هكذا أعادت الثورة مُخرجاً سورياً من أميركا: الرصاص صار فيلماً
“شقّ في ذاكرة”، فيلم قصير لخالد عبد الواحد
ريّـان ماجـد
“انتقلت إلى واشنطن قبل انطلاق الثورة السورية بسنة ونصف السنة. كان عندي مرسم صغير أشتغل فيه. اندلعت الثورة في سوريا، ونشطت في الحملات الإعلامية وفي تصميم البوسترات لصالح الثورة. لم أكن أنوي الدخول في عالم الأفلام. بعد ستّة أشهر على بداية الثورة، كتبت نصاً عن مسار رصاصة صغيرة وتافهة، تغادر فوهة بندقية وتتوجّه نحو رأس متظاهر لتنهي بلحظة حياة بكاملها، بكل تفاصيلها وذكرياتها. في هذه اللحظة التي تسبق الموت والمتعارف عليها بـالـ Flash back، يستعيد الشخص صوراً سريعة من حياته… وجدت أن الطريقة الأمثل لإيصال هذه الفكرة هي عبر الـ Animation.
بعد الانتهاء من فيلمه الأول، “رصاصة” ترك الفنّان والمخرج السوري خالد عبد الواحد واشنطن. حمل كاميرته وعدّة الصوت وعاد إلى الشام. سكن في منطقة “المهاجرين”، على سفح جبل قاسيون. “هناك سبع جادات، كل جادة هي أعلى من الثانية باتجاه الجبل، أنا كنت في الخامسة. القصف كان مُنهكاً، فالقذائف كانت تُطلق من فوق بيتي، أسمع الرجّة والصفير وأرى من “البلكون” أين تقع، على ريف دمشق والغوطة”.
قرّر خالد التوقّف عن المشاهدة عن بُعد، والذهاب مع كاميرته باتجاه المناطق التي تُقصف. رأى هناك، في حيّ صغير، مجموعة من الأطفال يلعبون كرة القدم. “كانوا مبسوطين، عم يضحكوا. الحياة التي رأيتها فيهم صدمتني. فجأة لم أعد أسمع غير صوت القذائف وصوت طجّة الطابة. قلت إذا في أولاد يلعبون في الشارع وهم على بعد كيلومتر عن القصف، فحكماً هناك أولاد آخرون يلعبون في بيوتهم تحت القصف”.
إشترى طابة ولملم بحصاً من الشارع وعاد إلى بيته ليصوّر “الطجّ” على الحائط، وكان فيلمه الثاني. “حاولت أن أعكس التجربة التي عشتها. صوت ركل الطابة اندمج مع صوت إطلاق النار والقذائف وإرادة الحياة االعجيبة التي لمستها عند هؤلاء الأطفال”.
ساءت الأوضاع بعدها في الشام وازداد الحصار الأمني “بشاعة”، بحسب عبد الواحد، خصوصاً بعد استهداف “خليّة الأزمة” وقتها، فقدم إلى بيروت. أراد أن يكون بالقرب من اللاجئين السوريين ومن المخيمات الفلسطينية التي احتضنتهم هنا. زار هذه المخيمات ورأى شيئاً مذهلاً حسب وصفه. “كنت أسمع كيف احتضن الفلسطينيون في الشام، في مخيمات اليرموك وفلسطين والحجر الأسود الأهالي والثوار القادمين إليهم من المناطق التي نكبها النظام. لم أر ذلك هناك. عشته في بيروت، في مخيم شاتيلا وفي صبرا والداعوق. ما شدّني هو حالة الفلسطيني بحد ذاتها واستيعابه للنازح السوري. كيف أن دخول السوري كلاجئ إلى المخيّمات جعل روح الفلسطيني تتّقد. كأنه عاد بالذاكرة إلى أيام نضاله القديمة بعيداً من الاحتفالات السنوية. أذهلني كيف أن أشخاصاً يعيشون في قوقعة اجتماعية، في بلد لا حقوق لهم فيه، وفي مخيمات أصبحت مع الوقت وطنهم البديل، احتضنوا السوريين. حارات المخيمات الصغيرة، التي أنجب الفلسطينيون فيها أولادهم، فتحت أبوابها للسوريين”.
ما أثّر بخالد وشدّه هو علاقة القضيتين، الفلسطينية والسورية ببعضهما، وحالة الانسجام والعمق الإنساني الذي نما بين النازحين. أسره وضع الأطفال الذين يرى فيهم الضحية الكبرى والأمل الكبير في الوقت نفسه. “كنت أحاول خلال زياراتي للمخيمات أن أسأل الأطفال السوريين المحاطين دائماً بمجموعة من الأطفال الفلسطينيين عن أحلامهم وذكرياتهم. إجابات الأطفال متشابهة، وذاكرة الطفل الفلسطيني شبيهة بذاكرة الطفل السوري، وكذلك أمنياتهم وتوقعاتهم وأحلامهم الصغيرة”.
في فيلمه الثالث القصير، “شقّ في ذاكرة”، صوّر عبد الواحد “مرجوحة العيد” في مخيم شاتيلا. كان يتأرجح عليها طفلان سوريان وآخران فلسطينيان وهم يغنّون أغنية “يا حاج محمد، يويو”. المرجوحة “بتروح وبتجي” ومعها أصوات الأطفال. حركة المرجوحة هذه والشق الذي في أسفلها أعادا خالد إلى أسئلته وأجوبة الأطفال عنها، وإلى ذاكرتهم القاسية التي لم يعبّروا عنها لكنّه شعر بها. “لم يُجب الأطفال عن أسئلتي بشكل مباشر، كانوا يحكون في مواضيع أُخرى. كانوا كأنهم يصمتون عن ذاكرتهم القاسية، لكنها كانت واضحة”. عاد خالد عبد الواحد في فيلمه إلى فلسطين وإلى سوريا. أدخل من هذا الشقّ أصواتاً تتكلّم عن نضال الفلسطينيين في فلسطين وعن الثورة السورية. وسُمع صوت والد محمد الدرّة (الطفل الفلسطيني الذي قُتل برصاص جندي إسرائيلي وهو مختبئ في حضن أبيه) وهو يقول: مات الولد، مات الولد.
انتقل المخرج السوري بعدها إلى تركيا، وهو يُقيم هناك الآن. أخرج فيلماً بعنوان “لافتة”، عن لافتات مدينة “كفرنبل” التي تقع في محافظة إدلب والتي وصفها العديد من الناشطين السوريين بأنها “ضمير الثورة السورية”، وهو الآن يعمل على فيلم توثيقي طويل يرصد الثورة في منطقة “الزبداني” في ريف دمشق من خلال أربع شخصيات عاشوا الثورة هناك بتفاصيلها وصوّروا الأحداث.
بالنسبة لخالد، الفيلم هو رصد لهذه الشخصيات. نتعرّف من خلالهم إلى حالة المواطن الصحافي وإلى تركيبة الإعلام؛ ما هو المسموح والممنوع، ما هي المواد التي تُعرض وتلك التي تُحجب، وما هي المواضيع الإنسانية التي لا تجد إلى الإعلام سبيلاً…
موقع لبنان الآن