صفحات مميزة

المَسألة الطائفية في سوريا


جان عبدالله

تسييس الطوائف وتطييف السياسة

من أهم الفوارِق الفعليَّة بين الأنظمة التوتاليتاريَّة المركزيَّة الأوروبيَّة (الفاشيَّة والنازيَّة) والأنظمة التوتاليتاريَّة العربيَّة (البعثين السوري والعراقي)، علاقَةُ المُركَّب السلطوي الحاكم بالمكوِّنات الأهليَّة الأوَّليَّة السابقة على الدولة،إذْ استطاعت النازيَّة وظيفيَّاً التحايُل على النزاع البروتستانتي – الكاثوليكي، و ذلك بتأجيجِ حماسةٍ قوميَّة للعرق الآريّ “الحديث” أزاحَت الحساسيَّات الكامنة في الدين المسيحي “القديم”، فالتقى بذلك المزاجان البروتستانتي والكاثوليكي في دعم النازيَّة، واستطاعت بذلك الحركة القوميَّة الاشتراكيَّة بتحديث التنابذات الأهليَّة وتحقيق وحدة وطنيَّة عابرة للشقوق المجتمعيَّة عن طريق صبِّ الالتهابات الأهليَّة في حركة يمينيَّة جامعة مليئة بالتقاليد الرجعيَّة يقودها هتلر. بعكس التوتاليتاريات العربيَّة التي كانت مُندخلةً في الصلب الاجتماعي وطَرفاً في الصراع الأهلي وأمعنت في تفسيخ النسيج الوطني،علاوة على ذلك فإنَّ ما أدَّى إلى انقِشاع الأيديولوجيا وظهور النواة السلطويَّة بعريِّها الطائفي المحضْ في التوتاليتاريات العربيَّة هو هَشاشةُ التأسيس النظري الأيديولوجي المتمثِّل بضعف الطاقة التخيُّليَّة التحويليَّة (الأداةُ الحديديَّة التي تحوُّل الواقع إلى ما ينبغي أن يكون) في الذهنيَّة الكليانيَّة المتسلِّطة، فهل يستطيع أحدٌ أن يقارن نصوص ميشيل عَفلق الخطابيَّة الحماسيَّة بالمناظرات العميقة بين ستالين وتروتسكي ؟!، أو المساواة بين “الكتاب الأخضر” الممل وكتاب “كفاحي” لأدولف هتلر؟! (أنظر كتاب”قضايا قاتلة” للمعلِّق اللبناني حازم صاغيَّة الصادر عن دار الجديد)

ومنه، فلا توجد محدِّدات جوهريِّة أصليَّة في جذرِ أفراد المجتمعات المشرقيَّة تجعلهم طائفيّين أشرار،كنتيجةٍ قدريَّة وأزليَّة لتعدديَّة دينيَّة ومذهبيَّة ستؤدِّي حتماً إلى حربِ أهليَّة، والطائفيَّة ليست عاهةً بنيويَّة كامنةً في جينات هذه الشعوب، وذلك في محاولات بعض المفكِّرين والمستشرقين لخلْقِ ديناميكيَّةٍ ذاتيَّة ثابتة على الزمن وعصيَّة على التاريخ، في وعي هذه الطوائف تعيدُ إنتاج الطائفيَّة باستقلاليَّة مُطلقة عن ممارسات السلطة السياسية الحاكمة في تلك اللحظة التاريخيَّة. من الممكن أن يستيقظ الشعور الطائفي نتيجة لتراكب الفروق الدينية والمذهبية مع فروق اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية(انظر “الطائفية والسياسة في سوريا” لياسين الحاج صالح في كتاب “نواصب وروافض” من إعداد حازم صاغيَّة الصادر عن دار الساقي)، أي التمازج بين التموضع الطبقي والانتماء الطائفي (ريف مهمل مقابل مدينة مُخدَّمة، غنى وفقر، تمثيل واسع في المؤسسات الرسميَّة مقابل حرمان في التمثيل)، لكن المسألة الطائفيَّة في الحالة السوريّة مرتبطةٌ في العمق بفشل الجهاز السياسي الحاكم( المولِّد الأساسي للطائفيَّة) في نقل الصراع من “رَحْبَة” المجتمع حيث العنف الفعلي إلى “حرم” السياسة حيث العنف الرمزي، وبالتالي الاقتراب من العصبويَّة السلطويَّة الخاصة والابتعاد عن منطق الدولة العموميَّة في أصول الحكم.

“ترييف المدن” أهم عوامل المسألة الطائفية

أدَّى المَزجُ المحكم بين الليبراليَّة الاقتصاديَّة والتسلُّط السياسي إلى ضعف الطاقةِ الدمجيَّة للمدن الكبرى،فحصلَ أخطر تشوُّهٍ اجتماعي في تاريخ سوريا المعاصر(له دورٌ لا يستهانُ به في خلق “حالة طائفية”) ألَّا وهو عمليَّة “ترييف المدن”، يعرِّفها علماء الاجتماع الفرنسيون “عمليَّة إراديَّة عاجلة يغزو فيها عرفُ العشيرة التقليدي قانونَ المدينة الوضعي، تقل بسببها فرص الاندماج الخلاق بين العناصر الوطنية، وترقُّ سماكة الطبقة الوسطى، ويزدادُ تركّز الثروة بيد أقليَّة اقتصاديَّة،و تظهرُ أحزمة أحياء عشوائيَّة حول المدن”، وكانت الأيديولوجيا الاشتراكية السلطويَّة (من هنا أيضاً سبب بقاء الخطاب الإيديولوجي الاشتراكي السلطوي زراعيَّاً و حرفيَّاً بسبب انطلاقه من الريف بالمقارنة مع الخطاب الإيديولوجي النازي المؤدلَج و المصنَّع) بشحنَتِها الطهرانيَّة والطوباويَّة خير حاملٍ للحقد التاريخي المتراكِم في ذات الفلاح المُهمَّش على تشاوُفِ و تباهي عاصمة الأمويين، وبقي لدى الأقلَّوي هاجسٌ نفسيٌّ بالتهديد والتوجُّس، إذْ كان لديه الإدراك الكافي بأن الهويَّة الأهليَّة لا الكفاءة الفرديَّة توسَّلت لتقلُّد المنصب الحالي، وبأنَّ الموقع الرسمي في تراتبيَّة الدولة لم يأت نتيجة تطوُّر طبيعي تدريجي بل ثمرة استثناءٍ شاذٍّ وظرفي، فزاد التباعد بين الأقليَّة العلوية (الأقليات عموماً) والأكثريَّة السنيَّة، حيث بقي المجتمع السني السوري سديميَّاً و غامضاً و مهدداً، وهنا حصل التماهي الشبه التام بين الأوليغارشيا العسكرية الحاكمة والأقليَّة العلوية.

علاقة تشظِّي الأيديولوجيَّات بالانقسامات العموديَّة:

والحال فإنَّه أيَّة أيديولوجيا شعبويَّة تصبح قاطرةً لمكوِّنات قبليَّة، من هنا ثمَّة تشويشٌ يجري التكتُّم عليه دوماً في النتاج السوري المكتوب، مفاده صعوبةُ الفصل بدقَّة على مستوى النخب بين الأهلي المجتمعي والسياسي المدني، تمحُّصٌ و مقارنة بين الخيارات الأيديولوجية والمنابت الأهليَّة في الحالة السوريَّة، سيظهرُ أن كثيراً من الخيارات الفكريَّة لم تكن بريئةً عن الانتماءات الأهليَّة، وإلا ما المعنى أن أغلب العلمانيين والمطالبين بفصل الدين عن الدولة هم من الأقليَّات؟، وأن أغلب الذين يطالبون بالديمقراطيَّة وبحكم صناديق الاقتراع هم من الأكثريَّة الأهليَّة؟!، أليسَ الانحيازُ الإيديولوجي هنا ردَّةُ فعلٍ فكريَّة الطابعِ أهليَّة الدافع؟، وبأن الأيديولوجيا مرآةٌ لتضخيم الذات المجروحة المذعورة على الصُّعد الاقتصادية والسياسية والاجتماعيَّة، طبعاً هذا الافتراض ليسَ قانوناً قطعيَّاً، ولا علاقة للعلمانية والديموقراطية كمفاهيم كونيَّةٍ نظريَّة مجرَّدة بهذه التكوينات المجتمعيَّة، ولكن الاشتباك بين الكوني العام والتاريخي الخاص كان مشوَّهاً وعاقَّّاً في الوضعيَّة السوريَّة.

في تعذُّر خلْق”الطائفة السنية”

ومن المهم الذكر بإنَّه كلَّما كانت الجماعة كبيرةً ومُبعثرة الانتشار جغرافيَّاً،و رازحةً تحتَ كسورٍ طبقيَّة حادَّة (مقارنة الفلاح الموجود في ريف ديرالزور المهمَّش مَثلاً مع التاجر الشامي الثري المقيم في حي أبو رمَّانة)، وصراعات ثقافيَّة نابذِة(ريف-مدينة)، فإن استِنْطَاق الوعي الذاتي الطائفي لها وصَقْلهِ في حيِّز الإمكانِ والفعل السياسي، أصعب منه في جماعة صغيرة مُتركِّزة الانتشار الجغرافي، ومتشابهة التموضُع الطبقي، إضافةً فإنَّ هنالك عائِقاً موضوعيَّاً وتاريخيَّاً أكثر أهميَّة يعرقلُ تحويل الجماعة السنيَّة السورية إلى “طائفة سنيَّة” خطيَّة التوجه ومُشرَّحةَ الملامح، وهو افتقارُ الذاكرة السنيَّة السوريَّة الجمعيَّة إلى رضوض اضِّطهاد راعفةٍ وسرديَّات مظلوميَّة مُتقيِّحة تساعد على الاستنفار الغرائزي والتعبئةِ العدديَّة والتراصِّ البكائي وهذه العناصر مُلحِّة لأي هويَّة مُغلقة تهندسُ نفسها وجدانيَّاً بالضد من الآخر(مثل الشيعيَّة السياسيَّة في العِراق مثلاً)، وأهمَّ الدلائل الواقعيَّة الحسيَّة لصواب هذا الادِّعاء هو فشل “جماعة الأخوان المسلمين” في مَأْسَسَة الجماعة السنيَّة(بالمعنى العددي العياني السكوني لكلمة جماعة) إلى “طائفة سنيَّة” مُعادلة لها في منصَّة السياسة،و بقاء فكرهم الطائفي حَبيسَ أوراقهم السياسيَّة لعدم وجود “طائفة سنيَّة” كافية تنفِّذ المشروع.صفوةُ القول: الحديث عن “طائفة سنيَّة” مُنجزَة وكليََّة و متجانسة في الحالة السوريَّة هو أقربُ إلى نحتِ بناءٍ اسمنتيّ مُتماسك من صِلْصَالٍ شبهِ سائل.

وأخيراً فإذا كان أغلب سجناء الجنايات في فرنسا (أكثر من 72 في المئة) هم من المسلمين، فإنَّ هذا لا يعني أن هنالك علاقةٌ بين الإسلام و الإجرام (انظر الحوار مع ثائر ديب يؤكد ما معناها بالنسبة للزنوج والبيض في الولايات المتحدة المنشور في “السفير العربي” بتاريخ 29-8-2012 تحت عنوان “عن الطائفية ومثقفيها في سوريا”)، فقابليَّة كلُّ من المسلم المهاجر و الفرنسي الأصل لارتكاب الجريمة هي واحدة، إنما يجب دراسة ظاهرة الإجرام ضمن الظروف والعوامل والمسببات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية وحتى المذهبية، نستطيع أن نجرَّ هذا الكلام نسبيَّاً على المسألة الطائفية في سوريا، لنؤكِّد أن الطائفية مشكلةٌ بشريَّة، وعلاجها يكونُ بنقاش هؤلاء البشر مع بعضهم، وأيُّ فهمٍ طائفي للمسألة الطائفيَّة لن يؤدّي إلإ إلى إعادة إنتاج الطائفيَّة.

ثقافة “له له يا شباب، كلنا أخوة…عيب” هي التي تزيِّن السطح الوطني بالتكتُّم والإغْفال، فيضحي الحديث عن أيّ تباين أو تفاوت عيباً وطنيَّاً يعارُ به الناقد، أمَّا لُهاثُ البعض في نبشِ التاريخ لاصطياد صورٍ تُزكَّي الألفة بين الطوائف فهو عَدَمي، لأن ذاك التاريخ نفسه مُتخمٌ بصورٍ سهلة الاستحضار، وتؤكِّد التنافر وتعمِّق الشقاق.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى