يوسف عبدلكي: الفنان السوريّ لم يرسم لوحة المأساة بعد
مناهل السهوي
في حيّ ساروجة الدمشقي يستقر التشكيلي السوري يوسف عبد لكي، وسط مرسم صُبِغَت أبوابه وشبابيكه وأسقفه الخشبية باللون الأسود، كأنَّ المكان تتمة للوحة من أعماله. كان منهمكاً في إتمام لوحة جديدة تحتاج إلى شراء الزنبق لإكمالها بدقّة، قبل سفره إلى باريس لإقامة معرض في صالة “كلود لومان” إذ ستكون مجموعة “عاريات” التي سبق أن أثارت سجالاً أثناء عرضها في دمشق، في صلب المعرض.
عن جدل السياسي والثقافي وأصداء أعماله الأخيرة التقيناه:
*قلت في مقالة لك بعنوان “وما بدلوا تبديلاً” إن الصحافة مؤتمنة، فيها دقة المعلومة وحرية الرأي، ولكن لا يجوز استخدامها كتلفيقات لإثبات وجهة نظر معينة. إلى أي حد خذلتك الصحافة العربية ولم تكن موضوعية بما يخصّ معرض “عاريات”؟
ليس جديداً، أننا نعيش في وضع صعب للغاية، وهذه الصعوبة تكمن في أن أولياء الإعلام هم في الحقيقة دول، دول ثرية أو نفطية، بالتالي أصبح الإعلام مرآة لسياسات تلك الدول وللصراعات العربية -العربية، أو الصراعات العربية النفطية مع دول أخرى غير نفطية!
المواطن العربي اليوم لا منبر له، المثقف والسياسي المستقل اليوم لا منبر له، كلها منابر مموّلة تضرب بسيف أسيادها. المثقف الذي لا أسياد له لا منبر له!
الصحافة اليوم ليست الصحافة التي يتمناها المواطن العربي، ليست صحافة حرّة تدافع عنه في وجه العسف والاضطهاد والنهب المنظم، لأنها على الأغلب تنخرط في معارك ذات طابع سياسي مع هذا النظام أو ذاك، عِلماً أنه ومن الممكن أن يكون النظامان المتصارعان من الطينة نفسها. أغلب الأنظمة العربية اليوم لا تمتلك برامج ولا تصورات استراتيجية لإدارة البلد ومستقبله ولا لمستقبل التنمية والخدمات والتعليم والصحة والثقافة فيه. المواطن العربي اليوم يتيم كما المثقف العربي المستقل، كلنا اليوم أيتام على مائدة اللئام، وتالياً، عندما تحدث معركة من المعارك الثقافية والتي توجب الحوار، وضرورة إعمال العقل تكون تلك الصراعات العربية – العربية، حاضرة، حارِفة ومشوِهة المسألة برمتها.
وجدان الناس كسياسة
*لكن الذين انتقدوك كانوا سوريين في معظمهم؟
أعتقد أن كثيراً مِمَن انتقدوا المعرض، وأنا أعتبره حقّاً مطلقاً لهم، انقسموا فئتين، الفئة الأولى هم السوريون الموجودون في الخارج، الذين يملكون، وبسبب وجودهم خارجاً، صورة عن الوضع الداخلي مختلفة عن حقيقة ما يجري، ربما هو ليس أفضل مما يتخيلون، وربما يكون أسوأ بكثيرٍ مما يعتقدون. ما يجب معرفته اليوم أن الوضع في سورية يختلف عن الوضع في عام 2012 وعن عام 2014، وبناءً على ذلك، هناك من انطلق في نقده المعرض من منطلقات تتعلق بشرط وجوده في الخارج وربما علت نبرة الرغبات أكثر من معاينة الوقائع، وأنا متعاطف مع هذه الفئة لأنهم ضحايا بشكل ما أيضاً، الفئة الثانية وهي غالباً تابعة لإعلام معيّن، له أهداف مسبقة وواضحة، لم أستغرب ما قاموا به، فالمعركة اليوم في سورية تمتلك طابعاً واضحاً وعلنياً، سواء من قبل النظام أو من قبل الدول التي تحاربه. ديماغوجية وكذب وادعاء في مواجهة ديماغوجية وكذب وادعاء، لذلك لا أودّ نقاش أي شيء مما قاله أو كتبه أصحاب الفئة الثانية، لأنهم ببساطة أشخاص يدافعون عن تصورات ممولي هذه المنابر، ترس صغير في آلة الحرب الهمجية الإقليمية والدولية التي يدفع ثمنها الشعب السوري، وبالتالي آخر ما قد يهمهم هو الوقائع، وثقافة ومصلحة السوريين كشعب.
