صفحات العالم

تمهيد الفوضى


سليمان تقي الدين

لا يستطيع أي طرف سياسي لبناني الزعم أنه غير متورط في الأزمة السورية. نشأ الانقسام الوطني الكبير حول العلاقة بسوريا. جميع الأطراف يريد سوريا حضناً دافئاً له ويختلفون على أي نظام في سوريا يريدون. لا تسعى القوى الطائفية إلى بناء مشروع لبناني يملك استقلالاً وطنياً عن سوريا لأن منطق الغلبة في الداخل يحتاج إلى شكل من أشكال الحماية الخارجية. في العام 2005 تعذر إنتاج معادلة راودت البعض «لدمج إنجازي التحرير والاستقلال»، أو لمزاوجة هدف التخلص من الاحتلال ومن الوصاية.

لم يكن التحرير مستقلاً عن رعايته الإقليمية ولم يكن إنهاء «عهد الوصاية» مستقلاً عن القرار الإقليمي والدولي. عملياً تحوّل الإنجازان إلى التصادم لأنهما جاءا من بيئة طائفية وإقليمية مختلفة. لا يوجد على أرض الصراع مكوّن وطني لبناني مشترك يضغط باتجاه المصالح اللبنانية العامة، ولا توجد قوى سياسية استقلالية طموحها صياغة الوحدة اللبنانية على الركائز التي سبق أن تبلورت في تسوية الطائف.

خلال سبع سنوات لا صوت يعلو على صوت الخطاب الطائفي المذهبي المتوتر الاتهامي التهديدي الإقصائي التقسيمي من كلا الطرفين. لم يتقدم اللبنانيون خطوة واحدة في اتجاه بلورة موقف وطني من العدو الإسرائيلي وكيفية مواجهته، ولا خاضوا جدياً في تطوير الإطار السياسي الديموقراطي لنظامهم، ولا عالجوا المشكلة الطائفية المتفجرة، ولا قدّموا حلولاً لأزماتهم الاقتصادية والاجتماعية، ولا ارتضوا علاقة سويّة مع سوريا.

ذهب اللبنانيون أبعد فأبعد نحو خيارات قصوى في تحصين وتعميق مواقعهم الطائفية المتنابذة. ترتبت على هذه الخيارات أولويات سياسية وجودية لدى الجماعات أسقطت من جدول الأعمال أي عنوان توحيدي إصلاحي تنموي أو ديموقراطي. بل صار الحديث بهذه العناوين بلا أدنى مصداقية في السلوكيات وفي المناورات المكشوفة الانتقائية والفئوية وانعدام الرؤية للمصالح اللبنانية كافة.

انفجرت الأزمة السورية وكانت أدعى أن يأتي اللبنانيون جميعهم إلى البحث عن تفاهمات تمنع استيراد المشكلات السورية إلى لبنان. لكن ذلك يتطلّب التزاماً حقيقياً بمشروع الدولة وتسوية تضمن مصالح الجميع وتؤمّن الشراكة وتعزّز الخيار الديموقراطي. بخلاف ذلك هجرت القوى السياسية الحوار الوطني وعلّقت مشكلاتها الداخلية وانجرفت في الرهان والتورّط بأشكال مختلفة في النزاع الداخلي السوري تبعاً للخيارات الإقليمية والمواقع الطائفية والمصالح السلطوية.

يعتقد اللبنانيون برغم التجارب والخيبات أنهم يستطيعون التأثير في الخارطة الجيوسياسية للمنطقة. تورّطوا في حلف بغداد وخصومه، وفي «لعبة السلام المنفرد» ونقيضها، وفي نصرة الثورة الفلسطينية وضدها، وفي محور الممانعة ومعاداته، وما زالوا يتنكّبون هذه الرهانات قبل أن ينهضوا بمهمة وحدتهم الوطنية ودولتهم التي تحظى بالشرعية والولاء.

في واقع الأمر كانت الحرب دائرة في لبنان وعلى حدوده بصورة متقطّعة وجزئية حتى تفاقمت الوقائع الدالة على زجّ القوى الإقليمية جميع أوراقها في الصراع وتوسيع دائرة الاشتباك واستدعاء القوى اللبنانية إليه.

ليس مهماً الآن مَن هو الطرف المبادر أو الذي تعجّل أو الذي يعنيه هذا التوقيت بالذات، فهذه كلها تصبح نسياً في لحظة وقوع الاشتباك بعد تراكم أسبابه ومحرّضاته. استجابت القوى الطائفية لنداء الصدام، كل منها بوسائلها وعناصر قوتها وشعاراتها.

في هذه المواجهة لا قضية وطنية ولا مصلحة لبنانية عامة أو خاصة حتى للمتورطين فيها، ولا للمواطنين المهدّدين بدورة عنف أهلي تدمّر حياتهم. فلا مقاومة إسرائيل تعززها الحرب الأهلية ولا السيادة ولا الكرامة الوطنية والإنسانية تتحقق في ظل القتل والخطف والتعدي والتسلّط والسيطرة وإلغاء الآخر. فهل تملك القوى اللبنانية الفاعلة الشجاعة والرؤية لاستدراك الموقف باستنقاذ الوضع اللبناني كمهمة وطنية لا توازيها مهمة أخرى، أم أنها قرّرت المغامرة بالمصير اللبناني كما في كل تجربة سابقة لمصلحة قضايا وصراعات أكبر من لبنان فلا تخدم تلك القضايا ولا تحمي لبنان من الخراب؟! هناك مسؤولية تاريخية جسيمة على القوى الفاعلة في مراجعة مواقفها وممارساتها وطروحاتها قبل انقطاع حبل الأمن وسقوط آخر المعاقل الشرعية للدولة الواحدة. لامست أحداث الشمال الحد الفاصل بين الأمن والفوضى، بين الدولة وسقوط الدولة، بين العيش المشترك والحرب الأهلية. لعلها الفرصة الأخيرة والإنذار الأخير.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى