هذا هو الخطر الأعظم/ عقل العويط
كلما غاب شاعرٌ كبير، أو روائيٌّ كبير، أو فنانٌ كبير، أو ناقدٌ وباحثٌ كبير، أو أيضاً، رجل سياسة، نادرٌ وكبير من أهل القيم والمعايير، من دون أن يترك وراءه مؤسسة “خاصة” ترعى إنجازه وتحفظه من النسيان، أضع يدي على قلبي متوجساً، وخائفاً من المصير القاتم الذي سيؤول إليه لبنان الثقافي، على أيدي المؤسسات “العامة”. هذا المقال مخصص لتوجيه الأنظار إلى الخطورة الناجمة عن غياب مؤسسات بحثية ترعى الذاكرة، وتُراكِمها، ترسيخاً لمنعة البلاد الروحية.
كيف نصنع الذاكرة، ونصونها من النسيان والاندثار؟ هذه مسؤولية وجودية، تحتاج إلى عمل الأفراد والجماعات والمؤسسات، وتقوم على تدوين المراحل العابرة، والمحطات والمفاصل الأساسية، والتحولات الجوهرية، مثلما تقوم على تسجيل الأدوار والفعائل التي ينجزها صنّاع الأحداث من قادة وساسة ومفكرين وعلماء وخلاّقين، ليشكّل هؤلاء الأشخاص وهذه الأحداث، مجتمعين، كلاً تراكمياً متكاملاً، لا غنى عنه لحسن قراءة التاريخ قراءةً واقعية، موضوعية، عقلية، عادلة، نقدية، متبصرة، ولجعل هذا التاريخ يتراكم في الحاضر، ممتزجاً بصنّاع هذا الحاضر وحوادثه، تراكماً وامتزاجاً تخميريين وتفاعليين، لاستكمال الديمومة الحضارية لبلد من البلدان.
وفق هذا التصوّر، ليس عندنا تاريخٌ كتبه المؤرخون، وأجمعوا عليه، بحيث يُعتدّ به لدى التبصر في أحوال الأزمنة. لقد أعيتنا سبل كتابة التاريخ في لبنان، لأسباب شتى. ولا بدّ أن تظلّ تعيينا إلى زمنٍ غير منظور. فلا مفرّ، والحال هذه، من الاعتراف بأن بلداً لا تاريخ موضوعياً له، يكون عرضةً للتلاعب المتساهل في وقائع ماضيه، وفي كينونته الحاضرة، وفي مصائره المحتملة، كلما هبّت عليه الأنواء. وما أكثرها، الآن، في لبنان، وفي المنطقة العربية برمّتها.
هذه حقيقة ملموسة، ومتعارفٌ عليها، بدليل أن أهل هذه البلاد لا يُجمعون على شيء قدْر إجماعهم على عدم الإجماع في ما يتعلق بماضيهم وسِيَر أحداثهم وتاريخهم وعظمائهم.
لكنْ، هل يستطيع بلدٌ أن يحيا ويتواصل ويستمر، من دون تاريخ يتكئ عليه ويستند إليه، ليتمكن من كتابة حاضره وصناعة مستقبله؟
* * *
أخلص من هذا، لأصل إلى سؤالي “المتواضع”، وهو المبتغى الذي أرنو إليه في هذا المقال: كيف يمكننا كتابة تاريخنا الأدبي والثقافي، بأشخاصه وشخصياته ووقائعه وأحداثه ولحظاته الحاسمة وعلاماته الفارقة وتحولاته الأساسية؟
أعرف أن هذا المبتغى ليس “متواضعاً” البتة، بدليل أنه غير متوافر حتى اللحظة، وهو غير مؤرَّخ تأريخاً بحثياً، علمياً، نقدياً، أكاديمياً، وجامعياً. فنحن لا نملك شيئاً يُعتدّ به، في هذا المجال، من شأنه أن يجعل مراكز أبحاثنا وجامعاتنا وصروحنا الأكاديمية أمكنةً للتحليل والتمحيص ولإلقاء الضوء وإعمال العقل النقدي وصون الذاكرة الثقافية من الاندثار. فإذا شاء أحد الباحثين من الطلاب، أو النقاد والأساتذة، أن يعود إلى تاريخ الأدب اللبناني في القرن العشرين، فإلى أين يذهب؟ وماذا يجد؟ للإنصاف، قد يذهب إلى مكتبة جامعية، أو إلى مكتبتين اثنتين، لا أكثر على الأرجح، وقد يجد كتاباً أو كتيّباً هنا، وكتيّباً هناك، ونتفاً بحثية وشذرات لا تسدّ فراغاً، بل ربما تُغني فحسب عن بعض جوع. لكنْ، من دون أن يعثر هذا المجتهد على مراجع متكاملة يركن إليها ويعكف عليها مستخلصاً ومستنيراً.
سؤالي هو الآتي: أين تبخّر البحّاثة النسّاك والزهّاد والرهبان والشيوخ القرّاء الدارسون، المنصرفون إلى التقميش والثبت والجمع والبحث والدرس والتأريخ والمقارنة والتحليل، في تاريخنا الأدبي والثقافي؟
أين هي الجامعات التي تدرس المحطات والتحولات في الأدب وفي سواه، وتأخذ على عاتقها وضع الأبحاث الأكاديمية المتماسكة والمتكاملة، بل المرجعية، عن الأدباء الذين صنعوا تاريخنا في النصف الأول من القرن العشرين؟ أو في النصف الثاني من القرن نفسه؟
أسأل لأحضّ، بقدر ما أسأل لأتّهم. وأنا أسأل مؤنِّباً، وأسأل خائفاً. فبعد قليل، قد يذهب كل شيء يجسّد ذاكرتنا، هباءً منثوراً. كأن لم يكن!
سأكون دقيقاً في عرض مشكلة التأريخ البحثي الأدبي، من خلال بعض الأمثلة التي من شأنها أن تضع النقاط على بعض الحروف، بحيث يمكن استخلاص العبر منها، وتعميمها، لتطاول الإشكالية المأزومة المتعلقة بتأريخ الذاكرة.
أيٌّ من صروحنا التاريخية العريقة مثلاً، أخذ على عاتقه أخذاً بحثياً مرجعياً، أن يدرس ظاهرة التحولات التي طرأت على الشعرية العربية واللبنانية، ابتداء من خمسينات القرن المنصرم؟ فإذا أراد أحدنا أن يهرع إلى مكتبة جامعية ليعرف ماذا جرى حقاً، وما هي قيمة ما جرى، بالتحليل والبرهان النقدي، فهل يعثر على غايته هذه، بما يجعله يكتفي أو يطمئن اطمئناناً تاريخياً وبحثياً إلى المرجعية النقدية التي يهرع إليها؟ وإذا أراد أحدنا أن يعود إلى مراجع بحثية في هذا المجال، كالمرجع الذي وضعته سوزان برنار عن قصيدة النثر الفرنسية، فهل يجد شيئاً مماثلاً في إحدى جامعاتنا التاريخية عن قصيدتنا اللبنانية والعربية؟ كلّ الجهود التي بُذلت حتى الآن، قد بذلها مجتهدون طلاّب ونقّاد وكتّاب إفراديون، بقيت، على أهميتها السبّاقة في هذا الباب، في حدود المبادرات الفردية والجزئية، وظلّت فاعليتها التراكمية والجدلية أشبه بحجرٍ يُرمى في بحيرة. أما الجامعات، ومراكز الأبحاث المفترضة فيها، فلم تفعل شيئاً منهجياً وتأريخياً في هذا المجال، يُعتدّ به. فإذا لم تفعل جامعاتنا هذا الفعل، فمن الذي يفعل؟ بعد قليل، لن نجد جامعةً أو شخصاً أحداً، يؤرخان لتلك المرحلة، ولا لشعرائها وأدبائها ونقادها ومترجميها. فكيف بالمراحل التي سبقتها، وبالأدباء الذين سبقوا؟!
سؤالٌ مرّ، على سبيل المثال: هل يتوهم أحدنا أن إحدى الجامعات ستأخذ على عاتقها، الآن، أو يوماً ما، دراسة قصيدة الشاعر الكبير شوقي أبي شقرا من الألف إلى الياء؟ أشكّ في ذلك شكّاً عظيماً. لماذا؟ لأن الجامعة، كلّ جامعة، لا تُعدّ نفسها، فلسفياً، لهذا العمل، وهي إذا لم تفتح مركزاً للأبحاث متخصصاً بالبحث التأريخي، وبدراسة صنّاع المراحل من الشعراء والكتّاب والمفكرين والنقّاد، فإن تاريخنا الثقافي سيكون عرضة للاندثار.