* من هذا المنطلق، كيف تجد اليوم علاقة الفن بالسياسة؟
علاقة الفن بالسياسة قديمة وطويلة وهذا أمر معروف للجميع، ولكن هناك أيضا الكثير من الأعمال التي لا ترتبط بالسياسة وتعتبر بالتأكيد أعمالاً رفيعة، (كاندينسكي، مودلياني، مارينو ماريني، جورج براك) وكلها علامات كبيرة في فن القرن العشرين. وهناك أيضا أعمالٌ تنخرط في السياسة بمعناها الواسع والعريض حيث تملك نظرة بعيدة للوقائع ولأسئلة الحياة، وهناك من يلاحق السياسة بمعناها اليومي والبسيط ولست ميّالاً لهذا النوع من الفن السياسي، الإبداع الفني لا يوضع في صندوق ضيّق ولا يعبأ في عبوة مسبقة الصنع.
الفن السياسي الحقيقي، والذي أؤمن أنه جدير بالتأثير في وجدان الناس على المدى البعيد، لا يغرق في اللحظة، إنما في حياة البشر ومعاناتهم وآلامهم وفي أوجاع الإنسانية، هذا الفن الذي أؤمن أنه فنٌ أولاً وسياسيّ ثانياً بمعنى الكلمة الواسع والعميق ويستطيع التواصل مع الجوهري في حياة الناس على المدى البعيد.
شكرا لمن شتمني!
*يعوّل بعضهم على أن يكون الفن مكرساً للواقع السياسي، هل تجد اليوم أن هناك من يحاول تأطير الفن بمفاهيم أقسى مما يحتمل؟
أعتقد أن كثيراً من المتابعين والمتعلمين والمثقفين وأنصافهم يريدون من أي فن سواء قطعة موسيقية، قصيدة، مسرحية، أو لوحة أن تكون بياناً سياسياً وحسب، لنكن واضحين، عمل الفن ليس هذا، هذا عمل السياسيين والأحزاب والإعلام، ومن يريد ذلك فليصبح ماسحَ أحذية عند السياسيين ومشاريعهم. عليه ألّا يبحث عنه في الفن السياسي، لأن هذا الفن عليه أولاً أن يكون فناً وبالدرجة الثانية أو الثالثة أو العاشرة أن يكون سياسياً، على سبيل المثال لوحة “غورنيكا” لبيكاسو، هي علامة من علامات الفن في القرن العشرين وقطعة فنية أخّاذة، فيها من التجديد والجرأة والحلول والرموز والألم ما ليس موجوداً في آلاف اللوحات في القرن العشرين، هي لوحة كبيرة بالمعنى الإبداعي رغم أن موضوعها هو المجزرة التي حدثت في القرية الإسبانية غورنيكا، وذهب ضحيتها آلاف الفلاحين الباسك الإسبان قبيل الحرب العالمية الثانية. هذا مثال ساطع كيف تستطيع موهبة الفنان تحويل اللحظة العابرة إلى شهادة على العصر ومآسيه.
*في السجال الذي رافق معرض “عاريات” الذي وصل حد الشتائم في بعض الأحيان، هل كان هناك من منتصر فعلاً؟
كلّ المعارك السياسية لا تظهر نتائجها على المدى القصير، من الذي كان محقاً ومن لم يكن. الأمر يحتاج وقتاً طويلاً حتى يظهر الخيط الأبيض من الأسود، كما الحالة الإبداعية لكثير من الأعمال الفنية، سواء اللوحة أم القصائد أم الموسيقا، فهي كذلك تحتاج لوقت طويل لنميز الأصيل من المؤقت، وللحقيقة لا يعنيني مطلقاً إن كان هناك منتصرٌ أو من هو هذا المنتصر، ما يعنيني هو الحوار (وإن كان قد وصل في بعض الأحيان لسويات لا تمت لأصول الحوار) الذي جرى بين السوريين أولاً، وأن الكثيرين عبّروا عن وجهات نظرهم بحرية ودون قيود، وأعتقد أن الأفكار على المدى البعيد تجوهر بعضها عبر الحوار والنقاش لا بالتكتم وسد الأبواب على الأفكار، وحقيقةً أمتلك شعوراً بالامتنان للسجال الذي رافق المعرض لأنه أتاح لي الحديث في كثير من القضايا السياسية والثقافية والفنية. أودّ أن أقول لكل من شتمني: شكراً.
*لمَ “عاريات”، إنه السؤال الذي يرافق أي عمل فني، بحثاً عن الإطار والقيمة الذي قدّم ضمنها؟
قبل أن نغرق في المفاهيم الكبيرة أود توضيح أمر، وربما هو واحد من المحرضات الأساسية لمعرض “عاريات”. نعلم أنه وبسبب الضربات الكبرى التي تلقاها المشروع القومي في الستينيات والمشروع اليساري فيما بعد، انحرفت الحياة السياسية كلها ناحية اليمين، صعود عرب النفط في منتصف السبعينيات، ونجاح الثورة في إيران جعل القوة في يد اليمين، واليمين الرجعي تحديداً، وانطلاقاً من هذا أصبح لدينا صراعات بين اليمين واليمين، وبين (المفاهيم الدينية ومفاهيم دينية مقابلة)، هذا الصراع وبعد ثلاثين عاماً أعادنا لصراعات عمرها 1400 عام.
لنتخيل حجم الفوات المأساوي حين نعود بحياتنا لصراعات عمرها 1400 عام، بينما العالم يتقدم نحو المستقبل بخطوات عملاقة. هاتان الموجتان، موجة نفط السبعينيات وموجة الثورة الإسلامية الإيرانية في نهاية السبعينيات، كان لهما تأثير ولا شك في السياسة والثقافة. لم يحدث ذلك بانقلاب مدوٍّ، ولكنه تسلل مثل الرمال من بين الأصابع لكل مناحي الحياة، سواء في السينما، في الشعر، في الفن وفي الإعلام، كنا في السبعينيات في حال نهوض وطني ويساري لا يخفي نفسه رغم هزيمة حزيران الكارثية، ولكننا في الثمانينيات أصبحنا أمام مشهد مختلف، أصبح مال النفط سيداً في السياسة والإعلام، وفرض الكثير من مفاهيمه المتخلّفة على الإعلام والبرامج المتلفزة والمسلسلات، أصبحت محظورات دول النفط محظورات في كل الدول العربية، وخضع التعليم بدوره لهذه الردة الرجعية، ومنها مسألة رسم العاري في كليات الفنون، فراحت الجامعات العربية الواحدة تلو الأخرى تمنع رسم الموديل العاري في كليات الفنون منذ بداية الثمانينيات؛ علماً أن في مصر ولبنان وسورية والعراق كان الموديل دوماً موجوداً قبل ذلك.
فالعمل على الجسد العاري سواء للذكر أو الأنثى أمرٌ أساسي في التكوين الفني والحياة الفنية، الفنان لا يغدو فناناً إلّا إذا اكتملت معارفه، وواحدة من هذه اللبنات الأساسية في عمارته كفنان العمل على الجسد الإنساني، عندما نلغي الموديل العاري من كليات الفنون الجميلة كأننا نلغي تدريس الفعل المضارع من قسم الأدب العربي على سبيل المثال، الحرمان من رسم الموديل العاري لخمسة وثلاثين عاماً ليس على الإطلاق مصادفةً، ولم يكن تأثيره إلا تخريبياً على أجيال من الفنانين الشباب.
*لماذا هذا المعرض في العالم العربي بدل باريس التي أقمت فيها العديد من المعارض؟
عندما اشتغلت على الموديل العاري وكنت أنوي في البداية عرض اللوحات في فرنسا، لكني قررت بطريقة جداً صارمة مع نفسي أنه لا بد أن أعرض هذه اللوحات هنا أولاً، لأنه من الضروري اليوم كسر هذا المحرم الذي فرضته الأفكار الدينية المتخلفة على مجتمعاتنا، لم أقم بذلك رغبة بالعرض وحسب، كنت أود أن يرى الفنانون الشباب وطلاب كليات الفنون الجميلة أن العمل على الموديل العاري ممكن، وهو امتحان حقيقي للفنان، امتحان جمالي يحمل أسئلته ورؤيته.
ما قادني نحو هذا المعرض كان واضحاً تماماً بالنسبة لي، وهو إحساسي بالمسؤولية ولم يكن سعياً خلف أية ضجّة إعلامية، مع علمي وتوقعي المسبق بهذا الجدل الذي سيحصل، لكن بالنسبة لي كان الهدف يستحق هذه التضحية.
