أبعد من انصرام عام وابتداء آخر: وقتنا الفوضوي المعقَّد اللاهث وقد حان تفكيكه/ دلال البزري
عندما كنا «تقدميين»، نحمل هذه الصفة الحميدة التي تنطوي على نوع من الثورة ضد الزمن الموروث البطيء، كانت الصفة المرذولة بيننا هي «التخلف». وهي تعني بأننا متأخرون، وبأن زمننا نحن، عليه ان «يلحق»، أن يسرع، أن تصبح وتيرتنا كوتيرة الغرب، المتقدم، لأنه أسرع. وحركة الغرب السريعة هذه، التي مكّنته من السيطرة على العالم، كانت طلائعها قد ظهرت مبكراً مع سكك الحديد، ومن بعدها الآلات على البخار، ثم الطائرة وغيرها الآلاف من الآلات الأخرى كالسيارة والغسالة والجلاية والطباخة على الغاز… وكلها تريد ان توفر الوقت، أن تجعلنا أسرع، فأسرع.
وفي الطور الثاني من هذا التطور، الرقمي، مع الشبكة الانترنتية وكل منتجاتها الفرعية، صار الوقت واحدا بين البشر كلهم، وتسارعت استعمالاته وتفرعت هي الاخرى، فحلّ «المباشر» و»الفوري» و»الحيّ» و… صاروا كلهم النمط السائد والواعد بالمزيد، في تنظيم علاقات البشر ببعضهم. يحصل كل ذلك بعدما نسينا صفة «التقدمية» القديمة، وانجررنا الى تيار الشبكة الجارف السهل، وأحببنا أوهام العظمة التي يدرها على سرائرنا من غبطة بأنفسنا.
ولكن قبل ذلك، كان الغرب، المصدر الأول للزمن الجديد يعاني من إنجازاته: خرج من بين نقاده من يمدح البطء، بعدما علا التنديد بذاك التسريع غير الإنساني للوقت، بتلك الصعوبة التي يجدها الإنسان المعاصر في القيام بكل هذه المهمات في وقت واحد، بالمدن التي تعمل، بفضل للكهرباء، وهذا عنصر آخر من عناصر تسريع الوقت، أربع وعشرين على أربع وعشرين، وسبعة أيام في الأسبوع… المدن التي تنام وتعمل وتتسلى في وقت واحد متواصل، بعدد الساعات المتراجعة، سنة بعد أخرى، من أوقات نوم سكانها، بذاك الافتتان بالسرعة وبذاك الاشمئزاز الذي يثيره البطء، بالصعوبة التي يجدها المواطنون بدمج الأوقات المختلفة للحياة اليومية، بالسيطرة على تسارع وتائر الحياة، بالتفاعل الشديد مع احساس قوي بنقص الوقت والشعور الدائم بحالة من الطوارئ مع الوقت، إذا جاز التعبير.
أما مع شبكات التواصل واخواتها، فان تحولات انثروبولوجية عميقة، ليس أقل من ذلك؛ هي المتوقعة على المدى القريب جدا؛ تبدل طبيعة العلاقة بين الناس، بين العشاق، بين المناضلين، الذين أصبحوا «ناشطين»… وقد بدأت طلائعها تظهر مع مبادرة مجموعات من الشباب في الجامعات الأميركية بمقاطعة الفايسبوك بعدما شعروا بأضراره على وتيرة حياتهم الواقعية وعلاقاتهم الاجتماعية والعاطفية، وقدراتهم على التجريد…
أما نحن، في ربوع الحروب والفتن والفوضى، فماذا نقول لو توقفنا قليلا وقسنا المسافة بين لهفتنا الهستيرية باللحاق بالزمن الجديد، وقت كان مثل الجنة الموعودة، وبين الآن، حيث غابت الرغبة التقدمية تماما، وحلت محلها العولمة، التي وحدت البشر واختصرت أوقات الصلات بينهم؛ فأوهمت، مجرد وهم، بأن البشرية إنما تسير على وتيرة واحدة…؟
في ربوعنا هذه، حصل أمران متوازيان بأثرهما، ومتفاوتان في أوقات «نزولهما»:
الأول طبيعي، وقوامه انه كلما حصلنا على واحدة من آلات اختصار الوقت، ضاق وقتنا. ولكن هامش الوقت كان أضيق عندنا، بحيث ان وقتنا الضائع نتيجة هذه الآلة، هو ضعف الوقت الضائع عند الغربي. خذْ مثلا اقتنائنا للسيارة وحدها، وقد نمى واستشرى من دون حساب أي شيء؛ لا ضيق الشوارع ولا فوضى العمران ولا غياب القانون ولا عقوبات للمخالفين، ولا تسلّي شرطي السير بهاتفه أو بقريبه، تحت شجرة وارفة وحيدة… بحيث صارت السيارة المفترض انها تختصر الوقت، صارت هي بزحمتها وغرقها في الطرق، متسبّبة في هدر الوقت. قسْ على ذلك في بقية مجالات تسريع الوقت. حتى الآن، خسرنا فوق الوقت الناجم عن تسريعه، الوقت المهدور نتيجة غرسه في بيئة يفترض انها تنظمه، فاذا بها تصيبه بالدوار.
