاق” يعيشون عيشاً طفيليّاً على حساب الآخرين.

هكذا ينقاد الوعي الممانع إلى الارتماء في حضن الوعي التآمريّ المحض. إلاّ أنّ النزعة التآمريّة، هنا، تتجاوز التناقض الذاتيّ إلى البله: ذاك أنّ ما هو “مسروق” عمل عامّ جدّاً ومعلن جدّاً يشارك فيه الملايين في وضح النهار!

موقع لبنان الآن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى