مناقشة لبيان المعارضة السورية للتغيير السياسي
بقلم رينود ليندرز
الكلمات التسعمئة التي تقتصر عليها العريضة تفضح بعض مواطن القصور الجدية التي تعاني منها المعارضة السورية في تجاوز العقبات التي تعترض انتقال السلطة الذي تأمل في تحقيقه.
نظراً إلى الفظائع التي تُرتكَب الآن في سوريا والدعاية السيئة جداً التي تُسبّبها للنظام، قد يُخيَّل إلينا أن إصدار بيان أو عريضة فاعلة تدعو إلى التغيير السياسي في هذا البلد هو مهمّة سهلة. يكفي العريضة أن تركب قطار الاحتجاجات التي تتصاعد بسرعة وتعبّر عن الغضب العميق الذي تشعر به شرائح واسعة من الشعب السوري. فضلاً عن ذلك، من شأن أي نداء علني جدّي أن يُظهر أن هناك بديلاً حيوياً من النظام، من طريق طرح مقترحات ذكية للتغيير السياسي وإيراد لائحة مثيرة للإعجاب من الموقّعين الذين ينتمون إلى مصاف ألمع الأدمغة وأكثرها احتراماً في سوريا.
بيد أن مطلقي “المبادرة الوطنية للتغيير” لم ينجحوا في تحقيق أي من هذا. فقد كشف بيانها الصادر في 29 نيسان [الماضي] بعنوان “المعارضة السورية تطالب الجيش بحماية المدنيين وتسهيل العملية الانتقالية” عن عجز التجمع. فيما تحظى المبادرة بتغطية إعلامية تمهيدية واسعة النطاق، من الواضح أنها تهدف إلى جعل السوريين الذين لا يزالون متردّدين، يتّخذون موقفاً. لكن العريضة تبدو وكأنها تدافع عن الحجج القليلة جداً والباطلة أكثر فأكثر التي يسوقها النظام لمصلحة استمرار الحكم السلطوي المجمّل ظاهرياً بواسطة بعض الإجراءات الإصلاحية الرمزية.
باختصار، الكلمات التسعمئة التي تقتصر عليها العريضة تفضح بعض مواطن القصور الجدّية التي تعاني منها المعارضة السورية في تجاوز العقبات التي تعترض انتقال السلطة الذي تأمل في تحقيقه.
تستند العريضة في بدايتها إلى أساس راسخ عندما تشير إلى موجة التغيير السياسي الدراماتيكي التي تجتاح المنطقة معتبرة أنها الخلفية التي تجعل “من الضروري وضع حد للحجج التي تتحدث عن الاستثناء السوري”. بيد أن المشكلة سرعان ما تظهر عندما يحاول واضعو العريضة أن يقلبوا إحدى الحجج التي يستخدمها النظام لمواصلة القيام بالأمور كالمعتاد – من دوننا ستقع فوضى وحمامات دماء – رأساً على عقب عبر إلقاء المسؤولية كاملة في الفوضى والعنف على أزلام النظام إذا استمرّوا في مقاومة قيادة التغيير الديموقراطي بأنفسهم.
لا شك في أن اختصاصياً في العلوم السياسية ينتمي إلى مدرسة الانتقال الديموقراطي للحكم سيوافق على هذا التقويم، وعلى الأرجح أنه سيكتب بعد سنوات قليلة انتقاداً لاذعاً حول طريقة تعامل النظام مع الانتفاضة. لكن بالنسبة إلى السوري الأكثر محافظة سياسياً والذي ربما لا يزال يحتاج اليوم إلى بعض الإقناع للانخراط في الثورة المحفوفة بالمخاطر، تصبح الصدامات بين القوى الأمنية والمتظاهرين أمام منزله نذيراً لسيناريوات أكثر عنفاً ذات أحجام تفوق الخيال؛ وهذا سبب إضافي كي يحكم أكثر فأكثر إقفال بابه وينتظر أزمنة أفضل.
تتابع العريضة على نحو مفكك وغير مترابط فتطالب بمختلف أنواع الإصلاحات المرغوب فيها في السياسات والتي لا يعترض عليها أحد: فرض ضوابط وتوازنات مؤسسية، إصلاح القضاء، مكافحة الفساد، رفع حال الطوارئ. في هذه المرحلة، قد يُعذَر القارئ إذا تهيّأ له أنه يقرأ بياناً صحافياً صادراً عن وكالة الأنباء السورية الرسمية، فالرئيس بشار الأسد هو من وضع شعار الإصلاح نفسه في صلب ردّه على الانتفاضة. في الواقع، من شأن السوري المحافظ الذي يأمل واضعو العريضة في حمله على اتّخاذ موقف أن يتثاءب لدى قراءة كل هذا التشابه الاستطرادي ويتساءل لماذا كل هذا الضجيج.
لكن عندما تحاول العريضة تمييز نفسها عن خطاب النظام، تستخدم عبارة مدويّة تدفع السوري الأقل ميلاً إلى المغامرة إلى تحصين بابه الأمامي تحصيناً شديداً: “وفوق ذلك كله بالطبع يأتي إعطاء كل الحقوق السياسية للكرد […]”. بالتأكيد، سواء كان ذلك مقصوداً أم لا، تحمل عبارة “كل الحقوق السياسية” مقارنة بـ”الحقوق المدنية المشروعة تماماً” دلالات عن نطاق من التنازلات يبدأ بالاستقلال الذاتي وينتهي بالدعوات إلى الانفصال. وفيما حاول القادة الأكراد السوريون جاهدين في الأعوام القليلة الماضية أن يشدّدوا على أن نيّتهم ليست تكرار الأجندات الكردية ذات السقف العالي في شمال العراق، لا تأخذ العريضة الحالية في الاعتبار الخفايا التي تنطوي عليها هذه التأكيدات. جل ما تفعله العريضة في هذا السياق هو وضع العراق – الذي يرمز في سوريا في شكل خاص إلى العنف والمذهبية والفوضى – عند عتبة “الأكثرية الصامتة” التي يزعم النظام أنه ما زال يتمتّع بدعمها.
في زمن الأزمات وما ينجم عنها من معلومات، الانطباعات مهمّة بالتأكيد، وربما أكثر منها في الأزمنة “العادية” للحكم السلطوي. بالفعل، ليس مستبعداً أن يتصرّف عناصر النظام والسوريون العاديون انطلاقاً من الشائعات ولا سيما في ما يتعلّق بالتحوّلات المتصوَّرة في ميزان القوى إذ إن الانتفاضات غير المسبوقة تخلط أوراق النفوذ. في هذا السياق، يبدو أن لإشارات العريضة إلى دور القوات المسلّحة السورية أهمية، إنما مجدداً للأسباب غير المناسبة. يرد في العريضة “إن المؤسسة الوحيدة التي بإمكانها قيادة هذا التحوّل هي الجيش، وتحديداً وزير الدفاع الحالي العماد علي حبيب ورئيس الأركان العماد داود راجحة فكلا الشخصين بما يمثّلان من خلفية يدركها السوريون قد يكونان قادرين على لعب دور محوري في عملية التحول […]”.
بالتأكيد، يبدو أن هذه الفقرة تنسجم ضمناً مع التقارير غير المؤكَّدة والمبالَغ فيها على الأرجح بأن شرائح مهمّة من القوات النظامية المسلّحة السورية مستاءة من القمع الشديد، وتنشقّ عن الجيش احتجاجاً و/أو تصطف إلى جانب المتظاهرين. وفي هذا السياق، أشار آخرون بصورة مقنعة إلى أنه من المستبعد أن يتكرّر في سوريا السيناريو التونسي أو المصري حيث يقف الجيش النظامي إلى جانب التظاهرات أو على الأقل لا يسحقها. ستحرص الكتيبة الرابعة والحرس الجمهوري المدجّجان بالسلاح والمواليان للنظام على عدم حدوث ذلك. لا يعني هذا بالتأكيد أنه لا يمكن السوريين أن يأملوا في الحصول على الدعم من القوات المسلحة النظامية ورجالها الأقوياء. لكننا نتساءل ما النفع من أن يذكر واضعو العريضة علناً أسماء من يأملون في أن يقفوا إلى جانبهم؟ فغالب الظن أن ذكرهم سيجعلهم تحت المراقبة الشديدة من المتشدّدين في النظام أو يدفع الأخير إلى تجريدهم من الصلاحيات المستقلّة القليلة التي ربما يتمتّعون بها. حصل شيء مماثل قبل عقد عندما أُرغِم رئيس الأركان السوري حكمت الشهابي على الاستقالة عقب شائعات مدعومة بأدلّة عن وجود روابط صداقة تجمعه بكل من وليد جنبلاط والراحل رفيق الحريري اللذين كانا من الخصوم الأقوى لبشار الأسد في لبنان في ذلك الوقت.
ربما تريد المعارضة أن تولّد انطباعاً بأنها تتمتّع ببعض الدعم في صفوف القوات المسلّحة، حتى لو كان انطباعاً خاطئاً أو غير مهم. ففي المخيّلة الشعبية، من شأن هذا الانطباع أن يخفّف من مشاعر الخوف من الانضمام إلى الانتفاضة التي لا تزال تنتشر على نطاق واسع. لكن ذكر أسماء شخصيات عسكرية معروفة علناً وامتداح رصيدها بطريقة مبهمة، كما تفعل العريضة، لا يعزّزان هذه الانطباعات. على النقيض، تترك العريضة لدى قارئها انطباعاً بأن المعارضة تتلهّف لاختراق القوات المسلّحة وتفتقر بوضوح إلى هذه القدرة. وهي تؤكّد عن غير قصد ما أراد المتشدّدون في النظام تسليط الضوء عليه منذ البداية: في ما يتعلق بإمكانات الأجهزة القمعية، لا يزال موقف النظام صلباً جداً.
وتخفق العريضة أيضاً إخفاقاً ذريعاً لناحية المسائل التي لا تأتي على ذكرها. فعبثاً نبحث عن إشارة ولو عابرة إلى عدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية الشديدة التي يتسبّب بها “اقتصاد السوق الاشتراكية” الذي يعتمده النظام ويلقي بملايين السوريين في مختلف أنحاء البلاد في براثن الفقر. قد يكون هذا مطمئناً للمنتفعين القلائل من رأسمالية المحسوبيات السورية الذين ينتمون إلى الطبقة العليا، لكن من المستبعد أن يدفعهم إلى دعم الانتفاضة. حتى تاريخه، ليست هناك أي دلائل عن تعاطف “بورجوازية وطنية” مع فكرة التحوّل الديموقراطي كما حصل في مصر. لكن الغالبية الكبرى من السوريين الفقراء الذين لديهم أسباب وافية للانتفاضة ضد المحسوبية واللامساواة المادّية لن يجدوا ما يعبّر عنهم في “المبادرة الوطنية للتغيير”. كما أن من يفكّرون في الانفصال عن النظام لا يجدون تطمينات كثيرة بأنه لن تكون هناك جولات ثأر في المستقبل انتقاماً من جرائم النظام الماضية والراهنة. تذكر العريضة باختصار الحاجة إلى إنشاء “لجنة وطنية للحقيقة والمصالحة”. لكننا نتساءل ما هو عدد السوريين الذين يعرفون معنى هذه العبارة. في الواقع، عدم وضوح المفهوم بالنسبة إليهم مبرّر تماماً؛ فقد ارتبطت الآليات التي حملت اسم “الحقيقة والمصالحة” في بلدان كثيرة، بمحاكمات جنائية رسمية وأعمال انتقامية.
لا شك في أن جمهورية الخوف السورية تجعل الأفراد يتردّدون في إدراج أسمائهم في عرائض عامة وجماعية تدعو إلى إسقاط النظام. ولذلك لم يوقّع على العريضة الحالية سوى 23 سورياً يعيشون في الخارج. تتحفّظ العريضة “لأسباب أمنية شخصية” عن ذكر أسماء 127 موقّعاً آخر هم “سياسيون وناشطون في المجتمع المدني وفي الدفاع عن حقوق الإنسان” يعيشون في سوريا. إلا أنها تورد بطريقة مستغربة أنه يمكن تزويد الجهات الإعلامية بالأسماء، ربما بناء على الطلب. بيد أن هذا لا يلغي الخطر الحقيقي بأن توصف العريضة ومطالبها بأنها مشروع غرباء يتّهمهم النظام عادة بأنهم يكنّون ولاءات مشبوهة، أو يقول عنهم عندما يكون في مزاج أكثر اعتدالاً إنهم غافلون عن الوقائع المترتّبة عن إدارة بلد معقّد بقدر سوريا. من هنا، وانطلاقاً من هذه الخلفية، تؤكّد العريضة حتى حجّة النظام الواهية بأن الانتفاضة الحالية هي من صنع محرّضين خارجيين.
قبل أكثر من شهر، عند انطلاقة الانتفاضة السورية، نشر الناشط المعارض المخضرم رياض الترك مقالاً بليغاً أثنى فيه على شجاعة الشباب السوري في رفض الظلم جهاراً. من أجل تنظيم معارضة فاعلة، يجدر بأعضاء “المبادرة الوطنية للتغيير” أن يحتذوا بدرجة التأمّل الذاتي والصراحة التي تنطوي عليها كلمات الترك: “لست أنا، اليوم، في موقع من يقترح الحلول ويضع السيناريوات المستقبلية. فالتغيير آت بعزيمة الشباب وهمتهم، ليس فقط لأنهم يشكلون غالبية المجتمع السوري، ولكن لأنهم أثبتوا أنهم أكثر وعياً لمتطلبات العصر من أحزاب المعارضة ورجال السياسة، الذين لا يزال الكثيرون منهم مكبلين بخطابهم التقليدي وممارساتهم البالية، يكاد الرقيب الأمني لا يغادر أدمغتهم أبداً”.
وفي سياق مشابه لما لاحظه كثر في الثورة في كل من تونس ومصر، لا يسعنا سوى أن نأمل في أن افتقار الانتفاضة السورية أيضاً إلى معارضة أو قيادة منظَّمة كما يجب لن يكون أمراً سيئاً جداً في الوقت الراهن.
استاذ في جامعة امستردام
باحث في الشؤون السورية
ترجمة نسرين ناضر
النهار