أحمد عمرصفحات الناس

نجوم سورية في ظُهر ألمانيا/ أحمد عمر

 

 

جاء دوري..

إنه صباح اليوم الواقع في الثالث عشر من ذي القعدة.

 

بعد معزوفة موسيقية، طرزتها أصابع سيدتين من بلاد فارس  في الأسماع، ومعهما فارس صدح بأغنية باكية، لعلها على استشهاد الحسين، جاء دوري في تسريح الكلمات سراحاً جميلاً.

 

انتبهتُ إلى أن صحافية ألمانية تجلس بجواري، وكانت علامة انتسابها إلى الصحافة هي الكاميرا ذات السبطانة، تسددها إلى فرائس المشاهد. سألتني عن اسم الآلة التي يعزف عليها الموسيقار، فقلت باقتدار العارف: الطنبور، أما الآلة الثانية، فهي الدف، الدف في بلادنا له لحن خالد: طلع البدر علينا.

 

ثم شككتُ في حكمي، فقلتُ لعل الآلة الوترية هي البزق. أولو العلم والقائمون بالقسط يتمهلون في الحكم والتقدير، وهم يصنّفون الآلات التي تغرد، ويُستخرَج منها طيبات الأذن، بعدِّ أوتار الألحان واحتسابها، كما يعدّ علماء الحياة أجنحة الحشرات وأطرافها تصنيفاً ونسباً في عائلاتها، وقبائلها، وأممها.

 

جاء دوري في الساعة الحادية عشرة والنصف..

إنها المرة الأولى التي أشارك في أمسية، في ساعة من نهار تحت الشمس، فقد اعتدنا أن نقترفها تحت جنح الظلام المكسور بطلقة غادرة..

 

وكان ابْن أَخْطَبَ قد تقدم للموت، وعليه حلة فقاحية، وقَالَ قولة صدق: مَنْ يَخْذُلُ اللَّهَ يُخْذَلْ.

 

قمتُ بدورة كاملة من خلف خطوط النار، بعد أن سمعتُ اسمي في البوق، وكان ثمت طريق سهل إلى الميدان، لكن المرء يغريه طُولُ الأَمَلِ، وصلت إلى مغرب الشمس، بعد جهد. كنت وحدي، وبحاجة ماسة إلى نجدة من مترجم، أين اختفى المترجم؟ أين أنت يا أبا عارف، سفيرنا في غينيسهايم، صهر ألمانيا السوري سامر، كان قد اختفى في ظروف غامضة…

 

بدأتُ بالتحية بالألمانية الفصحى، وقلت: في البداية طاب يومكم، وفي النهاية طاب يومكم أيضاً، فاستظرفوا قولي. قلت لصديقي المترجم الخائن، أغثني، فأغاثني باسل الفلسطيني، وكل الفلسطينيين بواسل، وكنت أريد أن أقول: في بلادي من العيب والعار أن يقرأ المؤلف قصة من كتاب مطبوع، أو قصة منشورة، فهذا يعني أن القصة من البالة، “سكند هاند”، ” فلو ماركت”، مستعملة، ممضوغة، فضحكوا.

 

وقلت: إنّ ماركيز صاحب نوبل، قال مرّة: إن كل نص مكتوب هو أسد ميّتٌ، وتطيّرتُ أن أذكر اسم الأسد، خوفاً من حريق، فقلت: سبعٌ ميّتٌ، ليثٌ فاطس..  وقلت: قصتي الآن هي حمارٌ ميتٌ، وكدت أن أقول: قد يحب الكاتب التقاط صورة تذكارية بجانب جثة الليث الذي اصطاده، لكن بعد يوم من قتله ستفوح منه رائحة كريهة، وهممتُ بالقول: إني أشم رائحة جثة حمار مغدور، ولست سعيداً بقراءتها، وكانت بعنوان “السوري الأبيض المتوسط”، وَلَكِنّهُ مَنْ يَخْذُلْ اللهُ يُخْذَلْ.

 

وذكرت الملاحظة الثالثة، وهي أني شاركت في الترجمة، بتوضيح معاني بعض الجمل للمترجمين الثلاثة البواسل، الذين اجتمعوا على القصة قتلاً واغتصاباً وتنكيلاً، وقد غدر بها المترجمون، وكلهم هواة، ومبتدئون، وضحّوا بكل جملة أو إشارة لم يفهموها..

 

وهكذا كفّروا النبي صالح عليه السلام، وبرؤوا قدار بن سالف الذي ذبح ناقة الله، واخفوا المآذن، وللمـآذنِ كالأشجارِ أرواحُ، بعد أن طمروها بالتراب. وكنت أريد أن أقول: إني أحب أن أبني نصوصاً وصروحاً بحجارة قديمة من سبأ وغمدان، ومدائن سليمان عليه السلام، وأن أخيط جروحي بخيوط مسلولة من نصيف خولة ببرقة ثهمد، وإني قد أَعْيَاني رَسْمُ الدَّارِ لَمْ يَتَكَلَّـمِ حَتَّى تَكَلَّمَ كَالأَصَـمِّ الأَعْجَـمِ.

 

وقلت: إني واثق أن الفلافل التي سيأكلونها اليوم أكلاً لمّا، بعد انتهائي من تلاوة قصتي المغدورة، لذيذة وطيبة، أما وجبة النص الذي سيُتلى بعد الترجمة، فستكون وجبة من الخبز وحده.. لكن الغريب أنهم سُرّوا بالقصة بعد سماعها، وصفقوا للسيدة كابي التي قرأت ترجمتها، وكانت الترجمة الجافة، تشبه طلباً مقدماً إلى مؤسسة رسمية، كانت نصاً خالياً من الأدب ومعانيه، معلومات نكراء.

 

احتفظتْ الترجمةُ بالحكاية وحدها، بل إن سيدتين ألمانيتين طلبتا مني توقيعي ذكرى، كما يُطلب من النجوم على ما يسمونه في علوم النجوم البشرية “الاوتوغراف”.

 

وكنت أريد أن أقول أشياء كثيرة قبل تلاوة القصة، كأن أقول: إني أتذكر حمار وحش، رأيته في فيلم من عالم الحيوان، عَبَرَ النهر من العدوة القصوى إلى العدوة الدنيا، بحثاً عن الحرية، لكن التمساح المتربص تحت الماء أطبق على بطنه بفكيه الفولاذيين، المنشاريين، وقضم قضمة متوحشة من بطنه، فاندلقتْ أحشاؤه.

 

استطاع حمار الوحش المخطط نزع بدنه من بين فكي التمساح، فتدلّت الأحشاء كلها من بطنه؛ المعدة والأمعاء الغليظة والأمعاء الدقيقة، فبدتْ مثل الثريا والقناديل والعقود والسبحات.. تدلى الكبد، واهتزت الرئتان مثل باللونتين، ووقف حمار الوحش على ضفة النهر مذهولاً، وهو يظنّ أن أحشاءه هي العدو، وراح يعض عليها حتى ينجو منها، ومضى يجري هارباً، ويجرّ وراءه لحمه على الشوك، فتناثر قطعاً ومزعاً، مثيراً وراءه زوبعة من الغبار الأحمر الدموي.

 

وكنت أريد أن أقول أشياء كثيرة، مثل: إن أول شعار في الثورة السورية كان: “أنا إنسان ماني حيوان”، فالثورة السورية ليست مؤامرة كما يشيع النظام الذي يريد الحفاظ على الثروة والمجد، السيف هو كل المجد في بلادنا، وإنها ليست صراعاً على خط غاز، ولا طمعاً في سندويشة، كما زعموا، أو بضعة دولارات، ولا هي سكرى بالحشيش، ولكن بالشمس وضحاها. وإنها ثورة لإثبات أن السوري حيوان ناطق، على ما قال المناطقة في التعريف بالإنسان. إنها ثورة يستعيد فيها مخترعُ الأبجدية الحروفَ من جديد، بعد أن صارتْ خشباً. وإنه ما ُسلّ سيف في التاريخ العربي كما سُلَ على الإمامة، وقد ذاق الأسد طعم الإمامة بعد أن رشَّ عليها كنايات الألوهة، وعلى الشعب حقائق الاستعباد، فأدمن عليهما، وإني كنت مثل أكثر الشعب السوري، أريد أن انتخب، وتحت رعاية الأمم المتحدة، واختار الدائرة الحمراء التي تعني: لا.. إله إلا الله.

