صفحات الثقافة

يوم غنّى لنساء دمشق


    محمود الزيباوي

في السنوات الأخيرة من العشرينات، صعد نجم محمد عبد الوهاب بسرعة قصوى، وتتالت حفلاته في مصر، وبات لقبه “مطرب الأمراء والعظماء” و”مطرب الملوك والأمراء”، كما تشهد إعلانات تسجيلاته وحفلاته. في تلك الحقبة الذهبية من حياته، أحيا “البلبل الصدّاح” حفلات “خاصة للسيدات” على مسرح “صالة بديعة مصابني” الشهيرة، كما أحيا حفلات خاصة من النوع نفسه في بيوت “الطبقة الراقية”، وأطلقت عليه الصحافة بشيء من التهكم لقب “مطرب الآنسات والسيدات”.

تبنّى أمير الشعراء أحمد شوقي المطرب الناشئ محمد عبد الوهاب، وساهم في إطلاقه في دنيا الغناء والطرب منذ منتصف العشرينات. تألّق اسم “محمد أفندي عبد الوهاب” بسرعة كبيرة، وبات “الملحن ذا المستقبل البسّام والمغنّي الذي أصبح حديث الخاص والعام”، على ما كتبت مجلة “المسرح” في نهاية شهر آذار 1926. تكرّست هذه الشهرة في أقلّ من عامين، وأضحى المغنّي الشاب “البلبل الصدّاح والطائر الغرد الذي يحلّق في سماء الفن الغنائي”، على ما كتبت مجلة “الستارة” في تشرين الثاني  1927. تابع مطربنا مسيرته بثبات، وسجّل في عام 1928 مجموعة من الروائع لا تزال حيّة في الذاكرة، منها قصائد “ردّت الروح” و”يا جارة الوادي” لأحمد شوقي و”على غصون البان” لأحمد رامي، ودور “أحب أشوفك كل يوم” لحسن أنور، وطقطوقة “خايف أقول اللي في قلبي” لأحمد عبد المجيد. تبعت هذه المجموعة في العام التالي باقة أخرى من الروائع ضمّت من شعر شوقي قصيدة “يا ناعماً رقدت جفونه” ومونولوغ “في الليل لما خلي”، ومن كلمات محمد عبد المنعم طقطوقة “لما انت ناوي تغيب”، ومن أحمد عبد المجيد طقطوقة “بالك مع مين”.

رفعت هذه الأعمال اسم عبد الوهاب إلى العلى، وتتالت حفلاته في مصر والمشرق العربي. في شباط 1928، نشرت مجلة “الستارة” إعلاناً مزدوجاً لحفلتي “طرب فوق العادة” يحييهما “مطرب الملوك والأمراء” في القاهرة.  موعد الحفلة الأولى 14 آذار، والمكان “دار التمثيل العربي”، وفيها “أدوار وقصائد جديدة غاية في الإبداع”. موعد الحفلة الثانية 20 آذار، والمكان “صالة بعيدة”، وهي “خاصة للسيدات”، وفيها “أدوار وقصائد وطقاطيق جديدة”. نجحت الحفلة النسائية، وتبعتها حفلات “حريمية” أخرى كما يبدو. في منتصف نيسان 1928، كتبت مجلة “الستارة”: نال عبد الوهاب لقب مطرب الأمراء والعظماء عن جدارة واستحقاق، وها هو يخطو نحو لقب جديد بخطى واسعة ولا أحسبه إلا سيناله أيضاً. ولكني لا أعلم مبلغ الجدارة أو الاستحقاق هذه المرة. أصبحت موضة سيدات الطبقة الراقية أن يقمن بين وقت وآخر حفلات سمر وطرب في منازلهنّ يجمعن فيها صديقاتهن من الأوانس والسيدات. وجرت العادة أو الموضة أن يكون عبد الوهاب مطرب هذه الحفلات الخاصة. والظاهر أن حفلات الحريم التي كان يحييها في صالة السيدة بديعة مصابني هي السبب في هذه الشهرة الحريمية. ولا تمضي سهرة من هذه السهرات إلا وتكون أكثر من سيدتين قد تشاجرتا من أجل عبد الوهاب وفي سبيل التقرّب من عبد الوهاب. وآخر ما حدث في حفلة أخيرة أقيمت في مصر الجديدة أن نشبت معركة بين نساء عدة من أجل الذهاب إلى استقبال محمد بقرب نادي الموسيقى الشرقي. وكانت النتيجة أن صاحبة الحفلة ضللت بقية المدعوات وذهبت ومعها صديقتان في سيارة لاستحضار مطرب الحفلة، ولما عادت السيارة واكتشف البقية اللعبة كانت مشاتمة وردح من الصنف العالي”. يختم صاحب المقال كلامه مخاطباً عبد الوهاب ويقول له ساخراً: “مبروك يا محمد يا خويا، عاوز سنيد في هذه الحفلات؟ تجدني دائماً تحت الطلب. وليس بعيداً أن نقرأ غداً في الإعلانات، بجوار مطرب الأمراء والعظماء، مطرب الآنسات والسيدات”.

