منطقة حظر طيران من أجل سوريا/ آن ماري سلوتر
كانت الصورة -التي نشرتها صحيفة نيويورك تايمز مؤخرا على صفحتها الأولى لقارب محمل باللاجئين السوريين يجرفه التيار بين أمواج البحر الأبيض المتوسط تحت قيظ الشمس- شديدة التعبير عن الواقع.
على حد تعبير ديفد ميليباند -وزير الخارجية البريطاني السابق والرئيس الحالي للجنة الإنقاذ الدولية- فإن الكارثة في سوريا بلغت “أبعادا تكاد تكون فلكية”. وتشير تقديرات المرصد السوري لحقوق الإنسان إلى أن ما يقرب من 250 ألف شخص قُتِلوا، بمن في ذلك مئة ألف مدني، وكثير منهم قُتِلوا بأساليب مروعة بواسطة حكومتهم على مدى السنوات الأربع الماضية.
كما تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن ما يزيد على نصف مواطني البلاد الذين يبلغ عددهم 22 مليون نسمة تركوا ديارهم، وهي أرقام لم يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية. وسوف تؤثر موجة اليوم العارمة من المرض والجوع والبؤس والأمية -أكثر من نصف الأطفال اللاجئين لا يذهبون إلى المدرسة- على جيل كامل مدى الحياة.
من حسن الحظ أن نخبة السياسة الخارجية في الولايات المتحدة تبدو أخيرا على استعداد للقيام بشيء ما لحماية الشعب السوري. إذ يقترب الجنرالات، والدبلوماسيون، ومسؤولو الأمن القومي، والمشتغلون بالعمل في مجال التنمية من التوصل إلى الإجماع لصالح إقامة “منطقة آمنة” يحظر فيها الطيران على طول أحد حدود سوريا.
والواقع أن الحكومة التركية اقترحت مثل هذا الملاذ (الذي وصفته بالمنطقة العازلة) قبل أربع سنوات. ولكن السلطات التركية لم تثبت قط استعدادها لتحويل الكلمات إلى أفعال، ولا أعنى بهذا أنها تلقت أي تشجيع. بل حتى وقت قريب، كانت الولايات المتحدة وأغلب بلدان منظمة حلف شمال الأطلسي تعارض بشدة هذه الفكرة.
وبوسعنا أن نعزو هذا التغير الطارئ إلى أربعة عوامل. فأولا، هناك أزمة المهاجرين في جنوب أوروبا، والتي تشكل تهديدا أكثر توزعا ولكنه ليس أقل خطورة وتحديا من الغزو الروسي لـأوكرانيا. وتشير تقديرات منظمة الهجرة الدولية إلى أن نحو 150 ألف مهاجر وصلوا سواحل أوروبا بحرا هذا العام منذ بداية يوليو/تموز، وهو ضعف الرقم خلال نفس الفترة من عام 2014.
ولكن القصص التي تصنع عناوين الأخبار الرئيسية عن غرق القوارب وموت الأطفال غرقا ليست سوى البداية. ذلك أن ما يقدر بنحو ثلاثين ألف مهاجر يعبرون الآن الحدود الصربية إلى المجر كل شهر، الأمر الذي دفع حكومة البلاد اليمينية إلى إطلاق عملية بناء سياج بطول 110 أميال لإبقائهم خارج البلاد. وفي شهر يوليو/تموز وحده دخل ما يقرب من خمسين ألف مهاجر إلى الاتحاد الأوروبي عبر اليونان.
ورغم أن سوريا ليست الدولة الوحيدة التي تغذي أزمة اللاجئين، فإنها المساهم الأكبر فيها. ووفقا لتصريح المفوض الأعلى لشؤون اللاجئين التابع للأمم المتحدة فإن 34% من 137 ألف شخص وصلوا إلى الاتحاد الأوروبي من الأول من يناير/كانون الثاني إلى التاسع والعشرين من يونيو/حزيران كانوا من سوريا، في حين كانت أفغانستان ثاني أكبر مساهم، حيث تمثل 12%. ومن بين الدول الأكثر مساهمة أيضا إريتريا (12%)، والصومال (5%)، والعراق (3%).
” وبالتالي فإن عدد السوريين يبلغ ثلاثة أضعاف عدد ثاني أكبر مجموعة، وهي النسبة التي تصدق أيضا بين طالبي اللجوء إلى أوروبا. ومع نزوح أكثر من عشرة ملايين سوري، فإن هذا الاتجاه سوف يستمر ما لم يتم فعل شيء ما لضمان تمكينهم من الحياة بأمان داخل وطنهم الأصلي.