ها أنا أسأل الجامعة، كلّ جامعة، هل يمكننا أن نجد في مكتباتها المحمودة، دراسات مرجعية متكاملة عن مارون عبود، عمر فاخوري، أنيس فريحة، عبدالله العلايلي، صلاح لبكي، سعيد وخليل تقي الدين، يوسف حبشي الأشقر، فؤاد كنعان، صبحي الصالح، فؤاد حداد، الياس زخريا، عصام محفوظ، أنسي الحاج، وبسام حجار…؟
* * *
ليس من باب المصادفات العابرة والنافلة، أن تكون العلوم الإنسانية برمّتها، تشهد التراجع المهول في مكانتها ودلالتها القيمية. قد تكون بعض الأسباب “اقتصادية” و”نفعية”، وهذا مفهوم. لكن ماذا تكون الجامعة، كلّ جامعة، إذا لم تكن في جزء جوهري تكويني منها ذات هاجس محض إنسانوني خلاّق، مهما تكن المردودات والاعتبارات النفعية ضامرة في ميزان الربح والخسارة الماديين؟
فلتنصرف الجامعات إلى الاختصاصات التي تريد، ويريدها العصر، وأهله، والتي تندرج في صلب الأبعاد التسويقية. هذا عين ما يجب أن تنصرف إليه الجامعات اليوم، لتبقى وتستمر. لكن، إذا أخلّت جامعةٌ بدورها الإنسانوي، الإبداعي، الخلاّق، وتنكّرت له، وأهملته عن عجز، أو عن قصد، مثلما هو حاصلٌ في أكثر من جامعة عريقة حالياً، فإنها تكون تخلّ في الآن نفسه بجوهر دورها ووجودها، كمختبرٍ حيوي، بل كإناءٍ حضاري، لاحتضان عملية الخلق، ومواكبتها، ومرافقة العقل الإنساني، في هواجسه الروحية واللغوية والأدبية والفنية. بل أيضاً لاستشراف آفاق هذا الخلق واحتمالاته.
إذ أتحدث عن دور الجامعة، أخلص إلى الجوهري المهمل فيه: أن تكون طليعة إبداعية ونقدية وبحثية، تتواءم مع الطليعة الإنسانوية والأدبية واللغوية، فتحتضنها، وتدرسها، بل توسّع آفاقها واحتمالاتها، وقد تقترح عليها احتمالات وآفاقاً أخرى، من طريق النقد والبحث والمقارنة والتأويل. بذا، فقط، تصون الجامعة هذه الطليعة، وتحميها من الاندثار والتشتت والتذرر والزوال، وتجعلها تتراكم في الذاكرة الجماعية لتراث الشعب والبلد في آن واحد.
هذا ما لا تقوم به الجامعة حالياً. فلأجل هذا السبب بالذات، ولمثله من الأسباب النوعية الأخرى، يتراجع “لبنان الثقافي”. وهذا بالذات، ما أنا خائفٌ من استحالة تداركه جامعياً وبحثياً قبل فوات الأوان. لذا أصرخ محذِّراً ومؤنِّباً ومتّهِماً ومحرِّضاً: لبنان الثقافي الناظر في تاريخه الروحي، الإنسانوي الابداعي الخلاّق، والمؤرّخُه، والحافظُه من الزوال، هو في خطر جسيم. وهذا سببٌ كافٍ ليكون الوطن – المنارة، بل الوطن مطلقاً، في خطر عظيم.
… وإذ تعصف بالمنطقة العربية، وخصوصاً في بلاد الشام ووادي الرافدين، العواصف الكيانية والوجودية، فإن مناعة لبنان الروحية والثقافية، من شأنها ربما، أكثر من أيّ نأيٍ، أو تورّطٍ، أو مناعةٍ سياسية وأمنية، أو أيّ ممانعةٍ أخرى، أن تقيه خطر الزوال.
ولا يُتّقى هذا الخطر الأعظم إلاّ بحفظ الذاكرة، و… بانتفاضات انسانوية ثقافية تهزّ الجامعات والصروح الأكاديمية والبحثية من أساساتها!
النهار