في ربوع الشام

تابع عبد الوهاب مشواره، وسجل عام 1930 أربع درر تُضاف إلى رصيده، وغنّى من شعر شوقي قصيدة “تلفّتت ظبية الوادي” ومونولوغ “بلبل حيران”، ومن كلمات محمد متولي دور “عشقت روحك”، ومن أمين عزت الهجين طقطوقة “ليلة الوداع”. في مطلع ذلك العام، نقلت مجلة “مصر الحديثة” خبراً يقول إن “سعادة أمير الشعراء أحمد شوقي بك” ترأس لجنة أُلّفت لتكريم الأستاذ محمد عبد الوهاب “اعترافاً بما قدّم ويقدّم للموسيقى الشرقية من خدمات جليلة تعود عليها بالرقي والتقدّم، وقد اجتمعت هذه اللجنة وقررت أن يكون ميعاد الحفلة الساعة الخامسة من مساء يوم الخميس 16 يناير الحالي بفندق الكنتينتال”. بعد شهرين، نقلت المجلة خبراً آخر مفاده أن عبد الوهاب سيسافر مع فرقته “إلى ربوع سوريا ولبنان للعمل هناك، ثم ليصطاف في جبال الأرز بعض الأيام وذلك في منتصف يونيو”. في 25 حزيران، تخبرنا المجلة أن عبد الوهاب سافر مع فرقته “إلى ربوع الشام  لإحياء عشرين ليلة في ثلاثين يوماً بين ماتينيه وسواريه، في القدس، ويافا، وحيفا، وبيروت، وحلب، وغيرها”. بحسب ما جاء في الخبر، تألفت فرقة عبد الوهاب الموسيقية من علي الرشيدي على القانون، وجميل عويس على الكمان، وحسين حلمي على الفيولونسيل، وسيد كامل على الدف، وعزيز على الناي. وتألفت الجوقة المصاحبة من حسين النحاس وإبرهيم عبد الله ومحمد عبد المطلب”.

تابعت “مصر الحديثة” أخبار جولة عبد الوهاب في ربوع الشام، ونشرت في نهاية تموز مقالة تشهد للنجاح الكبير الذي حققه المطرب المصري في بلاد المشرق العربي. زيّنت هذه المقالة صورة بديعة يبدو فيها عبد الوهاب جالساً في هذه الربوع، وظهر إلى جانبه وقوفاً من جهة عازف الناي عزيز، والمذهبجي محمد عبد المطلب من الجهة الأخرى. في الشام، غنّى عبد الوهاب من نظم أمير الشعراء “في الليل لما خلي” و”بلبل حيران”، وقابل الجمهور هذه المقطوعات “بحماسة شديدة”. وصف المطرب نجاح هذه الحفلات في رسالة بعث بها إلى المجلّة، وفيها: “كان الجمهور يقابلني بعاصفة شديدة من التصفيق وكانت العاصفة تستمر أكثر من ربع ساعة وكان هذا الترحيب البليغ من أجل الجديد الذي قدمته، لا من أجل شخصي، فالشخصيات لا قيمة لها هنا، ولكن العمل هو الذي يعطيها زنتها من القدر والمكانة”.

نجحت هذه الحفلات نجاحاً هائلاً، وأثبت هذا النجاح أن الذوق الفني واحد في مصر والشام، و”هذا سبيل موفق إلى توثيق عرى الإخاء بين الجارتين”. “ولكن حدث في دمشق ما أدهش الأستاذ من تصرّف حكومة دمشق”. أقام عبد الوهاب حفلة ماتينيه للسيدات في دمشق، واجتمعت في هذه الحفلة ألف وخمسمئة مستمعة من السيدات والفتيات، وشهد هذا الحضور لنهضة المرأة في دمشق”. يواصل عبد الوهاب حديثه، وينقل إعجابه بإحساس نساء دمشق الفني ودهشته بـ”ذوقهن الرقيق في تكييف النغم”، ويخبرنا أن الفرقة استعدت لتقديم حفلة ماتينيه أخرى للسيدات، “وكان الإقبال على شراء تذاكرها أشد من الحفلة الأولى، وكانت الرغبة في إحيائها شديدة، ولكن حكومة دمشق حالت دون إقامتها”. استهجن صاحب المقال هذا المنع، وذكّر بانعقاد “المؤتمر النسائي الشرقي الأول” في دمشق في تلك الفترة، ورأى أن من الغريب أن تسمح الحكومة بانعقاد هذا المؤتمر “وهو نواة النهضة النسائية في الشرق بالإجماع، وأن تترك الفتيات يلقين الخطب الاجتماعية المثيرة، وأن ينشرن دعوتهن بحرية كاملة، ثمّ هي مع هذا كله تأتي بضرب من التصرّف الرجعي مدهش غريب”.

وتساءل الكاتب: “الحفلة للسيدات خاصة. فلهنّ فيها حرية كاملة. وإذا كان الحيوان يرقص ويهزّ رأسه من طرب الموسيقى التي يعتقد العالم أجمع أنها سحر سماوي، فهل يمكن أن يقف شعور المرأة أمامها صلباً جافاً؟ وإذا كانت حكومة دمشق سمحت بعقد مؤتمر للنساء، فهل وصل إليها أن عبارات الاستحسان في أثناء الخطابة وعبارات التشجيع كانت متهتكة كما كانت في حفلة عبد الوهاب. أم أن عبد الوهاب بفنّه الجميل أشد خطراً على الرجعية النسائية من الخطب الحماسية المثيرة التي أُلقيت في المؤتمر؟”. في الختام، رأت “مصر الحديثة” أن منع هذه الحفلة “هي حادثة فكهة أكثر منها مكدرة”، “ولم تؤثر في رحلة عبد الوهاب أقل تأثير، بل أن حكومة دمشق نفسها قدمت للفرقة كل مساعدة، وكان أعضاؤها أول من أعجب بها”.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى