من الهزيمة .. إلى الهزيمة المستمرة/ خيرالله خيرالله
مرّت ذكرى الهزيمة هذه السنة من دون أن تجد من يتذكّرها. صار عمر الهزيمة نصف قرن إلّا سنتين بالتمام والكمال. أخطر ما في ذكرى الخامس من حزيران ـ يونيو لهذه السنة، هذا الانسداد الفلسطيني الذي يترافق مع إعادة رسم خرائط الدول في المنطقة، خصوصاً خريطة العراق وخريطة سوريا. تبدو ذكرى الهزيمة في السنة 2015، ذكرى أقلّ من عادية متى أخذنا في الاعتبار ما تمرّ به المنطقة من أحداث ستغيّر كلّ شيء فيها.
من يتحمّل مسؤولية الهزيمة؟ لا يزال السؤال مطروحاً، ولكن مع بعض التعديلات الواجب إدخالها عليه.
ثمة حاجة، بسبب مرور كلّ هذا الزمن إلى صيغة جديدة تجعل السؤال المطروح: من المسؤول عن الهزيمة المستمرّة؟
نعم، الهزيمة مستمرّة. ليس ما يشير إلى أنّها ستتوقف في مكان ما. يتبيّن اليوم أن النظام البعثي في سوريا جرّ كلّ هذه الويلات على العرب والمنطقة. يدفع هذا النظام حالياً ثمن ما زرعه حافظ الأسد، وقبله حزب البعث. أسّس الأسد الأبّ جيشاً يخوض به الحرب المذهبية التي تشهدها سوريا منذ ما يزيد على أربعة أعوام. هذا على الأقلّ ما يعترف به جوشوا لانديس الأستاذ الجامعي الأميركي الذي عاش سنوات طويلة في سوريا وكان محسوباً بطريقة أو بأخرى على النظام…بل كان من أشدّ المدافعين عنه.
الأكيد أن جمال عبدالناصر يتحمّل جزءاً لا بأس به من المسؤولية عن هزيمة 1967، لكنّ ناصر ما كان ليصل إلى ما وصل إليه من عجز عن إدراك لمدى اختلال موازين القوى في المنطقة لولا مزايدات البعث السوري. اعترف الزعيم المصري بالخطأ. استقال بعد أيّام قليلة من احتلال إسرائيل سيناء والقدس والضفة الغربية والجولان. امتلك ما يكفي من الاحترام للنفس كي يقدّم استقالته التي ما لبث أن عاد عنها تحت ضغط شعبي حقيقي…
في المقابل، رفع النظام السوري بعد الهزيمة شعار الانتصار. اعتبر أن سوريا هزمت اسرائيل، لا لشيء سوى لأنّ النظام فيها لم يسقط!
بقدرة قادر، انتقل وزير الخارجية السوري وقتذاك، وكان اسمه إبراهيم ماخوس، من الحديث عن «الفخ» الذي وقعت فيه اسرائيل، وذلك قبل أيّام قليلة من الخامس من حزيران ـ يونيو 1967 إلى «الانتصار» السوري في حرب، لم يكن من هدف اسرائيلي لها سوى اسقاط «النظام الوطني في القطر» على حدّ تعبيره.
انتهى ماخوس منفياً في الجزائر بعد استيلاء حافظ الأسد على السلطة في العام 1970 وإزاحته كلّ خصومه، بمن في ذلك الضابط العلوي صلاح جديد الذي أمضى بقية أيّامه في السجن.
تكمن مأساة سوريا في أنّها عانت منذ الاستقلال من أزمة نظام وكيان في الوقت ذاته. بلغت المأساة ذروتها عندما تولّى حافظ الأسد مقاليد السلطة بعد ثلاث سنوات من الهزيمة، علماً أنّه كان وزيراً للدفاع في العام 1967، عندما احتلت اسرائيل الجولان. كوفئ على ما فعله في العام الذي وقعت فيه الهزيمة، بدل أن يوجد من يحاسبه.
