رستم محمودصفحات سورية

أوهام الفاشيّة “السورية” الثلاثة


رستم محمود

على الرغم من وجود تعليمات واضحة لأعضاء مجلس الشعب السوري -المعينين حديثاً- بعدم التصفيق أثناء الخطاب الأخير للرئيس السوري بشار الأسد، أو عدم المبالغة به في أفضل الأحوال، حتى لا يثيرون موجة من السخرية، كما حدث في آخر مرة خطب بها الأسد في المجلس مع بدايات الثورة السورية. على الرغم من ذلك، فأن القاعة اشتعلت تصفيقا حين ردد الرئيس السوري عبارته “الذين هم خارج التاريخ” . حيث كان يقصد العرب الداعمين للثورة السورية، وبالذات منهم مواطنو دول الخليج وليبيا وبعض دول المغرب العربي . المميز، أن حالة التصفيق الخاصة تلك من قبل الأعضاء، كانت مرفقة بنشوة نفسية مزيفة عالية، لا تخفي غرورها وشعورها بتعاضد داخلي عميق فيما بينهم، مغطاة بضحكة عالية من قبل الأسد .

تكاد تلك الصورة أن تكون تعبيرا موجزا عن شيء من “العقلية والخطابية الفاشية” التي بدأت تجري في عروق الجهاز الخطابي والدعائي والثقافي والسياسي للنظام السوري، منذ بداية الثورة . حيث تتشكل الآلية الفاشية تلك من تراتبية بسيطة . سلطة لا تحتمل ولا تفهم الثقل السياسي للثورة في البلاد، وبالتالي لا تستطيع الرد عليه بالشكل السياسي الطبيعي، تحول تناقضه هذا، إلى إشكال وتفارق ثقافي، ثم توحي بإشارات لأجهزتها بشحذ كل المثيرات الثقافية والهوياتية والطائفية والتاريخية الغرائزية الممكنة . حيث تعمل تلك الأجهزة “بإمكانياتها المالية والجهازية والاعلامية الضخمة ضمن البلاد” على نشر قصة “وهم” فاشية صغيرة: السوريون شعب عظيم، ويشكلون المركز الحضاري والتاريخي المتنوع للمنطقة والعالم، وهم محاطون بشعوب أقل قدرا وأثرا حضاريا وتنوعا منهم . وانه بالرغم من بعض الفروق بين السوريين وغيرهم من الشعوب العربية وغير العربية، لكنهم يبقون الأكثر حضارة ومدنية… الخ . تقوم تلك الطقطوقة الشعبوية الفاشية على ثلاثة أسس متوهمة ثقافية وسياسية وعملية، يريد الباعثون لها، القفز على حقيقتها، هذا لو سلمنا “خطأ وتجاوزا” بأنهم الممثلون الطبيعيون لهذه “الروح الحضارية السورية”، إن وجدت أساسا .

وهم أول ثقافي تاريخي، له علاقة بأفكار الحزب السوري القومي الاجتماعي، يرى في جغرافيا بلاد الشام كحمال لمجتمع سياسي وثقافي مميز ومتمايز عن المحيط السياسي والثقافي له . هذا المجتمع المتوهم، حسب هذه النظرية، تكوّن عبر حقب تاريخية وحضارية طويلة وعميقة، كان يعاني دوما من مداخلات وإشكاليات واحتلالات، من قبل المجتمعات الأقل حضارية المحيطة به . وذلك لعجز تلك المجتمعات عن التشابه واللحاق بقيم هذه المجتمع السوري . حيث كانت تلك المجتمعات المحيطة “أقل أثرا في التاريخ” حسب هذه النظرية! مصرية فرعونية مرة وناصرية مرة اخرى، عربية إسلامية بدوية مرة وخليجية سلفية مرة أخرى، فارسية زردشتية مرة وإيرانية شاهنشاية مرة أخرى، سلجوقية عثمانية مرة وتركية كمالية في مرات أكثر . فحسبها كانت هوية جغرافيا بلاد الشام وشعبها بالغة الحضارية، تثير بتفوقها الثقافي والأخلاقي والسياسي، أطماع “البرابرة” المحيطين . ثمة ما لا يحصى من الأدلة لدحض تلك النظرية، أقلها وهم التماهي مع التاريخي والجغرافي الذي تستبطنه، فلا التاريخ المجتمعي للمنطقة كان على هذه الحالة التي تقاس عليها هذه النظرية، ولا الجغرافيا كانت بهذا التحديد والوضوح عبر الازمنة المختلفة، فسوريا الجغرافيا والمجتمع، ولأسباب شتى، لم تكن يوما ممسوكة ومحددة الملامح بهذا الشكل، إلا في العهود الأكثر حداثة . كانت دوما متقاسمة السيطرة والهيمنة والتداخل الثقافي والمجتمعي مع كل المحيط الأقوى منها، كانت دوما جسرا ومعبرا أكثر بكثير مما كان مركزا ومبعثا . كما أن النظرية تفترض تجانسا ثقافيا متوهما بين مختلف تكوينات المجتمع السوري، وتصنع بالمقابل تخالفا متوهماً له عن محيطه . هذا لو وضعا جانبا، القضيتين الأكثر مغالطة في روح هذه الفاشية، ارتقاء المجتمع السوري أكثر من غيره!، وعدوانية المحيط ودونيته مقارنة به! . هذه الفاشية السورية الثقافية التي برقت لحقبة زمنية قصيرة في أربعينيات وخمسينيات القرن المنصرم، بسبب تفاقم الصراعات السياسية الايديولوجية وقتها، يريد لها خطاب السلطة السورية الان أن ينهض من جديد، فربما تصنع تعاضدا داخلي متوهما، قائما على تمايز متوهم .

وهم ثان سياسي، هو مزيج من أدبيات حزب البعث الايديولوجية بأكثر أوجهها شعبوية مع أكثر خطابات “تيار الممانعة” ركاكة. أدبيات بعثية وخطابات “ممانعة” كانت ترى ذهنيا في رؤيتها السياسية احتكارا لمقاومة الآخر والتصدي له، تحت راية القومية العربية والهوية الإسلامية .العدو الذي كان يتمثل في إسرائيل والولايات المتحدة بالذات. فحسبها، كان ممثلو هذا التيار وحدهم من حظي بالشرف العظيم للتصدي والممانعة، بينما رزحت وتخلفت جميع الأحزاب والأنظمة السياسية العربية أمام هذه المهمة النبيلة . لذلك، ودائما حسب تلك النظرية، فأنه لهذا التيار وحده الحظي بشرف وعلو كعب هذه الفعل التاريخي، أما الآخرون فيجب أن تلحقهم الخسة والدونية. ما يخفيه هذا الوهم بداهة صغيرة. فما كان يبتغيه ممارسو هذا الخطاب، تاريخيا، كان التلطي وراء الشرعية المنعكسة عن الخطاب، والسيطرة على مجتمعاتهم والاستبداد بها، لا الإنتاج الفعلي العملي له على الأرض . فهذا التيار كان الأقل إنتاجا وفعلا في معركة العرب الكبرى، وكان الأكثر خسارة وهزيمة، كان الأكثر تواطؤا في الباطن والعلن مع “العدو”، كان الاكثر لعبا وتدميرا لعمران مجتمعاته، وكان الأكثر عنفا وتصفية للتنظيمات التي قاومت هذا الآخر بحق، في الحقول المختلفة. وقبل كل شيء، كان الأقل تهيئة للظروف الموضوعية لفعل الممانعة والمقاومة لهذا “العدو”، الذي قد يطول الصراع معه قرونا. فبلدان الممانعين كانت الأقل تنمية ومجتمعاتهم الاقل حرية وسلطاتهم الأكثر استبدادا وأفعالهم الأكثر طائفية وعنفا وركودا وعفنا. أما الذين كان هذا الخطاب يسحب منهم ذلك الشرف وتلك الرفعة، فهم الوحيدون الذين أعادوا أرضهم المحتلة، والوحيدون نموا بمجتمعاتهم بالحد الأدنى ويملكون حريات سياسية إعلامية بما لا يقارن مع تيار الممانعة هذا. .

أما الوهم الأخير والأهم الذي تستبطنه الفاشية السلطوية “السورية” فيأتي من الشعور بعملية هذا الممارسة . فثمة وهم متضخم بأن هذا الفاشية ستكون قادرة على تحويل التناقض السياسي للنظام، بين توق شعبه للحرية واصراره على الاستبداد، إلى تناقض ثقافي وقيمي بينه وبين الآخر، عبر وهم صناعة تآلف غرائزي فاشي بينه وبين مواطنيه . شيء شبيه بما فعله النظام عام 2005، حينما نجح في صناعة هوية سياسية سورية زائفة، مقابل ما روجه وقتها من هوية لبنانية مفترضة (غنية! مستعلية! كارهة للسوريين!) . ما يتوهم به النظام بأن تلك التجربة يمكن أن تنجح مرة أخرى . لكن ما لا تدركه من فرق جوهري بين المرحلتين هو حدس بسيط، فهذه المرة ليس الصراع بين النظام وأي نظام أو تيار سياسي خارجي، هذه المرة المعركة بينه وبين من تريدهم أن ينضموا أليه عصبويا . فشرط الفاشية البديهي، هو قدرته على خلق هالة معادية خارجية، بينما لا يرى المواطنون السوريون من خارج في مسألتهم، سوى النظام المتسلط نفسه .

ربما، تكون هذه الفاشية السلطوية السورية تجاه الآخر، على صعيد الخطاب والممارسة، هي أهم وأعلى منابع العنف المفرط الذي تمارسه السلطة بحق الثوار من المواطنين السوريين، فهي دوما تصر على ربطهم بالخارج، لتحيلهم ضحايا فاشيتها من دون رأفة .

أما إن كانت أية فاشية تتطلب تفوقاً أخلاقياً بديهياً، فعن ذلك التفوق الأخلاقي والنظام السوري، حدث ولا حرج.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى