صفحات العالم

مخاطر فقدان المركز القيادي في الثورة السورية


د. بشير موسى نافع

لم تكن الطريقة التي تعاملت بها قوى الثورة السورية، السياسية والعسكرية، مع مسألة الحكومة المؤقتة مدعاة للإعجاب. خلال أيام قليلة من إثارة الموضوع، عقد الأستاذ هيثم المالح، المناضل الحقوقي القديم، لقاء في القاهرة لخمس عشرة شخصية معارضة، انتهى إلى تشكيل مجموعة سياسية جديدة، وإلى تكليفه بتشكيل الحكومة. والمدهش، أنه ما إن ثارت التساؤلات حول تفرد الأستاذ المالح ومجموعته في اتخاذ هذه الخطوة الكبيرة، حتى طلع الأستاذ ليؤكد أنه لا تعجل ولا تفرد، وأنه كان على اتصال بآخرين من قيادات المعارضة السورية. المجلس الوطني، الذي كان في الاثناء منعقداً على مستوى الأمانة العامة بالدوحة، تجنب معالجة سريعة لملف الحكومة، وأعلن بدء التشاور حول المسألة، بدون أن يقرر موعداً محدداً لنهاية هذا التشاور. في داخل سورية، بادرت إحدى الهيئات القيادية للجيش السوري الحر إلى التقدم بتصور، جامع مانع، لتشكيل قيادة سورية خلال المرحلة الانتقالية، تعمل تحت إشراف مجلس عسكري من كبار الضباط المنشقين، وتطرح تصوراً عسكرياً إلى حد كبير لسورية المستقبل.

ما تمخض عنه هذا التدافع، على غير هدى، لم يكن لا حكومة ولا قيادة موحدة، بل المزيد من الانقسام والاختلاف. في حين يخوض الشعب أهم معارك ثورته، وقوات النظام تدك المدن السورية على رؤوس أهلها، يبدو المشهد السوري مثيراً للقلق. والمسألة هنا لا تتعلق بوحدة المعارضة، التي لم تتوحد قواها وتنظيماتها وشخصياتها الرئيسة في أي من الثورات العربية؛ بل في كلية المشهد.

بعد شهور طوال على تأسيسه والتفاف قطاعات الشعب السوري حوله، لم يستطع المجلس الوطني توفير الإطار الضروري لقوى المعارضة السورية، بل ولا حتى المحافظة على وحدة صفوفه. في لحظات، بدا وكأن قيادات المجلس تتنازع المواقع والأدوار، قبل أن تصبح الأدوار والمواقع موضع تنازع فعلاً. قام المجلس بدور هام بلا شك في تمثيل الشعب السوري على المستويين العربي والدولي، ورفع صوته عالياً في المحافل ذات العلاقة. ولكن المجلس أخفق في تقديم قيادة للحراك الثوري داخل البلاد، لا على المستوى السياسي العسكري ولا على المستوى الإغاثي. استمرت حركة الثورة، ولم تزل، تواجه وحشية آلة النظام الأمنية والعسكرية بقدر كبير من العفوية وبدون مبادرة واحدة من المجلس الوطني أو الهيئات المعارضة الأخرى. وإن لم يكن للعفوية من مخاطر ملموسة في المرحلة الأولى من الثورة، عندما كان الحراك الشعبي سلمياً، فإن العفوية تصبح مصدراً للقلق والخطر بعد أن تطورت الأمور إلى مواجهة عسكرية وإلى ما يشبه حرب الشعب. وهذا ما يطرح اسئلة أخرى حول ظاهرة الجيش السوري الحر، وحول الجهات التي تقود نضال الشعب في هذه الحرب.

