سطوة الصورة والضحية الغائبة/ أحمد الشمام
خلف كل رصاصة تُطلَق، فكرة يُسعى إلى تكريسها، ورغبة تسعى للتحقق عبر نصل يتحين فرصته أو يصنعها، وبندقية تعرف هدفها، أما الخنادق فمجهزة سلفا بمعول خَدَمٍ تمت تعبئتهم عبر قلم وصوت صادح، أو حفيف نوايا تلمع في عتمة المخبوء عندما يجد له أداة ومعولا، ولئن سلمنا بذلك فإن الحرب باردةً كانت، أو ملتهبة، مباشرةً أو مدغمة، ما هي إلا أحد التخارجات النهائية، أو ما قبل النهائية لإنجاز خطة لدى قوة ما؛ لماذا إذن لا نفكر بالسوية نفسها من التربص حيال مسارب الفكرة وأدواتها الأخرى، التي توازيها أو تسبقها وتؤسس لها، من النظريات (صمويل هنتنغتون)، إلى الأفكار والقراءات (الاستشراق والمركزية الغربية)، إلى قنوات الإعلام لتأثيث العقول، أو تلويثها بما تبثه من شلالات صور.
يقول إميل سيوران «لكم يمتد الموت بعيدا بحكم ما يكتسحه من مساحة، حتى أنني لم أعد أعرف أين أموت»، وبحكم الموت الداهم بالمفخخات وكواتم الصوت لي أن أجترح معنى محايثا بحكم ما تكتسحه الصورة من مساحة في عقولنا، بما هي ناضحة بالموت أو مفخخة به؛ حتى أقول: لم أعُد أرى صورة لمأساةِ مجاعةٍ أو موت أو عبور لشتات إلا وكنت بروحي خلف العدسة أتقمص صيادها، لأعيش اللحظة بحرارتها ووهجها وغبارها وتسرب الماء المالح في صدر الغريق، ولأني أفاجأ ببعض الصور المواربة في دلالاتها أوقن أن يدا أخرى ليست يدي، اقتنصت الصورة بحرفية ناظر افتض بكارتها لغاية غير بريئة وأني الضحية، ومثلما قالت العرب «وراء الأكمة ما وراءها» فإنه يصح القول في عصر الصورة أن وراء العدسة ما وراءها.
هل من قراءة حرة للصورة، ونفاذة إلى كل حمولاتها من معان دافعة وحاثة باتجاه ما؟ مع الحفاظ على قدرة عزل الشحنة الخفية المدسوسة خلف وجهها المصقول، هي الصورة التي تبدو عفوية بغير إبداع ولا تَصَنُّع، وباقتناص العدسة للّحظة عفوية تبدو لحين غير آبهة بالتقييم، ولا برصد ما تشي به، أشبه بلعبة ترمى بحديقة أطفال متشهّين للعب، فيما خلف الكواليس قوة خفية تتخذ بعدا بؤريا وهي ليست طرفا، بل مركزا، تتدخل في انتقائية الصور ثم تبثها، لتصنع لنا ذائقة محددة تأخذنا ثم تهيئنا لموقف، أو لتؤصل شرخا وفرقة بيننا لنتخندق ونؤطر، قد يبدو الأمر في البداية اختلافا في وجهات النظر ولأننا لم نعرف فقه الاختلاف ولم ننجزه، ستأخذ المواقف بالتحول والتأطر وصولا إلى التنادد بين حق وباطل، لنشطح في حججنا، وفي منظومة محاكماتنا العقلية، لنتشدد بتمسكنا بأطر المواقف بعيدا عن ألبابها، ومضامينها التي قد تجمعنا، فالأفكار إن تحاورت تستطيع الخروج بحَمَلتها من المأزق، لكن سدَنتها المثقلون بعللهم من يأخذها بعيدا، فنرتجل الحرب كخطوة أولى لتأتي الأعذار والمبررات كتحصيل حاصل وصوري، ثم تأتي سلطة الأمر الواقع الذي كنا ضحاياه بعلم، وبغير علم منا، لنكتشف بعد حين أننا سوقنا، ثم سوغنا، ثم ننتقل لصورة أخرى تدخل في السياق نفسه أو بشكل محايث له.
ثقافة الصورة تأتي من وصفها توحي بالمباشرة تماما، أي عدم الاشتغال عليها وأن تصل وتوصل رسالتها من دون حديث، بل يبدو الحديث منعكسا شرطيا، ولازما من قبل جموع مدروسة وكأنها وجدت لتخلقه، وكي يكمل ما وشت به، أو أشارت إليه.
ترى ماذا لو فكرنا برهة في الالتفات لذواتنا، وتمحيص استطرادنا في حزمة اتهاماتنا التي نلبسها للضد بكل ملحقاتها من صفات وصور ملصقة، لتكون متلبَّسة، يقينية، ويصبح المحارب والمُدين لها – وإن بعقلية ثأرية أو انتهازية- بريئا نقيا.
لعل بعدا جماليا يؤثر من حيث لا ندري، في انتقائيتنا للصور بما في ذلك صور الموت، فصورة الطفل الممدد على البحر كانت أكثر تداولا، ولعل زرقة البحر بجانب الضحية كانت أقل إيلاما من الدم والأشلاء، من طفل منبج الذبيحة المعفر بالتراب – لم يستر التراب عورته بل فضح عورتنا؛ وفي مقارنة لصور معارضات –لا عارضات- كم بدونا متشابهين في إخضاعنا تلك الصور، لاستعراض يوائم ذائقتنا المشتركة لحد فادح في تلقف صور النساء على الشاشة الزرقاء، من الثائرات في انتفاضة فلسطين، إلى سوريا، إلى الشهيدة المصرية التي اهتم بها الإعلام وأغفل صديقتها المحجبة بجانبها، التي شاركتها العمل ذاته وتقاسمتا رفع لافتة الحرية ورصاص القتل، ما يعني أن ثمة أمرا ما غير الذائقة، أفترضه البيئة الفكرية والأيديولوجية التي تغض الطرف عن حدث، وتركز على آخر وتكرسه كذائقة ثم كنهج عمل، وبما أننا كشعوب شرق منتهك مسكونة بالانفعالية لا ترى الاختلاف إلا خلافا أو عداء، وفي غمرة شطحنا وذهابنا في عداواتنا إلى آخر مدى، سرعان ما نرمي من نقف منه موقف العداء بكل أحجارنا ونلبسه كل سوء، رغم سهولة إدانته بالمحاججة الفكرية، أو بما أقر به من نهج وممارسة، وليس من حاجة لكل هذا الفيض من الغلو الذي يستنفر ويحث غلوا مقابلا، ولمن ينقض ذلك أقول الشعوب لا تقتتل بل ملوكها، وإذا تناحر ملوك الطوائف فما ذنب أبنائها.
ثقافة الصورة تعني تتالي كم هائل من صور متقطعة لتشتيت انتباهك، في الصورة تهشيم لذاكرتك، ثم تأثيثها بصورة أو اثنتين أكثر ظهورا وبريقا، وتسليط دائرة الضوء عليها لتستقر في ذهنك ثم توظفك وتسيرك وفقا لقناعة تم صوغها، وقع بعضنا تحت وطأة بريق الكلمة والعبارة والصورة، وأصبحنا نردد ما تطلقه قوى عالمية لتهيئتنا إن كنا ذوي ثقل في معادلة الحرب الخفية، لتشكيل رأي عام، والتماهي مع الخطة المقبلة، يكفي أن يطلق مركز غربي صيحته، لنجد من يتلمس سياسته، وينطلق بحدس خبيث وحاذق نحو البدء بالنقد والنشر، ولعل لعن ما يخافه الغرب مما يعرقل مصالحه التي لا تمت لثورات شعوبنا بصلة، أصبح لازمة يبتدئ بها الأغلب أو يضمنونها كتاباتهم، مثلما يقف شاعر جاهلي على الأطلال، هي ليست تمثلا لصور لوحات دافنشي أو بيكاسو، فتلك فن إنساني ومعطى حضاري، بينما فنية الصورة تكمن في كونها دالة، لاستدراج يوصلك إلى موقف يكمن لك، ويقودك لحالة تماهٍ مع آخر صيحة متوقعة، تتكفل أنت بتسهيل درب لها وأفق وتبيِئَة، من ذلك تطبيل كثير من الأنظمة الوظيفية لدولنا المتحالفة ضد إرهاب «داعش»، وإغماضها المتعمد أمام عشماوي مصر، وعسس العراق، وشبيحة الأسد وعدم وصفهم بالإرهاب، وهلامية موقف المثقف تجاه قوى دولية «شرعنت» إرهاب الأنظمة، وتجييشنا العولمي في الحرب على الإرهاب الذي عانينا منه، بعد أن أبدعت «داعش» في صورها المنافسة لـ»هوليوود» الأنظمة، وكتمِنا صرخات وصور من قضى من المدنيين بطيران الأحلاف، من أمريكان، وروس ومن معهما، لكأنهم ضحايا نيران صديقة.
٭ شاعر سوري
القدس العربي