صفحات الحوار

أحمد بيضون لـ «الراي»: التغيير في سورية أظهر صموداً مُذهلاً والحلف بين طهران ودمشق لا يمكن استبعاد اهتزازه


| بيروت – من ريتا فرج |

حوار / «البروز الانتخابي لـ (الإخوان) لم يفاجئ… بل الحجم الاقتراعي للسلفيين»

قبل نحو عام أجرينا لقاء مع المؤرخ أحمد بيضون ولم يكن العالم العربي دخل انذاك في أوج حراكه الاحتجاجي العابر للدول من المحيط الى الخليج، ولم يكن كثيرون من المؤرخين العرب توقعوا انتشار عدوى «ثورة الياسمين» المباغتة، رغم أن الاحتقان التاريخي كان كالجمر تحت الرماد. ولعل ما قاله صاحب «الجمهورية المتقطعة» في المقابلة الأولى يعبر بايجاز عمّا جرى ويجري، حينها قال: «حجم الآمال العظيمة التي تمثلها التضحيات لا تكفي، فهي تحتاج الى تنظيم ويتعين عليها مواجهة الحزبية الصلبة الجانحة الى التخاذل».

بيضون الذي هجس باكراً بسطوة الأحزاب التقليدية الاسلامية على «الربيع العربي» من بوابة صناديق الاقتراع لم يأتِ توقعه من سراب أو من نبوءة سياسية، كان يدرك بعين الرائي ما يملكه الاسلاميون من قدرة على التنظيم والتغلغل في النسيج المجتمعي والسياسي، ومن هنا يمكن أن نفهم مقاربته لموقع الحركات الاسلامية خصوصاً «حركة النهضة» في تونس و«جماعة الاخوان المسلمين» في مصر، فالحركتان في رأيه «لم تكونا من أطلق التحركات الشعبية أصلاً، وهو لا يمنع أن التنظيم بوسائله وموارده يمكن أن يعزز موقعهما في نهاية المطاف»، وهذا ما حدث.

قلة من الكتّاب والمؤرخين العرب تملك هذه القدرة على تفكيك الأحداث وربطها بالماضي والغد، ورغم أن صاحب «الصراع على تاريخ لبنان» شديد الحرص على ترتيب أفكاره ونسجها وفق الوقائع لا التصورات أو الفرضيات الايديولوجية، الاّ أنه يتفرد بخاصية مهمة قوامها قراءة الواقع التاريخي واستباق تجلياته. وليست صدفة معرفية الانذار الذي أطلقه بيضون، فقد أدرك أن مخاض ما يسميه «حركات التغيير» سيفضي الى وصول الاسلاميين، الذين يملكون اطاراً تنظيمياً وعمقاً تقليدياً في المجتمع.

من تفجر «الربيع العربي» الى الأزمة السورية، ومن تحقيق «جماعة الاخوان» وأخواتها أعلى نسبة في صناديق الاقتراع الى غياب البورجوازية العربية عن الحراك الاحتجاجي، ومن موقف «حزب الله» من «الربيع الدمشقي» الى الاستقطاب الحاد بين قوى 8 و14 مارس، هذه القضايا وغيرها شكلت محور الحوار الذي أجرته «الراي» مع أحمد بيضون وفي ما يأتي وقائعه:

• دخل العالم العربي منذ الثورة التونسية في حراك شعبي احتجاجي يشبه الى حد ما تجربة الديموقراطيات في أوروبا الشرقية. بداية، لماذا تفجر «الربيع العربي» في هذه اللحظات التاريخية؟

