ديمة ونوسصفحات الثقافة

أحمر سوري في لندن/ ديمة ونوس

 أصعد من محطة الميترو، واحدة وسط عشرات الأشخاص العابرين إلى أعمالهم، بيوتهم، مواعيدهم. وأفكر كم أن الزحام يشعر بالوحشة. غريبة وسط أشخاص غرباء. هكذا هي العواصم الكبرى.

ينتاب القادم من منطقتنا، إحساس قاتم بالغربة، عندما يتأمل هموم هذه الأفواج العابرة بسرعة وبإيقاع مدروس على نبض الدقيقة والثانية خوفاً من التأخر. القادم من منطقة تعيش قلق انفجار هنا وصاروخ هناك وخطف واعتقال واغتيال وجوع ونفي وحواجز، سيبتسم ربما عندما يستمع إلى هموم أشخاص مثله يعيشون على الكوكب ذاته، يتحدثون عن الطقس وعن امتعاضهم من تأخر الميترو بضع دقائق عن موعده المحدّد وعن الوضع الاقتصادي أو عندما ينشغلون في تحليل التغير المناخي وتأثيره على سياسة الدول ونموها الاقتصادي.

 وسط هذا الجمال المفرط حدّ الوحشة، يحاول السوريون أينما حلوا، أن يعثروا على مكان، على معنى لوجودهم. يلهثون للدفاع عن هويتهم كل على طريقته.

 “موزاييك سورية”، مؤسسة ثقافية لدعم اللاجئين، وجدت طريقها إلى وسط لندن حيث نظمت قبل فترة معرضاً في غاليري “بي 21”. المعرض الذي لاقى إقبالاً واسعاً خاصة لدى الجمهور البريطاني يضم أعمالاً فنية متنوعة لسوريين من الداخل والخارج. عندما يتسلّل الزائر إلى الغاليري، ينتابه إحساس بالرهبة. خصوصاً أنها تقع وسط حي صاخب تشي الحركة فيه بحياة جميلة بالكاد تعكرها “هموم تافهة” لا تستحق الذكر.

 تضمّ الغاليري طابقين يكشف أحدهما الآخر عبر جدران زجاجية. يطلّ الزائر على لوحات تتفاوت قسوتها بالقدر الذي تتفاوت فيه قيمتها الفنية. وربما تكون أعمال رسام الكاريكاتير علي فرزات، والصور المعروضة عن أحياء مدمّرة بأكملها، هي الأعمال الوحيدة التي نجت من المباشرة والفجاجة. ليس ثمة أقسى مما تمارسه قوات النظام وشبيحته منذ عامين ونصف تقريباً. ليس ثمة ما هو أكثر فداحة وشراسة وعنفاً. وإن جمعنا كل ما صنعته معامل العالم من لون أحمر، وسكبناه دفعة واحدة ومرغنا أيدينا وغمسنا وجوهنا به، لن نستطيع التعبير عما يجري في سوريا.

 أفلام قصيرة صنعها نشطاء في الثورة السورية، كانت تعرض في زوايا الغاليري بلا توقف، مثل فيلم “طج” لخالد عبد الواحد. إضافة إلى فيلم “الطوفان في بلاد البعث” للمخرج الراحل عمر أميرلاي. الفيلم الذي يعدّ الآن، نبوءة سبقت الثورة بسنوات واستطاعت شق طريقها بكل رهافة وبراعة.

 المحزن ربما في المعرض، هو أن تجارب معظم الرسّامين الشباب لم تستطع الإفلات من الإيديولوجيا في طرحها لقضية الشعب السوري. في الوقت الذي جاءت فيه الثورة متخففة من ثقل الشعارات، متحررة من النخبة ومن القدسية التي غلفت شريحة المثقفين والمعارضين التقليديين على مدى السنوات الماضية، إذ تحوّل بعض المثقفين إلى قديسين. توجيه الانتقادات إليهم بات ينتمي إلى المحرمّات. في حين أن الثورة نجحت حتى الآن، إلى جانب كسرها حاجز الخوف والصمت، في تعرية أيقونات لم تكن لتختلف كثيراً عن أيقونات النظام المقدسّة.

 تجدر الإشارة إلى أن مخاوف كثيرة باتت تحيط بالمؤسسات الثقافية والمدنية التي تأسست بعد الثورة لدعمها. من جهة، تثير تلك المؤسسات غيظ بعض نشطاء الداخل، كونها تقيم نشاطاتها في بلدان أوروبية بعيداً من ضجيج الموت وصخب الاعتداءات اليومية. ومن جهة أخرى، كون الكثير من تلك المؤسسات تدعمه أو تساهم به جهات محافظة، إن كان بالمعنى الديني أو السياسي للكلمة.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى