«ثــورة» العمــران فــي «مدينتنــا»
رستم محمود
مدينتنا بالعموم تشبه باقي المدن كلها في البلاد، فالاتساق والضبط اللذان كانا يشغلان السلطات منذ عقود، كهوية وهواية في السياسية والاقتصاد والاجتماع..الخ، انعكست بشكل مباشر على العمران. فكانت المدن صورا عن بعضها البعض، عنه، ذلك الاتساق والضبط. فكما كانت الحلقة الثالثة لانتفاخ المدن كلها (العشوائيات) في العقود الأخيرة، البرهان العمراني المنعكس عن فعل هذه السلطات في الحقول الباقية كلها، فإن تفاصيل عمران المدن، ومنها مدينتنا، بدت كنتيجة للتحولات التي جرت في رؤية وخيال أمة المواطنين لفضاء سكناهم.
مدارسنا مثلا، وفي المستويات كلها، كانت تبدو صناديق مغلقة علينا، وعلى نفسها. كانت عالية ومؤصدة وبلون واحد، بني أو رمادي. حتى أنك تحس أن الالوان قد فقدت في هذه البلاد. شكل الأبواب الحديدية الكبيرة الخارجية، والأقفال الضخمة التي كانت عليها، ومعها الشبابيك المليئة حد القرف بالسواتر المعدنية، كان يسرب إلى قلوبنا منذ الصغر، حساً غريباً بالخوف. كنا نخاف الفضاء الداخلي للمدرسة. فدوماً، ومنذ الطفولة الأولى، كنا نتساءل في عمقنا: ماذا لو أقفل حارس المدرسة الأبواب يوماً، ونحن بداخلها ؟!. أي طريقة وطريق سينجينا من هذا البئر العميق!. باحات المدارس وفضاءات الصفوف الداخلية، كانت صوراً باهتة عن كل المدرسة، فلا لون بها ولا طفولة، كان ثمة شيء أقرب للعنوسة العميقة في التشييد، عنوسة بمعنى أن الذين سيدخلونها سيعيشون وقتا عابراً، فلا معنى للاهتمام بالشكل والبهجة. وللأسف، فإن ذلك الوقت الذي أريد له أن يكون عابراً كان طفولتنا.
من بين كل مدارس مدينتنا، كان ثمة مدرسة واحدة لم تكن مثل الاخريات، كانت تلك المدرسة الوحيدة التي بنيت قبل الثورة.!!
كانت باقي أبنية مؤسسات الدولة صوراً عن مجسم مدارسنا. لأسباب كثيرة، أقلها، إن الذين بنوا وعملوا في تلك المؤسسات، تخرجوا بالأساس من تلك المدارس. الأبنية الحكومية كانت نوعين، منها ما هو قديم، استوليَ عليه بـ«فضل» كابوس مستمر يسمى «قانون الاستحواذ». فلأن مساكن البرجوازيين كانت ستبقى مرآة وبرهانا على التحولات التي يمكن أن تحدثها «الثورة» على العمران ومن يعيش فيها. فكان لا بد من الاستحواذ على تلك مساكنهم، وتعويضهم، وإن بعد نصف قرن. مساكن البرجوازيين الجميلة، (ربما كانوا هم بشرا قبيحين بتسلطهم واستغلالهم للفقراء) التي كانت في وسط المدينة، كان بها فسحات وشرفات وأشجار وفنون، تحولت إلى أبنية حكومية جافة، إلى شعبة للتجنيد وفرع للحزب الحاكم وسجن ومقر للشرطة العسكرية ومحكمة…الخ. حيث بمرور السنين، تراكمت الأوساخ على جدرانها، وجف شجرها، ولفت الكسور الكثيرة سطوح اعمدتها العالية، اما فسحها وشرفاتها، فكساها الحديد الكثير، ربما لأن الذي كان وما زال بداخلها، رهيب الوقع لو أبيح ظهوره.
الأبنية الحكومية المحدثة، لم تكن مثل التي استحوذ عليها، بل كانت صورة مضبوطة عن مدارسنا، كانت مكبات للأوراق والعابثين. ربما نستطيع تذكر الكثير عن تفاصيل تلك الأبنية الحكومية، لكن الذي لا ينسى، كان وجوه الموظفين بها ونظراتهم. تلك النظرات التي كانت صورا عن الصور الكثيرة والمتماثلة التي كانت تملأ جدران الغرف الداخلية، ولها ما يشبهها في الأسوار المحيطة بها. وتشبه أكوام الأوراق والأضابير المرمية على عجل في الرفوف والخزن الكثيرة، تلك التي وضعت أيضاً على عجل. كان غريباً ذلك التناقض، كل شيء كان قد صنع وتأسس وترتب على عجل بالغ، رغم الفتور والبطء والبرود الذي بقي لسنوات طويلة، هوية عمل هؤلاء الموظفين الذين كانوا «يعملون» في تلك الأبنية. لقد كان ذلك تبايناً عن خراب عمران آخر في مدينتنا.
في مدينتنا كان ثمة بناء «حكومي» واحد نظيف وأنيق ومشجر مليء بالشرفات والألوان. للأسف كان البناء الوحيد الذي يرتعب سكان المدينة حينما يدعون لحضوره عنوة!.
بيوت المدينة كانت صغيرة للغاية، بالرغم من كثرة الرمل والحجارة والمساحات، والعاطلين. لا نعرف حتى الآن، لماذا لم يبن الناس بيوتهم في مساحات متباعدة في السهوب الواسعة والممتدة التي كانت تحيط بالمدينة، ولماذا كانوا يصرون على الالتصاق البالغ ببعضهم البعض. أي خوف غير مرئي كان يدفعهم لذلك؟!.