كل ما سبق لا يمنع أن ذهابي إلى العاري كان في أحد وجوهه الهرب أو القرف من استمرار حالة الحرب والدمار والقتل واستباحة البلد، والذي تحول فيه الإنسان إلى أداة دون أي قيمة في صراعات السياسة والسلطة والهيمنة على المنطقة، أصبحت حياة الإنسان لا تساوي فلساً لا عند النظام ولا عند المجموعات المسلحة.
رسم رباعيات صلاح جاهين
*ماذا بعد “عاريات”، وكيف ستعالج من خلال الفن الازدواجية التي نعيشها اليوم، وخصوصاً سياسياً بعد إضاعة البوصلة على حد قول بعضهم؟
إن كان الفنان حقيقياً وصادقاً مع نفسه، فكلّ إعلام العالم لن يهمه، إحساس الفنان هو مرشده الحقيقي، أما من سيسعد بالمعرض أو من سيستاء منه فالأمر لا يدخل في حساباتي. لو أردت أن أرضي كل الآخرين لما أقمت أي معرض في حياتي. بوصلتي هي صدقي مع نفسي ومع قناعاتي. وبالمناسبة خلال عملي على “عاريات” كنت أعمل على مشاريع أخرى، فأنا أعمل يوماً أو يومين في الأسبوع على لوحات العاري، وما بقي منه فهو لمشاريع أخرى وللوحات بدأت بها منذ سنتين أو ثلاث، لم أوقف كلّ عملي لأجل مشروع واحد. هاجسي الأساسي هو وجع السوريين المستمر منذ ستة أعوام، والذي دمر حيواتهم وبلادهم، أنا لم أغير شيئاً حين أنجزت مشروع “عاريات” ولن أغير شيئاً بعدها، ببساطة هو أحد مشاريعي… وعملي عموماً هو أوسع من هذا المشروع.
على سبيل المثال، أنا أشتغل على مشروعٍ لعددٍ من الشعراء العرب، وخلال الأشهر الأخيرة رسمت ما يقارب أربعين لوحة حول رباعيات صلاح جاهين، ومن الممكن لاحقاً أن أطبع هذه الأعمال بالشاشة الحريرية، فصلاح جاهين وغيره من الشعراء يثيرون فيّ رغبةً حقيقة منذ 25 عاماً وكنت أنتظر الوقت للعمل على ذلك، وهذا العمل لا علاقة له بعاريات وحتى لا علاقة له بكل ما حدث منذ 2011 وحتى الآن، هي هواجس عميقة داخلي عمرها عقود، بالتالي ما أعمل عليه لم ولن يكون رد فعل على الصحافة، ولا انسياقاً وراء أفكار من هنا وهناك، ما يعنيني حقاً هو وجداني كرسام وكمواطن. ونقطة انتهينا.
*ما وضع التشكيل السوري اليوم في ظل التمزق بين من بقي ومن غادر؟
كنتيجة للحرب والدمار حصلت الهجرات المكثفة بكافة الاتجاهات، الداخلية منها وإلى دول الجوار، هناك هجرة ولجوء واسع لدى الشباب اليوم لعدم الانخراط في الخدمة الإلزامية، التي تعني اليوم الحرب، وبالتالي الذهاب الى احتمال القتل أو الموت! استمرت الهجرة واللجوء سنوات، وعندما أحس الكثير من السوريين أن المأساة طويلة توجهت مجموعات اللاجئين إلى أوروبا، ومن ضمنها لجوء المثقفين والكتاب والفنانين، إذاً البلد يفقد جزءاً أساسياً من نخبته، عصبه، والذي قد يكون أساسَ صناعة المستقبل في سورية، وأمام الزخم الذي رأيناه في 2011 عند كثير من الفنانين السوريين عندما كانت الثورة السلمية هي ثورة سوريّة أولاً، وهي ثورة سلمية ثانياً، وهي ثورةُ حرية وكرامة وعدالة وديمقراطية أولاً وأخيراً. وبقدر ذلك الزخم الذي رأيناه لدى الكثير من الفنانين والذين كانت أعمالهم ذات صوت عالٍ وبسوية فنية جميلة، بقدر ما نجد اليوم انسحاباً وتراجعاً في التعاطي مع القضايا التي تشكل حياة السوريين وآلامهم ومحط رجائهم. البلد ينزلق منذ سنوات إلى وهدة اليأس.
اليوم نعاني من هجرة المثقفين والكوادر والفنانين وانسداد الأفق أمامنا! قنوط مستحكم يضرب كل المجالات، نحن اليوم أمام كارثة وطنية بكل معنى الكلمة، وعندما يكون الوضع بهذه السوداوية يصبح السؤال عن الفن والفنانين سؤالاً بديهياً، بالطبع هناك كارثة في الفن والثقافة لأن هناك قبل ذلك كارثة تقصم ظهر المجتمع.
تصالح مع الذات
*هل تمكّن الفنان السوري من مجاراة المحرقة التي يعيشها اليوم؟
هناك الكثير من الأعمال الفنية الهامة في تاريخ الفن أُنجزت بسرعة خلال الحدث وكانت تملك رؤية تتجاوز فيها هذا الحدث، وهناك أيضاً الكثير من الأعمال الفنية أُنجزت بعد عشرات السنين من الحدث نفسه، وأعتقد أن الفنان السوري لم يرسم لوحة المأساة السورية بعد، كلّ ما كتب وما رسم رغم كلّ الألم والوجع الموجود في أعماله فهو أقل في الحقيقة من حجم الدمار والقتل والكارثة، وشخصياً أعتقد أننا سنرى في الأيام والسنوات القادمة أعمالاً أهم وأعمق بكثير مما أنتج حتى اليوم في سورية، ولن نكون مخطئين إن قلنا إن أعمق الأعمال الإبداعية عن الحرب الأهلية اللبنانية في السينما مثلاً أُنجزت بعد سنوات طويلة من الحرب.
*ماذا ترى اليوم حولك في دمشق؟
عشت طوال 25 عاماً خارج سورية وخارج دمشق لأسباب سياسية، وبالتالي لديّ رغبة عميقة للبقاء في دمشق، وكلّ الخارج لا يعنيني بالمعنيين الوجداني والفني، فهو ليس بالمكان الذي شعرتُ أني أتحقق فيه. وجودي في دمشق يصالحني مع نفسي ومع محيطي أكثر من أيّ لحظة عشتها خلال ربع القرن الماضي. هذا أولاً، ثانياً دعيني أصارحك أنه عندما تكون في دمشق، مغلِقاً الباب على نفسك، ولا ترى أحداً فأنت تعرف عن أحوال البلد أكثر بعشرات المرات من أي شخص يتابع الأخبار على الفضائيات المضللة أو على مواقع التواصل الاجتماعي، ربما يبدو هذا الكلام رومنسياً وفيه مبالغة. لكن أؤكد لك أنه حقيقيٌّ للغاية.
هناك حياة سياسية اليوم في دمشق، هناك حوارات سياسية لا تحصى، ومشاريع تُرتَب للبلد قد تأخذنا لجحيم أسوأ من الذي عشناه حتى اليوم! وربما لحروب أضعاف التي ضربتنا، هناك كذلك علاقتي مع أصدقائي الرسامين والمثقفين وهذه العلاقات ليست بالأمر الهامشي، كلّ هذا يجعلني أكون هنا، وتكون مدينتي الحقيقة هي دمشق، لا شك في أنه من المؤلم أن تستيقظ على أصوات القصف والقذائف والمواجهات لكن هذه المعاناة التي يعانيها السوريون سواء في دمشق أو في المدن الأخرى هي التي تجعلهم على صلة حقيقية ببلدهم، بلدهم الذي من لحم ودم لا من نشرات أخبار.
كونك موجوداً في دمشق يمنحك إحساساً بأنك ضدّ كلّ ما يحدث؛ أنك قادر على قول لا لكلّ ما حدث، وأنك موجود لتقول شيئاً آخر غير ما يقوله ويفعله طرفا الحرب، كَوْني في دمشق يعني أنني جزء من كلّ المواطنين ومن ملايين السوريين الذين ينتظرون نهاية الحرب أولاً، وبناء بلد آخر، بلد قائم على العدالة والحرية والمساواة والعدالة والكرامة، لا أعتقد اليوم أن هناك اليوم سوريّاً واحداً يمكن أن يتنازل عن هذه الأهداف مهما حدث حتى لو ازداد القتل والدمار أضعافاً، لأن هذه الأهداف مشروعة لنا كبشر أولاً وكمواطنين ثانياً. ليست أهدافاً سياسية، إنها مشروع حياتنا ومستقبلنا.
ضفة ثالثة