نقد الخطب السائدة بشأن الرأسمالية والقومية والإسلام السياسي
الكتاب: في نقد الخطاب العربي الراهن
الكاتب: سمير أمين
مراجعة: د. عفيف عثمان
الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2015
تولد سمير أمين، الماركسي العربي في القاهرة في العام 1931، ونشأ في مناخات ثقافية متشابكة ومتنازعة، يتداخل فيها الإقتصادي والسياسي والفلسفي والديني، كما يقول د. خليل أحمد خليل في «موسوعة أعلام العرب المبدعين في القرن العشرين» (بيروت، ج 1، ص 108)، وأهم إسهامات أمين، بحسب خليل، تقع تحت أربعة عناوين: نقد نظرية التنمية وتجاربها، إقتراح بديل للنظام العالمي القائم، إعادة قراءة تاريخ التكوينات الإجتماعية، إعادة تفسير المجتمعات ما بعد الرأسمالية.
وفي هذا الكتاب يُساجِل المفكر المصري المعروف الخطاب العربي الراهن مستخدماً أدواته الماركسية التي يميّزها عن تلك السائدة أو «المبتذلة» (بتعبيره) وهو ما يتيح شحذ هذه الأدوات وتطويرها. يبدأ أمين بـ»نقد خطاب الرأسمالية»، وتحديداً الخطاب الخيالي الذي يعزو اليها العقلانية والتقدم ويعتبرها «نهاية التاريخ»، ويشير الى أن «الرأسمالية التاريخية القائمة بالفعل» تخالف السِمات السالفة الذكر، اذ أن تاريخها «صراع مستمر بين منطق التراكم الرأسمالي ومنطق المصالح الإجتماعية والوطنية المتناقضة معه»، وتفرز عملية التراكم أبعاداً مدمرة. ويسرد الباحث قصة تطور النظام الرأسمالي وأزماته في آن، ويأخذ على النظريات المؤيدة له تجاهلها للتناقضات التي تعتمل في داخله، ما يقود الى اختفاء الفاعلين في التاريخ «وراء المنطق البنيوي المزعوم للموضوعية». بيد أن التناقضات تظل تعمل وتتهيأ للإنفجار يوماً ما، ويدخل النظام الرأسمالي دوماً في أزمات، والحل عند أمين هو «في تغيير القواعد الإجتماعية المتحكمة في توزيع الدخل والإستهلاك والإستثمار»، أي إقامة مشروع اجتماعي مختلف عن المشروع القائم على «ربحية رأس المال» فحسب. وهو لا يشيح النظر عن «الجديد» الذي تحمله الرأسمالية دوماً، وفي راهن الثورة العلمية والتكنولوجية ولا سيّما المعلوماتية، فإن «الجديد» قائم في تنظيم العمل وفي التشتت الجغرافي، ولذلك يدعو القوى الإجتماعية الى الإستفادة من «تلاشي قانون القيمة»، ويعتبر أمين إن العالم المعاصر «المعولم» يعاني أزمة حضارة «وإن الرأسمالية أصبحت نظاماً بالياً» ينبغي تجاوزه، وعلى الحركات الإجتماعية الإضطلاع بهذه المهمة.
يُقِر كاتب «نحو نظرية للثقافة» للخطاب القومي العربي سعيه لتحقيق «الوحدة»، لكنه يأخذ عليه إغفاله للعلاقة التي تربط النضال من أجل إنجازها بالصراع الطبقي. وتحقيق هذا الهدف، في رأيه، يتطلب الخروج من المنظومة الرأسمالية وإملاءاتها وانتاج علاقات إجتماعية جديدة ذات طابع إشتراكي، ضداً من النظرة التي تفترض دورة رأسمالية كاملة، ذلك لأن البورجوازيات العربية عاجزة عن إنجازها. ولحصر النقاش، فإن أمين يعرض بالنقد لرؤية «كاتب قومي يساري»، هو السوري شمس الدين الكيلاني، في مؤلفه « مصير الجماعة العربية، نقد فكر سمير أمين»، بدءاً من مفهوم القومية ذاته وعناصرها التي تؤخذ كمسلمات وهي مسألة معقدة، وبالتالي فأمين يعتبر مقولة «إن القومية العربية أمر ثابت متواصل عبر تاريخ الشعوب الناطقة بالعربية» مقولة أيديولوجية، تندرج تحت ما يسميه «النظرة الثقافوية» التي تبحث في التاريخ عن سمات مشتركة، ويؤكد على صفة كونه نصيراً للعروبة، ولكنه يختلف مع القوميين العرب في وضعهم إنجاز «الوحدة» هدفاً أول، ومن ثم يمكن الإنصراف الى المسائل الأخرى، في حين يشدد الباحث على «الصراع الطبقي» وقيام «مشروع يجمع بين دمقرطة المجتمع وإنجاز التقدم الإجتماعي، يجمع بين المجال السياسي وبين مجالات إدارة الإقتصاد، وبالتالي رفض الليبرالية»، والمطلوب عنده لتغيير موازين القوى الإجتماعية تحقيق إنجازات في حقل الصراع الطبقي.
في نقد «خطاب الدين السياسي» يبدأ صاحب «التطور اللامتكافئ« من مقولة ترى إن الإسلام السياسي يلتقي مع خطط البيت الأبيض للهيمنة، رغم كونه شكل من أشكال رد التحدي (وليس الوحيد)، بيد أنه عاجز عن إنجاز الخروج من النمط الرأسمالي، والباحث يميّز بين دور الدين في المجتمعات القديمة الذي أضفى الشرعية على الحكم، وبين دوره في الأنظمة الحديثة، حيث فقد فاعليته. والتعبيرات الفكرية الإسلامية لا تستطيع وهي تدافع عن النمط الرأسمالي والملكية الخاصة أن ترفع التحدي وتقدم إجابات عملية وعلمية، بل جل ما تفعله حركات الإسلام السياسي أنها «تروي أوهاماً خطيرة حول قدرتها على تغيير العالم»، وهي لا تفعل غير «وضع الإيمان في خدمة مشروع سياسي». كما يميّز أمين بين ظاهرة إسلام الضواحي الشعبية في أوروبا وأميركا وظاهرة الإسلام السياسي في المجتمعات الإسلامية، فالأولى لها نمط احتجاجي مثابة رد فعل على ممارسات تفرقة لها طابع إجتماعي طبقي قبل أن يكون ثقافياً. ويحذر الباحث من التعميم في ظاهرة الإسلام السياسي، اذ لا بد من ملاحظة التنوع والظروف الملموسة المحيطة بكل قطر على حدة، ويفصح أمين عن تبنيه للعلمانية وفصل الدين عن الدولة، ويعزو سبب إخفاقها في تخوم المنظومة العالمية لأسباب بنيوية تتعلق بتخلف البورجوازية. ما العمل إذاً؟ يسأل أمين، ومع احترامه لخيارات الناس في الإيمان، إلا أنه يرفض الخلط بين تناول مشاكل الفكر الديني ومشاكل الفكر السياسي، ويقول «إن دحر أوهام الإسلام السياسي هو الشرط لإنعاش العقيدة نفسها».