من الاحتراب على السلطة إلى الثورة/ قاسم عز الدين
المجدُ لسبارتاكوس (إله السيفِ معبود القلم)
مَن قال «لا» في وجهِ مَن قالوا «نعم»
مَن علّم الانسانَ تمزيق العَدَم
«أمل دنقل».
ليس تغوّل «الإخوان» على السلطة وحده ما أدّى إلى هذا الغضب الشعبي غير المسبوق، فالتغوّل الأرعن والأداء الأحمق أدّيا إلى تكتل طبقة سياسية ونُخب ثقافية وإعلامية بوجههم، تمتد من أقصى «الفلول» وبلدان الخليج (عدا قطر) إلى الجيش وأقصى الليبراليين والقوميين واليساريين. لكن هذا التكتل الممتد بخلافاته وتناقضاته لا يستقطب الحشود الشعبية الواسعة التي فجّرت غضبها الثوري كُرهاً بزيد لا حُبّاً بعمرو، إنما حَوْل واحد من «التمكين» الإخواني في عزبة «الأهل والعشيرة»، كان كافياً لإخراج الناس من ثيابهم من دون أن يضمنوا مآرب «السلطة المدنية» المقبلة، في تحقيق بعض حقوقهم. فالتكتل الجديد الصاعد إلى السلطة على أكتاف الحشود الغاضبة لا يصطدم بالاسلاميين فحسب، بل يتصادم في ما بينه أيضاً في الاحتراب على السلطة وتلك مصيبة. أما إذا تكتّلَ القوميون واليساريون مع الليبراليين ــ النيوليبراليين والفلول فالمصيبة أعظم على حقوق أهل الثورة وناسها. لكن الثوار الذين اعتادوا إطاحة الحكم لا بدّ ان يستخلصوا دروس تجربتهم في تغيير مقاربة التحوّل من دمقرطة السلطة في الدستور، إلى دمقرطة الدولة في تفكيك نموذج التبعية الجيوسياسية، سبيلاً لدمقرطة السلطة.
تجربة «الإخوان» في سنة من «التمكين»، هي استفزاز مغرٍ لإثارة علم النفس الاجتماعي في تحليل سلوك جماعة مُقفَلَة (كاست) على عالمها الخاص في كراريسها وطقوسها. لكن غرائبية سلوك الجماعة وأداءها الهزيل في الحكم فجّرا غضب الطبقة السياسية ونخبها المقصيّة عن النفوذ والسلطة، ولم يكن هذا ما فجّر الغضب الشعبي فحسب، فما فجّر هذا الغضب العظيم هو إدارة «الإخوان» السقيمة لمنظومة تبعية الدولة المصرية الجيوسياسية إلى استراتيجية وسياسات «المجتمع الدولي» التي ثار الناس عليها في ثورتهم على حكم مبارك، وظلّوا يطمحون إلى تفكيك هذه التبعية سبيلاً لحقوقهم الوطنية والسياسية والاقتصادية ــ الاجتماعية، فضلاً عن الحريات المدنية والشخصية. فما «مكّن» «الإخوان» من الحكم بمعزل عن أدائهم العُصابي، هو إجماع غالبية تيارات الطبقة السياسية ونُخبها على ما يسمّى «التحوّل الديموقراطي» المُشبَع بثقافة الديموقراطية الدستورية الأميركية التي باتت ثقافة نيوليبرالية معولَمَة. في هذا السياق لم يجد «الإخوان» في مواجهتهم قوى سياسية وفكرية تقارعهم لتحقيق أهداف وحقوق الفئات الشعبية الثائرة، في منحى تحوّل الدولة، نحو دمقرطة سبُل العمران وأسباب المعاش، بل وجدوا قوى سياسية وفكرية تصارعهم على تحوّل السلطة، ما أتاح لهم تبوّء سدّة الحكم في احتراب الطبقة السياسية ونخبها على أخلاقيات وسلوكيات ما يسمى «الدولة المدنية» في الدستور والسلطة.
اطمأن «الإخوان» لحماية «الشرعية الدستورية» في حمايتها مصالح «المجتمع الدولي» فحشروا أنفهم في الإعلام والقضاء والفن والأدب والمرأة والأقليات، وانتقموا ما طاب لهم الانتقام من أحوال «الستين وما أدراك ما الستين»،على قول مرسي. لكنهم كانوا موقنين في «تمكّنهم» هذا، إلى حرصهم على أسس نموذج التبعية في أسسه النيوليبرالية المؤسّسة:
أــ أوّل الأسس المؤسِّسَة لنموذج التبعية النيوليبرالية الذي أخذه «الإخوان» على عاتقهم،هو الانصراف إلى «ترتيب البيت الداخلي» في تنظيم أحوال السلطة والدستور، مدخلاً «للتحوّل الديموقراطي»، على ما تعد المؤسسات الدولية بأعاجيب التنمية والاستقرار ما أن تشبّ «الديموقراطية الفتيَّة» وتشيب. وهو أمر لم يحدث في تاريخ التحوّل لا في أوروبا ولا في الدول الصاعدة. فما حدث هو التحوّل في سياسات الدولة الخارجية والدفاعية والاقتصادية ــ الاجتماعية، مدخلاً للتحوّل في السلطة، لا العكس. لكن الطبقة السياسية العربية بإسلامييها وليبرالييها وفلولها تشبّعت ونخبها، بثقافة دمقرطة السلطة من أجل إدارة نموذج التبعية في فراغ سياسات الدولة وفي مقدمتها المحافظة على «الستاتيكو» الجيوسياسي. فأحد العوامل الفاقعة التي فجّرت الغضب الشعبي هو تهديد مصر بالعطش والتصحّر من دون أن يستطيع مرسي وإخوانه تحريك ساكن، كما لن تستطيع «السلطة المدنية» المقبلة ذلك إذا لم تنحُ إلى تفكيك قيود تدويل مياه حوض النيل التي وقّعَت عليها مصر تحت إشراف البنك الدولي وصناديق الاستثمار، وإذا لم تنحُ نحو تغيير موقع مصر الجيوسياسي في حقلها الجيوسياسي العربي ــ الاسلامي والافريقي نحو الاندماج الأقليمي وإعادة توطين الثروات الطبيعية وفي مقدمتها المياه. هو الأمر نفسه بالنسبة للقيود التي تقيّد مصر باسرائيل، إذ اشترطت كل اتفاقيات «الكويز»، والشراكة الحرّة الأوروبية ــ العربية، ومنظمة التجارة العالمية… إلخ، المرور بإسرائيل ذهاباً وإياباً، ضماناً للتبعية الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية ــ الاجتماعية. فما قيّد «الإخوان» هو انسجامهم مع قيود هذه الاتفاقيات والمعاهدات التي وجدوا فيها مصلحة للبعض منهم ومن متنفذي رجال المال والأعمال، في نهضتهم المزمعَة. إنما في واقع الأمر، حرصوا على «احترام كل الاتفاقيات والمعاهدات» حرصاً على رعاية مصالح مَن هم وراءها في مصر و«المجتمع الدولي»، ولم يحرصوا على حقوق غالبية المصريين المتضررين من هذه التبعية. فأي سلطة في مصر، مهما كان دستورها «مُدوزَناً»، لا تستطيع أن تعدّل بوصة في فراغ سياسات الدولة والانهيار الاقتصادي ــ الاجتماعي، دون منحى اندماجها الاقليمي في تبادل المصالح الوطنية وارتقائها المشترَك في نموذج تضامني لتفكيك النموذج النيوليبرالي. ولا تتدمقرط هذه السلطة سوى بالشكل، ما لم تتدمقرط الدولة بالاعتماد على مصالح الناس المتضررين من الاذلال القومي والقهر الاجتماعي. وعلى هذا الأساس يمكن «ترتيب البيت الداخلي» لا على خلافه.
ب ــ ثاني الأسس المؤسِّسَة لنموذج التبعية الذي حرصت عليه سلطة «الإخوان» برموش العين، كما حرصت سلطة مبارك ويحرص الليبراليون ــ النيوليبراليون، هو «نهضَة الأمة» من نفخ طربوش أعيانها ومتموليها في حرية السوق والتجارة والاستثمار الأجنبي المباشَر. فكل هذه القوى هي على قلب رجل واحد لزيادة النمو بحسب وصايا البنك الدولي والمؤسسات الدولية والمالية. وهي وصايا أثبتت جدواها في تعميم البؤس وإلغاء دور الدولة، وفي استيلاء أصحاب المال في السوق الدولية على الأصول والأرض والثروات العامة. لكن هذا الانهيار المهول يجري تسويقه بين النُخب بدعوى زيادة المال لأعيان السلطة وزبائنها من «رجال الأعمال» المرتبطين بالتبعية للسوق الدولية، حتى يوزّعوا الحسنات والمكارم على «الغلابة» بحسب تعبير «الأخوان»، أو توزيع «عائدات النمو على المواطنين» بحسب التعبير النيوليبرالي الذي يُسمى «العدالة الاجتماعية». في هذا السياق تجرّأ «الإخوان» في مشروع «النهضة القوية» أكثر مما تجرّأت سلطة مبارك في عرض مشاريع خليج السويس «للاستثمار» الغربي والصيني والقطري والتركي بضمانة الأصول وما أسموه «الصكوك الاسلامية». واستكملوا مشاريع مبارك بحماس منقطع النظير بعد أن طوّبوها مشاريع أخوانية، إذ حشروا رجالاً من الإخوان بين المحظيين لا سيما رجال خيرت الشاطر. وبرغم سريان معتقدات هذا النمو الذي يلبي مصالح وطموحات أصحاب النفوذ والأموال وحدهم، يثبت تاريخ الأمم أن الأمة تنهض في المشاريع الصغيرة والمتوسطة، من قاعدة الهرم لا من رأسه.
ثالثة الأثافي في الأسس المؤسسة لنموذج التبعية الذي حرص عليه «الإخوان» ويحرص الليبراليون ــ النيوليبراليون، هي سلسلة من «التعاليم» المدرسية بحيث يدمن على استهلاكها مثقفو جمهوريات الموز بتلذّذ : تمكين، تأهيل، تحفيز، مواطَنَة، الشأن العام، الآخر، شفافية، حوكمة، حلّ النزاعات، … إلخ، على ألاََّ تمسّ هذه التقنيات المدقعة بفقرها المعرفي مصالح زبائنية السلطة ولا نموذج التبعية الذي يتيح لها النهب والفساد. وعلى أن يقتصر ردّ فعلِ الناس المتضررين من هذه المصالح والنموذج، على»حرية التعبير» وحرية اختيار السلطة أو محاسبتها في صناديق الاقتراع.
الديموقراطية التمثيلية تجربة في التاريخ الاجتماعي، لها ما لها وعليها ما عليها وليست كتاباً مقدّساً. فالأصل هو على قول الشاعر المصري: «يا ناس مافيش حاكم إلاّ في خيال محكوم». وهذا الحكم (السلطة) في خيال المحكوم لم يعد يملك حرية القرار في إدارة شؤون البلاد والعباد، بحسب حُسن التمثيل في السلطة وحُسن الدستور. إنما باتت أي سلطة مقيَّدة بسلسلة من قيود النموذج النيوليبرالي المعولَم، ما لم تنحُ إلى تفكيكها، تنجرّ في التبعية إلى مجرى النموذج الذي ذقنا وعلمنا في مصر والعالم العربي وأبعد. في هذا العالم الذي يتحكّم فيه برابرة المال والأعمال، لم يعد أي مفكّر مرموق ولا خبير جدّي غير مرتبط بمصالح البرابرة ومؤسساتهم الدولية يوقن إلى الديموقراطية التمثيلية سبيلاً للتحوّل الديموقراطي، بل يزداد اليقين في كل مكان بين المثقفين والناشطين الثوريين، إلى تعدّد المسارات في مشاركة الغالبية الساحقة المتضررة من التوحّش الهمجي:
1 ــ فرز ممثلي السلطة على أساس رؤى ومشروع لإعادة بناء الدولة في حقلها الاقليمي، لا على أساس الاحتراب على الدستور ومدنية السلطة. وهو فرز سياسي بقطع النظر عما تحت العمامة والطربوش يفصل بين ضفتي صنّاع الحياة والطفيليين، سبيلاً إلى الاصلاحات الدستورية، لا العكس.
2 ــ اعتماد الديموقراطية المباشرة أو الديموقراطية التشاركية في التسيير الذاتي وإدارة الأحياء والبلدات والمحليات والمصانع حيث حياة الناس… استناداً إلى بدائل التضامن الاجتماعي في إدارة الانتاج الصغير، بدل التنافس المسموم وبؤس التهميش.