ها نحن مواطنون أعزاء في جمهورية «حزب الله»
حازم الأمين
تحدونا إلى الخوف أسباب كثيرة في لبنان، لكن جلها أننا نعيش في ظل «حزب الله»، الحزب الذي يغلف مستقبلنا بمقدار من الغموض لا يمكن للمرء أن يستشرف في ظله ما يكفي لتقدير وجهة مستقبله. طائرات يعلن الأمين العام لـ «حزب الله» انه يُطيّرها من فوق رؤوسنا مخترقاً عبرها سماءات دول، لكننا لا نعرف على وجه الدقة وجهتها، ذاك أنها تعبر بين سماءي الثورة في سورية، وقانون الانتخابات في لبنان.
أما العدو فهو يُسقطها على نحو عادي ما إن تُباشر طيرانها في سمائه، مدعياً انه ذُهِل مما أنجزه الحزب.
شُهداء غامضون نُشيّعهم في قرانا ومُدننا، من دون أن يكون لنا الحق في معرفة مكان استشهادهم. علينا أن ننتظر الأمين العام للحزب بعد أسبوع على دفنهم لكي يعلن تفاصيل إضافية تساعدنا في تخصيب خيالنا.
انفجارات في مخازن أسلحة! أو قل تكرر انفجارات في مخازن أسلحة يُمنع الصحافيون من الوصول إليها. يُمنع رجال الأمن الرسميون المساكين كحالنا من الوصول أيضاً. ما سر هذه الانفجارات؟ ما الذي يجري؟ قُتل رجال من أهلنا هناك. انهم عناصر في الحزب، لكنهم أقاربنا. كيف قُتلوا، وما الذي كانت تحويه هذه الأسلحة حتى انفجرت تلقائياً؟
لا يملك أحد الحق في معرفة كل هذه الوقائع. كم تبدو القوى السياسية والطائفية ساذجة حيال ذلك. فالمسيحيون منقسمون على قانون الانتخابات، والمثقفون يكتبون مقالات ويُصدرون بيانات يرجون فيها الحزب عدم الزج بالمقاومة في أتون الثورة السورية. الطائفة السنية مهاجرة إلى الخليج ومن هناك تُرسل لعائلاتها أقساط المدارس والجامعات، فيما الشيعة منجذبون إلى عمهم زوج أمهم، تارة بذهول وخوف، وتارة بإعجاب بقوته وغموضه.
الوقائع اللبنانية الأخرى تُبعدنا بعض الشيء عن حقيقة عيشنا في دولة الغموض التي شاءها لنا «حزب الله». مُضيفة طيران تعمل في الشركة الوطنية تطلب من العمال الآسيويين أن يصمتوا أثناء انتظارهم طائرة ستقلهم إلى بلادهم. الكلام ممنوع على هؤلاء الآسيويين في مطار بيروت. قوى الجيش اللبناني تدهم مكان سكن لعمال سوريين وأفارقة في وسط بيروت، بعد شكاوى قال الجيش انه تلقاها من مواطنين لبنانيين، ودعا في بيان آخر له المواطنين إلى مزيد من الشكاوى، لكي ينهال بعض جنوده بأعقاب بنادقهم على أجسام العمال.
هذه وقائع يُساعد عرضها اللبنانيين على تفادي الاختناق بذاك الغموض الذي يدعوهم «حزب الله» إلى القبول به. للصحافة الحق في أن تشن حملة على تلك المضيفة العنصرية، ولها الحق في الوصول إلى الجعيتاوي لمقابلة العمال الذين تعرضوا لاعتداء. صحيح أن القوى الأمنية عادت وأوقفت العمال المستصرحين، لكن أحداً لم يمسّ صحافياً ممن توافدوا إلى الجعيتاوي.
لا بأس علينا إذاً. في الليل وبينما يخلد المرء إلى نفسه يُمكنه أن يستعرض شريط الغموض. ففي النهار أراح ضميره وبدد غموضاً صغيراً، فانتصر على المضيفة العنصرية بأن دفع شركة الطيران الوطنية إلى تأديبها. انتصر أيضاً على حنق الجيش بأن قرأ بياناً لـ «هيومن رايتس ووتش» تدين فيه العنف الذي استخدم بحق العمال. انتصرت الـ «سوشيل ميديا».
ولكن مـــاذا عن الغمـــوض الكبير؟ ماذا عن حقيقة أن رجلاً ظهر على شاشة التلفزيون وقال انه أرسل طائرة من الأراضي اللبنانية باتجاه العدو، من دون تكليف من اللبنانيين. هكذا وحده اتخذ قراراً بأن الحرب بدأت، وأن علينا أن نترك كل ما في أيدينا ونتوجه إلى الجنوب. وقال انه صنع الطائرة بنفسه، وإنها لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة. أما العدو الذي أسقط الطائرة، فاحتفل بدوره بنصر عدوه. قال إن الأمر خطير، وإنه يدرس احتمالاته. ويبدو انه بصدد توظيف ذلك في تمديد فترة الهدنة على الجبهة، والتي ما زالت مستمرة منذ ما يقرب سبع سنوات، وهي فترة المهلة الأطول منذ بدء الصراع، ولا تزيدها زمناً إلا هدنة أخرى على جبهة شقيقة نجح العدو في تثبيتها نحو 40 سنة، ودفع ثمنها المواطنون هناك عبر عيشهم في نظام أشد «غموضاً» من نظامنا. «هدنة كبرى» و«هدنة صغرى»، مع ملاحظة أن الهدنة تتيح اللعب مع العدو في مناطق الآخرين، فيما ترتد استبداداً في مناطقها.
أُريد للطائرة أن تنتشلنا من ذهولنا، ذاك الذي وقعنا فيه نتيجة مقتـلٍ غامض أصاب مواطنين لبنانيين قال الأمين العام لاحقاً انهم قُتلوا على خط جبهة جديدة لم تكن في حسباننا. وأريد لها أن تُبدد ذهولنا نتيجة تكرُّر انفجارات مجهولة في مخازن أسلحة.
العدو يخترق سماءنا ومن حقنا أن نُبادله الخرق. لكن نون الجماعة في تعبيري «سمائنا» و»حقنا» ليست هي ما تولى الرد على العدو. ما الذي يضمن لنا أن الطائرة ذاهبة إلى هدفها بمهمة لبنانية؟ فمن أرسلها لبناني غير مكلف من اللبنانيين بالمهمة.
عندما يقول السيد حسن نصرالله انه لن يستشير في خطوة كهذه، قوى سياسية يشك في إخلاصها وفي حقيقة مشاعرها في الصراع مع إسرائيل، فمن المرجح أن يكون محقاً في بعض ما يقول، لكن قوله يكشف مأزقاً جوهرياً لا علاج له سوى الاستبداد. فالقوى المعنية بشكوك السيد هي قوى منتخبة أيضاً، فازت في دورتي انتخابات متتالية في لبنان، وأن تكون قوى «غير مخلصة» في الصراع، ومنتخبة في الوقت ذاته، فذلك يعني على الأقل، أن شرعية المقاومة كما أرادها «حزب الله» في مأزق.
على نصرالله أن يفوز في الانتخابات ليقول إن من حق اللبنانيين الرد على خرق الطيران الإسرائيلي أجواءنا. الانتخابات لعبة لا يجيـــدها السيد، هو الذي تولى بنفسه، عبر تعبير «اليوم المجيد»، إنجاح الحملة الانتخابية لخصومه. لكنه يجيد تشييد جمهورية الغموض الكبرى، تلك التي لا يحق للناس فيها السؤال عن القتلى والانفجارات. وها نحن مواطنون أعزاء في هذه الجمهورية.
الحياة