يحدث في سورية/ هيفاء بيطار
ظاهرة تستحق الدراسة، تساعد في الإضاءة على تدهور التعليم في سورية، وهي ظاهرة صفوف البكالوريا (شهادة الثانوية العامة) الخاوية، في المدارس، حيث يعتمد معظم طلاب البكالوريا على المدرسين الخصوصيين الذين يعطونهم دروساً في منازلهم. وتتراوح أجرة الساعة من الدرس الخصوصي بين ألفي ليرة إلى ثلاثة آلاف ليرة. وللمدرسين الخصوصيين مهمتان، فهو يشرح الدرس للطالب، ثم هنالك حصص للتسميع، أي يقوم الأستاذ بتسميع الدرس للطالب، وإرشاده إلى الأسئلة المُحتملة في الامتحان النهائي. ويتحمل الأهالي أعباء مالية طائلة، لا قدرة لهم على تحملها إلا بالدخول في جمعيات شهرية مالية مع زملائهم، أو أخذ قروض على رواتبهم، أو بيع مُقتنيات من بيوتهم. ولا تبالي وزارة التربية والتعليم العالي بهذه الظاهرة، ولا تُرسل مفتشين إلى المدارس، ليعاينوا صفوف البكالوريا الخاوية، وحتى المفتشون يغضون النظر، أو يرتشون لغض النظر عن الظاهرة المُعيبة واللا أخلاقية، وهي انعدام التعليم في الشهادة الثانوية في المدارس. ولأن الفساد في سورية حلقة مُتكاملة ومتلاحمة بقوة، فإن الدروس الخصوصية في المنزل للطالب لا تأخذ منحى تنويرياً ومعرفياً، ولا تحض الطالب على التفكير، بل تعتمد على التلقين، وعلى إرشاد الطالب إلى الطريقة التي يحصل فيها على أعلى العلامات في كل مادة. ولم يعد مثارا للعجب أن طلاباً يحفظون صماً أسئلةً في الرياضيات والفيزياء والكيمياء، تتكرّر غالباً في الإمتحانات، ويحفظ الطالب المسائل من دون أن يفقه منها شيئاً.
لا أنسى ما سرده لي مدرس للغة الفرنسية، طُلب منه أن يعطي دروساً خصوصية لطالب بكالوريا، فقد سأله: هل تريد أن تتعلم الفرنسية، أم أن تحصل على العلامة الكاملة في فحص البكالوريا النهائي؟ كان جواب الطالب هو الحصول على العلامة التامة. أعطاه المدرس حوالي أربعين ورقة، وطلب منه أن يحفظها صماً طوال العام الدراسي. وسيقوم المدرّس بتحفيظه تلك الأوراق التي تشتمل على الأسئلة التي تتكرّر في امتحانات الشهادة الثانوية في اللغة الفرنسية. وفعلاً حاز الطالب على العلامة التامة في الفحص النهائي للشهادة الثانوية، لكنه لا يعرف معنى كلمة فرنسة واحدة. وينطبق هذا المثل على كل المواد.
كيف سنعد جيلاً في سورية للمستقبل، ولبناء دولةٍ لا يعرف أبناؤها التفكير، ولا البحث العلمي؟ ولا يختلف التعليم في الجامعات السورية كثيرا عنه في المدارس، وخصوصا التعليم في الشهادة الثانوية. إذ أذكر كيف حذف لنا أستاذ الجراحة العصبية في كلية الطب ربع المُقرّر من المادة، ويومها تساءلنا، نحن الطلاب: ماذا لو عادنا مريض في المستقبل بمرض من القسم المحذوف.. كيف نشخص حالته؟ وكيف سنعالجه؟ ولم نتعلم في الجامعة قطعاً منهج البحث العلمي، بل كان كل أستاذ يُملي علينا مادته على شكل نوطة (كتاب من تأليفه) علينا حفظها صماً، وكما كتبها هو، وويل لمن اجتهد وجاء بمعلوماتٍ جديدة. وكانت الكارثة الكبرى إصدار قرار تعريب الطب، وخصوصا مادة التشريح، فمثلاً صار اسم غضروفي الحنجرة الغضروفين الطرجحاليين. وليس في كل معاجم اللغة العربية وقواميسها معنى لكلمة طرجحالي. وكنا نحفظ هذه العبارات، كما لو أننا نحفظ لغة صينية أو يابانية، فلم يكن لها أي مدلول.
وأذكر أنني طرحت تلك الفكرة في ندوةٍ في الكويت، نظمت بمناسبة اليوبيل الذهبي لمجلة العربي، وكانت عن دور العرب في تطور العلوم وأهمية الترجمة، وسألت العلامة في علم اللسانيات، عبد السلام المسدّي، عن معنى كلمة “غضروفان طرجحاليان”، وما اشتقاقها، وأية غايةٍ أن نحفظ كلماتٍ لا مدلول لها في وعينا وذاكرتنا؟ وكان جوابه أن لا معنى لها على الإطلاق.
تبدأ حلقة فساد التعليم مُروعة في سورية من مبدأ التلقين في المدرسة، والذي يتخذ شكله الأعظم في الشهادة الثانوية، ويستمر في الجامعة، والنتيجة إنتاج أجيال لا تعرف التفكير، ولا البحث العلمي، ولا اتخاذ قرارات، فكيف ستبني هذه الأجيال الأوطان، وتتحمل مسؤولية القرارات. وختاما في هذا الموضوع الموجع، حدث في عدة سنوات في تدريس مادة التشريح في كلية الطب أن أستاذاً اختصاصياً في علم الحيوان هو من يدرس مادة تشريح جسم الإنسان لطلاب الطب البشري.
العربي الجديد