أحمد ورائد الناطقان باسم “كفرنبل المحتلة” وبطلا سخريتها السوداء
ريّان ماجد
” لم أكن أرسم قبل الثورة إلّا نادراً، كنت أرسم صوراً شخصية لأصدقائي بقلم فحم. لم أمسك ريشة ألوان في حياتي السابقة”.
تحوّل أحمد جلل بعد اندلاع الثورة السورية من “مِخبَري أسنان” الى رسّام “كفرنبل المحتلّة”، المدينة التي تقع في محافظة إدلب والتي وصفها العديد من الناشطين السوريين بأنها “ضمير الثورة السورية”. أصبح مختبر الأسنان الخاص به والذي افتتحه قبل شهر من بداية الثورة، معملاً للأفكار والمواهب والرسوم والتعليقات الساخرة والنقدية.
“كنت من المحرّضين والمشاركين في أول تظاهرة خرجت في كفرنبل في 1-4-2011. لم نرفع في البداية أية لافتة، إذ كان الخروج في تظاهرة حينها يعدّ إنجازاً بحدّ ذاته. بعدها، حملنا لافتة كتبنا عليها المكان والزمان: كفرنبل 29-04-2011، ردّاً على إدّعاءات الإعلام السوري وقتها بأن التظاهرات التي تخرج مفبركة. صرت بعدها أكتب لافتات تنقل الشعارات التي ينادي بها المتظاهرون، الى أن بدأنا نعلّق على الأحداث والتصريحات الدولية”.
راح أحمد يجهّز اللافتات الكرتونية ويعمل على “تمتينها” لتتحمّل مسافة التظاهرة. “كنّا نمشي 12 كلم تقريباً من كفرنبل الى معرّة النعمان، النقطة التي تتجمّع فيها التظاهرات في منطقتنا. كنت في بداية الثورة متخصصاً فقط بلافتات الكرتون الصغيرة، الرسم أتى متأخراً وعن طريق الصدفة. اذ حصلت على رسمة كاريكاتورية لبشار وحاولت تقليدها. حملناها في إحدى التظاهرات ولاحظت أنها لفتت نظر المتظاهرين، حتى إنهم تركوا الرسمة معلّقة في الساحة العامة ليستفزّوا فيها الجيش. زميلي رائد هو من يعمل على لافتات القماش الكبيرة التي تُكتب بالعربية والانكليزية”.
يحضّر رائد فارس “لافتات القماش الكبيرة”، لكنه أيضاً يقوم بتنسيق التظاهرات ويصوّرها ويرسل الصور الى الإعلام. يجتمع رائد وأحمد والعديد من النشطاء يومياً، وتُكثّف اللقاءات كل أربعاء وخميس للتحضير لتظاهرة الجمعة. تُطرح الأفكار وتُناقش للوصول الى الصيغة الأمثل للافتة والرسمة التي ستُرفع في التظاهرة المنتظرة، ويتفرّغ بعدها الشابّان للرسم والكتابة. “العمل جماعي”، يقول أحمد، “الكلّ يشارك في اقتراح الأفكار، وخاصة الشريحة غير المتعلّمة. أنا ورائد نحدّد الصيغة النهائية للفكرة ونجسدها بلافتة أو برسمة”.
“احتل” جيش النظام السوري كفرنبل بتاريخ 4-7-2011. عندها اضطّر الشباب إلى النزوح الى القرى المجاورة لأنهم كانوا من المطلوبين والملاحقين. يروي رائد أن المجموعة وجدت طريقتها الخاصة للاستمرار بثورتها. “تنطفئ عادة المناطق التي يدخلها الجيش النظامي، وينكفئ الناس عن التظاهر. عندما دخل الجيش الى كفرنبل وقتل وشرّد وسيطر، لم تتوقّف التظاهرات، ولم يمّر يوم جمعة واحد من دون تظاهر”. إذ إن التظاهرات هي “روح الثورة وورقة الضغط الأساسية، فهي مقدّسة بالنسبة إلينا ولا مجال لإيقافها”، يتابع أحمد.
هرب الشباب المطلوبون تدريجياً من كفرنبل الى أن وصلوا بعد أسابيع الى البساتين. استقرّوا هناك، وأمضوا فصل الشتاء في الخيم والمداجن، “أحياناً نطلع على ضيعة تانية فنلاقي بيت خمس نجوم، يعني فيه تواليت”، يعلّق رائد.
في البساتين، بدأت تتدفّق اللافتات والرسومات. “كان عددنا قليلاً، كنّا حوالي 100 شاب من دون صبايا للأسف، وكنّا نريد لفت انتباه العالم الى أنه، بالرغم من تواجد الجيش في مدينتا، نحن مستمرّون بثورتنا وتظاهراتنا. أصبحنا نركّز أكثر على اللافتات والرسوم لإيصال أفكارنا ومطالبنا وهواجسنا وللتعويض عن قلّة عددنا”، يقول رائد.
في تلك المرحلة، أخذ أحمد يرسم أكثر، “باعتبار أن لغة الصورة هي لغة عالمية وإنسانية، يمكن لأي شخص في العالم أن يفهمها بمعزل عن الاختلافات اللغوية”. تحوّلت “بساتين التين والزيتون” سكناً “للمشرّدين الثائرين” ومكاناً لانبعاث الفنّ والأفكار.
رسم أحمد معظم رسومه في الخيمة، الى أن “داهمنا الجيش وحرق خيمتنا وقتل 5 أشخاص منّا”.
عاد الشباب الى كفرنبل في 10 آب من العام الحالي، ولا يزالون حتى الآن يتظاهرون على الرغم من القصف.
“تظاهرات الجمعة ثابتة لا نقاش فيها، أما خلال الأسبوع، يمكن أن تخرج تظاهرة واحدة، وهذا متوقّف على وتيرة القصف”. كانت كفرنبل تُقصف يومياً على مدى أكثر من شهر، وأصبحت وتيرة القصف متقطّعة الآن. لكنّ المدينة شبه مدمرّة. نزح جزء من الأهالي إلى تركيا وجزء آخر الى القرى المحيطة والبساتين. ومن قرّر البقاء، يمضي معظم وقته في الأقبية. يصف أحمد هذه المرحلة بأنها الأصعب منذ بداية الثورة بالنسبة للأهالي. فهم مصابون بحالة رعب وهلع من القصف والطيران.
“يعني طيّار بقول لرفيقه بتروح نُقصف كفرنبل؟ بقلّه يالله. ولمّا يتأخّروا علينا بالقصف، منقلق صراحة على الطيّارين!”، يعلّق رائد.
طابع الكوميديا السوداء هو الذي يطغى على صور ولافتات كفرنبل، فالنكتة تخرج من المعاناة كما يقول رائد. ويضيف أحمد أنهم يحاولون التعليق على الأحداث بطرافة، إذ لا سلاح لديهم غير “خفّة الدم والسخرية”. “نستعمل عبارات قصيرة وبسيطة ومعبّرة للانتشار الأوسع. نسعى إلى أن نكون معتدلين في أفكارنا، ونحاول إظهار أهداف ثورتنا النبيلة ورفضنا للطائفية. في الوقت ذاته، ننتقد بعض التصرّفات أو الأخطاء الثورية في الداخل والخارج بهدف التصحيح”.
لا تزال اللافتة التي طالب فيها رائد بإسقاط العالم، تعبّر حتى اليوم عن “خيبة أمل” السوريين من التعاطي العالمي مع مأساتهم الإنسانية، فهم متروكون لمصيرهم.
بالنسبة إلى رائد، لا مجال للتراجع، “لا رجوع لا رجوع، ثورة ..ثورة ..ثورة، على رأي القذافي” يقول.
أحمد أيضاً مستمرّ، سيرسم للثورة ويتظاهر ويعلّق على الأحداث بطريقته، حتى لو أُرغم على إنهاء المقابلة مُسرعاً “لأنو في طيّارة بالجوّ!”.
لبنان الآن