كولين ديكستر: رحل الذي أعاد إلى الأذهان أدب الجريمة في الغَرْب/ محمّد محمّد الخطّابي
رحيل كاتب أدب الخيال الإجرامي البريطاني كولين ديكستر في الواحد والعشرين من الشهر الماضي آذار/مارس عن سنٍّ ناهزت 86 عاما في أكسفورد، أعاد إلى الأذهان عناية الغرب بهذا النّوع من الأدب، كان هذا الكاتب معروفا برواياته «المُفتش مُوريس» التي كتبت بين عامي 1975 و 1999، والتي تمّ نقلها إلى الشاشة الصغيرة في شكل مسلسل تلفزيوني حظي بنجاح كبير، وحاز شهرة واسعة في بريطانيا من 1987 إلى 2000.
وداعا أب المُفتّش مُوريس
ولد كولين ديكستر في ستامفورد، لينكولنشاير في 29 أيلول/سبتمبر 1930. درّس الكلاسيكيّات في جامعة كامبريدج التي كان قد تخرّج منها عام 1953 وحصل على درجة الماجستير عام 1958، وأصبح معلما، ومؤلفا للكتب المدرسية قبل أن يتحوّل إلى كتابة أدب الخيال والجريمة، بعدما أصيب بالصّمم، حيث اضطرّ لهجر التدريس، وبدأ الكتابة والتأليف عام 1966. وضع ديكستر 13 رواية عن» المُفتش مُوريس»، وقالت ماريا ريجيت عنه – وهي آخر محرّرة لأعمال ديكستر في ماكميلان- إنه «ألْهَمَ كلَّ الذين عملوا معه، أو بجانبه». وأضافت إنّ «إخلاصه، وتواضعه، وحسّه الفكاهي، كلّ تلك الخصال كانت مصدر سعادة للكثيرين، كما أنه كان ذكيّا، طيبَ القلب، وستظلّ رواياته العديدة، وقصصه الرائعة خير شهادة على ذلك».
رحيله أعاد إلى الاذهان مدى اهتمام الغرب، وعنايته بهذا الصّنف من الإبداع الأدبي الذي تعرّضت له مختلف الأوساط الأدبية في إسبانيا، وبريطانيا وأمريكا اللاّتينية، وسواها من بلدان العالم، حيث نشرت كوكبة من النقّاد، والكتّاب بهذه المناسبة مقالات ودراسات، وتعاليق حول أدب الإجرام في الغرب، مسلطين الأضواء على أعمال ديكستر، وكذا على أعمال كتّاب آخرين ممّن عُنُوا بهذا الأدب. وفي ما يلي بعض الآراء، والتحاليل التي نُشرت في هذا المضمار حوله: يرى الباحث الإسباني أنخيل دي لا كايّي أنّ أحسن الرّوايات السّوداء اليوم تُكتب في بلدان أمريكا اللاتينية، حتى إن كانت سوق المبيعات ما برحت تؤكّد لنا أنّ التفوّق في هذا الصنف الأدبي ما زال من نصيب بلدان الشّمال. ويؤكّد الكاتب المكسيكي باكُو إغناثيُو تايبُو من جهته أنّ جودة الأدب الإيبيرو/أمريكي في هذا القبيل لم يؤخذ بعين الاعتبار بعد في سوق النشر العالمية، إذ ما فتئ كتّاب هذا النّوع من الأدب باللغة الإسبانية موزّعين على جزر صغيرة، في المحيط المترامي الأطراف الذي يجمعنا، ذلك أنّ العالم الناطق باللغة الإسبانية أصبح شبيها بأرخبيل ذي جزرإقليمية متعدّدة، ثمّ إنّ الأحكام التي تصدر بشأن هذا الصّنف من الأدب اليوم مصدرها الحواضر الكبرى، وكذا قوائم الكتب الأكثر مبيعا التي تنشرها «نيويورك تايمز»، فضلا عن مزادات مهرجان الكِتَاب لمدينة فرانكفورت، وأخيرا الموضة الإسبانية والإيطالية اللعينة. فالقارئ الإسباني ليس على علم أبدا بالكِتَاب الذي يتالّق في مهرجان بوغوتا للنشر في كولومبيا، ثم إنّ المواطنين التشيلييّن ليست لديهم أيّ فكرة عن تطوّر الرّواية التاريخية الإسبانية، كما أنّ المواطنين في كوستا ريكا لا علم لهم البتّة بما يُكتب، أو يُقرأ في غواتيمالا، فالذي أصبح يملأ الأسواق اليوم هي الكتب الخردة السّريعة الزّوال، والنسيان التي غالبا ما تُعْنىَ بالوجوه التلفزيونية، والتحقيقات السطحيّة التي لها صلة بالأخبار اليومية المتواترة أو ما يطلق عليه بالعولمة الادعائية والتجارية التي لا علاقة لها بالثقافة والإبداع الحقيقيين من قريب أو بعيد.
أفظع الجرائم
من الجرائم التي هزّت، واسترعت انتباه الكتاب والنقاد في القارة الأمريكية وإسبانيا، سواء تلك التي نقلت إلى الشاشة أو ظلّت قابعة بين دفّتي كتاب، أو تلك التي كانت مستوحاة من أحداث واقعية، أو هي من نسج خيال الكتاب، يسلّط هؤلاء الكتاب الأضواء على أصناف متباينة ومتعددة من الرّوايات التي بثّت الرّعبَ والهلعَ والفزع في قلوبهم، قبل وصولها أو تداولها بين القرّاء والنقّاد، وهكذا يشير الكاتب الأمريكي إغناثيُو كارديناس، صاحب رواية «لغز يوم الأحد»، في هذا القبيل أنّ أغربَ جريمة عاشها، أو شاهدها، أو قرأ عنها هي جريمة وقعت في جزيرة كوبا حيث قُتلت فتاة في مقتبل العمر في ظروف غامضة وجُزّئت أشلاؤها وألقي بها في مختلف أطراف المدينة، وقد عايش الكاتبُ فعلا ظروفَ هذه القصّة المُروّعة وحيثياتها ووقائعها الرّهيبة التي كان لها تأثير بليغ على نفسه وعلى أعماله في ما بعد.
أمّا البريطاني جيمس مالفي، مبتكر شخصية المخبر السرّي الياباني «تتسو أوتاني» فبالنسبة إليه، ولزملائه الكتّاب الإنكليز، فإنّ «أشهر أحداث القتل» التي طبعت جرائمَ القرن، جاءت نتيجة تأثير سلبي لفلسفة فردريك نيتشه، وإن فظاعة هذه الجرائم لا تزال عالقة في ذاكرتنا، وهي تُؤكد لنا استمرار عنصر الشرّ الكامن فينا، ويقول الإسباني فرناندو لاينز، صاحب رواية «ذَهَبُ التّمسَاح»، إنّ جريمة مقتل الرئيس الأمريكي جون كينيدي بالنسبة له ما فتئت تُشكّل جريمة خارجة عن المألوف، غير قابلة للتبرير، ولا للتفسير من طرف التاريخ، حيث نجد جميع المعلومات التي قدّمتها الدّولة الأمريكية تتداخل، وتتناقض في ما بينها، وتفوق هذه الجريمة وظروفها الغامضة أيَّ خيالٍ مهما شطّ به الجنوح. ويعود الكاتب الأمريكي ستيوارت كامنسكي، صاحب شخصية المخبر السرّي «توني بُترس»، إلى يوم مثلج في شيكاغو حيث حدثت الجريمة التي هزّت أمريكا كلّها هزّا عنيفا، بل اعتُبِرت من أخطر، وأكبر الجرائم في تاريخ هذا البلد، وتلقّفها الأدبُ ثمّ السينما والتلفزيون في ما بعد، وهي «جريمة يوم سان فالنتاين» للمخرج رُوجيه كورْمَان، وهي أشهر جرائم آل كابوني على الإطلاق.
جاك السّفاح
يرى الأمريكي ميديسون ديفيس أنّ هذا الصّنف من الأدب في القرن الحالي سيعرف تطوّرا مهمّا، فعنصر شخصية جاك المُجرم السّفاح، أو جاك المُبقر في ما مضى، كان يرمز إلى الظروف الاجتماعية والنفسية التي طبعت القرنين التاسع عشر والعشرين، حيث اعتقد الناس أنّ نهايتهم قد أزفت. ويتجدّد هذا العنصر بالتوالي في كلّ عصر، خاصّة في الأدب البوليسي، وأدب الإجرام الخيالي الحديث. وبخصوص إشكالية أبعاد الآثار الأدبية التي خلفها الكاتب رايموند شاندلر، قال الكاتب جيرميا هيلي، إنه باعتباره أستاذا للقانون، ومحاميا فهو يلتقي في استنتاجاته مع ما كتبه شاندلر في هذا الصّدد، وهو أنّ كثيرا من القضايا في الولايات المتحدة الأمريكية لا تعرف الحلول المناسبة لها. وهو يؤكّد في هذا السّياق دورالمباحث الخاصّة، التي لا غنى عنها لتجلية بعض غوامض الأمور. أمّا بالنسبة إلى الكاتب الإسباني بيدرو كاسالس، فإنّ أعمال شاندلر الأدبية كانت بمثابة مرآة مُجلية تعكس واقع المجتمع المُصنّع الجديد الغارق في الماديات، وقال إنّ وجود الأدب البوليسي، أو الرّواية السّوداء يُعتبران إدانة للمظالم السّائدة في المجتمعات الغربية على وجه التحديد، وهذا ما تُعبّر عنه بوضوح أعمال شاندلر. إلّا أنّ الناقد الفرنسي ميشال مارتنس، أبدى نوعا من التشكّك حيال تأثير شاندلر في الرّواية السّوداء في بلده. ويعزو الناقد بعض هذه التأثيرات إلى نوع من التعبير التلقائي لأيِّ كاتب، وإنّ ما تقارب أو تشابه، أو تضاهى من هذه الأعمال إنّما هو فقط من باب توارد الخواطر، أو وقوع الحافر على الحافر.
الرّواية البوليسيّة
تُعنىَ هذه الجماعة من الكتّاب بالخصوص بكتابة الرّوايات التي لها صلة بالمجتمع الذي يُعتبر البوتقة الأساسية التي يَستقي منها هذا الصّنف من الأدب مادتَه، ومضامينَه وأعماله، وهو يتأرجح بين التألّق والإخفاق، والرّفض والقبول.
يشير الأمريكي بيل باير إلى أنّ: الإنسان على العموم يُعتبر كاتبا بوليسّيا، فحياتنا سرّ غامض ولا يتوقّف المرء أبدا في محاولاته لاستكناه أغوار هذا السرّ، واكتشاف خفاياه، وسبر خباياه، كما أنّ حياة المرء في العمق إنّما هي كتابة وتكريس لهذا الصّنف من الأدب. يحرص كتّابُ الرّواية البوليسية في الغرب على وصف واقع الحياة اليومية الحالية، وتكثر فيها مظاهر الجريمة بشكل ملحوظ مع انتشار المخدّرات، وتعاطي الإدمان من كلّ نوع، ولا يدخل في هذا النوع من الأدب علم الاجتماع وحسب، بل إنه يعتمد كذلك على علم النفس، وحيل ودهاء ودسائس ومكائد المخبرين السريّين .
ويشير الأرجنتيني غييّرمُو ساكومانُو إلى أنّ القصص التي كانت تحكيها له جدّته، كان لها كلها تأثير بليغ في نوعية الإنتاج الأدبي الذي يكتبه، والذي يدرجه معظم النقّاد تحت هذا النّوع من الأدب، ويتساءل الكاتب عن سرّ العلاقة بين هذه القصص الغريبة التي كانت تحكيها له جدّته، وأحداث المجتمع اليوم. ويقول: إنّ الأدب على العموم وثيق الصلة بالعدالة الاجتماعية، والرّواية البوليسية أصبحت تُعتبر اليوم من أبرز معالم الأدب المعاصر. وترى النمساوية هيلغا أندرلي أنّ هناك عددا كبيرا من الكاتبات اللاّئي يتعاطين هذا الصّنف من الأدب في العالم، ومعظم الكاتبات ينتمين إلى الحركات النسوية في بلادهنّ. وهي تذكّرنا أنه من أهداف جمعيات الكتّاب البوليسيّين (رجالا ونساء) الدفاع عن الإنسان، والمطالبة بالمساواة، ومحاربة الظلم الاجتماعي والجريمة، وتحريك الاتصال مع الجمهور. والكاتبة عند قراءتها لهذا النوع من الأدب تهتمّ بمدى ذكاء ودهاء المُجرم، بقدر ما تركّز على الظروف المتداخلة والمتشابكة التي قادته إلى اقتراف جريمته، فضلا عن عنايتها بالألوان، والأجواء والحيوية التي تطبع الشخصيات داخل هذه الأعمال. ودافعت الكاتبة عن نفسها وعن بنات جنسها من الهجوم الذي كان قد صرّح به نورمان مايلر، حيث أخرج المرأة من دائرة كتّاب هذا النوع من الرّوايات، على الرّغم من الشّهرة الواسعة للكاتبة البريطانية أغاثا كريستي في هذا الشأن.
بحر هائج وأرض ملغومة
وفي سياق الرواية البوليسية كان الرّوائي الإسباني لورينزو سيلفا – المعروف بهذا الاتجاه- قد فاز بجائزة بلانيتا الإسبانية عن روايته «علامة خطّ الطّول» التي ترمز إلى خطّ غرينيتش ميريديان الرابط بين مدريد وبرشلونة، تدور أحداثها بين هاتين المدينتين العملاقتين، وحول لاعقلانية السلطة انطلاقا من محاورات مقتضبة وصريحة ومركّزة تجري بين اثنين من عناصر الحرس المدني الإسباني وهما الرقيب روبين بيبيلاغوا (وُلد في منتيفيديو في أورغواي) ورفيقته في العمل الجافة والباردة والخجولة فيرخينيا شامورّو، حيث يقدّمان بذلك صورة حيّة من المجتمع الإسباني المعاصر ومعاناته اليومية وتناقضاته. ويحاول الكاتب الإسباني انتهاز الفرصة للصراع أو التنافس، الذي يصل حدّ التوتّر الحاد الخفيّ القائم دائما بين مدريد وبرشلونة لخلق استعارة عن هذا التوتر الذي يحتدّ طورا، ويهدأ أطوارا أخرى بين كاتالونيا وإسبانيا، آملا أن لا يكون هناك أبدا خطّ أحمر فاصل بينهما. كل ما يمكن أن يكون هناك خطوط وهمية ليس إلاّ، ويسبح الكاتب في هذه الرواية في بحر عاصف هائج مُزبد، ويمشي فوق أرضٍ ملغومة، محفوفة بالمخاطر والأهوال والمفاجآت، كما أنّ البطل عندما يسافر إلى برشلونة انطلاقا من مدريد فإنما هو في الواقع يسافر إلى ماضيه كذلك. وتعكس هذه الرّواية بشكل أو بآخر الدعوات والتحرّكات التي تشهدها منطقة كاتالونيا في الوقت الراهن الدّاعية إلى الانفصال عن إسبانيا التي يقول ساستها الكتالانيون أنها أصبحت تثقل كاهلها، خاصّة تحت وطأة الأزمة المالية والاقتصادية الحادّة التي تجتازها البلاد في الظروف الراهنة.
القدس العربي»