وطنيـات مأزومـة
سليمان تقي الدين
تأكدت الرغبة الدولية في إبقاء لبنان خارج المواجهة في سوريا وعلى سوريا. الحكومة اللبنانية بجميع أركانها تسعى إلى إقفال معابر الرياح التي تأتي نتيجة مبالغات القوى السياسية في الاستثمار على الأزمة السورية. من الواضح أن لبنان لا يملك أي وزن مؤثر في البيئة الإقليمية بل هو يتأثر بها. هناك مسار لمتغيّرات المشرق العربي حتى الآن يؤكّد عدم وجود مشروع لتغيير كيانات هذه المنطقة. كل ما يشاع عن مشهديات التقسيم والدويلات الطائفية لم تظهر له مقدمات. فلو كان الهدف هو سايكس ـ بيكو جديد حقاً لكان سعى أصحاب المشروع إلى توريط لبنان مادياً في هذا الصراع وإطلاق الصدام الطائفي من الكوابح الحالية. يبدو التهويل بالتقسيم من مستلزمات صراع القوى المحلية أكثر ممّا هو مشروع دولي. لا يحتاج الغرب كي يُخضع المنطقة إلى التقسيم بل إلى تغذية آليات الصراع على السلطة ودعمها.
لم يفتعل الغرب الصراع السني الشيعي ولا هو الذي يجعله عنوان المرحلة. أزمة العالم العربي أنه ما زال في حال من النقص الفادح في الاندماج الاجتماعي والوطني. وأزمة الفكر السياسي العربي أنه لا يطرح الأسئلة على نفسه عن أسباب مشكلاته ويلقيها في كل مرة على الغرب وعلى الخارج. لم نقدّم لأنفسنا إجابات واضحة وصريحة عن واقع الأقلية الشيعية في المملكة العربية السعودية والأكثرية الشيعية في البحرين. ولم يسبق لنا أن أدركنا استحالة استمرار الحكم العراقي تحت أي لافتة مع تهميش مكوّن أساسي من مكوّناته أو لبنان مع صيغة المراتب الطائفية أو سوريا مع نظام الامتيازات الواقعي لأقلية مذهبية وجهوية وعائلية.
من أكثر ظاهرات السياسة العربية بؤساً أن تكون لبعض الجماعات مواقف متناقضة بين الدعوة إلى المساواة في مكان والدفاع عن اللامساواة في مكان آخر. خاض المسيحيون في لبنان مع الدولة العثمانية معركة المساواة فذهبوا إلى تشكيل نظام يقوم على امتيازات طائفية. خاض المسلمون في لبنان معركة المساواة مع المسيحيين وتحديداً الموارنة ثم ذهبوا إلى ترتيب نظام امتيازات جديد على المسيحيين وفيما بينهم.
صعدت الأقليات في سوريا إلى السلطة تحت شعار القومية العلمانية فكوّنت نظام استئثار يجعلها اليوم تطالب بضمانة وجودها أمام انتفاضة الأكثرية طلباً للسلطة. لا يمكن أن نتحدث عن المسألة الطائفية المتفجرة في العالم العربي بلغة ومصطلحات مموّهة وتجميلية. لا التدخل الخارجي يعطي شرعية للأوضاع الشاذة في الأنظمة السياسية ولا مقاومة الخارج تعطي شرعية لاستبدال هيمنة بهيمنة أو كبح أو تأجيل أو الالتفاف على مطلب المساواة.
لقد صار كاريكاتورياً الحديث عن مواجهة إسرائيل من مواقع عربية تمارس فعل الإلغاء المعنوي والمادي لشعوبها. ومن المخزي أن تقاتل الأنظمة شعوبها بشراسة لم يسبق أن واجهت إسرائيل بمثلها ولم تغامر مرة في مواجهة إسرائيل مع الاستعداد لهذا الحجم من التضحية بمقدرات البلاد التي تحكمها. لذا يمكن فهم إشكالية الوطنيات العربية المأزومة والممزقة بفعل اضطرار الجماعات الطائفية أو الأقليات أو القوى السياسية المدنية على طلب الحماية الخارجية أو طلب الخلاص من الأوضاع المزرية بأي ثمن وبأية شروط. مدهش ونحن نتحدث عن خيارات الطوائف اللبنانية وتبدلاتها مع تجاهل أزمة العلاقات في ما بين هذه الجماعات وهواجسها ومخاوفها.
لا تستقيم وطنية في بيئة المظالم، ولا أولوية سوى أولوية الوجود في ظل سياسات الإلغاء المتبادلة. ولا تطور لمفهوم السياسة والدولة إلا انطلاقاً من إلغاء جميع أشكال التمييز المسبق بين الجماعات.
على أي حال فتحت الشعوب العربية معركة الديموقراطية بكل تشعباتها وبكل تشوّهاتها، ولن يكون ممكناً إقفال هذا الملف بذرائع لم يعد مقنعاً الإصغاء لها. معركة الشعوب العربية اليوم هي معركة المواطنة التي لا يستقيم الانتماء إلى الأمة من دونها. يحتاج الشعب أن يكون حراً ليواجه أشكال المظالم الأخرى. ومثلما علينا أن نفهم هواجس الأقليات وحاجتها إلى الضمانة، علينا أن نفهم هواجس الأكثريات وحاجتها إلى المشاركة. هكذا تتضح أكثر المسألة الطائفية، طائفية المغبونين وطائفية أصحاب الامتيازات، ولن تكون السلطة وحدها القوة التي يعوّل عليها كما في النماذج المكرّرة في لبنان والعراق وسوريا والبحرين والمملكة العربية السعودية وغيرها. ليست الطائفية مؤامرة خارجية بل هي تكوين اجتماعي تاريخي موروث لا بد من معالجته بالحلّ الديموقراطي.
السفير