الانتفاضة السورية وسقوط الخطاب «التنويري»
محمد سامي الكيال
مرعبٌ ذلك المشهد! انهم هم أنفسهم!! اللغة والمظهر وأسلوب الصراخ ذاته! حشد من الناس العاديين يخرجون من المساجد (!!!) ليهتفوا للـ«حرية»… اي حرية يطلبون وهم بعيدون كل البعد عن ابسط اولويات ومبادئ التنوير؟!! كيف سيجلب لي الحرية ذلك الرجل الخشن الطباع والتفكير الذي كان يهز رأسه منذ دقائق، كالمنوم مغناطيسيا، وهو يتابع كلام شيخه في خطبة الجمعة؟
لا بد من أن هذه الافكار جالت برؤوس عديدٍ من مثقفينا «العلمانيين» «التنويريين» وهم يتابعون على وسائل الاعلام مشاهد المظاهرات التي خرجت في أكثر من مدينة وقرية سورية للمطالبة بالحرية، ولا بد من أن هواجسهم التقليدية قد تصاعدت وشعروا من جديد بمدى انفصالهم عن ذلك الشارع الذي لم يتمكنوا ابداً من التواصل معه… لقد سبقهم الحدث كالعادة، لكنها ليست ثورتهم، فتحركٌ عفوي ينادي بالحرية دون «أساس» معرفي او سياسي «واضح» لا يمكن أن يؤدي في مجتمع متخلف إلا إلى الفوضى (وربما الاقتتال الطائفي أو الحكم الديني)… هكذا اصبحوا لا يفكرون الا بتدارك الموقف والتهدئة، وربما اقتناص بعض المطالب من سلطة ألفوها ويرون أنها أهون الشرين!
طيلة عقود عدة من الجمود والديكتاتورية، وجدت «النخب» السورية نفسها تتقوقع تدريجا على ذاتها، فهي قد فشلت في ايصال صوتها ومفاهيمها للـ«جماهير» (وهو مصطلح نخبوي أصيل)، وعجزت حتى عن القيام بأي نشاط نخبوي مستقل بفعل الديكتاتورية الخانقة… وقد حرمت تلك النخب من أي تموقع اجتماعي أصيل بعد التدمير الممنهج لكافة مؤسسات المجتمع المدني من قبل السلطة… فبتنا نرى نخباً دون أكاديمية أو صحيفة أو حزبا سياسي، تغرق في مستنقع معاركها الصغيرة وهمومها الذاتية، وتفقد اي قدرة على الفعل… منفصلةً مع الزمن عن الحياة!
ولكن تلك «النخب» حافظت شكلاً على بعض المبادئ الأساسية الموروثة من عهود سابقة كان المشروع التنويري فيها فاعلاً عضوياً في الحراك الاجتماعي، وأضافت اليها بعض الافكار المستحدثة الشائعة ثقافياً وسياسياً في مطلع الألفية الثالثة، وقد أدت ظروف هذه الفئة إلى حشر تلك المبادئ في بنية عقل محاصر متأزم، فاتخذت في هذه البنية مضموناً ممسوخا لا علاقة له بمضمونها في بناها الأصلية، وكانت النتيجة خليطاً غير متجانس من الافكار مصوغاً في خطاب «تنويري» دوغمائي جامد، يصعب رده إلى اي قاعدة معرفية متماسكة بنيوياً، ويمكن تلخيص أساسياته في ثلاث نقط رئيسية:
أولاً: الأحادية حيث يتم رد كل المشاكل والقضايا الاجتماعية إلى عامل أحادي تم تسطيحه وتبسيطه لنجد انفسنا أمام جواهر عقلية ثابتة، فدائما ما يتم الحديث عن «فكر ديني» أو «نص متسلط» أو «تراث جامد» يسيطر على عقول الناس ويمنعهم من النفاذ إلى فضاءات التنوير (الذي هو أيضاً جوهر عقلي أحادي) معيقاً أي تقدم اجتماعي… وهكذا تختزل الحركة الاجتماعية في مثنوية مانوية تتناقض وجودياً على ساحة «العقل».