– لا أحد يستطيع الجزم بجواب يتعلق بتوقيت المسلسل المتمثل في حركات التغيير الجارية. ربما غامر هذا المحلل أو ذاك، قبل انطلاق الحركات، بنبوءة ما متعلقة بخطورة الأوضاع وقابليتها للانفجار في هذا البلد أو ذاك. ولكن لم يكن يسود مناخ في الأوساط المتابعة يشير الى قرب ما حدث، خصوصاً الى هذه العدوى التي انتقلت من بلاد الى بلاد وشملت دولاً موزعة في المدى العربي بين الخليج والمحيط وانحصرت أيضاً (وهذا أمر له أهميته) في حدود هذا المدى، فلم تتجاوزه الى بلاد غير عربية في الجوار الاقليمي. كانت قد حصلت أحداث في العقد المنصرم، وقد يصح اليوم اعتبارها مُبشرة بما جرى ويجري حالياً. مثلاً: مبادرات الاحتجاج التي تصدرتها حركة «كفاية» في مصر وكذلك حركة المنتديات والمبادرات الأخرى التي شكلت ما سمّي «ربيع دمشق» غداة تسلم بشار الأسد السلطة العام 2000. ولكن هذا كله لم يلبث أن لقي قمعاً شديداً، وبدا، في أوقات متباينة، أن الاحتجاج قد هُزم هنا وهناك. وأما السبب الفعلي لتعذر التنبؤ الجدّي بما هو جارٍ اليوم فهو أن المجتمعات التي تهيمن عليها أنظمة مغلقة لا تسهُل معرفة ما يعتمل في دواخلها وما يمكن أن تتمخض عنه من جديد على الصعيد السياسي. فالسياسة في هذه المجتمعات تصبح مكتومة أو شبه مكتومة حالما تبتعد عن دائرة السلطة القائمة والموقف الرسمي. والمتابعون يصعب عليهم أن يخرقوا قشرة الظواهر في مجتمع ينعدم فيه التعبير المستقل أو يكون نادراً. قد يلمّون بالشيء القليل من بواطن الأحوال ويلزمهم لذلك أنواع من التحقيق هي أقرب الى عمل المخابرات منها الى الأصول المعتادة في الاستعلام الصحافي أو في التحقيق العلمي، فثمة قيود ثقيلة جداً على تحصيل المعرفة في هذه المجتمعات. والحركات المعارضة فيها، مضطرة اذا أرادت الاستمرار في السعي الى التغيير، أن تلزم نفسها أقصى درجات السرية. وبنك المعلومات الرئيسي في كل هذه الدول هو المخابرات وليس مراكز الأبحاث أو الصحافة الحرة. وحتى المعلومات الهائلة الحجم التي تتوافر لدى المخابرات قد لا تمثل قاعدة صالحة لتشخيص ما هو جارٍ في طول المجتمع وعرضه، فهي، في أرجح تقدير، مفتتة ومقيدة الوجهة. يبقى مع ذلك أن المصدر الرئيسي للدراية بأحوال هذه المجتمعات هو الوشاية.

بعدما تفجرت حركات الاحتجاج أخذنا نبحث لها ولتوقيتها عن تفسير. وأكثر ما جرى تداوله هو الأزمة المهولة التي تضرب جيل الشباب في هذه المجتمعات ومن وجوهها أزمة البطالة وأزمة فقدان الأفق، عامّاً كان أم خاصّاً، وأزمة العجز عن المضي في أي مشروع بما في ذلك الهجرة. وبين مقومات هذه الأزمة واحد جديد نسبياً له أهمية استثنائية هو التنامي البالغ السرعة لقطاعات التعليم العالي في هذه الدول خلال الاعوام العشرة أو العشرين الأخيرة. وهو ما زاد كثيراً من عدد المتعلمين الباحثين عن فرص للعمل. وتشير الاحصاءات الى أن البطالة في أوساط هؤلاء المتعلمين الشباب اعلى بكثير ما هي عليه في أوساط الشباب الأميين أو المتدنّي الاعداد، ما وفر تأطيراً لحركات الاحتجاج وأمدّها بقدرة واضحة على الصياغة السياسية وعلى استعمال وسائل الاتصال الجديدة. ويجب القول ان وسائل الاتصال هذه من انترنت وشبكات للتواصل الاجتماعي تؤويها الانترنت ومن هواتف جوالة ومعها التلفزة الفضائية كانت على الموعد… وقد أدت ولاتزال الدور الكبير الذي بات معروفاً.

• الحركات الاحتجاجية طالبت بالحرية والخبز وتداول السلطة أي أنها لم ترفع شعارات أيديولوجية كما كان يجري في خمسينات القرن الماضي وستيناته. هل يمكن اعتبار هذا المؤشر بمثابة تراجع للأحزاب الايديولوجية مقابل المفاهيم الانسانية المشتركة؟

– التيار الذي كان سائداً في خمسينات القرن الماضي وستيناته هو التيار القومي. وكان يفترض وجود أمة عابرة للتاريخ يكفي أن يرتفع الضغط المعادي عن صدرها حتى تنهض واقفة وقفة مارد. وفي الستينات تمازج مفهوم الاشتراكية ومفهوم القومية. والاشتراكية التي تعاطتها الأنظمة القومية في تلك الأيام كانت هي أيضاً مبسطة. فقد جرى تصويرها على أنها ممكنة التحقيق بمراسيم واجراءات ادارية تنفّذ في ردح محدود من الزمن وتحوّل المجتمع مجتمعا اشتراكيا يواصل نموّه معمماً الرفاه والعدل الاجتماعي. من الخمسينات والستينات، مضى نصف قرن. وشهدت هذه المدة هزائم واستعصاءات هائلة يتعلق بعضها بالعلاقات بين أطراف الأمة ويتعلق بعضها الآخر بالعلاقات بين أطراف المجتمع وبالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، هذا فضلاً عن هزيمة أو أكثر تناولت الأمّة برمتها بمعنى من المعاني، وهذا يصح خصوصاً في حرب 1967. كان لهذه التطورات السلبية مفاعيل تربوية، اذ أدرك الناس أن الأمة والعدل الاجتماعي والوفرة ليست وراء الباب وأنها عمليات تاريخية طويلة ومعقدة وكثيرة النكسات، وأن الأهداف التي رسمتها الحركة القومية لنفسها قد لا تكون هي الأهداف الموافقة لحركة التاريخ بقواها الفعلية. اليوم لا تبزغ حركات التغيير انطلاقاً من هزيمة الحركة القومية بل تبزغ من تردّي أنظمة لم يعد للمكوّن القومي مكانة قيادية في تكوينها. تبزغ هذه الحركات أيضاً من تردي ما سمّي الصحوة الاسلامية: من الأزمات التي عصفت بهذه الصحوة وجعلت الآمال التي علقتها عليها قطاعات واسعة من المجتمعات المعنية تبدو سراباً.

لم تكن التنظيمات الاسلامية هي من أطلق حركات التغيير ولا كانت طليعة من حشد لهذه الحركات في الساحات. الذين فعلوا هذا هم الشباب. وهؤلاء وجدوا أطراً غير حزبية لتنظيم صفوفهم ونهضوا في مواجهة أنظمة هي ميراث الحركة القومية، والتحقت بهم التنظيمات الاسلامية بعد الكثير أو القليل من التردد. ونحن اذا نظرنا الى حركات الاحتجاج هذه في مدى المرحلة التاريخية التي مثّلها نصف القرن المنصرم، فهمنا الدواعي التي جعلتها تبتعد من الشعبوية وتحصر شعاراتها الى حد كبير في نطاق الممكنات. وهذه دواع تعززها طبعاً أصداء الاندحار العالمي الذي عرفته السياسة الايديولوجية في العقود الماضية. والمثال الأهم لذلك هو انهيار الكتلة الشيوعية.

• كيف تفسر تحرك الجماهير العربية في شكل تلقائي مترافقا مع غياب القادة المحركين للشارع؟

– في المجتمعات التي شهدت حركات التغيير الجارية، كانت مقدّرات التنظيمات الحزبية على وجه الاجمال هزيلة. فمعظم الأحزاب المعروفة أو العلنية ملتحقة بالأنظمة أو مسايرة لها الى هذا الحد أو ذاك. ومعارضة النظام، اذا عمدت الى تكوين أطر لها على الأرض واذا كانت هذه الأطر ثابتة واعتمدت الشكل التقليدي للتنظيم، أصبحت عرضة للقمع السريع. والذي مثّل تعويضاً لتعذر هذه المعارضة الحزبية التقليدية أو لصعوبة تكوينها وحماية حركتها على نطاق واسع، هو، على وجه التحديد، هذه الشبكات الجديدة التي يسّرها الانترنت. فقد أتاحت للأفراد أن يتواصلوا بمئات الآلاف وأن يتحركوا على نحو منسق وان يكن موقتاً أيضاً وغير مزود أطراً تمنحه فاعلية دائمة ومستمرة. كان هناك قادة لكنهم لم يكونوا شخصيين أي أن اسماء الأشخاص لم تكن ذات أهمية كبيرة وبدا أن ما هو مهم هو الكتلة المعتصمة أو المتظاهرة. ويجب التنويه في هذا السياق الى أن انتشار التعليم يسّر، في أوساط واسعة، نشوء أنواع جديدة من الفردية: فاستقلّ البشر، الى هذا الحدّ أو ذاك، عن الوحدات التقليدية التي يتشكل منها المجتمع وأتيح لهم الالتقاء في ما بينهم من دون المرور، بالضرورة، بالزامات الجماعة العائلية أو الطائفية.

• ثمة وجهة نظر تقول ان الجمهور في العالم العربي لم يصل بعد الى المستوى المطلوب من الوعي وان الجماعة وليس الأفراد هي التي تحركه. ما رأيك في ذلك؟ وكيف يمكن مقاربة الحراك الاحتجاجي انطلاقا من التحولات على صعيد الوعي الجمعي؟

– أعتقد أن وجهة النظر هذه لو كانت صحيحة صحة مطلقة لما قامت هذه الحركات التي نشهدها. في هذه الحركات بعد ديموقراطي مؤكد تدل عليه شعاراتها ومنابت قادتها وكيفيات تصرفها. وهذا البعد يفترض وجود الأفراد الذين أشرت الى وجودهم قبل قليل. والمجتمعات مدينة بوجود هؤلاء الأفراد لعوامل أهمها نمو التمدين، أي الانتقال من عصبيات الريف الى أوساط تعرض أشكال تضامن حرة أو طوعية. وكذلك التعليم الذي يمنح الفرد الثقة بنفسه ويحمله على البحث عن أنداد له ينشئ معهم صورا من التضامن تبعده أيضاً من سطوة الجماعة التقليدية. ولا يمنع ذلك أن الجماعات التقليدية مستمرة الحضور وقوية، وان لم تكن في أساس حركات الاحتجاج. وهي تعود عبر تنظيماتها وقادتها وتحاول الالتحاق بهذه الحركات والهيمنة عليها. وتملك في الواقع فرصاً مهمة لتحقيق ذلك بالنظر الى ثباتها والى توفر تنظيماتها السياسية والاجتماعية على أطر ذات فاعلية متفوقة في المدى المتوسط اذا ما قورنت بأطر الحشد والتنظيم التي تعتمدها المجموعات الشبابية. فهذه لا تزال ذات طابع هشّ أو عابر ولم يستقر بها المقام حيث توجد فرص للاستقطاب… فيختبرها الناس وتكسب ثقتهم.

• الجزء الأكبر من مكوِّنات الحراك الشعبي الاحتجاجي تمثله الفئات الاجتماعية المهمشة أو الاتية من الأرياف. ما تفسيرك لذلك؟ ولماذا يبدو أن الطبقة الوسطى أو البورجوازية الناشئة بعيدة من هذا الحراك؟

– في الاعوام الثلاثين الماضية عمدت الأنظمة في بلدان مثل مصر وسورية الى تصفية متدرجة لسيطرة القطاع العام على قسم أساسي من مرافق الانتاج والخدمة الاجتماعية. هذه التصفية حصلت لمصلحة تحالفات نشأت بين أعيان النظام وأصحاب الرساميل في القطاع الخاص. وقد اتخذت هذه التحالفات في كثير من الحالات شكلاً مافيوياً ونمت، في الغالب، على حساب حقوق الدولة، وبتوسط ما تتيحه السلطة من التفاف على القوانين وتسخير لها. هذه العملية الطويلة والمعقدة والتي تعززت بالريوع السياحية والعقارية والتصرف بها أدت الى حال من التداخل، في المجال الاقتصادي، بين أركان النظام الذي أصبحت نواته الفعلية نواة عائلية الى حد بعيد، وأوساط رجال الأعمال الذين أتاح لهم النظام فرصاً لم يكونوا ليحلموا بها، وذلك بعد القمع والمصادرة اللذين شهدهما ما سمي المرحلة الاشتراكية. هذا النوع من النمو هو نفسه الذي آل الى تراجع الزراعة والاقتصاد الريفي عموماً والى النمو الهائل للمدن. وفي ضواحي هذه المدن اتسعت الهوامش المهملة وتفاقمت البطالة وكثرت حالات الاحباط جراء انعدام الفرص. هذا، في الواقع، ما رسم الملامح الاجتماعية لحركات الاحتجاج من دون الغفلة عمّا سبق ذكره من موقع حاسم لقطاع الشباب المتعلم، وهو أيضاً شباب ذو أصول ريفية في الغالب ولكن علاقته بالريف انقطعت أو تحوّلت تحوّلاً عميقاً.

• الحركات الاحتجاجية انطلقت من المسجد وجعلت يوم الجمعة محطة لحركتها. ما الرمزية التاريخية والسياسية للمسجد والجمعة بالنسبة الى هذه الحركات؟

– في هذه المجتمعات تدين شعبي منتشر يجب عدم الخلط بينه وبين التنظيمات السياسية ذات الصفة الدينية. هذا التدين ازداد انتشاراً وحدّة في العقود الأخيرة حين أصبح الدين هو الرابط الوحيد المأذون به من جانب النظام الذي كان يشترط هنا أيضاً ألا يكون التدين سياسياً. هذه المجتمعات هزلت فيها المؤسسات التي كان يمكن أن تمثل نقاط التقاء بين الناس… باستثناء المساجد، على وجه التحديد، فهي موجودة في كل موضع، ومفتوحة ليس ثمة قيد على دخولها، ويمثل اغلاقها أو عرقلة الصلاة فيها عبئاً معنوياً فتتردد السلطة قبل الاقدام عليه. لذا كان اعتماد المسجد والجمعة من جانب حركات التغيير موعداً مكانياً وزمنياً للحشد والتظاهر أمراً طبيعياً جداً. وهذا لا يترجم مباشرة بالضرورة قوة حركات الاسلام السياسي، ولكن يمكن أن ينتهي الى تعزيز هذه القوّة. المسجد والجمعة لهما حصانة حتى في وجه النظام وقد استفادت حركات التغيير من هذه الحصانة. ولا يعني هذا أن اللجوء الى المسجد واعتماد الجمعة كانا لسبب عملي أو ظرفي فقط، بل هما يجدان مرتكزهما في عمق التدين الشعبي ويعوّلان جزئياً على الثقة بأئمة المساجد الذين ظهر أن بعضهم يحوز مكانة وفاعلية في ناحيته وينتسب بعضهم أيضاً الى التنظيمات السياسية ذات المرجعية الدينية.

• استطاعت «حركة الاخوان المسلمين» في مصر الى جانب التيار السلفي الحصول على نسبة مرتفعة من الأصوات. ما تفسيرك لذلك؟ وهل يدل هذا الأمر على ارتفاع نسبة التدين في المجتمع المصري؟

– منذ سقوط نظام حسني مبارك في مصر، بدا أن الجماعات الشبابية التي كانت الى حد كبير سيدة الموقف في ميدان التحرير متوجسة من الانتخابات… أو، بعبارة أدقّ، من قرب هذه الانتخابات. هذا مع العلم بأن الديموقراطية، وبالتالي الانتخابات، كانت روح الحركة كلها. السبب في هذا التوجس هو الشعور بأن قيادة العملية الانتخابية على مستوى البلاد كلها، ريفاً وحضراً، جنوباً وشمالاً، أمر مختلف عن حشد الحشود التي أسقطت النظام وقيادتها. الناس حين ينتخبون يفكرون كثيراً في اعتبارات قريبة ذات طابع جزئي. وهذه الاعتبارات قد تحجب الدوافع الكبيرة أو تغلبها. الناخب يحتاج الى معرفة من يقترع له والى اختباره أو اختبار الجهة التي ترشحه. يحتاج الناخب الى ثقة مستندة الى الخبرة بمن يمثله. ولذا تعود الأحزاب والمرجعيات الأخرى ذات التقاليد المتأصلة والمتمادية في الزمن الى اثبات وجودها في الانتخابات. لم يكن البروز الانتخابي لـ «جماعة الاخوان المسلمين» مفاجئاً في مصر. ما كان مفاجئاً هو الحجم الاقتراعي الذي بلغه السلفيون. واذا صح الحديث عن ارتفاع في منسوب التدين عند المصريين (وهم شعب متدين أصلاً) فان التدين هنا رابطة اجتماعية سياسية في الدرجة الأولى. والشعارات الدينية والعوامل الاعتقادية تزيد الانتماء حدّة وقدرة على توليد التضامن. والانكفاء الى هذا النوع من التدين يستردّ اللحمة الاجتماعية التي فتتتها الهجرة من الأرياف وامتحنتها عزلة المدن وغفليتها وتعسف النظام وأجهزته. يضاف الى ذلك أن مظاهر كثيرة من حياة المدينة يراها المهمشون استفزازاً لهم واستعراضاً لسطوة المال والقيم اللاحقة به على حياتهم. ويزيد من أثر ذلك شعورهم بأن هذا الترف الفاحش مشبوه المصادر والمظاهر وليس بـ «الحلال». هذا التدين هو ملجأ للمهمشين وقوة لهم. ولكن هذا التدين نفسه، بنقاط تركيزه ورؤيته للعالم، لا يقدم حلولاً لمشكلات المجتمع المصري الكبرى، وهو سيصطدم بها حين يجد نفسه في مواقع المسؤولية عن المجتمع، سياسة واقتصاداً وخدمات من كل نوع.

• هل من الممكن أن تتكرر تجربة الجزائر في مصر نتيجة الصراع بين «الاخوان» والعسكر أم أنها ستفضي الى نوع من التسوية بين الطرفين؟

– لا أستطيع المغامرة بنبوءة في هذا الصدد. وأتمنى ألا تتكرر تجربة الاعوام السود في الجزائر لا في مصر ولا في غيرها. أعتقد أن روحية المرحلة الحاضرة التي تعبر عنها حركات التغيير على ما بينها من اختلاف عميق لا تُنذر بتكرار شيء من قبيل ما حصل في الجزائر. فالغالب الآن هو قبول ما ومن تأتي به الديموقراطية وليس رفضه. وعلى وجه التحديد، لن يلقى تجدد الحكم العسكري سواء كان مباشراً أو غير مباشر قبولاً من الفئات الضالعة في حركات التغيير على اختلاف هذه الفئات. العسكر وحكمهم موضوع رفض لا من الاسلاميين وحدهم بل من جميع القوى التي انخرطت في الثورة المصرية. هذا ما يمكن قوله من دون جنوح الى التنبؤ.

