أجساد سوريا العميقة وأرواح سوريا الظاهرة
ياسين الحاج صالح
طوال أكثر من جيل كان للسوري فم يأكل وليس له فم يحكي، على ما يقول مثل شعبي سوري عن مثال الكنّة الصالحة في عين حماتها. في “مملكة الصمت” السورية كان المواطن الصالح كنّة النظام، يأكل ويسكت، فإن نطق قال كلاماً مكروراً، خاوياً من المعنى والحس الشخصي.
مثال المواطن الصالح هو معلّم المدرسة في قرية “الماشي”، على نحو ما صوّره المرحوم عمر أميرالاي في فيلم “طوفان في دولة البعث”. المعلّم مجرد محل سلبي للكلام الصحيح الذي ينتجه النظام، ويعممه عبر “الحزب” و”المنظمات الشعبية” ووسائل الإعلام على “الإخوة المواطنين”. هذا الكلام الواحد يلغي شخصية متكلمه، يحجُبه ويحجِّبه.
الكلام الواحد لم يجرّد السوريين من أرواحهم الخاصة، بل جرّدهم أولا من أجسادهم الكثيرة المختلفة. “الروح” شخصية الجسد، والسوري المتوسط كان كائناً بلا روح لأنه بلا جسد شخصي. لا وجه له، أو هو بوجه مقلوب، مندار إلى الداخل إن جاز التعبير، كأنما يتوارى داخل نفسه. عيناه منكسرتان، لا ضوء فيهما، ولا تنظران إلى الغير مباشرة. صوته خافت، لا مثلوم الحد. جسده ككل منكمش على نفسه، كأنما يريد إشغال أقل حيز ممكن من المكان. وهو منسحب من مساحات الآخرين، أيّ كل ما هو خارج النطاق الخصوصي.
الثورة أطاحت صمت المملكة وهتكت حجابها. ما ظهر من وراء حجاب الكلام الواحد هو الأجساد الكثيرة. أجساد الرجال بخاصة لأن حجابهم سياسي. أما أجساد النساء فحجابها ديني أكثر، وظهورها لذلك أقل. لكنها شقّت دربها مع ذلك إلى فضاء عام، صار محررا أكثر بفضل هذه الاختراقات الجسورة. لم يسبق أن خرجت نساء إلى الفضاء السوري العام، وشاركن في اعتراض عام عالي الخطورة، أكثر مما خلال الثورة السورية.
في الفضاءات المحررة، تتجمع الأجساد وتعلو الأصوات وتنفلت الانفعالات من قيودها. في الوقت نفسه يجري تدنيس المقدسات السياسية للنظام بابتهاج احتفالي. هذه رمزت على الدوام الى مصادرة أجساد السوريين وترويضها. لذلك يقترن استرجاع الأجساد بتحطيم أوثان النظام، الصور والتماثيل، وهي “فزاعات” من حيث الوظيفة، تدل على الحضور والرقابة الكليتين للنظام. وحيث لا توجد أيقونات النظام توجَّه اللعنات الى أسماء أربابه. الثورة نهاية دولة ونهاية دينها أيضاً.
ثائرين اليوم، يستخدم السوريون أجسادهم بوفرة في التظاهرات، يطلقون الأصوات الهاتفة أو المهللة العالية، وحركات أيديهم تتحرك متباعدة عن الأجساد، معبّرة عن العزم أو ساعية للتشابك مع أيد أخرى، كأنما تريد إشغال أوسع مساحة ممكنة من المكان. الوجوه جسورة والعيون الشجاعة المستقيمة النظرات. ينتهكون حظر الكلام، وحظر التجمع، وحظر الانفعال الجمعي في الفضاء العام. ويحصل لبعضهم أن ينتهكوا احتكار النظام للسلاح أيضاً، فيكسرون احتكاره للعضلات وللعنف الجسدي.
هذا ما لا يكف عن القيام به طوال 14 شهرا السكان غير المرئيين لسوريا العميقة أو المحجوبة.
من سوريا العميقة هذه سقط ألوف الضحايا وعشرات ألوف المعتقلين الآن وعشرات ألوف من تعرضوا مرة ومرات للاعتقال والتعذيب والسجن. هذا الجمهور هو الذي اكتشفه العالم، واكتشفه السوريون قبل غيرهم، وصاروا يعرفون أسماء مدنه وبلداته وأحيائه وقراه. وهو بالطبع الذي كان أُسدل على وجهه حجاب سياسي سميك، نسجه النظام بأجهزته الأمنية والحزبية والبيروقراطية، ومعه حجاب ثقافي لا يقل سماكة، تبرّع به وكلاء النظام الإيديولوجيون، أو المثقفون العضويون لكتلته التاريخية.
الواقع أن توظيف الجسد هو العلامة الفارقة الكبرى لهذا النمط “الشعبي” من المشاركة في الثورة والانفعال بها. ثمة نمط آخر لا جسدي، يميز عموم المشتغلين بالشؤون العامة السياسية والثقافية. يتعلق الأمر هنا بمثقفين ومتعلمين من الشرائح الدنيا والوسطى من الطبقة الوسطى، بكتّاب وفنانين وناشطين سياسيين، يجدون في الكتابة في الصحف أو في المواقع الاجتماعية أو في الظهور في وسائل الإعلام، مجالات للتعبير. وقد أمّن الإعلام الجديد ووسائل الاتصال الجديدة مساحات ظهور معقولة للمعارضين الداخليين “العلمانيين” منذ مطلع القرن، أدرجت أكثريتهم عمليا في “سوريا الظاهرة”، وإن كقسم مَسُود، ولم يعودوا فاعلي تغيير سياسي حقيقي بأي معنى. لكن ما أدرجهم فعليا في سوريا الظاهرة هو “خفة الكائن التي لا تطاق”، وقد أصابتهم بفعل فقدان الأجساد خلال ربع القرن الأخير. بفعل الاعتقال المديد، والتقدم في العمر، وتدهور القدرة التعبوية لمنظماتها، كانت الأحزاب القديمة (ومن أوساطها كاتب هذه السطور) تمارس السياسة من دون أجساد، أي في الواقع من دون سياسة. والسنوات المنقضية من هذا القرن هي سنوات بحث الأرواح الهائمة عن أجساد شابة مناسبة، وهو بحث سجل إخفاقا ثابتاً ومتكرراً. السبب على الأرجح قدم الأرواح.
ما يميز نمط الانفعال غير الجسدي في سوريا الظاهرة أن انشغاله داخلي أكثر، ينشغل كثيراً جداً بمواجهة أشباه في سوريا الظاهرة، ويكاد يشارك النظام في عدم رؤية سوريا العميقة. طوال الحكم الأسدي، حجبت سوريا العميقة عن المجال العام، وحجبت المعارضة عن سوريا العميقة. المعارضة التي لم تعد ترى غير النظام، وغير شركائها في سوريا الظاهرة، اقترن عجزها في مواجهة النظام على الدوام بتجاسر شديد على الشركاء المفترضين في المعارضة، يتفوق في صريح مقوله وفي شحنة نبراته غالبا على أقسى ما يقال عن النظام. هذا الصراع الداخلي يجعل مشهد القسم المسود من سوريا الظاهرة أقرب إلى مشهد حرب أهلية، بدون سلاح، لكنها بالغة الضراوة؛ أما مشهد سوريا العميقة فهو مشهد ثورة ضد الأسياد، و”السيد الرئيس” بالاسم، تخاض بالأجساد العزلاء أو المسلحة. الفارق الحاسم أن من يورطون أجسادهم في الصراع يموتون. سقط منهم نحو 12 ألفاً خلال 14 شهراً. أما من يبقون بعيداً فلا يموتون طبعاً، ليس هناك شهداء من الأحزاب القديمة ولا من المثقفين القدامى والجدد. لكن يبدو أن هؤلاء الأحياء عاجزون عن بث الحياة في أي شيء.
خروج المعارضين التقليديين من السياسة يشرح أن الثورة تفجرت في عالم غير عالمهم وبعيداً عنه، ويفسر أكثر أن أشد انفعالات هذه الأرواح الأثيرية موجهة ضد بعضها. الأجساد لها مصالح، وقد تتوصل إلى تفاهمات سياسية. الأرواح لها مبادئ، والمبادئ لا تتفاهم، ولا سياسة تجمعها. وبالفعل يبدو الصراع بين الأرواح تناحرياً، وإن لم يكن مسلحاً بفعل قلة الأجساد.
التعارض بين الثورة والمعارضة التقليدية في سوريا متأصل في التباعد بين سوريا العميقة وسوريا الظاهرة. سوريا الأولى “مادية”، على رغم أنها مكوًنة بصورة أساسية من مؤمنين ومتدينين، فيما سوريا الثانية “مثالية”، مكوّنة من أرواح وأشباح تعيش يائسة ومعذبة في عوالمها الخاصة، محرومة بلا نهاية من الجسد.
بين السوريتين ما يشبه جدلية السيد والعبد. السوريون الماديون يعملون على تحرير أنفسهم بالمجازفة بالأجساد، فيما السوريون المثاليون يعجزون عن التحرر لأنهم بلا أجساد. بصراع جسدها مع جسد النظام تنتج سوريا العميقة معاني وقيما، وتنمو في حناياها أرواح حرة، فيما تناور أرواح مثاليي سوريا الظاهرة لسكنى أجساد غيرهم، دونما نجاح.
النهار