«غود باي لينين»
سامر فرنجيّة
ظهر فيلم «غود باي لينين» (وداعاً لينين) في الـ٢٠٠٣ ليروي تجربة مدينة برلين مع الوحدة، من خلال محاولة بطل الفيلم، أليكس، أن يعيد إنتاج برلين الشرقية بعد سقوط جدارها. فبعدما دخلت أمه في غيبوبة، قبيل سقوط الجدار، استيقظت منها في برلين موحدة وجديدة. واعتبر الأطباء أن وضعها الصحي والنفسي لن يتحمل هذه الفكرة – التحوّل، فقرر أليكس أن يعيد خلق برلين الشرقية في منزل أمه ريثما يتحسن وضعها وتستطيع تحمل الحقيقة.
الفيلم يدور حول هذه المحاولة المستعصية لإعادة إنتاج ماضٍ ولّى، معبراً عن صعوبة التأقلم مع الحاضر الجديد، بصرف النظر عن مرور الزمن على لحظة انقضاء الماضي. قد تعبر ملهاة «غود باي لينين» عن صورة الوضع في لبنان مع بداية الثورة في سورية. فالموقف العام يراوح ما بين صمتٍ مدوٍّ إزاء ما يمكن أن يكون أهم حدث في تاريخ لبنان المعاصر، وبروباغاندا داعمة للنظام الدمشقيّ، تنفي أصلاً وجود تظاهرات في سورية. فكأنما الطبقة السياسية اللبنانية وإعلامها يجمعان ما بين أليكس وأمه. فمع استحالة تخيل الحياة مع نظام سوري مختلف، أو لا سمح الله، من دونه، يُعاد يومياً إنتاج تطمينات عن بقاء النظام والإصرار على أن لا شيء قد تغير.
هكذا يتحول طرف سياسي بأكمله إلى «أم أليكس»: غير قادر على تحمل الواقع الجديد، ومحاولاً، مثل أليكس، إعادة اختراع واقع ولّى، في انتظار أن تتحسن حالته النفسية كي يواجه الوضع الجديد.
وقد تتمثّل الحلقة الأخيرة من هذا المسلسل، المعبر عن حالة «عقدة استوكهولم» المسيطرة على سياسيّي لبنان، في تشكيل حكومة «كلنا للوطن كلنا للعمل» الميقاتية. فبصرف النظر عن وظيفتها الإقليمية المتعلقة بالمحكمة والقرارات الدولية، أو الداخلية المتعلقة بتحضير انتخابات الـ٢٠١٣ في شقّها العوني، فإن لهذه الحكومة دوراً أيديولوجياً، إذا صحّ التعبير، يقوم على تأكيد نظرية أن لا شيء قد تغيّر في سورية ولبنان.
فطريقة تشكيل الحكومة وشكلها وعناوينها، كلها تنتمي إلى عهد ما قبل الثورة السورية وتغيراتها. والحكومة الجديدة، كألاعيب أليكس على أمه، تعيد توليد تصرفات ولّت، أو بطريقة أدق، توحي وكأن «عدم التغيّر» المزعوم في سورية يقتضي عدم تغير في السلوك السياسي في لبنان. وربما كان أحد أهم إنجازات هذه الحكومة أنها أتاحت للرئيس السوري بشار الأسد الاتصال بنظيره اللبناني، من دون أن ينتهي الاتصال بأيّ إلحاح من الثاني على الأوّل كي يسرع في إنجاز الإصلاح. ولأنّ كلّ الآخرين الذين يتكلّمون مع الأسد يؤكّدون هذه الفكرة الوحيدة، تغدو مكالمة سليمان معه تذكيراً آخر بمجد لم يعد موجوداً.
فحكومة «كلنا للوطن كلنا للعمل» هي اليوم بمثابة جزء من استراتيجية «أطول علم سوري»، وظيفتها محاولة لطمأنة النفس بأن النظام بخير، وأنه ما زال يستطيع أن يقوم ببهلوانات إعلامية أو تشكيل حكومات في لبنان، وهما فعلان لا يختلف واحدهما عن الآخر كثيراً.
هذا الدور الأيديولوجي لا يعني أن سيطرة النظام السوري على السياسة في لبنان أصبحت خطابية فقط. فمع دخول معظم المحافظات السورية في اللحظة الثوريـــــة، بقيت سيطرة النظام الدمشقي على «محافظتـــه اللبنانية» تامة، لا يتجــــاوز فيها عدد المتظاهرين المعارضين العشرات. فكأن البلد وضع نفسه (مجدداً) خارج التاريخ، يتشوق إلى الرجوع إلى فترة التسعينات السوداء في الوقت الذي ينتقل العالم العربي إلى مرحلة جديدة من تاريخه.
وفي أسلوبها المتخبط المعتاد، بدأت قوى ١٤ آذار معارضتها للحكومة الجديدة، موجهة أصابع الاتهام إلى النظام السوري. ذاك أنه بعد فترة طويلة من ممارسة الغباء السياسي الذي قام على خطة استرضاء ذاك النظام، رجعت هذه القوى السياسية إلى عنوانها الأصلي (أو على الأقل هذا ما يبدو شكلاً، ولا ندري ما إذا كانت ستتراجع أو تكمل في هذا الاتجاه). والعنوان المقصود الصائب، بل البديهي، هو أن لا خلاص لهذا البلد في ظل وجود النظام البعثي في سورية.
هـــذه الفرضيــــة سبق أن شكلت العـــمود الفقري لهذه القوى ولخطابها، أما محـــاولة استبدالها، مرة أخرى، بعنوان مختـــلف فستكون ضرباً من الانتحار أو من الطائفية الرخيصة. فاستعادة لحظة ١٤ آذار الأساسية، قبل الدخول في زواريب الحكـــــم والألاعيب الطائفية، مرهونة بالعودة إلى هذه الفرضية – العنوان. وهذا مع العلم أنه لم يعد ضرورياً التعويل على هذه القوى أصلاً، ولا على ما إذا كانت ستنجح في التقاط هذه الفرصة. فالعودة إلى تلك اللحظة، بعد فترة الضياع، لم تعد مشروطة بقرارات بيت الوسط أو معراب، بل في ما سيحدث في درعا وتلبيسة وتلكلخ. فربيع بيروت لن يتحقق من دون ربيع دمشق، وقد صدق سمير قصير، ولو بعد حين.
الحياة