• الحركات الاسلامية ما زالت طروحاتها غير كافية بالنسبة الى المرأة فهي تستخدم كوقود احتياطي على المستوى الدعوي والسياسي. ما الذي تحتاج اليه هذه الحركات كي تطور خطابها حيال المرأة؟

– في ظل امتناع السياسة أو حجبها عن المجتمعات من جانب الأنظمة التي هوت أو تلك التي باتت آيلة للسقوط، كان ثمة منفذان متكاملان لحيازة سيطرة اجتماعية بديلة من السياسة. هذان المنفذان اللذان اعتمدتهما الحركات الاسلامية هما السيطرة على النساء والتحكم في الحياة الخاصة للبشر. تحديد ما يجب على المرأة أن ترتديه، وما يجوز لها أو لا يجوز ارتياده من أماكن، وفرض الفصل في الأماكن العامة بين الرجال والنساء سبيلا الى هيمنة أقوى من الهيمنة السياسية وهي مدخل اليها أو هي مشتملة عليها. كذلك هي الحال حين ينصب المتدينون أنفسهم أوصياء على ما يحق لهذا أو ذاك من الناس، رجلاً كان أم امرأة، في أكله أو شربه أو النظر اليه أو قوله، الخ. فهذا كله دخول بالسلطة الى عمق لا تحلم ببلوغه السلطة السياسية. وقد مارست الحركات الاسلامية هذه السيطرة ما استطاعت الى ذلك سبيلاً، ولقيت قبولاً يفسره التدين معطوفاً على المعارضة التلقائية في طول المجتمع وعرضه للنظام وأهله وسياساته ولسلوك الفئات المنتمية اليه. لا يمنع هذا القبول أن الحركات الاسلامية ومن يتبعها من رجال الدين حين ينصبون أنفسهم ديانين للناس يصادرون البشر ويقطعون عليهم طريقهم الى الحرية، وهذا فضلاً عن أن هذه الحركات لا تحمل في جعبتها أنموذجاً للحكم وللتنمية يمثل رداً ناجعاً على البطالة والفقر والأمية وتهالك الخدمات الاجتماعية من كل نوع. وتجنح هذه الحركات الى الايحاء بأن تحجيب النساء ومنع الخمرة هو صلب السياسة الاجتماعية المطلوبة. فكيف يمكن أن يخرج مجتمع ما من هذا التحوير لحقيقة مشكلاته؟ هذا أمر يتعلق في شكل كبير بموقف النساء، باعتبارهن المعنيات أولاً بما يفرض على المجتمع. ولا يمنع هذا التوقع أن تدفع النساء، في المرحلة الأولى، أثماناً تتفاوت بين بلاد وأخرى لانهيار الأنظمة التسلطية ولسطوة الاسلام السياسي في المرحلة الجديدة. الواقع أنهن من سيدفع أول الأثمان وأثقلها عبئاً. وسيكون استرجاعهن حريتهن وحقوقهن رهناً بكفاحهن وبتطوّر مواقفهن قبل أي اعتبار آخر. هذا رغم أن المجتمع برمّته معني بحرية النساء وحريته تتوقف عليها في نهاية المطاف.

• الحركة الاحتجاجية في سورية دخلت شهرها التاسع والمجتمع الدولي لم يحسم خياره بازاء الأزمة السورية كما حدث في مصر. لماذا يتأرجح المجتمع حيال الملف السوري؟

– المجتمع الدولي له موازين تختلف من بلاد الى أخرى. وحين نذكر هذا الاختلاف نقابل الحال السورية صراحة او ضمناً بالحال الليبية، فهنا يبرز الاختلاف جلياً. غير أننا نستطيع القول مثلاً ان المجتمع الدولي كان متواطئاً جداً مع القمع في الحال البحرينية ونستطيع القول انه متراخٍ في الحال اليمنية. في الحالين الأخيرتين كان موقف المجتمع الدولي ولا يزال أسوأ مما هو في الحال السورية. يشهر المجتمع الدولي قيماً يدّعي أنه يدافع عنها، وهذا ليس مجرّد لغو. ولكن الدفاع مقيد بلا ريب بموازين متغيرة تحكمها طبيعة المصالح الحاصلة أو المحتملة لأقطاب المجتمع الدولي في كل حال، وتحكمها الكلفة التي تترتب على هذا النوع أو ذاك من أنواع التدخل المطروحة. ويبدو المجتمع الدولي مضطراً نتيجة التداخل والتشابك في الحال السورية الى وضع أمور عدّة في دائرة اعتباره: الكلفة المتعددة الوجوه لأي تدخل عسكري في سورية، وهي أضخم بما لا يقاس مما بدا كافياً في الحال الليبية، وأيضاً أشدّ وقعاً على الداخل السوري بمكوّناته الأهلية المعلومة وعلى الميزان الاقليمي المحيط بسورية، بما فيه امكان توسع النزاع ليشمل ايران واسرائيل ولبنان، على الأقل. أعتقد أن هذا، فضلاً عن عوامل أخرى، يفسر استبعاد التدخل العسكري في سورية والتعويل على العقوبات وعلى أنواع متصاعدة من الضغط تزداد تصاعداً كلما ازداد القمع من جانب النظام شراسة وكلما أظهرت حركة التغيير أيضاً صموداً في مقاومة القمع. هذا الصمود الأخير كانت له مظاهر مذهلة حتى تاريخه.

• هل تفتقر المعارضة السورية في الداخل والخارج الى أطروحة موحدة؟ وهل هي قادرة على قيادة المرحلة الانتقالية وسط الصراع على ادارة الأزمة؟

– معلوم أن المعارضة السورية تطورت على صعيد طرحها السياسي وطموحها في الاشهر التي استغرقتها حركة التغيير حتى الآن. ومعنى هذا التطور أن حدوداً دنيا وحدوداً قصوى مختلفة اعتمدت في كل مرحلة. مثلاً: في البدء لم تكن المطالبة باسقاط النظام أمراً محسوماً ولم يكن هناك وحدة موقف بصدد امكان التفاوض مع النظام أو عدمه. بعد حين بدا أن موضوع التدخل الخارجي هو مدار الخلاف ولكن بقي نوع من التفاوت بين أجنحة المعارضة في ما يتعلق بجذرية الموقف من النظام ودلالاتها العملية. من حيث البنود الأساسية لبرنامج التغيير المباشر في سورية لا أرى خلافاً كبيراً بين أطراف المعارضة. فهؤلاء يرددون الكلام نفسه أو كلاماً متقارباً في مختلف هذه البنود. ثمة خلاف مواقع وتنافس على الصدارة بين الخارج والداخل. والانطباع العام هو أن حركة الشارع بدأت وانتشرت واستمرت منفصلة عن الأسماء البارزة للقادة سواء في الداخل أو في الخارج. ولا يبدو صحيحاً أن الساسة المقيمين أصح تمثيلاً بالضرورة من غير المقيمين. ثمة نوع من الانفصال عن الحركة بمجاريها الحسية في الحالين. ثمة مشكلة صلة بين الحراك الميداني والقيادة السياسية. وتحتاج هذه الصلة الى وقت والى مخاض قد يكون صعباً في بعض مواضعه أو مراحله، حتى تصل الى نوع من الثبات.

• النظام السوري استعمل المعادلة الاتية: اما ابقاء النظام واما سيطرة الاسلاميين على الحكم. والى جانب ذلك لوّح باستعمال الورقة الاقليمية. ما رأيك في ذلك؟ وما الأوراق الاقليمية التي يملكها النظام؟

– في ما يتعلق بمعادلة ابقاء النظام أو سيطرة الاسلاميين… هذه المعادلة لوحت بها جميع الأنظمة التي سقطت، وهذا التلويح كان يحصل في اتجاه الغرب. على ما سبق بيانه، لم تكن التنظيمات الاسلامية، على التعميم، مبادرة في حركات التغيير. ولكن لا يمنع ذلك أن تستفيد من تقاليدها في العمل السياسي، لا سيما في الحال المصرية، لتحسين مواقعها في المرحلة الجديدة. وأما «جماعة الاخوان المسلمين» السورية فتعدّ ضعيفة بالقياس الى الجماعة المصرية. فهي تعرضت الى قمع أشدّ بكثير والى نوع من الاستئصال في سورية، ولم يتح لهذا على ما يرى مراقبون – أن تبني ما يكفي من قنوات للتغلغل مجدّداً في الأنسجة العميقة للمجتمع السوري. أقول هذا مع التحفظ، اذ ان تقديرنا في الموضوع قائم على ما تردده مصادر مختلفة، وهذه المصادر تحتاج أقوالها الى تحقيق واثبات.

على الصعيد الاقليمي، يظهر أن مدخل النظام السوري الى المسألة الفلسطينية قد ضعف كثيراً بابعاد حركة «حماس» منه، وأصبح النظام أكثر تبعية للسياسة الايرانية، اذ بات النظام الايراني حليفه الوحيد المعتبر في المنطقة. هذا الحلف الايراني – السوري الذي لا يمكن استبعاد اهتزازه استبعاداً مطلقاً يفسر بنفوذه موقف «حزب الله» في لبنان من جهة، وقدراً من الميل العراقي على مسايرة النظام السوري من جهة أخرى. ولا يخلو هذا الميل الأخير من ارتباك وتثقل عليه، حتى اشعار آخر، قيود معروفة.

• الطبقة السياسية في لبنان منذ العام 2005 لم يجمعها سوى التناقض والأزمة في ادارة الحكم. الى ماذا سيؤدي الصراع بين قوى 8 و14 مارس؟

– هناك نوع من السأم الذي يزداد انتشاره في الرأي العام اللبناني أمام هذا الخندق الذي يشق البلاد. ولا يمنع السأم قوة الاستقطاب على جانبي الخندق ولا شدّة العصبية. ولكن السأم يوسّع الهوامش. القضايا التي يدور حولها الخلاف تتصف اما بالعقم واما بشيء من المراوحة. على سبيل المثال، مسألة سلاح «حزب الله»، وهي مسألة مصيرية، لا يحصل تقدم في شأنها ولا يبدو مصيرها في يد قوى الداخل. ومسألة المحكمة على أهميتها المؤكدة أيضاً باتت معطياتها معلومة. فعاد غير مرجّح أن تؤدي أعمال هذه المحكمة الى تغيير قاطع في صورة الوضع وفي مواقف الأطراف بعضها من بعض. القواعد التي نشأت عليها القوى الرئيسية في 14 و8 مارس كانت لها في ما مضى أهمية وصلابة مؤكدتان. «حزب الله» نشأ على المقاومة والتحرير وتيار الحريري نشأ على اعادة اعمار بلاد خارجة من حرب مدمرة وعلى توظيف اجتماعي واسع لطاقة الرجل المالية. وأما تيار ميشال عون فنشأ على مبدأ استعادة الاستقلال ومقاومة المصادرة التي كانت الارادة الوطنية خاضعة لها. كل هذه الأطراف اليوم أصبحت بعيدة جداً من قواعد نشأتها تلك. فما كان من اجماع على دور «حزب الله» في المقاومة والتحرير أصبح اليوم انقساماً شديداً وطعناً في مسوغات الدور الحالي والتسلح الطائفي المستمر وفي تهديد وحدة الدولة وتعريض البلاد لأخطار يتباين النظر الى كيفيات مواجهتها. ولا تقارن اليوم مسألة المحكمة لجهة اتساع الوقع والمقدرة على حمل الزعامة بمنجزات رفيق الحريري من عامة وخاصة. وأما ميشال عون الذي بنى مكانته كلها على تحرير الارادة الوطنية فهو واقف اليوم بين دعاة مصادرة هذه الارادة ومكتفٍ بثقل وهمي في السلطة، يترجم مكافآت خدمية أو مالية للموقع الذي اختاره لتياره على رقعة الشطرنج الداخلية والاقليمية.

في مجال هذا الاستقطاب تبقى مشكلات البلاد الكبرى مفتقرة الى مرجع. فلا أحد من هؤلاء الأطراف عنده ما يقوله فعلاً في صدد اصلاح العطل في النظام وهو عطل قد جعل حكم البلاد أقرب الى التعذّر في الاعوام القليلة الماضية. ولا أحد يفوه بجملة مفيدة تتعلّق بالدين العام الذي نسب عبؤه الى أحد طرفي الجبهة واذ بنموه يزداد اليوم تسارعاً في ظل الحكم المنفرد للطرف الآخر. ولا أحد يقول شيئاً مقنعاً أو يتخذ قراراً نافذاً في صدد أزمة التعليم الرسمي أو أزمة الضمان الصحي أو أزمة الكهرباء أو أزمة السير التي أصبحت تأكل من أعمار المقيمين في بيروت فضلاً عن الأكل من جيوبهم. الخ، الخ. وهذا بطبيعة الحال فضلاً عن غموض المصير الوطني في حمى اقليمية تزداد نارها اضراماً. في كل هذا يبدو الكل في المجتمع السياسي مقصيا عن المعالجة حيث لا يجوز الاقصاء أو عاجزاً عنها ومنصرفاً الى شؤون تخلّف شؤون البلاد أو تزيد معضلاتها استعصاء، على نحو ما تبدو البلاد في وارد ومجتمعها السياسي في وارد أو في أكثر من وارد آخر.

الراي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى