آفاق الحل السياسي في الصراع السوري/ د. لؤي صافي
جنيف 2يكثر الحديث اليوم عن حل سياسي للصراع الدموي في سورية والذي راح ضحيته أكثر من مئة وعشرين ألف قتيل من المدنيين وأكثر من أربعين الفاً من مرتبات الجيش. الحل السياسي الذي يحقق أهداف الثورة في الانتقال إلى نظام ديمقراطي تشاوري وينهي نزيف الدم السوري المستمر منذ قرابة ثلاث سنوات هو الحل الأمثل لهذا الصراع. السؤال الذي يدور في الأذهان ويتردد على الألسن هو سؤال الإمكان: هل الحل السياسي للصراع العسكري في سورية ممكن؟
من المفيد قبل النظر في إمكان الوصول إلى حل سياسي أن نتحدث عن معنى الحل السياسي الذي يمكن أن يخرج البلاد من حالة الاستقطاب الشديد بين مكونات المجتمع السوري ويضع البلاد على بداية طريق المصالحة الوطنية، ويسمح بتجاوز حالة الاستبداد وما رافقها من استقطاب طائفي والتي ولدتها ممارسات نظام الأسد منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي.
الإطار النظري للحل السياسي في سورية يعني إنهاء الاقتتال بين قوات النظام وحلفائه من جهة، والكتائب المقاتلة لإسقاطه بمختلف أصنافها واصطفافاتها، والوصول إلى بنية سياسية وآليات عمل مشتركة تسمح بحل الخلافات القائمة بين الأطراف سلميا ودون اللجوء إلى القوة واستخدام العنف لفرض رأي أو رؤية يحملها طرف من أطراف الصراع على الآخر. وهذا يعني بطبيعة الحال نقل القرار السياسي من العسكريين والمقاتلين إلى السياسيين والشخصيات الوطنية التي تمثل القوى المتصارعة. البنية السياسية المطلوبة للوصول إلى الحل السياسي يجب أن تعطي مكونات الشعب السوري المختلفة حيزاً كافياً من الحريات يضمن عدم تحكم أي مكون في الممارسات الاجتماعية والثقافية والدينية للمكونات الأخرى، وآليات العمل المشترك هي آليات القرار الديمقراطي عبر صناديق الاقتراع والمشاركة الحرة في الحياة السياسية.
ثمة تقاطعات كبيرة بين القوى السياسية والاجتماعية المتصارعة على الإطار العام للحل السياسي. فالنظام وأعوانه يتحدثون عن الاحتكام إلى صناديق الاقتراع لاختيار القيادة السياسية، وهم لذلك يطالبون المعارضة بقبول مسألة تحديد مصير بشار الأسد من خلال صناديق الاقتراع. المشكلة هنا أن النظام السوري بتركيبته الحالية غير قادر على إجراء انتخابات حرة ونزيهة من جهة، وأن اختيار النظام لطريق الحسم العسكري للتعامل مع الدعوات الإصلاحية يجعل مسألة القبول بالأسد على رأس دولة ساهم بتدميرها أمراً مستحيلاً.
قوى المعارضة دعت نظام الأسد منذ بداية الصراع السياسي وقبل تحوله إلى صراع عسكري إلى إدخال اصلاحات سياسية ودستورية وبدء حياة ديمقراطية تسمح بالمشاركة السياسية الواسعة وانهاء نظام الحزب الواحد وحكم القائد الرمز المتعالي فوق الحياة السياسية الذي بدء مع تولي الأسد الأب مقاليد السلطة في القرن الماضي. وبطريقة مشابهة، ولكنها بالتأكيد غير مطابقة، تحدثت القوى المقاتلة ذات النزعة الإسلامية عن نظام يقوم على الشورى والانتخابات التي تفرز القيادة السياسية، ولكنها تختلف في فهمها لمعنى الشورى وآليات الانتخاب وصلاحيات ممثلي الشعب (وفق مفهوم أهل الحل والعقد التاريخي) وفق طرح فضفاض لتحكيم الشريعة في الحياة العامة.
ورغم تسليمنا بوجود صعوبات عديدة ومهمة في التوافق على إطار نظري لحل الأزمة، فإن بذور التوافق النظري موجودة، على الأقل على مستوى القيم الأساسية، مثل المساواة والمشاركة والمساءلة والحريات والعدالة الاجرائية والاجتماعية. هذا التشارك القيمي يحتاج بطبيعة الحال إلى تفسير بنيوي وتنظيمي، مما يتطلب دخول الأطراف في حوار واسع ومتعدد المتسويات لتوضيح المفاهيم والتصورات والتعاطي من المخاوف والتحفظات والوصول إلى لغة سياسية مشتركة تسمح ببدء حياة سياسية في المجتمع السوري بعد انقطاع دام نصف قران مذ أن تولى حزب البعث السلطة في البلاد.
الصعوبة الأساسية اليوم في الوصول إلى حل سياسي هو غياب القوى السياسية المؤثرة التي تؤمن بالحل السياسي والقادرة في نفس الوقت على توفير الأجواء السياسية والأمنية، وتسهيل سبل الحوار بين الأطراف المتنازعة للوصول إلى إطار سياسي مشترك ولغة سياسية مشتركة. فالقوى الإقليمية والدولية القادرة على ممارسة هذا الدور تنقسم إلى قسمين: من يسعى إلى حل عسكري ويرى في الحديث عن حل سياسي وسيلة لإطالة أمد الصراع والاختباء خلف موقف أخلاقي لرفع اللوم عنه وعن خياره الدموي، ومن يؤمن بالحل السياسي ولكنه لا يسعى بالضرورة إلى تحقيق تحول ديمقراطي.
فروسيا وإيران تنظران إلى سورية من منظار جيوسياسي باعتبارها منطقة نفوذ ونقطة ارتكاز متقدمة في الصراع مع الولايات المتحدة وحلفائها. التدمير الكبير في البنية التحتية لسورية والخسائر البشرية الهائلة والحالة الإنسانية المتدهورة في البلاد أمور لا تحتل موقع متقدم على قائمة أولويات هاتين الدولتين في الشرق الأوسط. روسيا ترى في سورية قاعدة متقدمة لمواجهة النفوذ الأمريكي وحليف مهم ضد التعاطف “السني” مع الجمهوريات الإسلامية الغنية بالنفط والراغبة بتحقيق مزيد من الاستقلال عن الهيمنة الروسية. وعلى الرغم من أن هذا التعاطف موهوم ومبالغ به إلى حد بعيد، إلا أنه يشكل جزء من المخاوف الروسية من التيارات الإسلامية الناشطقة في المنطقة العربية التي تفهم عادة في روسيا من خلال تجربة حرب الشيشان. في حين ترى إيران في سورية ممراً مهماً للسلاح إلى جنوب لبنان وفي النظام السوري شريكاً لتسهيل توسع النفوذ الإيراني من خلال التوسع العقدي الشيعي ودعم الأقليات الشيعية في سورية والمشرق العربي.
الغرب بقيادة الولايات المتحدة محكوم من جهة أخرى في تعاطيه مع الشأن السوري بالتزاماته بحفظ أمن إسرائيل من جهة والصراع مع المنظمات الإسلامية المتطرفة والمتحالفة مع تنظيم القاعدة. إضعاف نظام الأسد واحتواء البرنامج النووي الإيراني كانا في مقدمة العوامل التي وجهت سياسة أوباما في السنتين الأوليين من الثورة. في حين أصبح هاجس القاعدة وحلفائها في سورية العنصر الأساسي في تحركات الولايات المتحدة الأخيرة فيما يتعلق بالملف السوري، كما كان تزايد تأثير الحركات الإسلامية الدافع الرئيسي لتحركها لإنهاء الحرب في البلقان في منتصف التسعينيات.
الموقف الأمريكي من الصراع السوري أضعف مواقف حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة المتعاطفين مع الثورة السورية، وبشكل خاص موقف تركيا وقطر (حليف تركيا الرئيسي) في التعاطي مع ثورات الربيع العربي من جهة، والسعودية والإمارات العربية من جهة أخرى. الموقف الأمريكي دعا السعودية، المتضرر الأكبر من أولويات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، إلى اتخاذ موقف متمرد على الموقف الأمريكي والذي برز في رفضها للدعوة التي تلقتها لرئاسة الدورة الحالية لمجلس الأمن، والذي قرأه السياسيون السعوديون أنه جائزة ترضية غير مقبولة، وذلك عقب تراجع أوباما عن ضرب نظام الأسد ودخوله في صفقة مع إيران، خصم السعودية الرئيسي. مقالة محمد بن نواف بن عبد العزيز، السفير السعودية في بريطانيا، التي نشرتها جريدة النيويورك تايمز قبل أيام، والتي هدد فيها باستعداد السعودية المضي في الدعم العسكري للثورة السورية، بصورة منفردة ودون الأكتراث بالسياسة الخارجية الأمريكية، تعكس الضيق المتزايد للقيادة السعودية بالسياسات الأمريكية في المنطقة. من الناحية العملية هناك حدود لقدرة السعودية على التحرك منفردة بعيداً عن الخط الأمريكي، نظراً لحاجة السعوديين إلى غطاءأمريكي مع تنامي القدرات العسكرية الإيرانية في منطقة الخليج.
بيد أن قدرة السعودية على التأثير في موازين القوى العسكرية داخل سورية محكومة بعامل آخر يتعلق بالاصطفافات الداخلية للقوى المقاتلة. فالخيار السعودي في الدعم كان موجها بالدرجة الأولى إلى الكتائب العسكرية المنتظمة في الجيش الحر والتابعة إسميا لهيئة الأركان التي يقودها سليم إدريس، والتي لعبت السعودية دوراً أساسياً في تشكيلها. لكن أكبر المجموعات العسكرية التابعة للجيش الحر، وفي مقدمتهم لواء التوحيد ولواء الإسلام، قررت مؤخرا الالتحاق بالجبهة الإسلامية التي تشكلت أساساً من لواء صقور الشام ولواء أحرار الشام المدعومة من قبل قطر وتركيا، والتي أخذت مؤخراً موقفاً رافضاً للائتلاف الوطني السوري.
الائتلاف الوطني، الجبهة الأوسع في صفوف المعارضة السياسية، لم يتمكن من تحقيق مستوى أدنى من التنسيق مع القوى العسكرية الرئيسية في الداخل. بل إن العلاقة بين الائتلاف وهيئة الأركان من جهة، وقيادات الكتائب الإسلامية المقاتلة ازادت توتراً خلال الأشهر القليلة الماضية، بعد أن عجز الائتلاف عن ايجاد آليات للتواصل والتشاور مع هذه القوى نتيجة الاستقطاب السياسي الحاد داخل الائتلاف والذي عكس الاستقطاب السياسي الإقليمي بين القوى الأقليمية المؤيدة للثورة السورية.
تراجع دور القوى العسكرية والسياسية السورية نتيجة تحالفات مع دول إقليمية المتصارعة على الساحة السورية، يجعل الوصول إلى حل سياسي أمرا بالغ التعقيد. ويبدو أن أوراق الحل السياسي انتقلت من أيدي السوريين، سواء كانوا معارضة او نظام، إلى أيدي القوى الاقليمية والدولية التي لم تكن منذ البداية معنية بالتحول الديمقراطي أو الحل السياسي، بل بصراعاتهما الجيوسياسية والاديولوجية. أعمال القتل والتدمير المتزايدة في سورية مع اقتراب مؤتمر جنيف يظهر أن الحل السياسي بالصورة التي بيناها سابقا ليس هو الهم الرئيسي للقوى المتصارعة، بل خوض حرب بالوكالة للدفع بالمشاريع الإقليمية والدولية.
الهوة الكبير والمتزايدة بين قيادات الائتلاف الوطني والجبهة الإسلامية تضعف موقف المعارضة السورية وتنقل الثقل في مفاوضات جنيف إلى الدوليتين الراعيتين لمؤتمر جنيف للسلام. اتفاق الدولتين على عقد المفاوضات لا يعني بأي حال وجود تفاهم تفصيلي حول أهداف جنيف. ففي حين تصر روسيا على أن المفاوضات غير مشروطة وأن كل الخلافات بين النظام والمعارضة قابلة للنقاش، تؤكد الولايات المتحدة، نزولا عند رغبة الائتلاف، بأن المفاوضات تهدف إلى إنشاء هيئة حكم انتقالية بكامل الصلاحيات التنفيذية.
الموقف الأمريكي لا زال يلفه الكثير من الغموض. فوزير الخارجية الأمريكية جون كيري والسفير الأمريكي السابق لسورية، روبرت فورد، يدعمان مطالب الائتلاف، ويدعوان إلى استبدال بشار الأسد والدخول في عملية انتقالية نحو نظام ديمقراطي. ولكن موقف المبعوث الأممي الأخضر الإبراهيمي المتماهي مع الموقف الروسي، والمصر على الدخول بمحادثات غير مشروطة وعلى مشاركة إيران في محادثات جنيف، ورفضه إنفراد الائتلاف في تمثيل المعارضة السورية، يزيد من ضبابية الموقف الأمريكي. ذلك أن قدرة الولايات المتحدة على التأثير في مواقف مسؤولي الأمم المتحدة، وجميع المبعوثين الأممين خاصة في قضايا حساسة بالنسبة للولايات المتحدة، معروف لدى الجميع، ومن المستبعد أن يستطيع الإبراهيمي الاحتفاظ بموقعه كل هذه الفترة دون موافقة أمريكية ضمنية.
ما هو واضح أن إدارة أوباما غير معنية بوقف حمام الدم وعمليات القتل، وليست مستعدة لبذل جهود كبيرة في هذا المجال. بل إن الولايات المتحدة وحلفاءها الغربيين غير معنية بفك الحصار عن المناطق المحاصرة منذ شهور لإنهاء الأوضاع غير الإنسانية في تلك المناطق والتي أدت إلى وفاة العديد من السكان، وخاصة الأطفال، نتيجة نقص التغذية، كما أنها لا تمارس ضغوط مناسبة بالتنسيق مع روسيا للافراج عن آلاف النساء والأطفال المحتزين داخل سجون النظام، ناهيك عن المعتقلين السياسيين، على الرغم من أن هذه مطالب وضعها الائتلاف كشرط لمشاركته في مفاوضات جنيف. هذه بالطبع مؤشرات سلبية على إمكانية الوصول إلى حل سياسي مقبول لأنه لا يعني فقط بأن النظام وحلفاءه غير مكترثين بخلق أجواء تؤدي إلى نجاح المفاوضات، بل أن الولايات المتحدة وحلفاءها لا يملكون الإرادة السياسية للضغط على النظام للقيام بذلك. وبالتالي فإن مشاركة المعارضة السورية في مؤتمر جنيف لن يؤدي إلا إلى إعادة الشرعية الدولية لنظام سياسي يفترض أن يواجه تهما دولية بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، كما طالبت مرارا رئيسة مفوضية حقوق الإنسان الدولية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة.
هذا يعنى أن جنيف لن تشكل مخرجاً من الصراع الدموي في سورية وأن قدرة المعارضة السورية على الضغط على النظام وحلفائه وإرغام المجتمع الدولي على اتخاذ مواقف أكثر جدية يتوقف على قدرتها على العمل كجبهة واحدة والوصول إلى تفاهمات تؤدي إلى تكامل العمل السياسي والعسكري. مع الأسف هذا المشهد لا يزال بعيد الاحتمال نتيجة للاستقطابات الحادة داخل أروقة المعارضة السياسية والعسكرية، واستمرار الاصطفاف الإقليمي وغياب الراعي الدولي الملتزم بالتحول الديمقراطي في سورية.
توحيد صفوف المعارضة السياسية والعسكرية يمثل الأمل الوحيد المتبقي لتغيير الحراك السياسي الحالي وفرض واقع سياسي وعسكري جديد يدفع بالقوى الدولية إلى قبول عملية التحول الديمقراطي، وممارسة الضغوط اللازمة على نظام الأسد للوصول إلى حل سياسي ينهي الاستبداد ويعلن بداية الحياة السياسية الحرة والكريمة في سورية.
فهل يرتفع السياسيون والثوار السوريون إلى مستوى المسؤولية الوطنية والتاريخية؟
http://safireflections.wordpress.com/2013/12/22/%D8%A2%D9%81%D8%A7%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A/