صفحات الرأي

عن مفهوم التكفير وإشكالياته/ ماجد كيالي

 

لم يحظ مفهوم التكفير، كغيره الكثير من المفاهيم والأحكام، بالإجماع بين التيارات الإسلامية، ماضياً وحاضراً. فثمة من يضيق هذا المفهوم ومن يوسعه، بحيث بتنا إزاء جماعات وتيارات إسلامية متطرفة تكفر كل واحدة منها الأخرى، مثلما تكفر كل المسلمين ممن لا ينتمون إليها، وهذا يشمل غير المسلمين.

فجماعتا «داعش» و»النصرة»، مثلاً، تكفرّ كل واحدة الأخرى، وهما تكفران «جيش الإسلام» (زهران علوش)، وهذا بدوره يكفّر غيره، حتى أن «داعش» بذاته ولد من بين ظهرانيه من يكفّره هو، وفق إعلان قيادته التي أعلنت إعدام الأشخاص المتهمين، علماً بأن التكفير عند هذه الجماعات المسلحة لا يقتصر على مجرد موقف نظري وإنما يوجب المحاربة والقتل.

يتمثل الاختلاف حول هذا المفهوم في من يذهب في المرونة إلى تضييقه إلى الحد الأقصى، أي على غير المؤمنين والمشركين، ومن يذهب إلى توسيعه ليشمل كل المختلفين مع الجماعة المعنية. أيضاً، ثمة اختلاف في الشروط التي توضع على التكفير، لناحيتي المصدر والموضوع، كما لجهة التمييز بين الفعل والفاعل. وفوق ذلك ثمة الاختلاف في الحكم، بين من يحيل الأمر إلى الإرادة الربانية، التي تقضي باختلاف الأمم، واعتبار الأمر مجرد خلاف عقدي، وأن الله سيحكم في «يوم الحساب»، وبين من ينصّب نفسه وكيلاً حصرياً لله على الأرض، بادعاء أنه يتصرف لتحكيم شريعته المنزلة، ولو بالقوة والقسر، وإباحة قتل الآخر، مع ما في ذلك من تجرؤ على الإرادة الإلهية، وعلى منطوق الآيات المحكمات، التي تقول إن «لا إكراه في الدين»، و»من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، «ولو شاء ربك لآمن كل من في الأرض جميعاً»، و»الله يهدي من يشاء»…

ولا تتعارض فكرة التكفير مع صحيح الدين بالنسبة للمسلمين فقط، وإنما تتعارض أيضاً مع غير المسلمين، لا سيما أصحاب الديانات الأخرى، إذ إن الإسلام يعترف باليهودية والمسيحية، وثمة آيات قرآنية كثيرة تتحدث بالحسنى عن أهل الكتاب (التوراة والإنجيل). إضافة إلى ذلك ثمة دلالات عملية بهذا المعنى، تمثلت في إرسال الرسول بعض الصحابة إلى النجاشي (ملك الحبشة)، وهو مسيحي، لحمايتهم من بطش قريش، في بداية الدعوة، وفي المواثيق التي قطعها ليهود المدينة وللمسيحيين. فالوثيقة التي سميت باسم «صحيفة المدينة»، نصّت على اعتبار «يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم أو أثم». ونص التعهد لمسيحيي نجران، ممثلين بابن الحارث بن كعب، على أن للمسيحي «ولأهل ملته، ولجميع من ينتحل دعوة النصرانية في شرق الأرض وغربها، قريبها وبعيدها… عهد الله وميثاقه… أن أحفظ أقاصيهم… سلماً كان أو حرباً، وأن أحمي جانبهم، وأذب عنهم، وعن كنائسهم… وأن أحرس دينهم وملتهم أين كانوا، براً أو بحراً، شرقاً وغرباً، بما أحفظ به نفسي وخاصتي، وأهل الإسلام من ملتي، وأن أدخلهم في ذمتي وميثاقي وأماني، من كل أذى ومكروه، أو مؤونة أو تبعة… ولا يجبَر أحد ممن كان على ملة النصرانية كرهاً على الإسلام (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) (العنكبوت، الآية 46).

