من الاستنقاع إلى المُساءلـة!/ خيري منصور
هل يمكن لربيع سياسي أن يقترن بخريف ثقافي وفكري، هذا السؤال عمره بضعة أعوام لكنه ما أن يطفو على سطح المستنقع الذي انتهى اليه الواقع حتى يعاد إلى غمدِهِ، لأن هذه المفارقة تفضح سياقا بأكمله، والإركان إلى السجال الفضائي حول إشكاليات معرفية من هذا الطراز فيه استخفاف مفرط بالوعي، والإيقاع المتسارع للأحداث إضافة إلى الرصد الأفقي لها حرمنا طروحات فكرية متجذرة في التاريخ من التحليل المعمق، بحيث بدت أمرا مملا وباعثا على النفور بعد أن أوشكّت العملات الرديئة على طرد العملة الجيدة، لكن وفق منظور ثقافي وليس اقتصاديا هذه المرة. لقد صدر في السنوات القليلة الماضية عدد من الكتب ذات الصلة بالتحولات الدراماتيكية في العالم العربي، معظمها طبخ على عجل أو على نار ذات لهب، وكأن الهاجس السائد هو الاستباق، أو استثمار المناخ المتوتر الذي يجعل بعض الكتب ذات العناوين الأشبه بالأفخاخ الأكثر مبيعا.
من تلك الكتب من حاول مؤلفوها تقديم ما يمكن تسميته فقه الثورة المقارن، بحيث سارعوا إلى عقد مقارنات بين حراكات سياسية عربية وبين الثورة الفرنسية مثلا، ولم يخطر ببال هؤلاء أن الثورة الفرنسية كانت حصيلة لموروث فكري، سواء تعلّق بالعقد الاجتماعي، كما طرحه روسو، أو بمطارحات فلسفية عبّر عنها فولتير بمقولته الشهيرة عن حق الاختلاف، وغاب عن بعض هؤلاء أن الثورة الفرنسية كانت ابنة أكثر مما كانت أمّا، لهذا فهي لم تفرز فكريا وسياسيا ما يليق بدورها العاصف في التاريخ، سواء كان هذا الإفراز بونابرتيا في السياسة أو ساديا نسبة إلى المركيز دو ساد في الثقافة، فبعد أقل من أربعة عقود من اندلاع الثورة احتلت فرنسا الجزائر وارتكبت مجازر غير مسبوقة في التاريخ، بحيث بلغ عدد ضحايا الاستقلال أكثر من مليون ونصف المليون شهيدة وشهيد، وإن كنت أضيف التاء المربوطة للشهيد فذلك بسبب فائض الذكورة في العالم العربي الذي جعل الاستشهاد حكرا على الذكور، وفي الذكرى الخمسين لاستقلال الجزائر وخلال ندوة مكرسة لدور د. فرانز فانون فيها قلت هذا الكلام معاتبا وزيرة الثقافة لأنها سيدة أولا، وتلك بالطبع مسألة أخرى لها مقام آخر.
ربيع السياسة لم يعلنه طائر السنونو في الأفق العربي، بل انفجر من فائض المكبوتات السّبعة التي تراكمت وتفاقمت خلال قرون وليس عقودا فقط كما يتصور البعض، بدءا من المكبوت النفسي مرورا بالمكبوت الطبقي والإثني وليس انتهاء بالمكبوت الجسدي.
لم تشهد الثقافة العربية ربيعا تورق فيه، واختلط الهديل بالنعيق على نحو يثير الشجون كلّها، وما قيل مرارا عن حراك سياسي بلا رأس، كان يغفل مسألة بالغة الأهمية ومن صميم جدلية التاريخ، هي أن الكتلة الصمّاء سواء كانت ديموغرافية أو من أي نمط آخر يتعذّر عليها إنجاب ابناء وأحفاد بلا آباء، مما يجعل من مفهوم التبني شرا لا بد منه.
من هنا سارع بعض المثقفين إلى إعادة نشر روايات ومقالات قالوا إنها خميرة الحراك، بل هي الأب المجهول له، رغم أن معظم تلك الكتابات مما يسمى فقهيا «حمال أوجه»، بحيث لا تدري ما إذا كان المديح هجاء أم العكس، خصوصا أن لغتنا العربية إمبراطورية تعج بالمجازات والاستعارات، وقابليات التأويل.
وكانت تلك مفارقة ثانية بحيث أصبح الأب هو من يطالب الابن بالاعتراف به، وليس العكس، وفلسفة وضع الخيول أو البغال أمام العربات ليست طارئة، إنها إصابة مزمنة في الوعي، منذ ساهم أشباه المثقفين في تضليل الرأي العام، واحترفوا التبرير بكل ما لديهم من مهارات من أجل التمرير.
* * *
نذكر للمثال فقط أن هناك شعراء وكتّابا أطلق على بعضهم لقب ايقونة الثورة طفوا على السطح لبعض الوقت لكنهم نسوا مسألة هي من صميم الثقافة تتلخص في أن الفن الرديء يسيئ إلى القضية التي يتبناها، لأنه يقترض منها ويفقرها بدلا من أن يسلّفها من فائضه، وكنا نظن أن ما آلت اليه قضية القضايا كلها وهي فلسطين قد أنجز الفرز بين القمح والزؤان، وبين الغث والسمين، لكن ما حدث وما قد يحدث أيضا هو هذا الخلط الجائر. وأذكر هنا أن مثقفا عربيا علّق على شعار رفع ذات يوم وهو بالدم نكتب لفلسطين، قائلا:
اكتبوا ايها السادة بالحبر فقط لكن بشكل يليق بهذه التراجيديا ورجاء لا تسطوا على الشهداء لأنهم حتى لو كانو أميين يكتبون بالدم.
السؤال المزمن الذي ينتظر من يحولونه إلى مساءلة ثقافية وأخلاقية هو لماذا عندما تحدث إنجازات سياسية أو عسكرية في العالم العربي تنسحب الثقافة إلى الزوايا؟
بدءا من مقتل السهروردي وصلب الحلاج إلى محاصرة الشعر الحديث في الحقبة الناصرية، عندما منع شاعران حديثان من المشاركة في مؤتمر ثقافي عقد في لبنان. ومن يفسر لنا كيف يمكن لطروحات حول تحديث العراق والرقي بالتصنيع العسكري والعمران الشاهق في ثمانينيات القرن الماضي أن تتناغم مع عودة الشعر العمودي المباشر والكتابات التي غادرها الزمن الثقافي في نهايات القرن التاسع عشر؟
المزاوجة القسرية بين ربيع السياسة وخريف الثقافة أصبحت قضية نقاشها لا يقبل التأجيل، لأن هذا التزاوج بين الغراب والسنونو لن ينجب غير المسوخ.
إن المثقف العربي الذي أعلن العصيان على تعاليم الكدية والاسترضاء والنميمة، وجد نفسه منفيا من الفصول الأربعة إلى فصل خامس لا شجر فيه ولا بشر، تماما كما حدث للشاعر الروماني أوفيد الذي نفاه الإمبراطور الغاشم لأنه كتب عن الحب في زمن الكراهية وعن مسخ الكائنات في خريف حضارة تحتضر!
كاتب اردني
القدس العربي