هل من مأساة أكبر من هذه المأساة التي حلّت ببلد كان يُفترض أن يكون من أهمّ بلدان المنطقة في ظلّ ما يمتلكه من ثروات، على رأسها الثروة البشرية؟
قبل أن يستفيق الشعب السوري في العام 2011 ويبدأ ثورته بحثاً عن بعض من كرامة، كان حافظ الأسد يحصل على المكافأة تلو الأخرى. ما السبب في ذلك؟ ما سرّ هذه المكافآت؟ هل يكفي تسليم الجولان لإسرائيل كي يصمد الأسد الأب في السلطة ثلاثة عقود وكي يتمكن من توريث السلطة لنجله بشّار الذي لم يكن مهيأ ليكون في هذا الموقع في أي شكل من الأشكال؟
عندما ننظر عن كثب إلى سلوك النظام السوري، تبدأ الصورة تتّضح. ما يتضح أوّلاً أن الأسد الأب لم يفكر يوماً في استعادة الجولان. لم يوظّف ما تحقّق في «حرب تشرين» 1973 كي يعمل بشكل جدّي من أجل استعادة الأراضي السورية المحتلة. على العكس من ذلك، استغلّ تلك الحرب ونتائجها، بما في ذلك تدخل العالم لمنع الإسرائيليين من بلوغ دمشق، كي يصبّ كلّ جهده على لبنان. بذل كلّ ما يستطيع كي يتورّط الفلسطينيون في الحرب الداخلية في لبنان وكي يقيموا «جمهورية الفاكهاني» في بيروت بدل الانصراف لقضيّتهم.
لم يكتف بتوريط الفلسطينيين في حرب لبنان التي رافقتها جهود لإغراق الوطن الصغير بالسلاح، بل عمل كلّ ما استطاع كي يتحقّق أمران. الأوّل بقاء الفلسطينيين اسرى الشعارات والنزاعات والتجاذبات العربية والآخر إبقاء جروح لبنان تنزف. كان تركيزه على أن تظلّ جبهة جنوب لبنان مفتوحة كي يتمكن من تبادل الرسائل مع اسرائيل، خصوصا بعدما صار الجولان منسياً إثر اتفاق فصل القوات في العام 1974. لم تكن اسرائيل يوماً ضدّ هذا التوجّه.
عمل حافظ الأسد كلّ ما يستطيع كي يغرق الفلسطينيون في وحول لبنان وكي يلعبوا الدور المطلوب منهم من أجل تدمير البلد. كان حقده على لبنان حقداً كبيراً. لا يقارن هذا الحقد إلّا بحقد الأسد الابن على الوطن الصغير وعلى كلّ سوري أو لبناني ناجح.
كان الأسد الأب يعارض في الوقت ذاته أي جهد عربي جدي لاستعادة الأرض المحتلة. لم يساعد الفلسطينيين إلّا عندما كانوا يتخذون قراراً مسيئاً لقضيتهم. ولذلك اتفق فجأة مع خصمه اللدود صدّام حسين، الذي لا حدود لغبائه، وأقام معه في العام 1978 حلفاً. كان الهدف من ذلك منع أنور السادات من تحقيق أي تقدّم في مجال استعادة الأرض المحتلة والحؤول دون توفير أساس لمفاوضات تعود بالفائدة على الفلسطينيين، في وقت كان عدد المستعمرات الإسرائيلية المقامة في الضفة الغربية لا يزال محدوداً.
بعد سنتين، تبلغ الهزيمة الخمسين. في انتظار الهزائم الجديدة، سينسى العرب الهزيمة الأصلية. كلّ ما سيتذكرونه أنّ النظام السوري يستكمل حالياً المهمّة التي وجد أصلاً من أجلها. تتمثّل هذه المهمّة في جعل الهزيمة العربية هزيمة مستمرّة.
ستتوّج هذه الهزيمة المستمرّة بنهاية النظام السوري، ولكن سيترافق ذلك مع الانتهاء من سوريا التي تبدو أكثر من أي وقت معرّضة للتفتت في ظلّ المشروع الإيراني الذي يقوم على فكرة ربط الساحل السوري بأجزاء من الأراضي اللبنانية التي تقع تحت سيطرة «حزب الله»…إنّها المأساة الكبرى التي ستتحول شيئاً فشيئاً جزءاً لا يتجزّأ من المأساة السورية، أو من الهزيمة المستمرّة…
المستقبل