في الخط الموازي، هذا الوقت الجديد الآتي من الخارج، جاء ليتطعّم ببيئة، لها وقتها الأصلي، الذي يتناقض معه: وقت ورثته عن زمن آخر، «اندمج» بالوقت الجديد، فكانت النتيجة وقت هجين، تتزاوج فيه التقاليد المفرملة للوقت الجديد، مع هذا الوقت الجديد تحديداً، لتثمر حالة من الضياع للأوقات، أبهى تجلياتها هو ذاك المزيج المريح الذي تعتمده كل التيارات الأصولية الاسلامية، بين وقت الرسالة المحمدية ووقت بث الفيديو على اليوتيوب. أوضح تعبير عن هذه التجليات، هي تلك الطلّة الما بعد حداثية للخليفة ابو بكر البغدادي، يعلن فيها، بضبط شديد للصوت والصورة والإخراج، المعاصرين كلهم، وبعناية أشد في بثها على الشبكة، محرِّكا معصمه بساعة «الرولكس»… يعلن بأنه سوف يعود إلى زمن كان الوقت فيه يُحسب بتبدلات القمر والنجوم، وكانت المعارك فيه تحصل بالسيف والجمل والحمام الزاجل، والخيم والبادية والقبيلة…
الوقت الذي نعيشه اليوم نحن أبناء هذه المنطقة، توحَّد افتراضيا مع العالم، ولكنه واقعيا يعيش مزيجا من ثلاثة أوقات، معقّدة متداخلة، متضاربة، هوجاء، كأنها إعصار يسهب في بعثرة مكوناتها. وإذا ما قورن بالوقت الغربي، الذي يحتج عليه ناقدوه بصفته ركضا سريعا نحو الموت، فان وقتنا، «الشرقي»، يعيش داخل الموت، ينبئ يوميا بالموت، يجرّك الى الموت. انه وقت مهدور، مثل حيوات أصحابه، ولكنه أيضا وقت ممزق، معقد، تعيس، مسموم، لا يسعك معه لا التأخر ولا الإسراع. وقت مشلول بما هو أقوى من كل شيء. والأتعس من كل ذلك انه وقت غريب عن صاحبه. مثل الآلة الغريبة عن العامل، عدوته، في فيلم شارلي شابلن «الأزمنة الحديثة»؛ الفرق الوحيد معه ان غربة الآلة استبدلت بغربة الوقت. وهي ربما أقصى الغَرَبات.
قد تكون واحدة من طرق حريتنا المتعرجة، تفكيكنا لهذا الكائن الغريب الذي اسمه وقتنا. تفكيك تواريخه وظروفه وتعبيراته ومعانيه وتحليل قدرته على إضاعة وقتنا الحالي والقادم، وقت سعادتنا؛ التقاط مستويات هذه الاضاعة، مستويات المعيوش اليومي، ومستويات حولياتنا السياسية المقررة لاستقرارنا وازدهارنا وثقتنا بأن المستقبل ممكن. وهذه عملية تحتاج الى أكثر من باحث ومحلل وفيلسوف؛ انها ورشة فكرية قائمة بذاتها، تزاوج بين أكثر علوم الإنسان انكبابا على التفاصيل، أي الانثروبولوجيا، وأوسعها أفقا، أي التاريخ. والفكرة ان هكذا سبر في أغوار الوقت قد يساعدنا على تحديد معنى وقتنا العضوي، على غرار «المثقف العضوي» لأنطونيو غرامشي؛ «الوقت العضوي»، أي الوقت الذي ينظر إلى كل تعقيداتنا الواقعية، المعطوفة على الثقافية، المتجسدة في حكاياتنا ومسارات حيواتنا وتجاربنا الشخصية، التي لا يمكن إلا ان تكون عامة أيضا، أي سياسية.
إذا تمكننا من وصف هذا «الوقت العضوي»، نكون قد وصفنا أنفسنا على نطاق واسع. نكون على درجة من الإدراك الأعلى لحريتنا؛ الإدراك… على الأقل.
المستقبل