آداب المائدة والهجوم على الساحل: حسام عيتاني
أثار تقدم قوات الجيش السوري الحر والتنظيمات الإسلامية نحو مناطق في الساحل السوري جدلاً واسع النطاق، بلغ حد إعادة فرز القوى المؤيدة للثورة.
قد لا يكون مصير العملية العسكرية المفاجئة بأفضل من مصائر عدد من العمليات التي شنها الجيش الحر في الشهور الماضية في نواحي مختلفة من سوريا ورمت بمجملها إلى تخفيف ضغط قوات النظام عن نواح كانت تتعرض لهجمات مُركّزة. انتهى أكثر تلك العمليات – التي مُنِحت أسماء فخمة- من دون أن يحقق أهدافه وفقد الزخم اللازم لأسباب تتراوح بين نفاد ذخيرة المقاتلين أو الصراعات بين قادة الكتائب والألوية أو اتضاح استحالة تحقيق الأهداف المرسومة بموازين القوى القائمة.
والأرجح أن الهجوم على الساحل سيتوقف عند نقطة غير بعيدة من مركز انطلاقه، وستظل قيمته، من الناحية التكتيكية المحض، موضع تساؤل وترقّب. فيما بدأت تروج روايات عن طعم أو فخ نصبه النظام لمقاتلي المعارضة لاستدراجهم إلى كمين سياسي وعسكري باهظ الكلفة. وفق هذه الرؤية، سيصطدم المسلحون الذين يكثر بينهم دعاة التكفير، بحقيقة التنوع السوري وستنقلب الانتهاكات والجرائم التي سيرتكبها المهاجمون كارثة سياسية واعلامية على الثورة السورية برمتها، وسيتحول الرأي العام الدولي نهائياً ضد المعارضة التي خسرت الكثير من التعاطف العالمي معها في العام الماضي بسبب بروز التيارات الإرهابية “الجهادية” المرتبطة بتنظيم “القاعدة” أو غيره من جماعات الإسلام السياسي.
ستظهر الأيام صدقية هذه التوقعات أو عدمها. أما ما ظهر على أرض الواقع وبعد سويعات من سقوط بعض قرى الساحل في أيدي القوات المهاجمة، فهو أن الانقسام السوري يزداد عمقا يوماً بعد يوم ويطرح في كل مرحلة أسئلة شديدة الصعوبة عن مستقبل العلاقات بين السوريين أنفسهم.
هذا النوع من الأسئلة سبق أن طُرح في مناطق الشمال الشرقي ذات الأكثرية الكردية التي تعرضت إلى هجوم من قبل مجموعات مسلحة بعضها مشارك في عمليات الساحل حالياً. وفي المناطق الكردية بدا أن هناك من لم يرتقِ إلى مستوى دروس الثورة، وأهمها نهاية زمن الهيمنة والغَلَبة بقوة السلاح وبداية مرحلة جديدة تتأسس على الاعتراف بالخصوصيات القومية والسياسية والثقافية للمناطق السورية المختلفة وخصوصاً للقومية الكردية المضطهدة منذ الأزل.
في منأى عن كل ذلك، يتعين القول إن الهجوم على الساحل السوري يكتسب أهميته من رمزيته ومن قدرته على تغيير الصورة النمطية التي رسخت في العامين ونيف من عمر الثورة السورية. فهو يقول إن الدويلة العلوية التي حُكي الكثير عنها ممنوع إقامتها. والكلام الذي تحول إلى رسم لخرائط ودراسة لقدرة الساحل على تأمين معيشة سكانه، انهار في 24 ساعة. وبدا أن معارك القصير وحمص وريف إدلب التي وضعت في سياق تخطيط حدود الدويلة المقبلة، ذهبت من دون نتيجة.
هل جاء الهجوم بناء على قرار دولي أو إقليمي كبير؟ هل يرتبط بفشل جولة محادثات جرت أخيراً ولم تسفر عن شيء، على ما تقول مصادر عربية؟ هل هو تكريس لاستعادة المعارضة المبادرة العسكرية بعد جملة من التراجعات امتدت من القصير إلى خربة غزالة؟
تدور الأسئلة هذه في الفلك الاقليمي- الدولي للأزمة السورية. أما على مستوى العلاقات الداخلية السورية، فكان ملفتاً التوتر الشديد الذي أصاب بعض النخب المعارضة التي كانت ترفع شعارات “السلمية” والتي رأت في تقدم الجيش الحر إلى القرى التي تتحدر منها تهديداً وجوديا لهاً.
المشكلة الكبيرة مع هذه النخب هو الوهم الذي زرعته في ذهنها وفي أذهان من أصغى اليها عن القدرة على إمساك عصا الثورة من الوسط. أي السير بثورة نظيفة تحتقر السلاح والمسلحين، في وجه نظام لا يتورع عن قتل مواطنيه بالصواريخ بعيدة المدى والأسلحة الكيميائية.
وربما من الفضائل الكبرى للثورة السورية أنها ذهبت في جذريتها إلى أقصى ما يمكن أن تبلغه ثورة. إلى أعمق أعماق التركيبة الاجتماعية- السياسية والمذهبية والمناطقية ليس لسوريا وحدها، بل لكل المشرق العربي. فضحت الثورة هذه كل سخف الثنائية التي رفعها بشار الأسد ورددها بعض معارضيه والقائلة باستحالة الجمع بين العلمانية والديموقراطية. وأظهرت أن العلمانية والديموقراطية مسألتان مؤجلتان إلى ما بعد إسقاط الديكتاتورية والاستبداد. وأن موازين القوى التي ستصوغ شكل نظام ما بعد الأسد تتشكل وفق تأثير وحجم المشاركة في الثورة، في ميادينها الحقيقية لا المتخيلة.
معركة الساحل، وحتى قبل تبلور نتائجها العسكرية والميدانية المباشرة، أسدت خدمة جليلة إلى الثورة السورية بتحطيم خرافة المناطق الآمنة والمعاقل المحصنة وبؤس التبسيط في مشهد سمته الاساسية التعقيد والتركيب، من جهة ، وبالتأكيد على سفه الداعين إلى التمسك بآداب المائدة حتى عندما تكون الوليمة مؤلفة من أجساد السوريين، من جهة ثانية.
موقع 24