حي الفيلات، كان الوحيد الذي به بيوت فسيحة جنوب المدينة، لم ندخله ولو مرة، فقد كان الشرطي الواقف على بوابته، يسمح لذوي الحي فقط بدخوله، أو من يزورونهم.
الشوارع كانت الأفضل على الإطلاق في عمران المدينة. فالحكاية الصحيحة الوحيدة التي بقيت عن مدينتنا منذ القدم، كانت أن الفرنسيين هم من خططوا شوارع المدينة. حينما كان الاستعمار «يستعمرها». فجل الشوارع كانت مستقيمة تماما، فثمة شارع واحد من شرق المدينة لغربها، وكذلك من شمالها لجنوبها. لكن تلك الشوارع لم تحفظ من دروس المستعمر في علم الشوارع سوى الاستقامة، ربما لأنها لم تستطع تغييره. فالتقسيم والحجم الذي أريد للشارع أن يكون لستة منازل فحسب في كل شارع، بات لخمسين عائلة ومنزل. فحيثما كانت المساحات الواسعة في البيوت التقليدية، التي كانت تملأ جنبات تلك الشوارع، بنيت الأبنية المخالفة، بعدما صدر قانون اسموه «الصلح مع البلدية». فلك أن تخرب وتبني كيفما شئت، ومن ثم تدفع تعويضاً مالياً لصندوق البلدية، وتعود الامور لمجاريها. وفي الطريق تسقط حقوق الأطفال بمساحات مناسبة من الشارع، ويضيع حق الأجيال بالتمتع بمستوى أقل من الضجيج، وتفقد الجدات حق الجلوس أمام البوابات والتمعن بوجوه المارين، وقبل أي شيء، يسقط حقك بحصتك المناسبة من الهواء. وعلى نفس الدرجة، فقدت الشوارع ما كان مرسوما لها من أشجار وأرصفة وزفت. فبعد عقود من الثورة، ما زال اكثر من نصف شوارع مدينتنا يغرق بالبقع المائية شتاء وسحابات الغبار صيفاً، تلك البقع والسحابات التي لا تترك من شرها لا أطفال المدراس ولا شيوخ المقاهي، ولا حتى تسريحات العشاق وثيابهم التي أرادوها نظيفة.
شارع وحيد في مدينتنا لم يكن على حال تلك الشوارع، للأسف كان الشارع الوحيد المليء بالحواجز، ولم نره إلا مرات قليلة، خلسة.
الكنائس كانت جميلة نوعا ما في مدينتنا، كانت الهالة تلفها والغرابة، فنحن كنا نعرفها من الخارج فقط في سنوات الطفولة واليفاعة. ليس فقط لحكايات جدتي وأساطيرها عن المسيحيين «الذين يريدون ذبحنا وشرب دمنا في الكنائس» بل لأن الكنائس كانت أساسا بعيدة عن مركز سكننا. فالانشطار والمتاركة التي أصابت سكان مدينتنا منذ عقود، بحيث بات لكل طائفة ودين وأثنية، مركزا وتوزعا خاصة بها، كان وسيبقى أحد أعمق افعال ودلالات خراب العمران في مدينتنا. ربما كانت الجوامع على سوية الكنائس، وهي التي لم أدخلها، أكثر من دخولي للكنائس، لكن الأكــيد أني لم ألحظ لمسة فنية واحدة في كل الجوامع التــي كانت تحيط بحارتنا. وكأنه واجب عليك، فلو أردت أن تكون مؤمنا، فعليك أن تكون مستـقيما، حتى في خيالك.
كان في مدينتنا كنيس يهودي وحيد، ترك للحمام، بعد ان هجر أهله. (لك أن تقرأ فعل (هجر) مبنيا للمجهول أو مبنيا للمعلوم).
كانت الملاعب في مدينتنا ترابية كلها، مرمية على أطراف المدينة كلها، ربما لأن الرياضة كانت المتنفس الوحيد غير التدين، الذي تركته الثورة للأجيال، قبل أن ترصها كلها في المعركة الكبرى. تلك الملاعب الترابية كانت تمتلئ بالبرك أيام الأمطار، وتحرم مئات الفرق الشعبية من التدريب لشهور في مرات كثيرة. وهي نفسها ما كانت تحول المباريات لساحات شبيهة بمسابقات الخيل التقليدية، فقد كان غبار الملاعب المحيطة بالمدينة، يكاد أن يغطيها كلها. وفي مرات كثيرة كانت تخرج نسوة البيــوت القريبة من تلك الملاعب يترجين اللاعبين ان ينــهوا مباراتهم مبكرا، لأنهن سينشرن الغسيل على سطح البيت قريبا.
كان ثمة ملعب معشب واحد ووحيد في مدينتنا، كان ملعب النادي التابع لشعبة الحزب.
مثل الأشياء كلها، كان العمران وما زال في مديتنا خراباً، فكأنه قد بني لكائنات بيولوجية لا رغبة لها سوى البقاء بأي شرط كان. فكأن تلك الكائنات التي كانت (نحن) لا خيال لها ولا أرواح، وكأن ذلك العمران بني لها كي تستطيع أن تحافظ على حدها الأدنى من البقاء والاستمرار، فلا التمتع ولا الفن ولا الرفاه ولا فرادة كانت من المفردات التي تدور في ذهن من بناها. فكما فقدوه في كل شيء، أريد لسكان مدينتنا أن يفقدوا الخيال في عمران مدينتهم، فالشيء بالشيء يسرطن.
(كاتب سوري)
السفير