لم يكن خافياً من البداية أن الجيش السوري الحر ليس جيشاً بالمعنى التقليدي، ولا حتى بمعنى حركات المقاومة التي عرفها المشرق العربي الإسلامي في القرن الأخير. ليس هناك دولة ما خلف الجيش الحر، ولا هو نشأ بقرار من هيئة سياسية قائدة، ولم تشكله مجموعة موحدة من القيادات العسكرية. الجيش الحر هو أقرب إلى إطار تصوري، إلى فكرة، وإلى حركة شعبية مسلحة، بادرت إلى تأسيس بعض وحداته مجموعات، أو حتى أفراد، من الضباط والجنود المنشقين، في مناطق مختلفة من البلاد، لم يكن بينها بالضرورة صلات وثيقة. ونظمت وحدات أخرى من الجيش قوى وجماعات سياسية؛ وولد بعضها الآخر من مبادرات شعبية محلية. كانت هذه الصورة مقبولة إلى حد ما عندما اقتصرت وظيفة وحدات الجيش الحر على حماية الأهالي من وحشية الشبيحة وهجمات قوات الجيش وقوى الأمن. أما وقد انتقلت وظيفة الجيش وأهدافه إلى تحرير البلاد من سيطرة النظام، وتزايدت أعداد المنضوين تحت رايته، بما في ذلك أفواج من الضباط المنشقين، فقد أصبح من الضروري أن تكون هناك قيادة رئيسية، تقدر أولويات العمل وتجتهد من أجل تعزيز مقدرات الوحدات المنتشرة في أنحاء البلاد، وتمنع اختراق قوى الثورة المسلحة من التنظيمات الراديكالية الطائفية أو ذات العلاقة بالقاعدة وشقيقاتها، أو من الأطراف الدولية والإقليمية التي تسعى لتأمين موقع قدم لها في سورية المستقبل. ولكن جهوداً متتالية، على الحدود السورية التركية، أو داخل سورية، لم تنتج إلا عديداً من المجالس القيادية، التي لم يعد من الممكن تقدير جدية بعضها أو صلتها بما يدور في أنحاء البلاد. وليس من الواضح ما إن كانت قيادة المجلس الوطني بذلت من الجهد ما يكفي لإقامة علاقة سياسية وثيقة بين المجلس والمجالس القيادية المتفرقة للجيش الحر، أو حتى لوضع سياسية واضحة تجاه التحول الكبير في سياق الثورة من حركة احتجاج سلمي إلى مقاومة وحركة تحرير مسلحة.

من جهة أخرى، وبالرغم من الأصوات التي ترتفع من وقت إلى آخر في مواجهة التوتر الطائفي، تحاول محاصرة المخاوف المتصاعدة لدى الجماعات الدينية والمذهبية المختلفة، فإن المسألة الطائفية تفاقمت إلى مستوى بات يهدد الاجتماع السياسي السوري ووحدة الشعب. ليس هناك ثوة تنهض في فراغ، والثورة بالتعريف هي حدث بالغ التعقيد من التدافعات والمخاوف والانشطارات. وإلى جانب ما حاوله ويحاوله النظام وأدواته من تفجير للصراع الطائفي، فقد ضم تيار الثورة في صفوفه عناصر، وربما قوى وجماعات، داخل وخارج البلاد، لم تدرك مخاطر المسألة الطائفية، ولا تعي السياق السوري الخاص للمسألة الطائفية. لم يكن النظام وحده من حاول التطهير الطائفي في قرى وبلدات سهل الغاب، أو في ضواحي حمص وحماة، أو من حاول التلاعب بمخاوف المسيحيين السوريين. في مناطق مختلفة، مارست مجموعات الثوار سلوكاً لا يقل وطأة عن سياسات النظام؛ ولم يعد من المسوغ ولا المفيد السكوت عن هذا السلوك، وقد هجرت آلاف العائلات المسيحية أو العلوية والشيعية من أماكن سكناها.

وإلى جانب ذلك كله، توشك المسألة الكردية أن تتحول إلى واحدة من أخطر مسائل المستقبل السوري، بدون أن تستطيع القوى السورية السياسية بلورة موقف واضح منها. علاقة النظام بحزب العمال الكردستاني وتفرعاته السورية لم تكن خافية على أحد؛ والأرجح أنها لم تنقطع كلية حتى أثناء شهر العسل التركي السوري. ومنذ سنوات، تشكل العناصر الكردية السورية نسبة ملموسة من كوادر حزب العمال الكردستاني (التركي). اليوم، وبينما يخلي النظام بلدات سورية في الشمال الشرقي، أي منطقة الكثافة السكانية الكردية، وفي ريف حلب، لصالح حزب العمال الكردستاني وحلفائه السوريين، ويخفق المجلس الوطني السوري، والقوى الكردية المؤتلفة في المجلس الوطني الكردي، في التوافق على الوضع الكردي في النظام السوري السياسي الجديد، ثمة من يعتقد أن بالإمكان إقامة شمال سوري مشابه لشمال العراق. ليس من السهل القول أن الملف الكردي في سورية يشبه الملف الكردي في العراق؛ كما لا يكفي القول أن الملفين غير متشابهين وأن الحل الذي اتبع لأحدهما لن يكون بالضرورة نموذجاً لحل الآخر. التداخل العربي الكردي في شمال سورية الشرقي، ووجود الأكراد في مناطق أخرى من سورية، والدور الإقليمي الذي يمكن أن تلعبه تركيا وحكومة إقليم كردستان العراق وحزب العمال الكردستاني، تجعل من الملف الكردي مسألة قابلة للانفجار بمجرد سقوط النظام أو تسارع فقدانه للسيطرة على أنحاء البلاد.

في مجتمع عاش تحت سيطرة سلطة مركزية أمنية لزهاء نصف القرن، وفي ظل نظام أقلية تمييزي، وتحت تهديد زائر الموت الرسمي، ليس غريباً أن تندلع طموحات ورغبات وهموم ومطالب السوريين مرة واحدة. ولكن القول أن الوطنية السورية هشة، أو أن فكرة سورية تفتقد الجذور الضرورية للمحافظة على وحدة البلاد، سواء لحداثة الوطنية السورية أو لتوجهات سورية القومية العربية، التوجهات استبطنت الهرب من أو التنكر لاستحقاقات الوطنية السورية، هو قول لا تؤيده الوقائع والتواريخ. كل الكيانات المشرقية، بما ذلك تركيا، كيانات حديثة، تعود إلى نهاية الحرب الأولى. ولكن ثمة كيانات سياسية في أوروبا وفي آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، أحدث بكثير من الدول العربية والإسلامية.

سورية، بالرغم من الأغلبية العربية ـ السنية الكبيرة، هي بالطبع كيان متنوع في جماعاته الإثنية والدينية والطائفية. ولكن أغلب دول العالم، أغلب الدول ـ القومية، أو الدول ـ الأمة، هي أيضاً كيانات متنوعة، بما ذلك العدد الأكبر من الديمقراطيات الغربية المستقرة، وبما في ذلك دول كبرى مثل روسيا والصين والهند. وكما أن حرب التحرير التركية في 1919 1922 صنعت الوطنية التركية، وأن ثورة 1919 كانت البوتقة الأولى لتبلور الوطنية المصرية، فقد كان لسورية ثورتها الوطنية المبكرة في 1925 ـ 1927، التي وفرت مناسبة كبرى ليتعرف السوريون على بعضهم البعض ويتصوروا معاً وجودهم المشترك في وطن واحد. وإن كان لخصوصيات سورية القومية من دور، فقد كان في تعميق الشعور السوري بالذات، بدعوة من أنظمة الحكم المختلفة أحياناً، وبدون هذه الأنظمة في أحيان أخرى. مهما كان الدور الذي لعبته سورية عربياً، ومهما كانت المسؤوليات التي تحملها الشعب السوري، فقد أصبح هذا الدور وهذه المسؤوليات قوى فاعلة في تعظيم رؤية سورية لذاتها. المخاطر التي تواجهها سورية اليوم ليست فريدة ولا استثنائية؛ وكان يمكن لأي المجتمعات أن تواجهها إن مرت بظروف مشابهة. والمسألة التي ينبغي تذكرها أن الأمم ليست كيانات أزلية، وأن وجودها يحتاج رعاية مستمرة. فجرت الثورة السورية بركاناً من الحراك الشعبي، جماعات سياسية، ضباطاً ورجال جيش، أحزاباً وشخصيات عامة، طوائف وعشائر، وجماعات مذهبية وإثنية. ولكن هذا الحراك الشعبي الهائل لم ينتج بعد القيادة الوطنية المؤهلة لتحويله إلى قوة فعالة وإيجابية للحفاظ على تماسك سورية ووحدة شعبها وأرضها؛ القيادة المبادرة والأكثر التحاماً بقوى الثورة وجماعاتها والتعبير عنها. وما ينبغي تذكره، وخلاص سورية بات أقرب من أي وقت مضى منذ انطلاق الثورة، أن الطبقة السياسية الرديئة التي مني بها العراق بعد الاحتلال كانت سبباً رئيسياً في تردي أحواله ومصائره. وسورية، بعد كل هذه النضالات، تستحق قيادة أفضل.

‘ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى