نظام إقليمي جديد على أشلاء سوريا؟/ عمر قدور
كان مسؤولون روس قد قالوا في العديد من المناسبات أن أمر بشار الأسد لا يهمهم، وأن اهتمامهم منصب على منع انهيار مؤسسات “الدولة”، بل انساقت أقلام كثيرة لشرح الخلاف بين طهران وموسكو، تحت بند عمل الأولى على استنساخ تجربة ميليشيا حزب الله في سوريا، بينما تحاول الثانية تقوية جيش النظام وجعله القوة الأكبر تأثيراً. استطراداً، كُتب كلام كثير أيضاً عن فشل روسي في احتواء الميليشيات التي شكلتها طهران من قبل، وعن اضطرار موسكو إلى الاستعانة بها بعدما اكتشفت العطب البنيوي في قوات النظام، وهذا ما لم تُخفِه أقلام روسية مقربة من الكرملين في ما يبدو أنه تبرير للانعطافة الروسية.
على صعيد متصل، قيل الكثير عن تمسك طهران بشخص بشار الأسد، الأمر الذي يخضع للمقايضة من قبل موسكو، وفي تلك الأثناء وجه الروس إهانات علنية مدروسة لشخص بشار، أيضاً من أوساط مقربة من الكرملين. تلك الإهانات تتنافى مع طلب موسكو مؤخراً توضيحات عن تصريح لأردوغان حول قتال الأسد، ما استدعى من أنقرة التراجع عن التصريح، بما ينبئ أنه في الأصل كان خروجاً عن تفاهمات بين البلدين تتضمن الإبقاء على بشار.
يصعب رد التغير في موقف موسكو إلى اكتشافاتها الميدانية فقط، والتي جعلتها قريبة من الرؤية الإيرانية. وضع بشار على طاولة التفاوض كان رسالة موجهة بالأساس إلى إدارة أوباما، وضمن ملفات عديدة أهمها الملف الأوكراني والعقوبات المتصلة به، وكما نعلم أعرضت واشنطن عن المحاولات الروسية، وكان واضحاً عدم اكتراثها بمصير السوريين، وعدم رغبتها في تقديم تنازلات لأجل ملف لا يعنيها فيه سوى القضاء على تنظيم داعش، إن لم تكن قد ضحت أصلاً بالملف السوري على مذبح الاتفاق النووي الإيراني.
مع الإعراض الأميركي عن الصفقة الروسية ربما يكون قد حدث التغير في الاستراتيجية الروسية، وحيث لم يكن ممكناً تحقيق مكاسب في الملف الأوكراني انصرف الجهد إلى تحقيق مكاسب في المنطقة على حساب التراجع الأميركي. هنا قد تكون المقايضة انتقلت من مقايضة الملف السوري جملةً، بصفقة تخص ملفات دولية أخرى، إلى استخدامه بالمفرق لبناء منظومة إقليمية تتوافق مع النفوذ الروسي. بقاء بشار، وهو في أضعف حالاته تحت الوصاية، سيكون الوصفة الأمثل في هذه الحالة، تماماً مثلما كان عليه التصور الإيراني من قبل.
لم يعد الكرملين يتعاطى مع وجوده في سوريا بصفة مؤقتة، أو لاستثماره مرة واحدة، لقد اتخذ هذا الوجود صفة مستدامة لملء الفراغ الذي خلفه الأميركي. ضمن هذه الرؤية تسعى موسكو إلى إرساء نظام إقليمي خاص بعصرها المقبل، إذا أتيح لها تحقيقه، باستثمار الملف السوري الواقع بين عدة قوى إقليمية طامحة. حتى الآن، نحن أمام ترويكا إقليمية تبدو ظاهراً متنازعة الأهواء، لكنها تعمل بانتظام تحت الرعاية الروسية. إيران وإسرائيل وتركيا، هذه القوى التي لا يخفى أنها باتت تشارك موسكو النفوذ في الشأن السوري، وعلى رغم اختلاف أجنداتها المعلنة إلا أنها تعمل بانتظام تحت المظلة الروسية.
كأننا ننتقل من زمن حُكي فيه كثيراً عن الترويكا العربية التي اعتمدت عليها الإدارات الأمريكية، والمكونة من السعودية ومصر وسوريا، إلى زمن روسي بترويكا مختلفة، الغائب الأبرز عنها هو العنصر العربي، في دلالة على تراجع الثقل العربي عموماً لصالح صعود تلك القوى. توفيق روسيا بين مصالح الدول الثلاث، أو قيامها بتوزيع الحصص السورية عليها، يعكس أيضاً رغبة تلك الدول في الوصول إلى التفاهم تحت مظلة ما، فضلاً عما يشاع عن تفاهمات تحت الطاولة، مثلما يعكس عدم ممانعة كل منها النفوذ الروسي إذا لبى مصالحها، بخاصة مع تحفظات كل منها على السياسة الأمريكية في المنطقة.
لقد خذلت السياسة الأميركية حكم أردوغان بتخليها عنه بمناسبة إسقاط الطائرة الروسية، وبالدعم الأميركي المخصص للميليشيات الكردية، ومن ثم بما فُسّر على أنه انحياز أمريكي إلى الانقلاب الفاشل اتُخذ ذريعة للتقارب مع موسكو. بالمثل، يصعب الحديث عن علاقات حارة بين إدارة أوباما وحكومة نتنياهو، وقد ظهرت الخلافات إلى العلن بسبب توقيع الاتفاق النووي مع إيران، ومع الاحتفاظ بالروابط التقليدية بين الحليفين لكن علاقة تل أبيب بموسكو كانت تتقدم في الوقت نفسه، خاصة مع الثقل المستجد لليهود الروس في الحكومة الإسرائيلية. أما طهران، التي نالت أقصى ما يمكن من إدارة أوباما، فهي متلهفة لاستثمار الحضور الروسي في المنطقة، بعد تراجع محاولات تحسين العلاقات الروسية العربية لصالحها.
صحيح أن هناك رسائل متبادلة بين الأطراف الثلاثة، غير أنها مضبوطة وفق كونترول روسي، وأيضاً ضمن حدود متفق عليها ضمنياً. على سبيل المثال، الضربات الإسرائيلية لحزب الله أو النظام في سوريا لا تعدو كونها استعراضاً محدوداً للقوة، يلقى تفهماً واضحاً من حلف الممانعة، يعززه التفاهم على بقاء بشار. العلاقات التركية الإسرائيلية تشهد تحسناً واضحاً مع عودة السفير الإسرائيلي إلى أنقرة، وغابت التصريحات الإيرانية التي تهدد تركيا جراء تدخلها في سوريا. المشترك بين القوى الثلاث حضورها المباشر أو الخفي في الملف السوري، واتفاقها فوق الرعاية الروسية على استبعاد اللاعبين الآخرين منه.
حتى الآن لا يلقى بناء هذا النظام الإقليمي معارضة دولية، وثمة ميل لأن يقوم بوتين بالأعمال القذرة، وحتى المكلفة، التي تتعفف عنها الإدارة الأمريكية، مع التنويه بدورها في استفراد هذا القوى بالملف السوري بعد تهميش الدورين السعودي والقطري. ترسيخ الزمن الروسي مع الترويكا الخاصة به شأن آخر، فهو يتطلب موافقة الإدارة الأميركية المقبلة واستمرار النهج الأميركي الحالي. وحسب تصريحات ترامب قد يكون ثمة اعتراض على الدور الإيراني، إلا إذا قابل التشددَ في الملف النووي تساهلٌ مع الطموحات التوسعية الإيرانية. في كل الأحوال، لن يكون سهلاً على بوتين إعادة هندسة النظام الإقليمي بعد حوالي ستة عقود من الحضور الأمريكي، ما لم يحظَ برضا واعتماد إدارة ترامب، حتى أنقرة وتل أبيب لن تمضيا معه قدماً إذا شعرتا بانقلاب أميركي عليه.
المدن