مُصوِّر البيوت المهجورة
ميرفت أحمد
في الاستوديو حيث عمل قبل بدء الأحداث في سوريا وامتداد ألسنة لهبها إلى حيّه في مخيم اليرموك، كان الناس يقصدونه لأخذ صور تذكارية للعائلة في المناسبات السعيدة أو لالتقاط صور بورتريه لأوراقهم الرسمية التي لا تنتهي. اختلفت المهام اليوم.
المصوّر ما زال موجوداً. مصور.. نعم، وفي داخل سوريا، إنما قد تصلح تسميته اليوم بمؤرخ الصورة. الرجل يعمل اليوم، وبشكل أكثف، على خلاف بعض الناس الذين توقفت أعمالهم منذ بدء الأحداث. أولئك الذين اضطروا إلى ترك بيوتهم وأماكن عملهم، كي ينعموا بحياة تفتقر إلى كل شيء إلا الشعور بالأمان والنوم أخيراً بلا خوف من أصوات الرصاص والقذائف، وربما من دون وسادة.
طلبات التصوير التي ينفذها الشاب اليوم، أليمة وجزء من يوميات الدمار. يتلقى طلبات الناس عبر “فايسبوك”، لتصوير منازل أجبر أهلها على تركها، ليحمل بعد ذلك آلة التصوير في مهمة سريعة لالتقاط الأرواح من بين ركام الموت.
لا تعرف قدماه الخوف أو الارتعاش. لكأنَّ الكاميرا التي يأخذها أينما ذهب، تمنحه تلك القوة التصويرية لانتزاع المشهد السينمائي من بين السواتر ورصاص القناصة والشظايا.
لا يهدأ للشاب بال حتى يعود إلى شاشته الصغيرة ويعيد في إطارها بناء البيوت، إذ يعرض الصور التي التقطها في صفحته في “فايسبوك” وهي بعنوان: صور مخيمنا – “مخيم اليرموك”، والتي تجاوز عدد معجبيها العشرة آلاف شخص.
غايته الوحيدة من قفزه فوق تلك الحواجز كلها، وتكبد عناء الرعب، أن يطمئن الناس على بيوتهم وشوارعهم. لا مكان هنا للكثير من الصور الفنية، أو “الكادرات” الصحيحة. في حالة الفوضى والهلع، أكثر ما يهم هو التقاط تلك الصورة.
إنه نوع من المعونة المعنوية العظيمة التي يقدمها شاب صامد في حيه، الخالي من السكان تقريباً، لجمهور النازحين الباحثين عن ظلال بيوتهم. يعيد لهم الأمل ويطمئنهم بأن بيوتهم في الحفظ والصون، فهو يعتبر نفسه حارس ممتلكاتهم… صُورها على الأقل.
يتحدث الشاب، الذي يفضل عدم نشره إسمه، إلى “المدن”، فيقول إنه “في بداية الأحداث بدأت بتصوير الناس والأماكن العامة قبل تصعيد الأوضاع في مخيم اليرموك. كنت ألتقط الصور في حين كان الناس في أعمالهم، وما إن يرووا صورهم على الصفحة حتى يشعروا بفرحة بالغة. هكذا فجأة تولدت في داخلي رغبة هائلة لتصوير كل شيء حولي. إنه الخوف من فقدان أولئك الناس وتلك الأماكن”.
ويضيف: “في ذلك الوقت تعرض المخيم لبعض القذائف وكنت أسعى دائماً إلى توثيق المكان بكل تفاصيله”.
تغير كل شيء، بحسب الشاب الذي نقل عمله من الأستديو الصغير والعمل الروتيني داخله، إلى التصوير الميداني. في رأيه، “الوطن بات هو الأستوديو الأكبرن وكنت حريصاً على نقل صورته، خصوصاً عندما تفاقمت الأوضاع وبدأت حركة النزوح الكبيرة، إذ كنت أتجول في الشوارع وحدي وأصرخ: هل هناك أحد؟ فلا أسمع إلا صدى صوتي مختلطاً بأصوت القذائف والرصاص من حولي”.
يبدو الشاب وكأنه يحدث نفسه: “أفكر في مستقبل عملي، أفكر أن ما أفعله اليوم هو تأريخ عبر الصورة لتاريخ سنقلب صفحات ألبومه في المستقبل… نصور الحزن الذي يمر بسوريا، على أمل أن يكون الغد أفضل”.
بيد أن تصوير يوميات المخيم، ونقله إلى الصفحة “الفايسبوكية”، ليس عملاً تأريخياً عبر الصورة فحسب، بل عمل مؤلم تتداخل فيه المشاعر الإنسانية بتلك الشخصية. ويشرح: “أقسى ما أواجهه في يومياتي أن يطلب مني أحدهم تصوير منزله… ولا أجده”.
هنا تبدأ المعاناة في نقل صورة لشيء لم يعد موجوداً، انهار تماماً واختفى، مثل أشياء كثيرة ما عاد لها أثر. وحده الأمل بأن الغد أحلى، يساعد الشاب على التقاط كاميرته والإنطلاق مجدداً إلى عمله، متسلحاً بفكرة وحيدة: يمكن للصورة أن تنعش ذاكرة النازحين والجيران، وتطمئنهم بأن العودة قريبة وأن ما تبقى من منازلهم ما زال في انتظارهم.
المدن