ثانياً: نزعة الحصار العقل التنويري محاصر دائماً من قبل عقل شعبي متخلف معادٍ لكل نزعة مستنيرة، هكذا ترى «النخب» أن هذا الزمن الرديء ليس زمنها، وأن الأمل الوحيد هو تحقيق تراكم معرفي ما (لم تستطع تحقيق شيء منه حتى الآن للأسف) قد يجد من يستوعبه ويتبناه في زمن ما… مع الوقت تخمد هذه النزعة المتفائلة، ويغرق المثقفون في ذاتية ضيقة بعيدة عن أي أفق اجتماعي عام، حيث يتداولون «انتاجهم الثقافي» في ما بينهم، دون أي أمل بمخاطبة «الآخر» غير المثقف.
ثالثاً: تقديس «الحرية» وهذه من أكثر المبادئ تخبطاً لدى «النخب»، فإذا كانت هذه النخب تقدس حرية الرأي والتعبر، والديموقراطية السياسية والحرية الاجتماعية، فهي ترى نفسها وسط مجتمع غير مهيأ لممارسة هذه الحريات، وترى أن إعطاء المجتمع الحق في الاختيار قد تكون له نتائج وخيمة عليها كنخب، ليس أقلها حرمانها من حرياتها الفردية الصغيرة (الضرورية للنمط الحياتي للمثقف) التي تؤمنها لها النظم الحاكمة الحالية نوعاً ما! وهكذا تصل بعض هذه النخب إلى قناعة ضمنية بأن المطالبة بـ«الحرية» تعني المطالبة بحريتها فقط كنخب، ويجب ان تختصر في الظرف الراهن إلى المطالبة بمجال أوسع للنشاط الثقافي (وقد تحقق لها شيء من هذا في السنوات الأخيرة)… حتى وصل الأمر بأحد الكتاب السوريين إلى المطالبة بـ«ديموقراطية معرفية» بدلاً من «الديموقراطية العددية»!
هكذا تحولت مبادئ التنوير إلى ما يشبه عقيدة لطائفة صغيرة تعاني من الحصار والاضطهاد من قبل المجتمع قبل السلطة… أقلية طائفية لها عاداتها وتقاليدها وأعرافها الثقافية والحياتية المهددة دائما من قبل الأغلبية، وربما كانت السلطة الديكتاتورية هي الضامن الوحيد لبقائها واستمرارها.
إلا أن الجمود ليس قدراً أبدياً على أي مجتمع… وتلك «النخب» فوجئت بالناس يحطمون جدار الصمت ويخرجون إلى الشوارع دون استئذان؛ حراك اجتماعي جديد، شعارات جديدة، أساليب غير مألوفة في الحشد والتجمهر والتواصل، بنى اجتماعية «تقليدية» تنتفض، شباب مغمور يحاول ايجاد لغته وصياغة خطابه، عشرات المجموعات على وسائل الاتصال الاجتماعي الحديث تناقش وتتحرك وتفعل…. دوغما «التنوير» لم تستطع استيعاب كل هذا، ولم يعد أمام دعاتها إلا التحصن داخلها وسط كل هذه الضوضاء، والتوجس من هذا التحرك غير المألوف، واختيار الانعزال عنه أو محاولة تحجميه، رغم أحساسهم الأكيد بأن عقيدتهم قد سقطت تاريخياً.
كيف حدث كل هذا؟ كيف انفجرت هذه الدينامكية من أحشاء مجتمع كان يُظن أنه مجتمع جامد؟ هذا ما لا يتسع له حيز ومدى هذه السطور، ويحتاج إلى الكثير من النقاش والتفكير والتأمل.
([) كاتب صحافي من سوريا