صفحات الرأي

 الحل الجذري لـ “داعش”/ محمد برهومة

 

 

لا تُواجه أنماط التديّن التقليدي تحديات قوية وحاسمة، من شأنها أن تدفع هذا التديّن الى الإقدام على مراجـعة جذريــة لمقولاته وأنماطه. كان ثمة تفاؤل مع انطلاق ما سمـي «الربيع العربي»، أن يواكبه توسيع مساحات الحرية والتعددية في الفكر الديني، ورفع منسوب حساسيته إزاء حقوق الإنسان وثقافة العصر والعالم، غير أننا شهدنا، في محصلة السنوات الخمس الماضية، ارتكاسة ونكوصاً تمثّلا في صعود الصراع المذهبي والطائفي والالتصاق بالهوية والضيق بالتنوّع والآخر، وهي أجواء تعدّ، غالباً، على الضدّ من أي محاولة للتساؤل النقدي والمراجعات الجذرية. هذه الأخيرة تأتي حين تسبق حركة الاجتماع حركة التدين، وتتفوق التطورات الاقتصادية والاجتماعية على المسار الذي يحتلّه المجال الديني، فيتولّد التناقض بين الاجتماعي والديني، ما يضطر الأخير الى تقديم تنازلات لمصلحة الأول، لتكون المحصلة تجديداً وإصلاحاً دينياً فعلياً، يحفظ حق التدين والمتدينين من دون أن يوقف التقدم والحركة الحرة للاجتماع.

كان لظهور الرأسمالية والمجتمع الصناعي والطبقة الوسطى والفكر التجريبي وسيادة العقلانية والحرية الفردية، الأثر الأعظم في ولادة البروتستانتية في القرن السادس عشر الميلادي. إنّ حركة الديني ثابتة أو بطيئة عبر التاريخ، فيما حركة الاجتماع لا تتوقف، وهذه السيرورة ستوصل إلى تناقض الاجتماعي والديني، وقد حلّ كالفن هذا التناقض، في الخبرة الغربية، حين قدّم إسناداً دينياً معقلناً للرأسمالية بقوله بمشروعية فكرة الربح بوصفه لا يتعارض مع الكتاب المقدس، ومشروعية فكرة الفائدة المختلفة عن الربا المحرّم، كما يلفت إلى ذلك عبدالجواد ياسين.

الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي خلّفها ما سمي «الربيع العربي»، لا تقوى على مساءلة الموروثات الثقافية والمدونة الفقهية، التي تعدّ سبباً من أسباب تبرير كثر لـ «داعش» وعدم إعلانهم الكفر به، ومن ثمّ تأمين «استعدادات» لاستيطانه وبقائه وعدم القضاء على جذوره، التي قد تُطلّ مجدداً بنسخ أكثر تشدداً، فالزرقاوي كان أكثر تشدداً من بن لادن، والبغدادي فاق في تطرّفه وعنفه الاثنين معاً.

حركة «التحديث من فوق» مُهمة لكنها لا تكفي، يدلّ على ذلك مآل جهود بورقيبة في تونس التي، ويا للمفارقة، هي اليوم البلد العربي الأكثر تصديراً لـ «الدواعش» إلى سورية والعراق، لأن العوائق الثقافية المجتمعية والظروف الاقتصادية، منعت حتى الآن إنتاج تحديث أو حداثة وتنوير تصنعه حركة المجتمع عبر مخاضاته وتفاعلاته، وليس بالاقتصار على أوامر رأس السلطة.

هذا لا يعني انسياق تونس نحو «داعش»، بل إن «هجرتهم» إلى الخارج ناجم عن غياب الحاضنة الاجتماعية لهم في تونس على رغم وجود ظروف إنتاجهم، كما يقول الخبراء، ما يعيد تأكيد الأهمية الكبرى لتنوير تقوده المجتمعات والنخب المدنية، عبر إعادة النظر في الموروث الثقافي والمدونة الفقهية و «الاستعدادات» النفسية والسوسيولوجية، جنباً إلى جنب مع ضرورات التعجيل بالإصلاح السياسي، وتعزيز الحوكمة، وحماية الحريات، ومحاربة الفساد، وإبعاد الديكتاتورية، وفي واجهة ذلك اليوم إبعاد الأسد والمشاركة العادلة لسنّة العراق في محاربة «داعش» وبناء وطنهم.

* كاتب أردني

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى