مونولوجــات بــاردة
احمد باشا
ـ1ـ
المدن المحاصرة تهزم في داخلنا فقط ، ونحن من يجبرها أيضاً على الانتصار.
المنفردة توحي لكَ بالكثير من الأفكار الجهنمية، كأن تحفر الجدران بأنفاسك، وتركض، أو أن يأتي جلادُ تحل عليه الشفقة ويجلس مكانك، يهبك مفاتيح السجن من دون أي مبرر درامي أو منطقي حتى، بهذه الطريقة تحرر المدن المحاصرة.
هكذا يُنتظر الموت في المنفردة دون ملل، هل من تحريرِ جديد؟، أسمعُ وقع خطا سائرة باتجاه منفردتي، هل يحق لي أن أبتسم مثلكم لخشخشة المفاتيح الحديدية؟
ـ2ـ
لفتاةٍ اتعبتها الحكاية..
الفتاة التي كانت تنتظر مايشبه «صاحب الظل الطويل» سارت بأزقة دمشق مراراً، قداماها الصغيرتان كانتا تشعران بحنين الحجر الصلب، فترسم.
كراس صغير للرسم ودفتر للعالم الآخر الذي كانت تصنعه، لم تنم يوماً قبل أن تنقذ جميع البشر بدموعها، كانت تحزن لأجلهم، الزمن كان خديعةً، هكذا سمعت يوماً جدتها العجوز تقول، لذلك تركت تلك المسافة مع نفسها ليكتب فيها غريبٌ مجهول.
هذا الرجل لم يكن غريباً لأن الكلمة كانت تجعلها ترقص، تحلم، تعرف نفسها، لم تكن «أسيرة الكلمات» كما قال لها يوماً، بل كانت أسيرة تلك المسافة، مسافة بين زمنين، بين كوكبين.
ها هي تبتسم من جديد لأنها لا زالت تحلم بأن البشر سيمرون مثلها عبر تلك المسافة.
أن البشر لن يموتوا أبداً.
ـ3ـ
في الكراج لم أعد أرى الأطفال «ماسحي الأحذية، بائعي اليانصيب، مصطنعي العاهات، العاهرات الرخيصات». في الكراج أحنُ إلى «الطعام الملوث والبسكويت الرخيص… أحن إلى طفل متسول يتشبث بقمصي وبظهر أمه أيضاً.
أُذني افتقدت لحن الضجيج فجأة، والأغاني الهابطة وشتائم العسكر المحتفظين بأخر خمس ليرات في جيوبهم
قدمي لم تعد تتلوث في الوحل والأوساخ وسجائر السائق العصبي، ولا حتى بكلمات المعاون البذيئة، أو شاشة التلفاز الصغيرة
اشتاق الى رائحة العرق، والعفن، وزيت المحرك وصعود الركاب على الطريق.
تغريني كيفية كتابتي لهويتي بتفاصيل خلبية في الدفتر الأثري
في الكراج حوصرت الذاكرة بسور حجري مرتفع،
بدأت الإصلاحات، الإصلاحات..
الكراج دشنوه…
أعلنوه مقبرة…
وساد الصمت
ـ٤ـ
«وماتوا ورائحة الخبز تفوح منهم.. ماتوا باسمين»
حلفايا! تشتهر بـ«الطرطورة» المزينة التي يشتغل معظم سكانها في بيع المؤونة لمعظم الريف الحموي، هذا ما اتذكره بالظبط، وجه أبو محمد الرجل الأسمر الأربعيني، أعرف رائحة التوابل التي تنبعث من كفيه، اشتمها في هذه اللحظة…
لن أنسى شكل الطرطورة الأسطورية التي طالما سحرتني زينتها.. التي طالما أطلق عليها «طرطورة الثورة»، حيث كانت تتوسط ساحة العاصي وكان حنجرة القاشوش مزينةً مثلها تماماً، طربي كطفل يحدق من النافذة عندما كانت تمر عروس أبو محمد «الطرطورة» هو نفسه عندما سمعت القاشوش الذي دائماً تخيلته يمسك بقوة بإحدى عوارضها الملونة…
حلفايا!… أقدامي تتذكر تماماً أرضية الملعب الخشنة عندما كنا نذهب لنلعب مباراة لكرة القدم مع فريقهم، أحذيتهم الجلدية كانت مثل جلد أيديهم، دافئة وخشنة ، تحفزهم على الركض والانتصار علينا في كل مرة.. بجباتهم الخشنة ترى ابتسامة فرحة عندما يقدمون لنا بين الشوطين «شعيبية» لكل لاعب منا، خساراتنا كانت دائماً فائقة الحلاوة…
حلفايا
الخسارة
الأرضية الخشنة
الموت المُزين.
حلفايا !
كلابية أبو محمد الرمادية
المؤونة..
المؤونة
رائحة التوابل المنبعثة من العظام
هل ستتسع عروسك يا أبو محمد لكل هذا الموت
والخبز؟
ـ٥ـ
حملت حقائبي ومشيت، نساء الحي حول جثمان أبي، وشيخ نصاب في صدر المنزل.
لم أكن أعرف أنني لن أراه بعدها، أطرافه باردة، حدقتان متوسعتان، أختاي الصغيرتان تلعبان عند قدميه، تعالت أصوات الجميع، ضجيج، ضجيج، مصياف_ النبك_ دمشق، هذا ماحصل بالضبط.
يا أنت! أفتح النافذة لو سمحت!
هل دخلنا الأراضي اللبنانية؟!
ـ٦ـ
لم أتمدد يوماً على سكة القطار… لكني شعرتُ بأني قد فعلتُ ذلك مراراً، كان صوت الصافرة قوي جداً، لدرجة أنني لم أشعر بالموت.
ـ ٧ـ
علبة تبغ، جثة مجهولة الهوية، فدية، محرك باص، اختناق مروري، عبوة ناسفة، عاشق عابر ،بزة عسكري، قهوة من دون رائحة، في الجزيرة السورية ثمة جزرٌ، بسطات عقول في سوق الحرامية، دمشق وغيرها، حوادث خطف لن تنتهي
أٌقف هنا.. أقف هناك، ثياب ممزقة، بسرعة.. قبلها أنت، أنا سأضغط على الزناد، المسدس فارغ.. لارصاصات، ركضتَ وراءها.. تصرخ بقوة، يعلو الصوت أكثر
قل لها بأن تخرس، بازار للخيانة، اصفعها أنت، لا أنا، أضعتَ يديك، المسدس فارغ،
موت ـ
ـ إعتام ـ
السفير