من انتقالي دون شرعية إلى شرعية دون مشروع
محمد الحدّاد
كلّ مجتمع عربي خاض تجربة الثورة واجهته فترة انتقالية تمثّل منزلة بين المنزلتين وتفصل بين نظام قديم انهار ونظام جديد لم تتضح معالمه. ولقد ارتسمت معالم المرحلة الانتقالية في كل بلد بطريقة خاصة، ولعلنا نميز على سبيل الإجمال بين مسارين: فهناك المسار التونسي المصري وفيه يضطلع الجيش بأمن البلد في انتظار التسوية السياسية لأوضاعه، وهذا ما يفترض بدءاً وجود مؤسسة عسكرية تحظى ببعض الاستقلالية ولم تتورط في قمع الشعب عندما أفلت أمره على الأجهزة الأمنية العادية. وهناك المسار اليمني – الليبي الذي يعجز فيه الجيش عن القيام بهذه المهمة ويتحوّل بدوره إلى جزءاً من النزاع، فيتضخم العنف وترتفع أعداد الضحايا ويبقى البلد معلّقاً فترة طويلة قبل الحسم في اتجاه الثورة أو ضدّها.
ومما لا شكّ فيه أن كلّ الأشكال الانتقالية هي في جوهرها غير شرعية لأنها قائمة على دساتير ملغاة ونصوص أبطلتها الثورة ومؤسسات غير قابلة للاستمرار. بيد أن الفترات الانتقالية لئن كانت قصيرة فإنها حاسمة في تحديد المستقبل. ففي مصر يبدو أن القيادة العسكرية اختارت منذ البداية شكلاً من التحالف مع القوة السياسية الأكثر قدرة على ضبط الشارع وهي جماعة «الإخوان المسلمين»، وهي تواجه اليوم تحدّيات القوى الليبرالية التي كانت الأكثر التصاقاً بالثورة، وتحدّيات التيارات السلفية التي أثبتت قدرة بالغة في المزايدة على «الإخوان المسلمين». أما في تونس فقد نأت القيادة العسكرية بنفسها عن كل دور سياسي مباشر، وقد أقيمت هيئة عليا للإصلاح السياسي وتحقيق أهداف الثورة كانت ساحة المنافسة، بل المواجهة العنيفة، بين مختلف التيارات السياسية.
ولئن كانت ظاهرة السلفيين تحظى اليوم باهتمام إعلامي فذلك راجع إلى أنها لم تطفُ على السطح في تونس إلا بعد الثورة. أما من جهة التمثيلية السياسية فهي ظاهرة محدودة جداً ولا وجه للمقارنـــة بينها وبيـــن السلفية في مصر. وأما التيار الإخواني الممثــل في تونس بحركة «النهضة» فيـــبدو، على الأقل من خلال خطابه المعلن، أكثر اعتدالاً وتمسكاً بمدنية الدولة من مثيله المصري. لكنّ الأهم أنه بعيد جدّاً من تمثيل الغالبية أو التمتـــع بالانتشار والمقبولية اللذين يحظى بهما «الإخوان» في مصر. وهو سيكون قطعاً من القوى السياسية المهمة في المرحلة القادمة لكنه لن يكون القوّة المحورية. وتقديري لنسبة المصوتين له في الانتخابات المقبلة للمجلس التأسيسي أنها ستكون في حدود الثلاثين في المئة. وعلى أساس هذا التوقع فإن المجلس التأسيسي المقبل ستتغيّر فيه نسب توزيع التيارات السياسية لكنّه لن يختلف في تشرذمه عن الهيئة العليا حاليّاً، فلن يكون تحت سلطة طرف واحد أو غالبية مطلقة.
وبما أن أعمال الهيئة العليا قد تميّزت حتى الآن بعجز فادح من قبل السياسيين عن إيجاد رؤى مرحلية توافقية، فلا شيء يبشّر أن ذلك سيكون ممكناً بعد الانتخابات، بما يترتب عليه من نتائج مخيفة ليس أقلها تواصل معاناة المحرومين من البطالة والفقر، وقد تتعمق الأزمات الاجتماعية وتزداد الخطابات والمطالبات راديكالية.
ولئن كان الخطر الذي يهدّد مصر اليوم تنامي دعوات الدولة الدينية وشبح التقسيم الطائفي بين المصريين، فإن هذا الخطر لا يبدو قائماً في تونس. بيد أن التيار الإخواني في البلدين يواجه تحدياً مشتركاً وغير مسبوق. ففي الماضي كان كلاهما يسعى إلى إدخال بعض التجديد في أطروحاته كي يحظى بالقبول المحلي والدولي، والآن يواجه كلاهما مزايدات على الميدان الديني نفسه من تيارات أكثر منه تشدّداً، بما قد يدفعهما إلى التخلّي عن التجديدات المحدودة التي لم تنبع في الأصل من قناعة قاعدية راسخة بقدر ما كانت اجتهادات من بعض الزعماء السياسيين، ولم تكن مراجعات تنظيمية وفكرية بقدر ما كانت مناورات لتحصيل الاعتراف.
وفي المحصلة فــــــإن الثورتين التونسية والمصرية اللتين كانتـــــا الأقــــل عنفاً قد تنتقــــلان من معضلـــــة إلى أخــــرى. فقد كانت معضلتهما في المرحلة السابقة المرور من مرحلــــة انتقالية فاقدة للشرعيـــة أدخلت الكثير من الاضطراب على القرارات السياسية والاقتصادية، وقد تصبح المعضلة في المرحلة المقبلة الدخول في الشرعية ولكن مع غياب المشروع. فلا التيار الإخواني يحمل مشروعاً ديموقراطياً، وعذره في ذلك أنه عانى على مدى عقود من التهميش والقمع، ولا التيار الليبرالي قادر على تمرير المشروع الديموقراطي، وعذره في ذلك أن عقوداً من التجهيل السياسي المتعمّد للجماهير قد حكمت عليه بالنخبوية والعزلة.
وكما أن الثورات العربية لا تبلغ غايتها بإسقــــاط الحكّام، فإنها لن تبلغ الغاية أيضاً بتنظـــيم أول الانتخــــابات الحرّة والشفافة، والمسار ما زال طويلاً ومعقداً وقابلاً لكل الاحتمالات.
الحياة