هل نصمد في آخر أيام أوباما؟/ عمر قدور
لم تكن تصريحات وزير الخارجية الأميركي جون كيري مفاجئة عن صعوبة التفريق بين الإرهابيين ومن ليسوا كذلك، وتناغم هذه التصريحات، إن لم يكن تمهيدها، لاستهداف مدينة حلب وريفها من قبل الطيران الروسي والأسدي. الناطق باسم البيت الأبيض سبق كيري بسحب الغطاء عن وفد المعارضة في جنيف، عندما اعترض على انسحابه بسبب الخروقات المتكررة للهدنة، ما يعني في اللغة الدبلوماسية إباحة إعادة الوفد إلى المفاوضات تحت الضغط العسكري.
سياسياً، ليس من المنطق لوم إدارة أوباما على خدعة مارستها، فقراءة تصريحات مسؤوليها كفيلة بتوقع المسار الذي اتخذته، على الأقل منذ صفقة الكيماوي المشينة. وليس أخلاقياً، في المقابل، إعفاؤها من مسؤولياتها بحكم القانون الدولي وبحكم كونها القوة الأكبر دولياً، فالتذكير بمسؤوليتها ينطلق من احترام قانون «الأقوياء» نفسه، لا من منطلق الاستجداء والتوسل، كما يريد بعض الجهات تصويره. قرار مجلس الأمن 2254 ينص في الفقرتين 12 و13 منه على إجراءات فورية تتعلق بإيصال المساعدات للمدنيين وعدم استهدافهم بالقصف والبدء بإطلاق المعتقلين، أي أن إدارة أوباما تخلت عملياً عن القرار، ضمن سلسلة تراجعاتها المعهودة.
منذ سنة ونصف سنة على الأقل، صار واضحاً أن الإدارة وضعت الملف السوري في عهدة موسكو. أريق كلام كثير عن نيتها توريط بوتين في سورية، لكنه كلام خارج النهج الأوبامي المكشوف، ولا يعدو كونه نوعاً من الأمنيات. المؤسف أن ترويج التكهنات آنذاك شوّش على رؤية النهاية المنطقية التي نشهد فصولها الآن، فإدارة أوباما انتقلت من الإشراف على مرحلة «لا غالب ولا مغلوب» في الميدان العسكري إلى مرحلة تمكين النظام وحلفائه عسكرياً، والبناء سياسياً على القول بأن النظام انتصر، وعليه هو الحليف الواقعي في الحرب على الإرهاب.
لا داعي أيضاً للتذكير بكل ما قيل عن سلبية الإدارة، فهذه الترهات تتغافل عن حقيقة وجود نهج قوي حازم للرئيس. مسؤولون أميركيون سابقون كشفوا عن خطط عُرضت عليه طوال سنوات، وجرى رفضها أو تجاهلها كلياً. تلك الخطط كانت لتحدث فرقاً من دون انخراط مباشر تنأى الإدارة عنه.
حتى الرغبة في الإبقاء على النظام من دون رأسه لم تعد قائمة، فشرط تشكيل جسم انتقالي بقبول متبادل، يعني ضمناً القبول ببقاء الأسد الذي لن يتخلى طوعاً، لا عن منصبه ولا عن صلاحياته العسكرية والأمنية. ما حدث في جنيف يكاد يتلخص بالقول للمعارضة: اذهبوا لتظهير موافقتنا على بقاء بشار، وإن لم تفعلوا سيكون البديل المزيد من الإبادة التي ستتحملون مسؤوليتها أمام السوريين. لم ينفع أمام هذا القرار الجازم قيام فصائل المعارضة بمحاربة داعش في ريف حلب الشمالي، بمجرد انخفاض مستوى العنف الذي تلاقيه من النظام، أي لم ينفعها الانخراط في ما تعلنه الإدارة من أولوية الحرب ضد داعش، لأن بروز المعارضة كقوة ضد الإرهاب يجرد النظام وإدارة أوباما معاً من ذريعة بقاء الأول.
نحن أمام آلة متكاملة، سياسياً وعسكرياً، تعمل بأقصى طاقتها تحت ضغط الأشهر الأخيرة من عمر إدارة أوباما. لندع جانباً التحليلات التقليدية عن عجز الإدارة في السنة الانتخابية، ومحاولة استغلال ذلك من قبل موسكو وطهران، فمن المفهوم استعجال موسكو وطهران الحسم قبل رحيل أوباما لأنهما لن تحظيا بإدارة متفهمة ومتعاونة لاحقاً. الأخطر هو رغبة الإدارة نفسها في الحسم قبل رحيلها، أو بالأحرى رغبتها في تصفية القضية السورية تحت تسوية تتيح بقاء النظام وتكريس النفوذين الروسي والإيراني، بحيث تضع أية إدارة مقبلة أمام الأمر الواقع.
لدى الإدارة أكثر من حافز لتصفية القضية السورية، أولها طي الملف نهائياً بارتباطه بملفات وصفقات أخرى، لئلا تعاود الإدارة المقبلة النظر فيها جميعاً، مع خطر تسرب تفاصيل إدارة الملف من قبل الإدارة الجديدة أو من قبل القوى المتضررة من السياسة الجديدة. أيضاً، لا يُستبعد العامل الشخصي من التأثير، فأوباما يرغب في إنهاء ولايته كصانع للسلام في سورية، بصرف النظر عما في التسوية المطروحة من إجحاف ومنع للتغيير. لا يُستبعد العامل الشخصي أيضاً في عدم التمييز بين الملف السوري وعلاقته الشائكة بالحلفاء الخليجيين، إذ يكون خياره المفضّل تسليم سورية لإيران بدل تسليمها للخليج حسبما يعتقد.
ذلك لا يعني أن الإدارة المقبلة ستنقلب على سياسة أوباما كرمى للسوريين، لكن يصعب توقع استمرار نفس السياسة المحابية لموسكو وطهران في العديد من الملفات، الأمر الذي سينعكس على الملف السوري. المرشحان الأوفر حظاً عن حزبيهما، هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، لهما انتقادات صريحة في ما يخص التفريط بهيبة أميركا، ولدى كلينتون التي عملت وزيرة لخارجية أوباما انتقادات صريحة إزاء تعاطيه مع الملف السوري. من هنا، قد تكون القضية السورية في أسوأ مراحلها، مع رئيس لا يفوته إمكان تحول هذا الملف إلى وصمة شبيهة بما حدث لجورج بوش جراء تدخله في العراق على النحو الأرعن الذي حصل، تحديداً بعد إسقاط صدام. لكن تصميم إدارة أوباما وتفاهماتها مع موسكو وطهران ليست قدراً، بشرط وجود تصميم مقابل من القوى الإقليمية المتضررة. هنا ينبغي الإقلاع عن سياسة الانتظار، والتعويل على من يخلفه في البيت الأبيض، بل سيكون من الأفضل الضغط على أوباما وإحراجه دولياً وداخلياً، حتى بمعنى دفعه لإشهار دعمه بقاء نظام بشار الأسد. لن تخسر هذه القوى في علاقاتها مع الولايات المتحدة إذا كشفت عن شيء من الضغوط أو الوعود التي قدّمتها الإدارة، بل هكذا تمارس ضغطاً مسبقاً على القادم إلى البيت الأبيض.
الهجمة الوحشية على حلب، أثناء كتابة هذه الأسطر، من قبل الطيران الروسي والأسدي، ليست من النوع المعتاد، لا لأنها استهدفت على نحو خاص طواقم الإغاثة وآخر الكوادر الطبية، وإنما لأنها تستهدف إرادة المقاومة. على الأرجح سنكون على موعد مع الأخطر والأكثر دموية في آخر أيام أوباما الذي لا يرى في السوريين سوى فائض يُضحى به، مرة بمنع الحسم لمصلحتهم، ومرة باستعجاله لمصلحة النظام. في صراع الإرادات هذا، تمتلك إدارة أوباما القوة، بينما يمتلك السوريون إرادة البقاء.
الحياة