من نافذتي يا سوريا/ هالا محمد
أرى من نافذتي يا سوريا السماء التي تتصل بسمائكْ.
من نافذتي أسمع أصوات المدينة، فتترجمها نافذتي نغماً نغماً إلى نغماتكْ.
توزّع الإيقاعاتْ، والصخبْ، تحيل عاصمة النور إلى عاصمة الحنين.
لم أكن أنتبه إلى الجغرافيا ولا إلى التاريخ ولا إلى الياسمين ولا إلى أشعار الياسمين قبل الثورةْ.
أكتفي بما في قلبي من أثرْ للمكان والزمان، دون أن أعلمْ أن اقتفاء الأثر سيكون قَدَريْ.
الآن تغيب ذاكرتي ساعة المغيبْ، تحطّ على عقود الياسمين التي يبيعها الأولاد على باب الجامع الأموي في دمشقْ.
على أسوار البيوت الدمشقيّة التي تُظهرمن ياسمينها ما تُبطنْ الرّوحْ منه.
على كورنيش اللاذقيّة، دانتيل حكايات الحبّ، قبل هدمه فوق ذاكرة المدينة وذاكرة أهلها والتاريخْ. كي يعلو مرفأ بشع عاطل عن العمل، يحجب الرؤيا عن المدينة، يقطع التواصل بين المدينة وبين بحرها الأزرق الحرّ، مكان التعايشْ النادر للمحبّة في ذات المكان المفتوح على كلّ الأزمنةْ.
على مقاهي الكورنيش وأهل البلد تحطّ ذاكرتي ساعة المغيبْ، أرى فساتيننا على المقاهي البحريّةْ، وأصحاب المقاهي أبناء البلد الطيبين، يوزعون الضيافات علينا… نحنُ نجوم بعضنا البعض في مساءات اللاذقية الطيّبة.
على ضفاف الفراتْ وشواطئ العاصي، على الأغاني، على المقابر، على أسواق حلب القديمة وخاناتها والموائد في بيوتها العزّ!
وتبقى من هول ما رأتْ معلّقة في لحظة المغيب… النافذة.
من نافذتي… لا أنظر صدّقيني، كما العشّاق المبتدئينْ الذين لا يريدون أن يراكموا خبرة في الحبّ، لا أنظر.
العشاق المبتدئون يغمضون أعينهم تحت سطوة الحبّ، لأنني لن أراكِ لا أنظرْ. ألتصق بالجدار… وأغمض عيني، ضوءك يسافر في الضوء ويوقظ نظري وتتفتّح النافذة هكذا كلّ صباحْ على نهاراتك الموصولة بنهارات الكونْ.
هنا يحبّون الغرباء، يحبّون سماع قصصهم، مآسيهم. الذاكرة المحكية التي نحفظها عن ظهر قلب، ننزلها عن ظهر قلبنا حيثما حللنا، ننزلها على أرصفة المقاهي، على إسفلت الشوارع وفي أجمل الساحات نودع قصصنا، تتداخل في ثقافة المجتمع اليومية العابرة هنا، جزء من ثقافة الإستهلاكْ صارتْ.
كرفّ الحمام تحطّ قصصنا على أطراف الموائد، كحبّات الأرزّ في الصّحون، على الأرض عند الأقدام، ينثرون لحكايات الشجاعات والحرية والموت، الخبز وفتات الكرواسان ونظرات تعاطف وإعجابْ وخوف أحياناً، يريدون لنهاراتهم أن تمضي بسلامْ.. ويسكبون الحبر على أوراق تصير جرائد، الحبر يظهّر اسمكِ. كلّ مقال يظهر فيه اسمكِ يبكيني. وتستفيق القصص.
لا وقت للكتابة، فبين مجزرة ومجزرة، بين مغيب ومغيب، الوقتْ من عدمْ.
يرمي الغريبْ الكلامْ ويقيم في كلامه أو يرحل لا فرقْ. يرحل هو أو هو الكلام يرحلْ أو يقيم لا فرقْ.
بنكهة حزن تشبه نور الزمن في رواياتْ الأدب العالمي المترجم إلى لغات العالم يظهر اسمكِ. وفي اللحظة التي تتفتّح فيها حروف اسمك، تتفتّحْ عشبة العيش المشتركْ المقدّسةْ.
تتشبّث عشبة العيش المشترك باسمكِ، كتمثالْ حريّةْ على ضفاف الحياةْ.
النافذة الجمرُ في غيابكِ تطلّ على الرّمادْ.
تسأل جارتي عبر النافذة عنكِ. فأتدلّل في الجواب. أنطق اسمك على مهلْ كي لا تتعذّبي في الحضور الفوري، كي تأخذي وقتكِ في الغياب.
كلّ المظاهراتْ التي تصرخ في الشوارع هنا أسمعها تهتف: سوريا بدا حرّيةْ.
ضجيج الشوارع: إيقاعكِ.
أفلام السينما كلها تتحدث عنكِ. وقصص الحب، والأغاني، كلها كلها… نغماتْ بديعة كلما لاحَ أثركِ في البال.
الغربة، ما هي الغربة!
أنتِ للغربة وطن.
المشكلة فقط في النبض. في إيقاع النبض، في انتظار الذبحة القلبية، كتفاحةْ، كنافذتي المعلقة في الزمن التي لا أرى منها سواكِ.
المدن