ويتمثل العامل الثاني الذي يحفز التحول في الموقف الأميركي في إدراك حقيقة مفادها أن إقامة حكومة سورية جديدة تشكل أهمية بالغة لإلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية أو حتى لاحتوائه. والحقيقة هي أن تنظيم الدولة الإسلامية ليس القوة العنيفة المدمرة الوحيدة في البلاد، فالرئيس السوري بشار الأسد -الذي تعهدت الجماعة المتشددة بالإطاحة به- هو أيضا قاتل ومجرم حرب.
وفقا لمركز توثيق الانتهاكات، فإن السبب الرئيسي للوفاة بين المدنيين السوريين هذا العام كان الاستخدام العشوائي للأسلحة المسقطة جوا: البراميل المتفجرة وقنابل غاز الكلور التي تسقطها مروحيات تابعة للجيش السوري. وفي نظر الجماعات المتمردة الكثيرة في سوريا يمثل الأسد التهديد الأعظم، وبالتالي فلا بد من طرده من السلطة قبل أن يصبح في الإمكان تركيز الانتباه على هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية.
ثالثا، كان الاتفاق النووي مع إيران -برغم ما يواجهه من تدقيق مستمر في إيران والولايات المتحدة- سببا في رفع مستوى الآمال في إمكانية اضطلاع البلاد بدور مهم في الدفع نحو التوصل إلى حل سياسي في سوريا.
الواقع أن السياسة التي تنتهجها إيران بتزويد الأسد بالأسلحة والمقاتلين لإبقائه في السلطة لا تحظى بشعبية كبيرة في الداخل، بل إن قادة البلاد يدركون أيضا أن محاربة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق تدبير منقوص في أفضل تقدير، ما دام التنظيم يسيطر على مساحات شاسعة من الأراضي السورية.
وأخيرا، يدرك من يفكرون في الأمد الأبعد أن جيلا ينشأ مغتربا وغاضبا في مخيمات اللاجئين -كما حدث مع أجيال عديدة من الفلسطينيين- لهو جيل من المتطرفين المحتملين. فلأنهم ليس لديهم ما يخسرونه فإنهم يسعون إلى الانتقام لطرد آبائهم من وطنهم، والذي يتحول بمرور الوقت إلى شعور مثالي على نحو متزايد. ومن هذا المنظور، فإن الأزمة الإنسانية الحالية تُعَد أزمة إستراتيجية في الأمد الأبعد.
” كل هذه العوامل مجتمعة ترغم الولايات المتحدة وأوروبا على تغيير المسار. والمنظور الغربي ليس المنظور الوحيد الناشئ الآن. فيبدو أن جيران سوريا أدركوا أخيرا أن البلاد من الممكن أن تنقسم إلى دولة كردية تزعزع استقرار تركيا، وإقليم تابع لتنظيم الدولة الإسلامية يزعزع استقرار العراق والأردن والمملكة العربية السعودية.
ومن خلال إنشاء منطقة حظر طيران -والتي يمكن الدفاع عنها باستخدام أنظمة الصواريخ البحرية- يصبح بوسع الولايات المتحدة وشركائها أن يثبتوا للأسد أن صبرهم قد نفد أخيرا، وأنهم على استعداد للدفاع عن السوريين من داخل سوريا.
وهذا، جنبا إلى جنب مع معرفته بأن جيشه أصبح ضعيفا وأن معين المجندين الجديد بدأ ينضب، من شأنه أن يجبر الأسد على إعادة النظر في توقعاته الطويلة الأمد، ومن المرجح أن يرغمه على الذهاب إلى طاولة التفاوض. والواقع أن المرة الوحيدة التي أبدى فيها استعداده لإبرام صفقة من أي نوع على مدى السنوات الأربع الأخيرة كانت عندما اعتقد أن الولايات المتحدة على استعداد للتدخل عسكريا ردا على استخدامه للأسلحة الكيميائية.
الواقع أن إعادة بناء سوريا سوف تستغرق عقودا من الزمن، وسوف تحمل أجيال المستقبل الندبة الناجمة عن العواقب السياسية والنفسية المترتبة على الفوضى الحالية، كما حدث في البوسنة إلى حد كبير ولكن على نطاق أوسع كثيرا.
إن الأسلحة والأموال التي تتدفق على مقاتلين نصبوا أنفسهم أبطالا في حرب مقدسة طيلة السنوات الأربع الماضية كانت سببا في تأجيج نيران الثورة التي ربما تؤدي إلى إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط. ولكن لا يجوز لنا أن نتجاهل ببساطة الملايين من البشر الذين وقعوا بين شقي الرحى. ولأسباب أخلاقية وإستراتيجية، حان وقت إنشاء منطقة حظر الطيران الآن.