هل خرج الربيع عن سكته؟
محمّد علي مقلّد
استمرار الأوضاع في مصر على حالها من الغليان تعبير واضح عن استمرار القطار على سكته السليمة . ذلك أن الأصوليات لم تكن هي التي صنعت الثورة بل هي التي اغتصبت السلطة اغتصابا . وما يحصل في المرحلة الثانية من الربيع هو محاولة يقوم بها صناع الثورة لاستردادها من مغتصبيها. غير أن وصول الأصوليات إلى السلطة عبر الانتخابات أخفى وجهها الحقيقي ،ذلك أن صفتها الأساسية ليست في كونها دينية ، بل في كونها قائمة على هيكل من الاستبداد تشاركها في ذلك أصوليات يسارية أو قومية أكثر تشددا وتعصبا ، بل قد تكون أكثراستبدادا.
الأصوليات غريبة عن الربيع ، وهي التحقت به بعد فترة من انطلاقه. وهي متفاوتة ومتنوعة ومتعددة بتعدد التسميات ،لكن الفارق بين هذه وتلك لا يعدو كونه فارقا كميا ، كل منها يسعى إلى إلغاء الآخر وحذفه من الوجود أو من الخارطة السياسية ، أي إلى نفيه ، نفيه خارج الوطن أو سجنه أو قتله، ولا فرق إن كان القتل بكاتم الصوت أو بعبوة أو بقصف الطيران أو بالتسميم أو بالاغتيال أو بال”انتحار” بطلقات عدة في الرأس أو في الحلقوم.
وبما أن الأصوليات الإسلامية استحوذت على السلطة في بلدان الربيع العربي. ، فهي بدت كأنها استحوذت على الإسم وغدت هي وحدها الأصوليات ، ويساعد على ترسيخ هذا الاعتقاد المغلوط انتشارها في معظم المجتمعات التي يعيش فيها مسلمون في كل المعمورة ، مترافقا مع أعمال عنف دموي هي الأكثر فضائحية من بين وسائل النفي والحذف .
الكلام عن أصوليات ، بصيغة الجمع ، ليس لتخفيف الوطأة عن سلطات ناشئة في كل من مصر وتونس أو عن قوى مشاركة في الثورة في سوريا، بل لأن أوجه الشبه كثيرة هي الأخرى ، ولا سيما ما تكرس منها في الربيع العربي ، إذ ترددت الأصوليات كلها في المرحلة الأولى واستمهل بعضها الوقت لينخرط ، فيما أحجمت الأصوليات الماركسية عن المشاركة ، واختارت الأصولية القومية مواجهة الربيع ، وهو ما يحصل في سوريا.
ارتباك الأصوليات حيال الربيع العربي لم ينشأ من فراغ . بل إن أسبابه تمتد إلى تلك العوامل التي تسببت بولادتها. الأصوليات الإسلامية نهضت ، أول مرة ، في وجه الحضارة الغربية الوافدة، ونمت في ظل السلطنة العثمانية وفي عداء معها ، ولم تجد حلا لمظاهر تخلف الأمة سوى بالعودة إلى الأصول ولا سيما التمثل بسيرة السلف الصالح . لكنها ، على ما يقول الفيلسوف محمد عابد الجابري، لم تكن تريد إعادة العالم العربي إلى عصره الذهبي ، عصر العقل ، بل إلى ما قبل العقل. الأصوليات اليسارية نهضت معادية للحضارة الرأسمالية ( التي نعتتها السلفيات بالغربية أو المادية أو المسيحية ) ، والأصوليات القومية نهضت على عدائها للاستعمار .
كان من الطبيعي إذن أن تتحالف هذه الأصوليات وتتعاون في مواجهة عدو واحد هو الغرب الرأسمالي الاستعماري الأمبريالي ، لكنها وقعت ضحية صراعات حادة فيما بينها ، ودموية أحيانا، وانزاحت العداوة لتصير بين ” أبناء الخندق الواحد” ، تبعا للمثل الشعبي القائل ” العدو هو عدو الكار”. فما هو هذا الذي تنافست عليه الأصوليات وتعادت وتفانت؟
تمحور الخلاف في المرحلة الأولى حول العلمنة ودور الدين ، وفي مرحلة لاحقة حول طبيعة النظام الاقتصادي ، وصار الحوار ساخنا في الثقافة بين ثنائيات مغلوطة ، كالتراث والمعاصرة ، والحداثة والأصالة ، والاستشراق والاستغراب ، الخ . لكنه لم يتحول إلى صراع دام إلا على المسائل المتعلقة بالسلطة السياسية وأنظمة الحكم ، فتنافست الأصوليات على انقلابات عسكرية دشنتها قوى قومية ، وتعاقب عليها آخرون من اليسار الماركسي والإسلام السياسي ، إلى أن تكرست ظاهرة الجمهوريات الوراثية ، وصار القذافي عميد الحكام العرب لأنه حافظ على كرسي الحكم حوالي أربعة عقود ، وتحول النظام البعثي في كل من سوريا والعراق إلى أكثر من ملكية مطلقة ، وصار يتم اختيار الحاكم ، حتى في بلدان تعتمد صناديق الاقتراع والاستفتاءات الشعبية ، إما بالتعيين أو بالوراثة.
هنا يكمن بالضبط سبب ارتباك الأصوليات حيال الربيع العربي : قامت ثورات الربيع ضد حكم الوراثة باعتباره تجسيدا لأنظمة الاستبداد وطالبت بالديمقراطية وتداول السلطة .فهل يمكن لقوى الاستبداد أن تناضل ضد الاستبداد ؟ وهل يمكن لها ، إن هي انخرطت في الثورة وانتصرت ، أن تعمل على إقامة أنظمة ديمقراطية ؟ نعم ، هذا ممكن ، إن هي أعادت قراءة تاريخها بعين نقدية . لكن عينها لا توفر لها الرؤية السليمة ، بل هي تحتاج إلى نظارات للقرب وللبعد ، لأنها ، على ما يبدو، فهمت دروس الثورة بالمقلوب.
أما القول بأنها أمسكت بالسلطة عن طريق الانتخابات ، فهذا يطرح سؤالا عن معنى الديمقراطية وآلياتها ، ويحتاج إلى معالجة أخرى.
المدن