أبراج عاجية من أجل سورية/ صبحي حديدي
يُقال ـ ليس دون وجه حقّ، وليس بمعزل عن تجارب الواقع، وبراهين مقترنة بوقائع حاسمة فاصلة ـ إنّ من الحكمة ابتعاد الفلسفات الكبرى، وكبار ممثّليها استطراداً، عن التفلسف حول قضايا سياسية واضحة؛ خاصة تلك التي تنطوي على مزيج من أقصى المآسي وأقصى الآمال، كما في الانتفاضات الشعبية ضدّ أنظمة الاستبداد والفساد، ونماذجها العربية الراهنة بصفة خاصة. وقد يصحّ انطباق هذا القول، في المثال الأحدث عهداً، على الفيلسوف السلوفيني والناقد الثقافي الشهير سلافيو جيجيك؛ بصدد تنظيراته لخصائص ‘الربيع العربي’ عامة، والانتفاضة السورية مؤخراً، بمناسبة احتدام الأجواء حول احتمال ضربة عسكرية ضدّ النظام السوري.
ففي مقالة بعنوان ‘سورية صراع زائف’، نشرتها صحيفة الـ’غارديان’ البريطانية قبل ثلاثة أيام، كتب جيجيك: ‘كلّ ما كان زائفاً في فكرة وممارسة التدخل الإنساني انفجر بشكل مكثف بخصوص سورية. حسناً، هنالك دكتاتور سيء يستخدم (كما زُعم) الغاز السامّ ضدّ سكان دولته ذاتها ـ ولكن مَن الذي يعارض نظامه؟ يبدو أنّ ما بقي من المقاومة الديمقراطية ـ العلمانية غارق الآن، كثيراً أو قليلاً، في فوضى المجموعات الإسلامية الأصولية التي تساندها تركيا والمملكة العربية السعودية، مع حضور قوي لمنظمة القاعدة في الخلفية’. وفي المقابل، واستكمالاً للصورة الموازية، على جانب النظام، يتابع جيجيك: ‘سورية بشار الأسد ادّعت أنها دولة علمانية على الأقلّ، ولهذا فلا عجب أنّ المسيحيين والأقليات الأخرى تميل اليوم إلى الاصطفاف معه ضدّ المتمردين السنة’.
سكت جيجيك دهراً، إذاً، عن وقائع الانتفاضة السورية (هذه، بالمناسبة، أوضح مساهماته حول ملفّ يتفجر منذ 30 شهراً)، ثمّ نطق سردية تبسيطية مسطحة وسطحية، أسوأ من الكليشيهات الأردأ التي ساقها النظام ذاته في توصيف الصراع. ولهذا فإنّ الأسد، عند جيجيك، وليس قاتل أطفال وقائد ميليشيات وآمر مجازر جماعية، ومسلِّم سورية لوحدات ‘الحرس الثوري’ الإيراني و’حزب الله’ وغلاة الطائفيين الأجانب. هو، أيضاً، ليس ‘العلماني’ الزائف، وريث نظام قام على التزلف للأديان، وتجنيد الطوائف، واعتماد سياسات التمييز والتفريق والمحاباة، ، في آن معاً؛ بل هو، ببساطة، محض ‘دكتاتور سيء’… التوصيف الوحيد الذي يطلقه فيلسوف عصرنا، على أحد أشرس طغاة عصرنا!
فاضح، أكثر، أنّ جيجيك يبدو كمَن أعاد النظر في أطروحاته السابقة، والمبكرة التي اقترنت بانتفاضتَيْ تونس ومصر تحديداً، حول الدور ‘التحرري’ الذي يمكن أن يلعبه الإسلام السياسي؛ ونقده، المكمّل، للتنميطات الغربية التي وحّدت الليبراليين والمحافظين الجدد، حول التشكيك في القوى الإسلامية داخل تلك الانتفاضات. إنه اليوم لا يرى، في سورية مثلاً، ذلك الاجتماع السياسي والاقتصادي والإثني والثقافي المعقد، الثائر على نظام استبداد وفساد معقد وتعددي المكوّنات بدوره، في برهة تاريخية محلية وعربية وإقليمية فارقة ومعقدة هي أيضاً؛ بل يكتفي بما يفعله أي مراقب خامل كسول، مدمن على التمثيلات المسبقة الكسيحة: أنّ الصراع في سورية يدور بين النظام (بوصفه حامي الأقليات) من جهة، وجموع السنّة (ولا يتذكر جيجيك أنهم أغلبية الشعب الساحقة)، من جهة ثانية؛ وهو، إلى هذا، صراع زائف أيضاً!
والحال أنّ مقالة جيجيك هذه تعيدنا إلى زميله المفكّر الفرنسي ما بعد الحداثي جان بودريار، الذي كتب مقالة شهيرة بعنوان ‘حرب الخليج لن تقع′، قبل اندلاع عمليات ‘عاصفة الصحراء’؛ اعتبر فيها أنّ ‘حرب الخليج لن تبلغ الدرجة 2 أو 3 على مدرّج ريختر لقياس الزلازل، فالتصعيد غير حقيقي وأشبه باختلاق الزلازل عبر إساءة استخدام معدّات القياس′. ثم كتب بودريار مقالة ثانية، لم تصبح أقلّ شهرة في الواقع، بعنوان ‘حرب الخليج لم تقع′، وذلك بعد أن اختتم الحلفاء ستة أسابيع من القصف غير المسبوق في العراق: صواريخ من كلّ الأنواع تُطلق من البحر أو الجوّ، وطائرات مقاتلة بعيدة المدى، وأخرى لا تُرى بالرادار، وقاذفات وحوّامات مضادة للدروع، ومدفعية أرضية، وقنبل فراغية، وخارقات دروع خرافية…
كلّ ذلك تحت سمع وبصر مشاهِد تلفزة كوني، أتيح له أن يتابع دقة إصابة الهدف على شاشات تذكّر بلعبة الـ’نينتندو’؛ ومع ذلك أصرّ بودريار أنّ مرصده الفلسفي، المنتصب أعلى برجه العاجي، لم يبصر من تلك الحرب إلا ‘الهلوسة الجماعية’ فقط! صاحبنا جيجيك، موضة هذه الأيام، كما كان بودريار موضة مطالع تسعينيات القرن الماضي، لم يبصر حصيلة انتفاضة شعبية أسفرت، حتى الساعة، عن أكثر من 120 ألف ضحية، و215 ألف معتقل، وقرابة مليونَيْ لاجىء؛ ونظام استخدم القاذفة والحوامة والدبابة والراجمة والزورق الحربي والمدفعية الثقيلة والصاروخية، بما في ذلك صواريخ الـ’سكود’، فضلاً عن أسلحة الدمار الشامل…؛ وأبصر، من برجه العاجي المتسامي، أنّ الصراع… زائف!
‘كمأساة أوّلاً، وثانياً كملهاة’، عنوان اختاره جيجيك لأحد أعماله، مستعيداً عبارة كارل ماركس الشهيرة حول عاقبتَي التاريخ حين يشاء تكرار دروسه أحياناً؛ ومنطلقاً منها في رصد مفارقات النظام الكوني خلال العقد الأوّل من هذا القرن. وليس يسيراً أن يقاوم المرء إغراء استعارة العنوان إياه، في توصيف هذا الطراز من التقلبات التي انساق إليها أمثال جيجيك، منذ أن داهمتهم الانتفاضات العربية من حيث لم تحتسب مراصدهم، في أبراجها العاجية العالية!