صفحات الرأي

الرصيد العربي الجاري

 

سليمان تقي الدين

لا نعرف بالضبط إلى متى تستمر موجة الإسلام السياسي التي تهيمن على المشهد السياسي العربي. منذ ثلاثة عقود قامت الثورة الإيرانية، وبدأ الإسلام التركي يناهض الدولة العلمانية حتى صعد إلى السلطة منذ عقد ونيّف. أما العرب فعاشوا نصف قرن بين معسكرين: إسلاموي محافظ في دول الجزيرة العربية، وقومي شبه علماني في معظم الدول الأخرى. بين الإسلام والعروبة كان الصراع سياسياً. كان هناك نوع من التعايش والتواطؤ، فالإسلاميون لم ينكروا العروبة، والعروبيون لم ينكروا دور الإسلام في العروبة.

دعم الغرب الإسلام السياسي دولاً وحركات ضد القومية العربية و«اليسار الدولي». وفي كل مرة تراجعت مواقع القوميين العرب، كان الإسلام السياسي يتقدّم فارضاً نفسه شريكاً على المستوى الإقليمي وداخل الأنظمة السياسية.

منذ الثمانينيات في القرن الماضي انتشعت «حركة الإخوان المسلمين» في مصر، ثم في الجزائر وفلسطين، وحاولت أن تطل برأسها في سوريا. واجهت الأنظمة العسكرية البيروقراطية المتحدّرة من المرحلة القومية حركات الإسلام السياسي بالقمع العنيف لمظاهر وأساليب العنف، والاحتواء السياسي والإيديولوجي. زايد الرئيس أنور السادات «بالإيمان» وبنشر الإسلام السياسي ضد إرث «الناصرية»، وبتقويض التيار القومي واليساري. وراح صدام حسين يرفع علم الإسلام في مزاودة دينية ومذهبية على إيران، وذهب معمر القذافي إلى حد دعوة المسيحيين العرب لكي يتأسلموا وخاصة في لبنان، وتراجعت الدولة الجزائرية عن مشروعها القومي الاشتراكي أمام ثقافة هجينة، وصعد التيار الإسلامي في السودان في وجه الحكم العسكري القومي الأجوف، أما النظام السوري الذي واجه الإسلاميين في «حماه» بالاجتثاث الدموي، فقد تراخى في وجه انتشار ثقافة الإسلاميين، وحاول الظهور بمظهر الملتزم بتقاليد الإسلام، وحالف إيران، وشجع وأدار الحركات الإسلامية في لبنان وفي العراق وفلسطين. وكلما تراجعت شرعية الأنظمة قومياً ووطنياً واجتماعياً، كانت تستحضر الثقافة الدينية و«الشرعية الدينية» لكي تغطي بها عجزها وفشلها. بل إن العقود الثلاثة الأخيرة من الاستسلام المقنّع بالتفاوض مع إسرائيل، واختيار «طريق السلام»، والرضوخ المتزايد لشروط السيطرة الأميركية، ترافق مع نزوع شرس للتخلص من إرث التجربة القومية وتحالفاتها في الخارج والداخل، ومن تشديد الحصار ومطاردة اليسار والفكر اليساري والعلماني. وعندما ارتاح الأميركيون قليلاً من خصمهم «السوفياتي» شجــعوا على إشــاعة منــاخ ليبرالي ضد التطرف الإسلامي و«الإرهاب» فأوحوا بنشر المنابر الإعلامية وأطلقوا شعارات الديموقراطية والحرية وتخففوا من عبء دعمهم لأنظمة دكتاتورية صارت تتلاعب بأمن المنطقة عبر رعاية بعض الجماعات المسلحة. وجد الأميركيون في انفرادهم بالنظام الدولي فرصة لإعادة تشكيل «الشرق الأوسط» بصورة أكثر طواعية لمصالحهم. لكن هذا المشروع الأميركي اصطدم بعدة عقبات، من بينها مصالح الأنظمة التسلطية التي صار مصيرها مرتهناً لبعض نفوذها الإقليمي ولهيبتها الأمنية. وفي تسابق واضح بين رهان هذه الأنظمة على التناقضات في المصالح الدولية والإقليمية، والسعي الأميركي لاستثمار ما بقي من مرحلة التفرد، تحولت عملية التغيير إلى مواجهات، فعادت أميركا إلى سياسة احتضان ورعاية الإسلام السياسي وأطلقت له العنان لكي يطيح بأي موقع معترض أو «ممانع»، ولكي يجهز نهائياً ويختتم مرحلة الألوان الرمادية ويسقط المنظومات السياسية والإيديولوجية السابقة من أجل «شرق أوسط جديد».

قام مشروع الإسلام السياسي على إيهام الجمهور بخطورة وأهمية الهوية الثقافية والسياسية للمنطقة. فلم يتورّع عن الترويج «لشرق أوسط إسلامي» تمييزاً له عن الشعار الأميركي. لكنه في العمق لم يكن إلا استجابة صريحة لمشروع نظام إقليمي تنتفي فيه المصالح الوطنية والقومية العربية، ويخضع لقواعد جديدة من التعايش مع الغرب على ثنائية الانعزال الثقافي والاندماج الاقتصادي. فليس من نموذج إسلامي للاستقلال والتنمية لا في إيران ولا في تركيا، بل هناك مصالح قومية تتصرف بها القوى الاقتصادية وتحاول أن تساوم عليها لقاء نفوذ إقليمي. فلا ننكر في هذه الحال الهوامش الواسعة للتعارض بين المصالح الدولية الكبرى ومصالح الدول الإقليمية القوية والفاعلة وذات الموارد المؤثرة في السياسات العالمية ولا سيما النفط والغاز. لكن هذا النوع من التعارض كان ولا يزال ويمكن أن يبقى نوعاً من المساومة على تحسين شروط العلاقات وليس على مبدئها وركائزها. وإذا كان الإسلام السياسي في إيران وتركيا يبدو أكثر استقلالاً وحيوية في الموقف والتفاوض مع الغرب لما لديه من عناصر قوة مادية، فإن الإسلام السياسي العربي الصاعد في مصر وسواها يبدو أكثر هشاشة وهزالاً في دول رهنت نفسها طويلاً لنموذج من تشوّهات التنمية ومن التبعية. فإذا كانت صورة العالم العربي هي الهامشية في المدى الدولي والإقليمي، وإذا كان الإسلام السياسي لا يملك «مشروعاً عربياً» ولا مشروعاً للتنمية المستقلة ولثقافة الحرية والديموقراطية بل يصادمها جميعاً، فلن ينتج «دولة إسلامية» ولا ينجح في تقليد إيران وتركيا، ولن يكون قابلاً للحياة أمام حاجات المجتمعات العربية وانفتاح آفاق الصراع السياسي أمام شعوبها وخروجها من هيمنة الإيديولوجيات الحصرية وتحرّرها الواقعي من أكثر المعارك الوهمية.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى