هنا يصير الموت ثورياً/ روجيه عوطة
للثورة في سوريا اجتماع خاص بها، يتألف بالبعيد من الهوية وعصبها. ثمة مشترك أساسي بين الثوار، وهو الموت، الذي يجمع في فيلم “حكايات من شرق العاصمة” (إخراج فريق “شرارة آذار” الإعلامي)، بين أسرٍ، لم تتعارف في الماضي، لكنها، اليوم، تعيش في مكان واحد، وتؤدي دورها اتجاه قتلى نظام البعث.
في “المشحم” الجوبري، الذي كان مبنى مدرسياً سابقاً، يمضي عدد من السوريين أيامهم، آخذين على عاتقهم مهمة غسل الموتى ودفنهم. يتوارى هذا الأخذ المسؤول خلف عنوان صناعي، ميكانيكي، لا يدل في واقعه سوى على استقبال أجساد الموت، التي تظل أحياناً مجهولة بلا أسماء، إلى أن يستدل أحدهم على أصحابها. فُتسمى الجثث من جديد، وتُكمل رحلتها من “المشحم” إلى المقبرة.
طوال ثلاثة أيام، عاشت كاميرا “شرارة آذار” مع المجتمعين في “المشحم”، مسجلة ً يومياتهم، التي غالباً ما يعيشونها بالعزم على نجدة ضحايا القتل الأسدي. فقد انصرف سكان هذا المكان إلى الإغاثة، متخلصين عن مهنهم الماضية لصالح مسؤولياتهم الحالية، بحيث أن أبو لؤي، على سبيل المثال، كان بائع حلويات، غير أنه الآن يعتني بالموتى، الذين يصلون إلى النقطة الطبية. التغير نفسه ينسحب على “زكور”، الذي كان يمتلك عدداً من باصات النقل العمومي، قبل أن يبيعها، ويشتري سيارات إسعاف، يستخدمها طاقم “المشحم” لنقل الجثث من ساحة الجريمة إلى غرف الإغتسال والتحضير للدفن. ومن الممكن، في هذه الناحية، رد الثبات، الذي
يتصف به سوريو “المشحم” إلى العلاقة، التي خلقوها مع الموت. إذ أنهم على مسافة قريبة منه، ومن أجساده، أي أنه يتمثل جسمياً أمامهم، فيهتمون بمظهره، ويحتفلون به على طريقتهم الطقسية الدينية.
بالتالي، لا يعود، مع تزيينه، موتاً، بل أنه ينتهي من هذه الحال، لينتقل إلى أخرى، تحاول الكاميرا الإشارة إليها عبر سؤالها “المشحمين” عن كيفية الحضور في هذا المكان، وإن كانوا يرغبون في الخروج منه. وربما اللافت في الحوار داخل الفيلم، هو حديث أبو مازن، أحد قاطني النقطة الطبية، أنه لا يريد مغادرة “المشحم”، تداركاً لألم قد يصيب سورياً، كان قد خسر عائلته من جراء القصف، وها هو حين يشاهد “أبو مازن” وأسرته، يشعر بفداحة الفقدان.
يصدر هذا الحديث عن شعور قاطع بالحرية، يمتّنه الإجتماع تحت سقف الموت، الذي يبدو كأن أجساده تصل منهكةً إلى “المشحم”، فتتلقى علاجها وطقسها، ومن ثم تؤرشف، قبل أن تُرسل إلى المدفن. فعلى أحد الألواح الخشبية، التي كانت تُستعمل على الأرجح كـ”مجلة جدارية”، يعلق عليها الطلاب بعض الصور والنصوص، تصور الكاميرا أوراقاً كثيرة، يُسجل عليها أسماء الشهداء، وتواريخ قتلهم. هؤلاء، يصلون إلى “المشحم”، فيغسلون، ويكفنون، منتظرين ذويهم، أو ذاهبين بلا انتظار إلى أرضهم. إلا أن الموت، أو بالأحرى القاتل، لا يعفي ناشطي النقطة الطبية، بل ينال منهم أيضاً، ففي إحدى اللحظات، يفقدون رفيقهم “زكور”، الذي لطالما أحبه الحاضرون في “المشحم”، أكان الأطفال، أو البالغين، نظراً لشجاعته في مقاومة المحن، فقد شكل، على قول أحد الناشطين عنه، “شوكة في حلق النظام”.
ومع ذلك، لا يتراجع مسعفو الموت عن جرأتهم، كما لو أنهم يؤكدون بفعلهم هذا على ضرورة المُسعَف، بعد أن بدلوا معناه، وصيروه ثورياً. فمع “تشحيمه”، والإعتناء به، يشق الموت سبلاً جديدة، تخترق معتقل الأبد، وتهدمه، سامحة ً للسوريين أن يسلكوها رغبة ً في حريتهم. كأن نجدة موتهم هي إغاثة لعزمهم، وتشديداً عليه. فالنظام غير قادر على إقفال مصنع الجرأة، حيث تُغسل الجثث من الأبد، وترتدي ثيابها الأخيرة وقاية ً منه. هو غير قادر طالما أن “المشحمين” يعتنون بموتهم مثلما صوره الفيلم التوثيقي، أي من دون جره إلى غاية ماورائية، بل بتغييره إلى باب يُفتح على الواقع، أو لنقل كطريق للإستقرار فيه، والإحتكاك بتفاصيله. فللثورة، وخائضيها، قصص مختلفة عن الموت واجتماعه، على أن تُسرد في وقت لاحق.
المدن