 

وكنت أريد أن أقول: إني أخشى أني صرتُ حمار وحش، فأنا شبه أبكم، أتكلم بالإشارة في المنفى، المنفى ينفي، يعدم، وكان النفي عقوبة في الشريعة الإسلامية، فصار على أيام الطغاة مكافأة وفردوساً، وأمسى السوري يعبر الأنهار والبحار، كما تعبر أسماك السلمون عكس التيار، وكما تعبر قطعان النّو الأنهار الملغومة بالتماسيح. يريد أن يعبر إلى جهة يتعلم فيها فنَّ النطق، وأنه ثار من أجل النعمة التي فضل بها الله الإنسان على الحيوان، وكنت أريد أن أحكي وأبوح، وأقف على الأطلال، أن أهمل القصة، لأنها صارت قديمة، وتفوح منها رائحة حمار ميت، وأحكي قصتي، ثم هطل المطر، فهرب من هرب من المستمعين إلى وقاية المظلات، وبقيت تحت المطر، والمطر عندي يعني الرحمة، وتذكرتُ موسى عليه السلام، وكان قد عاش عيشة ملكية في كنف فرعون، في القصر “الجمهوري”، ثم قتل خطأ قبطياً، فهرب إلى مدين، وهربتُ مثله، وله المثل الأعلى، ولم أكن قد قتلتُ أحداً، بل إن أهلي  قُتلوا، ودُمّر بيتي بالبراميل… سعدتُ بالمطر، وتذكرتُ دعاءه: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْـزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ. عندما يهطل المطر، أفرح به وكأني مشرف على الموت من العطش، وأشتهي أن أجري تحته من غير طائرة ورقية.

 

وكنت أريد أن أقول أشياء كثيرة، وأتذكر لهم عصفور ميشيل كيلو، والطفل الذي ولدته أمه في السجن، والذي لا يعرف ما العصفور، وما الشجرة، وأقول لهم: إن جيلاً سورياً كاملاً لم يعد يعرف ما النار، سوى التي يحترق بها، ويريد اكتشافها من جديد، وما الماء، سوى التي يغرق فيها … وأقول: إن السوريّ أصبح أعجم، لا يبين، ويتكلم بالإشارة، ونسي الأبجدية، وهو الذي يعزو المؤرخون إليه اختراعها في أوغاريت ورأس شمرا.

 

وانتهيت من قراءة القصة، وكنا قد اتفقنا على أن أسرد  القصة فلذةً فلذةً، لكني نسيت، وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ، فتلوتُها بأسرها، وكنتُ قد ركنتُ إلى وعود دولية تمساحية، بأنّ السلاح الكيماوي خط أحمر، وأن البدر سيطلع علينا من ثنيات الوداع، وبعد أن انتهيت، ولفظتُ أنفاس القصة الأخيرة، تقدمتْ السيدة غابرييل، وعانقتني، فغفلت عنها، وما أنا بالذي يغفل عن عناق امرأة، فقد كنت مشغولاً بأحشائي التي تتدلى مثل الثريا والقناديل وعقود الزينة.

 

وكانت الكنيسة القريبة قد تذكرت أحزان المسيح إبان صلبه.

فبدأتْ النواقيس الحزينة تذرفُ دموعها الحديدية ذات الرنين.

من ثنيات الوداع.

وكنت أريد أن أقول: أيها الألمان لقد رمتكم سوريا بفلذات أكبادها…

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى