صفحات العالم

أحداث سورية بعيون عراقية

شاكر الأنباري
لم تأت الأحداث السورية التي نشاهدها اليوم من فراغ، كان هناك خليط هائل من المواد المتفجرة غطي عليه بشكل ذكي عبر اعلام ديماغوجي، وآيديولوجيا حزبية، قومية، تسلطية، تخاطب الذهن المحلي، والعربي، بمفردات تدغدغ عواطفه، وأحيانا تلغي المنطق لديه. هناك تشابه بين ديماغوجية نظام العراق (صدام) وليبيا( القذافي) وسوريا (الأسد)، وليس غريبا ان تكون تلك الأنظمة هي الأشرس تجاه معارضيها من بين الأنظمة العربية كلها. في سوريا ملايين الأكراد ينتشرون في أكثر من محافظة كانوا مهمشين، لا يمتلكون احيانا حتى هوية أحوال مدنية رغم انهم يؤدون الخدمة العسكرية في الجيش. وفي فترة من الفترات تمت محاربة حتى الأسماء ذات الطابع الكردي، وعاشت أجيال في ظل ظروف لاانسانية مثل تلك. ومورست استهانة عميقة من قبل النظام بمشاعر الكرد. وعدا عن أفكار حزب البعث، تمت تصفية الإخوان المسلمين، حزب العمل الشيوعي، اليسار غير المنضوي تحت مظلة الجبهة الوطنية، تجمع ربيع دمشق، وتمرد الشباب، في بيئة رقابية خانقة على الانترنت، والموبايل، والفاكس، والقنوات الأجنبية، ومراسلي الصحف العربية.
كل من عاش في سوريا، فترة من الزمن، لاحظ التفاوت الطبقي الهائل بين أبناء الشعب، فنخب الضباط، والتجار، والسماسرة، وقادة حزب البعث، كانوا يملكون بيوتا باذخة، وامتيازات سلطوية غير محدودة، وسيارات فارهة، وسهرات حمراء، ويخوت، وشاليهات، ونساء. فيما كان المواطن البسيط بالكاد يسد رمقه، والبعض ظل طوال سنوات يمارس عملين لكي يكفل حياة كريمة للعائلة. ولأكثر من أربعين سنة تسيدت سلطة الأمن، والمخابرات، والشرطة، بشكل واضح، فكان الفرد البسيط مقموعاً بامتياز من تلك الأجهزة، ليس سياسياً فحسب، بل حتى على صعيد الكرامة الشخصية، والسلوك الفردي. اما الرشوة فظلت طوال عقود هي العنوان البارز في الدولة والمجتمع، اذ كانت تمارس حتى في مستويات عليا من الوظائف الحساسة. القمع، والآيديولوجيا، وشراء الذمم، والإفساد، خلقت شعبا، بدا لعقود، خانعاً، من دون أن يتمكن ولا اعتى المفكرين والمثقفين من قراءة ما كان يفور تحت السطح من نقمة على النظام. ومن روح اسطورية لمقاومة الظلم. وتوج كل ذلك الهيكل بنزوع طائفي، وأسري، للحكم راح يتجوهر سنة بعد أخرى حتى وصل مداه مع الأسد الإبن، فصار فاقعاً ومجاهراً به، بخاصة في العلاقة مع ايران وحزب الله.
العراقيون الذين عاشوا في سوريا إبان تلك العقود كانوا يتحسسون تلك الظواهر بوضوح. سواء كقوى سياسية أو أفراد ألقت بهم الظروف في أحضان المدن الشامية. فمنذ عشرات السنين، وطوال محنة العراقيين مع نظام صدام التي توالت فصولاً من حروب وتهجير واضطهاد، ومقابر جماعية، هاجر مئات آلاف العراقيين الى سوريا، طلبا للأمان والاستقرار، ليجدوا فيها استراحة عبور إلى المنافي البعيدة في أوروبا، وأميركا، ودول العالم الباقية، حيث لم يعد هناك بقعة لم يقم فيها أحد منهم. ورغم المداخلات السياسية في استقبال تلك الأعداد الهائلة من العراقيين من قبل سوريا الرسمية، إلا أن العامل الأهم في تلك الحكاية هي الشعب السوري ذاته. كان الشعب السوري، ومنذ الثمانينات، يقيم علاقات محبة وتواصل مع المقيمين في مدنه، دمشق واللاذقية وحمص وحلب وغيرها من المدن والبلدات، التي استقر فيها الآلاف من العراقيين، وجدوا في ذلك الشعب الرعاية والاحترام، ولم يسجلوا أي فارق بينهم وبين هذا الشعب الذي قدم لهم كل مساعدة. عمل العراقيون في محلات، ومطاعم، ومزارع، ومؤسسات، واستملك البعض بيوتا وشققا، ودخلوا في علاقات مصاهرة تعتبر هي الأوسع بين الشعوب العربية، والأجنبية. وظلت دمشق واللاذقية وحلب هي الرئة الثقافية الأوسع بين البلدان العربية للمثقف العراقي. ورغم الاحداث الأخيرة الحاصلة في سورية، وتعقيدات المواقف الرسمية، من قبل حكومتنا، وسياسيينا الذين اختلفوا أيضا حول قراءة الوضع السوري، كالعادة، ظل قسم كبير من العراقيين مقيما حتى الآن في الشام، نتيجة لأوضاع خاصة، او لعدم وجود رغبة لديهم في العودة. العودة الى حيث الأرض المانحة للعنف، والكآبة، واللاجدوى. مع كل ذلك لم تغادر سوريا، عائدة الى البلد، سوى ثلة من العراقيين، دون ان يتعرض لهم احد من السوريين. وهذا يدلل على متانة العلاقة التاريخية. من يعش في الشام يحس بتلك العلاقة الروحية الخاصة التي تتصل بين هذين الشعبين، ولطالما عبرت هذه العلاقات بحورا من الاختلالات السياسية على مر السنين. الشعب السوري يتعرض الى محنة كبيرة، وثمة مدن تستباح، ومعارك يومية، ونزوح كبير الى دول الجوار كتركيا ولبنان والأردن طلبا للأمان، والابتعاد عن دخان المعارك. هؤلاء النازحون السوريون معظمهم اطفال ونساء وكبار السن، وقسم غير قليل منهم قد لا يكون لهم علاقة بما يجري، لكن الظروف العامة، لم تعد تسمح لهم بالبقاء في منازلهم، ومدنهم، وقراهم. يمموا وجوههم صوب بلاد الرافدين التي طالما حلموا بها وأحبوها. وتناقلت الأخبار وصول مجموعات منهم الى الحدود العراقية، طلبا للملاذ، والابتعاد عن هدير الدم والمدافع والانفجارات. لكنهم صدوا عن الدخول، بل وعدوا متسللين طردوا دون رحمة. خلط الشأن الانساني بالسياسي ليس بادرة طيبة.
يتذكر كثير من نخبنا السياسية التي تحكم اليوم، والنخب الثقافية والفنية والاجتماعية، الدعم الذي لاقوه من الشعب السوري، لا النظام، وكيف تعامل معهم بأريحية واحترام. فكان الواحد منهم لا يحس بالغربة في هذا البلد العزيز، الذي يدفع فاتورة دم مشابهة لما دفعناه كعراقيين في ظل ديكتاتورنا العتيد، وحزبه، الذي شرد ملايين منا في ارض الله الواسعة. ورغم كل التحليلات، والأفكار، والانحيازات، والأجندات المعلنة وغير المعلنة، لا يمكن للعراقيين الا التعاطف مع الشعب السوري، فالقضية التي ينغمر بها هي قضيته أولا وأخيرا، وليس من مصلحة أحد، ولا من حقه، الوقوف مع جلاديه، وتحت أي ذريعة كانت. ولعل فتح باب اقليم كردستان لعبور البعض من اللاجئين والهاربين من جحيم القتل الرسمي، المنظم، والوحشي، يعتبر ردا للوفاء لهذا الشعب. اليوم هناك مخيمات للسوريين في تركيا والأردن ولبنان، تقدم على الأقل مستلزمات انسانية لهؤلاء، رغم ان اكبر دعم قدمه الشعب السوري طوال عقود كان للعراقيين الفارين من جحيم الحروب، والحصار، والقمع الدموي للنظام السابق.
والموقف مما يجري في سوريا لدى العراقيين متباين، ومتناقض، يتراوح بين الرفض للثورة وبين التأييد المطلق لها. وتباين مواقف العراقيين حول ما يجري في سورية ليس غريبا فهو يندرج ضمن ظاهرة تباينهم حول قراءة كثير من الأحداث، والأشياء، والمصطلحات، والمفاهيم. الأمر له علاقة بالطائفة والحزب والقومية، والولاء لهذا الطرف او ذاك. ولعل الموقف من نظام سورية لا يختلف عن الموقف من الثورة. معظم العراقيين كانوا على قناعة ان العمليات الارهابية التي حصلت بعد سقوط صدام حسين، الممولين والقائمين عليها والمنفذين، اما كانوا يسكنون في سورية او مجندين في سورية او ان سورية تسهل عليهم عملية الانتقال من بلدانهم الى العراق. كانت هذه قناعة شعبية ورسمية تقريبا، عدا عن وجود بقايا قيادات حزب البعث في سوريا، وعناصر الأمن والمخابرات السابقين الذين استقر معظمهم هناك. قسم كبير اليوم يتمنى ان يتغير نظام بشار الأسد لكن المشكلة في من يأتي بعده، وهنا تتشعب شروحات العراقيين وآراؤهم تبعا، وكالعادة، للطائفة والقومية والدين والولاء.
نادرا ما يسمع الفرد موقفا غير مؤيد للثورة في اغلب المحافظات السنية، وليس هناك نقاش حول من يأتي خلفه، فما يجري على ارض الواقع يحجب الحوار عمن هو البديل، بينما في المحافظات ذات الغالبية الشيعية، وأحزاب الاسلام السياسي، يظل الجدل، والقلق من البديل، محل نظر وحوار. باقر جبر الزبيدي، القيادي في المجلس الاسلامي الأعلى يقول في واحد من الحوارات انه اذا ما سقط نظام بشار الأسد فستنتقل المعارك الى اسوار بغداد، وهو يضمر القول ان ذلك سيحصل اذا ما امسكت السلطة قوى اسلامية سنية كالاخوان المسلمين او جماعات متطرفة في مذهبيتها. وهذا رأي غالبية المعتقدين بالاسلام السياسي الشيعي. في حين يتجه العلمانون الى تأييد الثورة، بحذر، لكن التوجس قائم من سيطرة الاسلاميين على السلطة، وما سيؤجج من حس مذهبي في العراق، ويزيد تعقيد الخارطة السياسية أكثر فأكثر. القطع الذي سيحصل في تحالف ايران والنظام السوري غير وارد هنا، اذ لا يعتبر من الأولويات في النظر الى الحدث السوري، بينما العكس موجود في البيئات السنية اذ يعتبر هذا مكسبا كبيرا للمنطقة وللعراق خاصة. وثمة البعض من الثأريين الذين لا يتعاطفون كثيرا مع المذابح والأهوال في الشارع السوري، باعتبار ان الكأس الذي اذاقوه ذات يوم للعراقيين عليهم أن يشربوا منها.
ثمة شريحة لا ترغب في مشاهدة الأحداث على الشاشات خوفا من خشونة الصور التي تجبرها على بعث اليقظة في الضمير، واستخدام العقل بدلا من الشعور الطائفي. هؤلاء يضعون المقارنة بين ما يجري في سوريا والبحرين على الطاولة دائما، وهو نزوع فيه شيء من الصحة بالنسبة لتركيز الاعلام العربي، لكنه في مطلق الأحوال يخفي رؤية مذهبية للحدثين أكثر مما هو رؤية محايدة. هنالك، وكما هو معروف، بون شاسع بين سورية والبحرين، ان في اهمية الحدث، أو في الوحشية السارحة كل يوم. لكن الحقيقة الفاقعة هي انه لم يعد هناك أحد يدافع عن نظام الأسد بشكل سافر، لكن اقتراح البدائل لحل الأزمة هو ما يضع المؤشر دائما على موجة طائفية، وعلى ولاء اقليمي، وتمترس آيديولوجي. فخارطة المنطقة السياسية، لن تكون هي نفسها مطلقا اذا ما سقطت منظومة البعث في سوريا، وسوف تجر وراءها تساؤلات جذرية عن اعادة صياغة التاريخ، ومفهوم المقاومة، والثقل الاقليمي لايران، وحزب الله، والاسلام السياسي العراقي بتلاوينه كلها الأولويات في معنى الوجود العربي الرسمي والشعبي لا بد أن تعاد هيكلتها. بهذا المعنى سيشكل سقوط نظام الأسد نقطة تحول كبرى في تاريخ المنطقة. وهذا ما يتفق عليه الجميع.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى