نصيحة للزعماء العرب
موسى برهومة *
في المكان نفسه كان الاطمئنان وارفاً. القادة بنياشينهم وحرسهم وصلفهم، والشعوب بغفوتها التي حسبها الناس طويلة وربما أبدية.
كأن كل شيء تغير، وتبدلت أحوال دنيا قادة العرب الذين رأينا غالبيتهم يغطون في مخاوف ضارية، بعيون زائغة تراقب المجهول. هكذا حدثتنا الكاميرات في قمة الدوحة الأخيرة، إذ تبخرت الطمأنينة، وحلّ التوجس مكانها، وتشابكت خيوط المنطق العادي القديم، وأضحت عصية حتى على حل الشعوب.
هاهنا جلس المرزوقي، مكان الهارب زين العابدين، وعلى مقربة منه حلّ مرسي منتزعاً صولجان الرئيس المخلوع مبارك، وغاب القذافي الذي كان نبّه القادة العرب، ذات قمة، بأنهم سيلقون مصير صدام حسين إن لم يتوجهوا إلى الديموقراطية، فكان ضحية لخلاف ما نبّه إليه، وطوى الليبيون صفحته، وعيونهم ترمق ضاحية بني أمية في المشرق الحزين وهو يوشك أن يجعل بشار الأسد غائباً عن مسرح السياسة أو الحياة (لا فرق)، وليس وحسب غائباً عن مقاعد الرؤساء في القمة.
عادت بي الذاكرة وأنا أتابع افتتاح قمة الدوحة إلى 2009 وفي المكان ذاته. وكنتُ ضمن الوفد الصحافي الأردني المرافق للملك عبدالله الثاني، وجاء ترتيب جلوسنا خلف الزعيم الليبي المقتول معمر القذافي الذي كان، كعادته، يضع على عينيه نظارات سوداء، ويرتدي كمية هائلة من الثياب المزركشة. كان يبعد عن مكاني نحو 3 أمتار لا غير، ورحتُ أراقبه وهو يتأفف ويوبخ حارسه الشخصي الذي كان يرتدي بدلة بيضاء ويتصرف كإفرنجي.
يومها، افتعل القذافي المولع بالدراما والإثارة مشكلة مع العاهل السعودي، وتحدى تعليمات أمير قطر بالتوقف عن الحديث حتى إن الأمير قطع عنه الكلام، فحدثت ضجة في القاعة، وكان الاجتماع مغلقاً، وكنا الوفد الصحافي الوحيد الذي سمح له بحضور تلك الجلسة النارية التي شهدت انسحاب القذافي غير العابئ بأمة العرب.
كنا اعتقدنا أن الزعيم الليبي السابق ينوي التوجه إلى المطار تاركاً القمة وأعباءها وملتحقاً بخيمته الوادعة، لكنه، وهو المنشغل بـ «الآكشن» راح يتجول في المتحف الإسلامي المقابل لقاعة المؤتمر في الدوحة، ممضياً وقته في تأمل المعروضات، إراحة لرأسه المتعب من ويلات السياسة ومؤامراتها ومماحكات الرؤساء، واستحقاقات القضايا الساخنة الممتدة على صفحة التطلعات الليبية.
كان كل شيء بالنسبة للقذافي يوحي بالطمأنينة، ويدعو إلى الدعة. فمن حقه أن يحرد، ومن حقه أن يعود، كما فعل فيما بعد، إلى قاعة المؤتمر، ومن حقه أن يخاصم أو يصالح أو يناكف أو يواصل توبيخه حارسه الشخصي ذا الثوب الأبيض بإهابه الغربي الممشوق!
وقبل القذافي كان بشار الأسد الذي سلّم قطر آنذاك الرئاسة، بعدما أمطر القمة بتنظيراته عن العدالة والخير وخيارات «المقاومة والممانعة».
ست سنوات مضت. فهل تغيّر شيء حقيقي وبنيوي؟
الخطاب العربي بين القنطرتين ظل كما هو فائضاً بإنشائية سقيمة، ومحشواً بوعود بريئة طيبة القلب عن وحدة الصف العربي، وجَبْه الأخطار، وإنصاف القدس، وإسناد الشعب الفلسطيني.
التعكسر السياسي اختلف، فأضحى بين مؤيدي «الربيع» ومناوئيه، وما بين أنصار المعكسرين ثمة سيولة عارمة وتبدل كبير في المواقف، وحيرة لا تتسع لها الصحارى العربية عنوانها: كيف يمكن وقف الغضب الشعبي والاحتقان الأهلي، وحماية الأوطان، وعروش الممالك والدول؟
أما التغير اللافت في قمة الدوحة، فكان تلك الغضبة الخارجة عن الأعراف الديبلوماسية التي فجّرها رئيس الائتلاف السوري المعارض معاذ الخطيب الذي اقتعد كرسي الأسد، حينما أوصى القادة العرب بأن يتقوا الله في شعوبهم، كما دعاهم إلى الإفراج عن المعتلقين السياسيين في بلادهم.
عنوانان طرحهما الخطيب في خروجه عن النص: العدالة والحرية، وكأنه يقول للزعماء العرب إنهما مفتاح الحفاظ على مستقبلكم، وهو الضمانة الأكيدة التي تمنحكم الحصانة في حضور القمم المقبلة.
* كاتب وصحافي أردني
الحياة