فالغلو والتطرف وتكفير المسلمين وغير المسلمين، نتاج اختلاف تفسيرات الفقهاء والمفتين، تبعاً لزمانهم ومكانتهم وأهوائهم، وقد أخذ أبعاده الخطيرة بسبب حمولاته السياسية، واستخدام الحكام لهذا الفريق أو ذاك. وتالياً، فإن التكفير نتاج الابتعاد عن مقاصد الدين، التي تشمل الدعوة للخير والحق والعدل والمساواة والصدق والتراحم والتعاضد، مقابل الغلو في التشديد على الطقوس الدينية، وإزاحة مقاصد الدين والمعاملات من نطاق العبادات.

وقد ظهر التكفير بداية مع فرقة «الخوارج»، الذين كفروا أصحاب المعاصي أو مرتكب الكبيرة، وكان لذلك معان سياسية، أيضاً في وقتها. في المقابل ظهرت فرقة «المرجئة»، التي عارضت هذا الغلو باعتبار أن لكل ذنب درجته، وأن الإيمان لا ينقص، مطالبة بإرجاء الأمر إلى حكم الله، يوم الحساب، فيما رأى «المعتزلة» أن صاحب الكبيرة لا هو بمؤمن ولا هو بكافر وإنما في مكانة «المنزلة بين المنزلتين».

مع ذلك فالتكفير لم يصل، عبر التاريخ، إلى الحدود التي وصلها هذه الأيام، لا على أيدي الخوارج، ولا حتى عند أبو الأعلى المودودي، الذي يعد الأب الروحي للجماعات المتطرفة المعاصرة. فعلى رغم تكفير المودودي للحكام والمجتمعات التي لا تطبق «الحاكمية»، فإنه لم يصل إلى تكفير الأفراد، ما داموا مؤمنين ولو بقلوبهم، داعياً إلى التحوط في تكفير المسلم. وعنده «في قلب كل مسلم يؤمن بالتوحيد إيمان… فإذا صدرت عنه شائبة من شوائب الكفر فيجب أن نحسن الظن، ونعتبر هذا مجرد جهل منه… يجب ألا تصدر ضده فتوى بالكفر… بل يجب علينا أن نفهمه بطريقة طيبة… لكن إذا أصرّ على قوله وفعله فحينئذ يمكن إصدار الحكم بالفسق أو الكفر، لكن يجب ملاحظة درجات ومراتب مثل هذه القضايا… والتكفير ليس حقاً لكل فرد». حتى إنه ينتقد العلماء الذين «أهملوا التفريق بين النص والتأويل، فجعلوا من الفروع أصولاً… وكان من نتيجة هذا أن كفّروا من يقوم برفض تأويلاتهم الدينية… ليت العلماء يشعرون بخطئهم ويرحمون الإسلام والمسلمين… ويتراجعون عن هذا السلوك المشين الذي أخجلوا به أمتهم».

هكذا فالتكفير الذي بلغ حده الأقصى مع الإرهاب هو وليد العصر الحديث، وهو نتاج الصراعات على السياسة والسلطة والموارد، ولو تغطى باللبوسات الدينية. ثم إن الحركات السياسية، بغض النظر عن أيديولوجيتها، لا يمكن أن تتحول إلى حركات مسلحة إلا بوجود دول تدعم وتسهّل وتموّل.

المشكلة أن معظم التيارات الإسلامية المعتدلة أو الوسطية تتجاهل خطورة الجماعات التكفيرية، أو لا تتعامل معها بما يتناسب مع المخاطر الناشئة عنها. وليس من مصلحة التيارات الإسلامية مطابقة بين الإسلام والعنف، وبين الإسلام والتخلف، وبين الإسلام وفكرة الجهاد إلى يوم الدين وتقسيم العالم إلى فسطاطين. لذا من مصلحتها التمايز عن هذه الجماعات ودحض وجهات نظرها وعزلها.

* كاتب فلسطيني – سوري

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى